اكتمال الهزيمة وصعود الفدائيين
بقلم:سري سمّور


(14)الدول الصغيرة...نظرة واقعية

قادة بارزون عملوا أو درسوا أو أقاموا في الكويت، أمثال الرئيس ياسر عرفات(أبو عمار) والأستاذ خالد مشعل(أبو الوليد)، وأيضا صلاح خلف(أبو إياد) والذي حرر كتابا أراه وثيقة تاريخية مهمة موسوما بـ(فلسطيني بلا هوية) وأكد فيه كيف أن الكويت وعموم دول الخليج سهلت لهم العمل عند بلورة فكرة حركة (فتح) ولم يكن هناك مضايقات أمنية، ويتحدث عن مضايقات الأنظمة العربية غير الخليجية، ويعلن أن تقاليد الكويت هي الحكمة والتسامح.
وهذا مناقض لسياسات مصر حتى في ظل حكم عبد الناصر؛ فقد اعتقل الأمن المصري خليل الوزير(أبو جهاد) بعد تنفيذه عملية ضد إسرائيل، ووصل الحال بأن ضابطا كبيرا برتبة فريق طلب أن تقمع نشاطات فتح العسكرية بحجة عدم إعطاء إسرائيل ذريعة لمهاجمة البلدان العربية!
المضايقات الأمنية المصرية رافقتها حرب إعلامية قامت بها الصحافة المصرية ضد (العاصفة) جناح فتح العسكري...ويخرج أبو إياد بنتيجة في ص31 في الكتاب/الوثيقة المذكورة :كل الثورات التي تولد في فلسطين تجهض في العواصم العربية!
إن حديثا كهذا من رجل عاصر العمل الوطني والفدائي منذ فترة مبكرة، يجب أن يقودنا إلى نظرة مختلفة وواقعية حول تعلقنا المرضي بالدول العربية الكبيرة، بالتوازي مع استصغار يصل حد السخرية المتكبرة من الدول الصغيرة؛ فهذه شهادته عن الكويت قبل نصف قرن، هل تنطبق مثلا وبطريقة أو بأخرى على دولة مثل قطر حاليا؟ولم لا؟وأدرك أن هذه النظرة لن تروق لبعض أو ربما كثير من أصحاب التعامل مع السياسة بالهوى والمزاج، لأن لديهم صورة نمطية محفورة في أعماق الأذهان عن دول الخليج عامة، والصغيرة منها خاصة، ويقدمون لك حججا مثل وجود أو تعاون هذه الدول مع الجيوش الأمريكية، وكأن الدول العربية الكبيرة، مثل مصر، بريئة من هذا التعاون العلني والسرّي، ويغيب عن هؤلاء أن الدول الصغيرة تظل مطامعها وقدراتها محدودة ومتواضعة، ويمكن الاستفادة من إيجابياتها وتجنب سلبياتها، بينما الدول الأخرى ينالنا من سلبياتها أضعاف ما نجني من إيجابياتها ومنافعها، وفي ظل الواقع الجيوسياسي الذي قام بعد انهيار السلطنة العثمانية، فإن من يريد العمل والنضال والكفاح يجب أن يحاول تحصيل أكبر عدد ممكن من المكاسب، بل أحيانا أن يتجنب الخسارة، وكم كانت الخسائر كبيرة حين راهن الفلسطيني على الدول العربية التي يراها مركزية وكبيرة، وهذا لا يعني دعوتي للرهان على دول عربية صغيرة، إطلاقا، وخاصة أنني أؤمن بالمثل الشعبي الفلسطيني( ما بحرث الأرض إلا عجولها).

(15)اكتمال النكبة

في أيام معدودات سقط الرهان على الجيوش العربية، وذهبت تهديدات الإعلام المصري، وحضه للسمك على( التجوّع) انتظارا لجثث الصهاينة التي ستكون وجبته الدسمة، أدراج الرياح، فقد تمكنت إسرائيل من هزيمة الدول العربية في حزيران/يونيو 1967م ليدخل الشعب الفلسطيني في نكبة جديدة، فقد احتلت جيوش الصهاينة ما تبقى من فلسطين الانتدابية(الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة) إضافة إلى الجولان وسيناء، فأصيب العرب عموما، والفلسطينيون خصوصا بالصدمة وتجرعوا مرارة الهزيمة، وبدأت تظهر بوادر قبول عربي رسمي لفكرة وجود إسرائيل، وتحوّل الصراع مع المشروع الصهيوني إلى صراع حدودي، بعد أن كان صراعا وجوديا، ولو بالكلمات.
ولم يكن مؤتمر القمة العربية في الخرطوم المشهور بمؤتمر اللاءات الثلاث(لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) بعد النكبة الثانية سوى ردة فعل خطابية، لأن الأيام ستثبت أن ما قبل الخامس من حزيران/يونيو ليس مثلما بعده، على صعيد الفكر السياسي للأنظمة العربية!

