سيد درويش
------------------------
دراسة نشرت بمجلة - دوائر الابداع - جامعة دمشق
===============================
موسيقي عبقري- رائد الموسيقى العربية الحديثة- امتزج دمه بدم الشعب العربي فكانت موسيقاه.
في حياة الشعوب كلها ما يشبه الشموع،وفي حياتها أيضاً ما يشبه الكواكب،وسيد درويش كان أحد تلك الكواكب في أرض مصر العربية وسمائه،ومن مصر انتقلت موسيقاه إلى أرض الوطن العربي كله وسمائه، فامتزج دمه بدم الشعب العربي كله، ومن هذا الامتزاج كانت موسيقاه، وكانت أغانيه، وكان إبداعه إنه شوبان مصر، شوبان العرب،ذلك المايسترو الذي قاد أكبر مجموعة من العازفين بآلاتهم الموسيقية المختلفة، فتحولت الموسيقى في يده إلى رغيف خبز للجماهير،إنه خرج من بين صفوف الشعب وغنَّى للشعب وكان ينتمي لأرض الوطن العربي وروحه الخالدة.
ولادته وبداياته:
في أكثر أحياء الإسكندرية شعبية ولد سيد درويش سنة /1892/ لأب فقير يعمل نجارا، ومن هذه الحياة الشعبية استمد سيد درويش ألحانه بحيويتها وتدفق عبقريتها الرائعة التي لا تزال حية في الوجدان العربي حتى اليوم، وساهم في خلق فنان الشعب حياة الأزقة الضيقة والضوضاء المختلفة من مجموع أصوات غير متآلفة والصخب المنبعث من الباعة الجائلين ومحترفي الصياح والضجيج من مرتادي المقاهي البلدية، وكذلك حلقات الذكر التي تدور مع أيام السنة في الموالد والأضرحة، وعاشت في حياته الآلام الوطنية العميقة التي أعقبت الاحتلال الإنجليزي، اختزن سيد درويش كل هذه العناصر في ذاته ومنها انبثقت أنغامه وألحانه عندما بلغ سن القدرة والإنتاج، ولم يكن الأمر سهلاً أمامه، خاصة أن الموسيقى كانت فنا لا ينظر إلى محترفيها باحترام،وفي سنه السابعة مات أبوه فأرسلته أمه إلى الكتاب،دخل سيد درويش الكتاب وفيه التقى بمدرس يهوى الموسيقى وكذلك حصل معه بالمدرسة وهذا أدى بدوره إلى تنمية الموهبة عنده،لكنه فصل في السنة الثانية بسبب مشاركته في بعض الحفلات والموالد،فاضطر في عام
/1909/للعمل لكسب رزقه فعمل في البناء وطلي الجدران،لكن بذور الموهبة أبت إلا أن تثمر فصار العمال يرددون معه أغانيه، وتصادف مرور سليم عطا الله صاحب الفرقة الموسيقية بالشام وهو يردد أغانٍ من ألحانه، فتقدم منه وعرض عليه السفر معه إلى الشام فسافر معه وغنى في ربوع الشام صغيرا والتقى بكبار عازفي العود والقانون وأخذ عنهم فكان سليم عطا الله أول من اكتشفه.
رحلته مع الفن:
رحل سيد درويش مرتين عن الشام، ولم يحقق النجاح الكبير في رحلته الأولى، أما الثانية عام /1912/فقد حقق فيها بغض النجاح، ولكنه رأى منابع جديدة للفن ومصادر أخرى للأنغام، فعاد إلى الإسكندرية عام/1914/ وهو أكثر نضجا في فنه وأعمق معرفة بعد إتقانه العزف على العود،فبدأ يقدم فناً أكثر جدية وخصوبة في مقاهي وسرادقات الإسكندرية حيث تنافسوا في اجتذابه، وبدأت عبقريته في التفتح فصار يقدم ألحانا من إنتاجه خاصة أنه كان ينفعل بالحوادث شأنه كشأن الفنان الصادق، وكان مما كتبه نشيد بلادي- بلادي والذي بقى في نفوس الجماهير يرددونه في كل المناسبات الوطنية،كذلك نجح فيما كتبه مثل دور- أنا هويت وانتهيت- وضيعت مستقبل حياتي.
في هذه الفترة ظهرت عبقريته في قالب الألحان القديمة من موشحات وأدوار، لكنه طورها تطويرا كبيرا، فلم يجعل التطوير همه الأول كما كان سائراً في سير اللحن من مقام إلى مقام في حركة يطرب لها المستمعون، إنما هدفه أن تعبر الموسيقى عن المغنى، فلحن عدة مقطوعات في هذا المجال كما قفز بالدور قفزة رائعة، وله عشرة أدوار من أنفس كنوز الموسيقى العربية وهي- يا ليلي قوامك يعجبني، عشقت حسنك، يا فؤادي ليه بتعشق، عواطفك، أنا هويت وانتهيت، تركت الحب، أنا عشقت،الحبيب للهجر مايل، في شرع مين، ضيعت مستقبل حياتي، أما دور - يلزم بقى تهني الفؤاد- لم يكمله، وأجمع النقاد أن كل دور يعد تحفة فنية رائعة ونموذجا للفن الذي يجمع بين المتانة في تركيب النغم وبين السبك والتنسيق، وفي عام/1917/رحل إلى القاهرة يحمل بين جوانحه تجربة حب عاصف لجليلة التي بقيت في قلبه حتى آخر أيامه.
