أصدقائي :
تم نشر مقالي ( الشيب في الشعر العربي ) في صحيفة الوطن في 2 / 6 / 2014 . . .
وسوف أنشر نص المقالة لمن يحب الاطلاع عليها . . .
وأشير إلى الصديق الأستاذ الكبير حسان الحموي الذي أعتبره بمثابة أب روحي إن وافق لي على ذلك قد أكرمني ــ كعادته ــ فقدم لي هذه الوصلة الغنائية الممتعة تعقيباً على مقالي عن الشيب في الشعر العربي .
أرجو لحضراتكم الاستمتاع بالغناء و . . . بالقراءة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
الشيب في الشعر العربي
فإنْ تسألوني بالنساءِ فإنني
بصيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ
إذا شاب رأس المرء أو قلَّ ماله
فليسَ لهُ منْ وُدِّهِنَّ نصيبُ
فجأة يقف المرء أمام المرآة ليشعر أن حياته الغالية قد امتص رحيقَها تعبُ السنين الخالية ، وأن زهرة شبابه قد ذبلت ، وهكذا حتى لتغدو المرآة دفتر مذكراته يعود إليها كما يعود التاجر إلى دفتر حساباته ، لكنَّ ذاك جنا مالاً وشهرة ، وهذا جنا خيبة وتعاسة . . .
إنه الشيب ؛ زائر ثقيل غير محبوب يغزو الرؤوس ويَخِزُ النفوس ، فتدمع له العين ، ويأسف لمرآه القلب .
اللون الأبيض في كل مكان يعبِّر عن النقاء ؛ إلا في رؤوسنا يكون مصدر الشقاء . . . نحاول أن نخفيه ، وما علِمنا أنه ليس عيباً ، بل هو علامة الوقار والاحترام ، وإنه ليدعو صاحبه إلى مزيد من الطاعات وتجنب المحرمات . . . ؛ بياض أنيق يظهر في شعر رأس المرء مشيراً إلى الهيبة والوقار ، لكنه في الوقت نفسه يقلق النفوس ويقض المضاجع أحياناً ، لأن الإنسان يتعلق دائماً بالماضي ، ولو أدرك المرء أن الشباب شباب القلب ، وأن الشيبة هيبة كما يقولون لَمَا حزن ولا أسِفْ ، والشاعر الحمصي أمين الجندي يتغنى يالشيب ، ويشبهه بالبدر الذي يزين الليل بنوره وبهائه ، يقول :
عيرتني بالشيب وهو وقار
ليتها عيرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني
فالليــــالي تزينها الأقمار
وهناك من يتفاءل برؤية الشيب ويعده مصدر الوقار ، بل إنه يسخر من الشباب القديم ، يقول الشاعر :
ويوم غدتْ تعيّرُني بشيبي
وقد رأتِ السكينةَ والوقارا
وما في الشيبِ عندَ الناسِ عيبٌ
إذا ما عاد ليلهُمُ نهارا
ولكن في الشبابِ خزعبلاتٌ
لمن يهوى العذارى والعذارا
الشيب ممتع لو رآه الآخرون أو لو رأته الأخريات كذلك ؛ والشعراء دوماً ينظرون إلى الموضوع من وجهة نظر عاطفية ، ديدنهم الحديث عن المرأة ونظرتها إلى الرجل ، وقد احتار الرجل كيف يحاور المرأة ليقنعها أن الشيب ممتع ، وهي تصر على أنه بضاعة غير محبوبة ؛ فيسوق لها الأحايـيل المنمقة والتشابيه المزركشة ، لكنها تأبى وتؤكد له أنه مهما قال يبقى الشيب لديها غير مرغوب فيه ، يقول :
فلما رأت شيبَ رأسي بدا
فقالت صحيحٌ ولكنه
فقلتُ البياضُ لباسُ السرورِ
وإن السوادَ لباسُ الأسى
فقالت عسى غير هذا عسى
قليلُ الرواجِ بسوقِ النسا