(16)الفدائيون أمام مرحلة جديدة ومعقدة

ولكن الهزيمة أتاحت للحركة الجديدة أن تعمل بشيء من الحرية، وأن تفتتح معسكرات للفدائيين على الحدود، وخفت إلى حد كبير مضايقات الدول العربية، التي كانت قبل الهزيمة، والتي ستحمل اسما تخفيفيا غير واقعي هو (النكسة)، وأخذ الفدائيون ينفذون عمليات ضد القوات الصهيونية، وانطلقت منظمات فلسطينية جديدة، وكأن شعورا عاما بأن الرهان على جهد عربي لتحرير فلسطين، ليس سوى ضرب من السراب، هذا بغض النظر عن طبيعة المنظمات الفدائية، وحجم الاختراقات فيها، وتوجهاتها وطريقة عملها.
وقد أصاب إسرائيل المزهوة بانتصارها السهل السريع غرور وغطرسة فاقتحمت الأراضي الأردنية، وهنا تصدى لها الفدائيون مع وحدات من الجيش الأردني، وتمكنوا من أن ينالوا منها نيلا وأن يلقنوها درسا، وكانوا هم وعموم الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية بحاجة ماسة إليه...وستكون موقعة الكرامة في 21/3/1968م بداية لمرحلة جديدة.
فقد اندفع عدد كبير للانضمام لقوات العاصفة، والتي لم تكن لها قدرة على استيعابهم، اللهم إلا النزر اليسير منهم، وهذا طبعا أدى لتخفيف شروط العضوية الصارمة والدقيقة التي سادت بداية التأسيس وهو ما له آثار سلبية، في ذلك الظرف الدقيق، حتى وإن لم تظهر على المدى القريب.
وتوّج العمل الفدائي، بدخول فتح وبقية الفصائل الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وفرض برنامجها الداعي صراحة إلى طريق الكفاح المسلح عليها، وجرى تغيير لرأس هرم المنظمة، حيث أصبح أبو عمار رئيسا لها، فلم ينتهي عام 1969م إلا ومنظمة التحرير برنامجا وقيادة وسياسات وغيرها بيد فتح والمنظمات الأخرى.
وهذا الدخول لمنظمات فدائية ثورية تتبنى العمل المسلح إلى هيكل سياسي سبق وان تحدثنا عن ظروف نشأته، جرّد النظام الرسمي العربي، من فرض وصايته وإملاءاته بالطرق التقليدية، ولو مؤقتا، وأعطى شرعية وصفة رسمية للعمل الفدائي في الأطر العربية وغيرها، ولكنه في المقابل يحمل الخلط بين جسم له من البيروقراطية والتأثر بما كان سابقا من سياسات نصيب، فالأمر سلاح ذو حدين، كما أن الأنظمة العربية تمكنت من التعامل مع الوضع الجديد وفق حساباتها وخياراتها.

(17)محاولة تثوير الضفة

دخل أبو عمار سرّا إلى الضفة الغربية، بهدف تشكيل خلايا عسكرية تنابذ الاحتلال الصهيوني، ومن وجهة نظري التي ذكرتها في حديث سابق، فإن فتح لو كان ثقلها العسكري الضارب، ولو بإمكانات محدودة ومتواضعة، داخل الأرض المحتلة، لكان لها من الخيارات السياسية هامش مناورة لا بأس به.
ولكن الخلايا التي شكلت في الضفة لم تصبح حالة ثورية طاغية، وقد تمكنت المخابرات الإسرائيلية من اعتقال وتفكيك غالبيتها؛ وأخضعت المعتقلين للتعذيب الجسدي والنفسي الشديد، ولم يكن التعذيب فقط يهدف إلى الحصول على المعلومات حول أماكن السلاح وأسماء الأعضاء، بل إلى خلق حالة من الصدمة والرعب، وأن يكف الناس عن مجرد التفكير في مقاومة الاحتلال، كما أنه لم يحدث تطوير في أساليب التجنيد، وظل نمط الخلية هو ذاته، ولم تحدث عمليات نوعية كثيرة من خلايا الداخل.
والنتيجة أن الثقل العسكري لفتح، وبقية فصائل منظمة التحرير التي انطلقت بعد هزيمة حزيران 1967 ظل في الدول العربية المجاورة، وغني عن القول أن الثقل العسكري هو الأهم في الصراع مع الكيان العبري...وللحديث بقية إن شاء الله.

،،،،،،،،،،
الأحد 19 ربيع الأول 1438هـ ، 18/12/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جن