نجاحه:
استدعاه جورج أبيض في القاهرة وطلب منه تلحين أوبريت مسرحية فيروز شاه مقابل عشرين جنيها، ولحن المسرحية بأسلوب جديد لم يعهده الناس من قبل،فقد عبر عن كل شخصية وكل موقف تعبيراً موسيقياً رائعاً، ولكن الجمهور لم يستسغ هذا الفن الراقي الجديد فسقطت فيروز شاه، وهذا ليس غريبا على الفنانين العظام فقد سقطت أوبرا-فيدليو-لبتهوفن عند عرضها الأول، وكذلك فشلت أوبرات فاغنر مرة تلو الأخرى،وفشلت موسيقى قصص البالية الثلاث التي أبدعتها عبقرية تشايكوفسكي ولم تنجح إلا بعد وفاته وأصبحت خالدة،لكن سيد درويش مع فشله لم يتأثر بذلك لأنه كان صلبا فقد عرف مصاعب الحياة منذ طفولته واعتادها، ثم لحن لنجيب الريحاني عدة مقطوعات غنائية لفرقته وكلها نجحت لدرجة أن الريحاني اتفق معه اتفاقا نهائيا على التعامل معه كملحن لفرقته بأجر شهري،قيمته مائة وخمسون جنيها، وهذا مبلغ يعد ثروة في ذلك العصر، من هنا بدأ نجمه يتألق خاصة بعدما أثارت ألحانه إعجاب الناس وبدأت أعماله المسرحية تتوالى فلحن لفرقة جورج أبيض وعلي الكسار ومنيرة المهدية وأولاد عكاشة عدة مسرحيات وأنشأ عام /1921/ فرقة ولحن لها عدة مسرحيات لكن فرقته لم تستمر.
لقد جاء إنتاجه خصبا وغزيرا ورفيع المستوى في وقت واحد،ويعد إنتاجه ضخما بالنسبة على حياته القصيرة،مكان إنتاجه مرآة حب للشعب بكل فئاته، وكانت ألحان الشعب هي المصدر الذي لا ينفد لإلهامه، قال مرة:للشارع فضل كبير علي، أخذت منه الكثير، واستفدت منه الكثير، فالشعب هو الفنان الأصيل، ونستطيع القول بأن سيد درويش كان روح الشعب ونبضه.
النهاية:
سافر سيد درويش منتصف أيلول سنة /1923/ إلى الإسكندرية يدفعه حنين قوي إلى زيارة الأماكن التي كان يغشاها في صباه ومضا إلى أصحابه وجيرانه وكأنه شعر بدنو أجله، في ليلة الخامس عشر من أيلول عاد إلى منزل أخيه متعبا ونام عنده النومة الأبدية وخرج من الدنيا وهو لم يتجاوز الواحد والثلاثين من عمره.
ماذا فعل سيد درويش؟:
لقد كان سيد درويش أول من قام بالثورة الثقافية الموسيقية في الوطن العربي كله، جعل الموسيقى تقوم بدورها النشط في مقدمة الفنون،لقد كان همزة وصل بين الأوبرا العربية والأوبرا العالمية، كان كالزلزال الذي يضرب الأرض القديمة لكي تخرج من أعماقها أرضاً جديدة، فرد للكلمة المغناة اعتبارها وأعطاها جواز سفرها الجديد،لقد كان موجة موسيقية تصعد من صدر البحر وتتكسر خلف صخور شاطئه،يتناثر رذاذها وتعود ثمارها إلى البحر من أجل أن تتكون من جديد فتعود ثانية لتتكسر فوق الشاطئ، وهكذا في دورة أبدية لا تتوقف، وسيد درويش يتكون كموجة موسيقية عبر سنوات عاشها من الشعب عندما كان الشعب يتأوه ويصرخ ويرتفع أنينه ومن آه الجماهير ومن صرختها وفرقعة السياط فوق أكتافها أخذ سيد درويش ينسج موسيقاه ويعيدها ثانية إلى الجماهير التي تدافعت إلى الموسيقى أول ما تدافعته من فمها ومن جراح صدرها، إنه لم يتخرج من مدرسة لكن الأرض العربية بفلاحيها وطينها وأشجارها كانت مدرسته،وكان الموسيقار الأول الذي جعل نوتته الموسيقية هي جدران الشارع وأكواخ الفلاحين ونوافذ الطلاب... كان الوطن بالنسبة إليه هو تلك الحبيبة الطويلة القامة كنهر النيل تتهدل ضفائرها فوق كتفيها،كما تتهدل الأوراق والعناقيد فوق كتفي الأرض وحدها،فلقد كان الوطن أسمرا والحبيبة سمراء.