وما أدري أيهما أكثر حيلة في إخفاء علامات تقدمه في السن ، وفي التفنن في إظهار إشارات تدل وهما على الشباب ، ألرجل المؤنق المعطر الفخِم العتيق ، أم المرأة المتصابية الودود الأنيق ، انظر حولك ترَ من كلِّ جميلة صنعت جمالَها يدُ الخالق ، والتفت ترَ من كل ذاتِ جمال صنعت جمالها يدُ الحلاق . . . فإذا كانت أدوات التجميل سلاح أنثوي بيد المرأة ترجع به إلى الشباب السالف ، فإن ( الصبغة أو الحناء ) سلاح ذكوري كذلك ، وما الصبغة إلا رسالة يوجهها الرجل للمرأة ليشير من خلالها إلى أنه ما زال فتياً يملك القدرة التامة على أمور الحياة الدنيا ومشاقها ، والرجل يملك سلاحاً آخر ؛ إنه يتغنى بالشيب ، في حين لا نجد امرأة إلا وتصر على إخفائه ، يقول الشاعر مؤكداً أن الحناء يستر لكنه لا يُزيل ، وأن الشيب لن يرحل إلا يأخذ معه صاحبه :
يا خاضبَ الشيبِ بالحنَّاء تستره
سل المليك له سترًا من النارِ
لن يرحلِ الشيبُ عن دارٍ ألمَّ بها
حتى ليرحلَ عنها صاحبُ الدارِ
ومن الشعراء البارزين الذين جاهروا بعدم مبالاتهم بالسن ، وأكدوا أن قلبهم لا يشيب بدوي الجبل ، إذ يقول :أتسألينَ عن الخمسين ما فعلت
يبلى الشبابُ ولا تبلى سجاياهُ
في القلبِ كنزُ شبابٍ لا نفادَ لـــهُ
يعطي ويزدادُ ما أزدادت عطاياهُ
فما انطوى واحدٌ من زهو صبوتهِ
إلا تفجر ألفٌ في حنــــايــــــاهُ
يبقى الشبابُ نـــديَّاً في شمائلهِ
فلم يشبْ قلبهُ إن شابَ فوداهُ
تزيَّن الوردُ ألوانا ليفتننـــــــــا
أيحلفُ الوردُ أنا فتنـــــــــــــاهُ
ولعل الشعراء هم من أكثر الناس حزناً على الشباب الغارب فقد بلغوا مبلغ البكاء حين يظنون أن الشباب قد ولّى بظهور الشيب ؛ بل إنهم شبهوا هذا بفراق الأحبة ، هاهو أحد الشعراء يشير إلى ذلك بقوله :
شيئان لو بكتِ الدماءُ عليهما
عيناك حتى يؤذنا بذهابِ
لم يبلغا المعشارَ من حقيهما
فقد الشباب وفرقة الأحبابِ
إن موضوع الشيب والشباب موضوع عاطفي حار ، لذلك لا يخلو ديوان شعر عربي من ترحُّم على أيام الشباب ، شاعر الزهد الأكبر أبو العتاهية ينعى شبابه ، ويشتهي أن يعود الشباب يوماً :عريتُ من الشبابِ وكنتُ غصنا
كما يعرى من الورق القضيبُ
ونحتُ على الشباب بدمع عيني
فما نفعَ البكاءُ ولا النحيبُ
فيا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً
فأخبرهُ بما فعلَ المشيبُ
ومِنَ الناس منْ شاب رأسه فنضج عقله وشبَّ قلبه ، ومنهم من شاب رأسه فشاب عقله ومال فكره ، وقد عاب الجاحظ على هؤلاء المتصابين عودتهم للثياب البالية ، بقوله :
أترجو أن تكون وأنت شيخ
كما قد كنت في زمن الشباب ؟!
لقد كذبتك نفسكَ ليس ثوبٌ
دَريسُ كَالجَديدِ مِنَ الثِياب
آهٍ آهٍ آهْ ؛ آهٍ من علامات بيضاء نقية تدلنا على أننا قد أضحينا من نهاية النهاية قاب قوسين أو أدنى ، فلنسرع الخطا لننتهي إلى حيث بدأنا ، طاوين صفحة عمرنا ليس لنا إلا أن نختمها بدمعة بعد أن بدأناها بابتسامة . . .
هكذا هي الحياة ، وما سُميَّت الدنيا دنيا إلا لأنها في المرتبة الدنيا .
ولنذكر دوماً أنه إذا كان للشباب صهوته وصولته ؛ فإن للشيب هيبته وقوته .
فيا أيها الشائب : حطِّمِ المرآة ولا تنظر إليها ، المرآة تحصر الفكر بالنفس ، فإذا ما أزلت عنها طبقة الفضة من الخلف ؛ فإنها تتحول إلى زجاج ، والناظر إلى المرآة يرى نفسه فيتحسَّر ، أما الناظر إلى الزجاج فإنه يرى الناس جميعاً ، وينطلق كل يوم إلى حياة جديدة .
وما أسعدها من أفكار تقنعنا أن سن المراهقة إنما يبدأ في السبعين .
الشباب شباب القلب وشباب العقل ، والشيب شيب الرأس ، أما من شاب رأسه فشاب عقله ، فعليه رحمة ، وله ألف رحمة . . .