العطاء:
برغم حياته القصيرة عرف سيد درويش بعطائه الواسع فقد أهدى المكتبة الموسيقية والتراث الموسيقي اثنين وعشرين أوبريتا تضم ألحانا قوية حازمة بناءة يربو تعدادها على المئتين إلى جانب عشرة من أدوار التخت، ونحو ثمان وخمسين أغنية خفيفة عاطفية وسياسية واجتماعية، وكان همه أن تواكب الموسيقى العربية الموسيقى العالمية وتسير معها جنبا إلى جنب،وهو أول من استعمل الهارموني في تعابيره اللحنية،وهو أول من أدخل الكونترا باص وغيره ممتزجا مع الآلات الشرقية.
أمنيات لم تتحقق:
في مطلع آب /1923/ وقبل وفاته بخمسة وأربعين يوما وقع سيد درويش مع إميل عربيات صانع البيانو العربي عقدا لنشر ما اسماه أغاني الشعب على أن تنشر هذه الأغاني بالنوتة الموسيقية الموزعة توزيعا هارمونيا لكنه مات قبل أن يحقق هذه الأمنية، وكان حلمه السفر إلى إيطاليا لمواصلة تعليمه العالي الموسيقي،وكان من حلمه أن يؤلف أوبريت عن الثورة العرابية لكن كل هذه الأحلام لم تتحقق بموته المفاجئ المبكر.
جمعية أصدقاء سيد درويش:
إن الفن العظيم لا يموت وإن اختفى قليلا بسبب انتشار الرديء والسيئ لكنه يبعث من جديد إلى الحياة، تذكرت مصر ابنها العالمي بعد وفاته بعشرة سنوات فكونت جمعية تدعى جمعية أصدقاء سيد درويش وذلك عام/1934/ فنفضت التراب عن تراثه الفني الرفيع وتبارى الكتاب في تمجيده، وقامت الإذاعات العربية بدور فاعل في إذاعة ألحانه وتوزيعها، كما قام المطربون الجدد بترديد ألحانه بطريقة جديدة وأسلوب معاصر.
قالوا فيه:
قال عنه الموسيقار محمد الوهاب:سيد درويش هو الرائد الأول للموسيقى العربية الحديثة بلا منازع وفضله على الموسيقى كبير، فهو الذي عبر عن الكلمات بما يتفق معها من الألحان في وقت كان الملحنون لا همّ لهم فيه إلا التطريب والصراخ، وهو الذي لحن لأصوات الجماهير في الوقت الذي كان فيه الملحنون يلحنون لأصوات المطربين، ويكفيه أنه ثار على تجاوز المقامات،فقد كان لديه الشجاعة لأن يقفز من مقام إلى مقام بأبعاد لم تخطر على بال غيره من الملحنين، وبذلك حطم قواعد التجاور التي كان الملحنون في ذلك الوقت يلجأون إليها بسبب العجز والاستكانة.
وقال عنه المايسترو توفيق الباشا:كان لي الفخر بأني قدمت بعض أعمال سيد درويش بإطار موسيقى جديد، وذلك لإيماني بأن سيد درويش أتى بأعمال موسيقية هي بحاجة إلى صانع ماهر في الموسيقى، وهذا يتجلى في الأدوار التي يختلف كل واحد منها عن الآخر من حيث المقامات، فهو لم يلحن أبدا دورين من المقام نفسه، وكان دائما يركب المركب الصعب في عطائه الموسيقى، ويعطي النكهة المتطورة في أعماله وقال عنه عبد الحليم نويرة: سيد درويش هو منشئ المدرسة للموسيقى العربية، طرق في تلحينه للتخت كل الأنواع السائدة من موشحات إلى طقاطيق إلى أدوار وأخيرا أدخل المونولوج والنشيد وكل ذلك ما زال محتفظا بقوته إلى الآن.
الخاتمة:
لقد ولد سيد درويش وأصوات الشعب في قلبه، وحيثما رحل ترك صوته وراءه، تركه للشارع الذي أحبه، للعمال في كل الوطن العربي من أجل أن يواصلوا البنيان وصوتهم يشدو لهم،ليرتفع البناء الجديد في سماء الأمة العربية، هذه الأمة التي أعطاها سيد درويش دم قلبه، وارتعاشات روحه، وفيض النور من عينيه، لتبقى الأمة الأفضل والأقوى والأبهى بين كل الأمم.
المصادر:
1- سيد درويش - سلسلة نوابغ العرب – 12 – بيروت.
2- رحلة حب مع سيد درويش - صلاح طنطاي.
3- سيد درويش - د.محمد أحمد الحفني.
4- قصة سيد درويش - محمد دوارة.
5-الأعلام - للزركلي.
6-مجلة الثقافة العدد-37-1996.

6-مجلة الثقافة العدد-37-1996.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي