نحن ولغتنا - صرخة غيرة

--------------------------------------------------------------------------------




http://www.al-jazirah.com.sa/culture...07/fadaat7.htm
http://www.al-jazirah.com.sa/culture...072007/T05.pdf





مساقات
د. عبدالله بن أحمد الفـَيفي
تعليم الطفل العربي: من المسؤول؟



أشرنا في مساق سابق إلى أن اللغة العربية الفصحى توشك أن تكون اليوم لغة أجنبية في العالم العربي، فلماذا لا تُعلّم كما تُعلّم اللغة الأجنبيّة؟ لماذا لا نحذو حذو الأُمم في تعليم لغاتها، محادثةً وكتابةً، إذ تربط النظريّة بالتطبيق، بل تعتمد على الاستخدام قبل التقعيد؟!
لنعدّ اللغة العربيّة- جدلاً- لغة أجنبيّة، كالإنجليزيّة- التي نعتزّ اليوم بتكريسها لغة حياة وعمل- أو الفرنسية، أو الإسبانية، فكيف تُعلّم اللغات الأجنبيّة في كل العالم؟
ألم يأنِ للعرب أن يَعُوا ما اللغة في حياة البشر والشعوب؟! ألم يأنِ لهم أن يُدركوا أن اللغة استخدام وتطبيق لا نظريات وهلوسات قواعديّة؟!
إذن، ما للتربويين، من المعنيين بالأمر، لا يرون- وبعضهم قد تعلّم لغةً أخرى- كيف تُعنى الأمم بتعليم لغاتها، محادثةً وكتابة، إذ تربط النظرية بالتطبيق، بل تعتمد على الاستخدام قبل التقعيد!
تُرى- مثلاً- لماذا تُصبح المهارات الكتابية فَضْلةً في مدارسنا؟
لقد اقترحت إحدى كاتبات (الجزيرة)، الأستاذة نورة آل عمران، في مقال لها في (العدد 12572، الخميس 11 صفر 1428هـ، ص23)، تحت عنوان: (إنقاذ لغة الطفل)، ربط الأهداف النظريّة العُليا للأمّة بالتطبيق. وتبدو الكاتبة معلّمة، تتحدث من الميدان، مدركةً واقع الحال أكثر من غيرها. وفي رأيي أن مثل هذه الأقلام- المقتدرة على الكتابة والنقد البنّاء- حريّة باستكتاب (الجزيرة)، وبشكل مستمر. لقد ذكرت الكاتبة أن تعميمات وزارة التربية والتعليم لالتزام المعلّمات باللغة العربيّة مع فَرْض درجات على ذلك، لن يُجدي نفعًا، ما دام المسؤول أو المسؤولة عن التنفيذ غير مؤهَّلَين أو ملتزمَين! كما ألمحتْ في ذكاء وسخرية، إلى قضية القضايا في لغتنا العربية، حين قالت: (على الوزارة أن تضبط التعميمات المرسلة إلى المدارس بالشَّكل، لتُسهم على الأقل في تفصيح لغة المديرات!) وهنا إشارة إلى مُشْكِل لغويّ، يُسهم في ضعف أجيال اليوم في اللغة العربية. ذلك أن اللغة العربية لغة إعرابيّة، يتحدّد موقع الكلمة فيها عن طريق حركة إعرابها، رفعًا ونصبًا وجرًّا، كما أن بناء المفردات الصرفي قائم في جانب منه على الحركات. غير أن هذه الحركات ظلّت مهملة في الكتابة العربية. وبلمحة تاريخية فإن الكتابة العربية مرّت في تطوّرها بمرحلة كتابة الحروف المجرّدة من النقط والشكل، ثم جاء نقط الحروف، وتلاه الضبط بالشكل، إلاّ أن هذا الإجراء الأخير بقي فضلة غالبًا وزينة في الكتابة العربية، عدا كتابة المصحف الشريف. مع أن هذه الحركات أصوات لغويّة، وهي في لغات أخرى حروف هجائية. بيد أن تطوّر الكتابة العربية قد تجمّد منذ مئات السنين، وكأن تلك الكتابة التي وُرثت عن مراحل حضاريّة بدائيّة قد اكتسبت قداسة نهائية- ضد المسّ أو التطوير- تدفع ثمنها الأجيال!
إن السؤال الذي تقترحه مقالة الأخت نورة آل عمران- وإنْ بأسلوب غير مباشر- هو الآتي: تُرى لو صارت الحركات الإعرابيّة والصرفيّة جزءًا لا ينفصل عن بنية الكلمة العربية- ملزمةً للكاتب لزوم كتابة الحروف، بحيث يُعتدّ تركها خطأ إملائيًّا- أما كان ذلك سيربط ذهن الكاتب والقارئ والسامع بهذه القواعد التي نظل نتحدث عنها نظريًّا، ولا تظهر فيما نكتب أو نقرأ، إلا في الكلمات المعربة بالحروف؟
أزعم أن هذه لفتة مهمّة جدًّا تبعث على إعادة النظر في المأزق الكتابي (الإملائي- النحوي) ضمن جذره القديم الذي لا نلتفت إليه. ولو حدث ذلك فإن قواعد اللغة ستصبح ممارسة فعليّة تُكتسب تلقائيًّا بالاستعمال. يُضاف إلى هذا مقوِّم آخر غائب في مناهجنا، وهو: المحادثة باللغة العربية الفصحى. فأين نصيب (المحادثة) بالفصحى في حصص الدراسة، على غرار ما يتلقّاه طالب اللغة الأجنبية، فيما يسمىنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالتواصل (Communication)؟
أم هل سننتظر حتى تُصبح الفصحى لغة الشارع لنجعل في حصص اللغة العربية (حصة محادثة وتواصل)؟!
وماذا عن (الخطابة)؟ أو المسرح المدرسي؟
لا شيء من ذلك كله يُذكر في مناهجنا التطبيقيّة، وإنما هو فاعل ومفعول، وبينهما طالب حائر ضائع، لا في العير ولا في النفير!
كم هو محروم الطفل العربي من التعلّم الطبيعي للغته؟!
مع أن الوسائل المشار إليها بدائية بداهية، لا تتطلب كثير حذلقة، ولا وزارات تربية وتعليم، ولا تطوير مناهج! ولقد كانت قديمًا مطبّقة في الكتاتيب، فخرّجت أجيالاً لا يكادون يَلْحَنون، وإن لم تخرّجهم نحاة يلوكون ألسنتهم بالقواعد. وتلك الوسائل البدائية مطبّقة الآن في أرقى معاهد تعليم اللغة في العالم، وكان يمكن عن طريقها أن يصحّ شيء في أداء التعليم نحو العربية، أهمّ من القواعد ومحفوظاتها الرياضية.
غير أن هناك إشكالاً آخر لا يقل خطورة في احترام الطفل العربي لغته. وهو : كيف له أن يقتنع بما يتلقّاه في المدرسة ويقرأه في الكتب، وهو يرى جُلّ الاحتفاء والتمجيد، اجتماعيًّا بل رسميًّا، يدور في فلك العاميّة، في الإعلام، والفن، والمهرجانات، والفضائيات! بل إن الاحتفاء بالعاميّة قد بات يغزو مدارسنا أيضًا، فالقصيدة النبطيّة تربّعت في البرامج الاحتفالية لبعض المدارس مؤخرًا، ازدواجًا لغويًّا وأدبيًّا، مرهصًا لما بعده، حتى لا يُحرم الجيل الصاعد من معمعة الشتات اللغويّ والأدبيّ. وفي هذا المضمار كذلك فوجئ الحفيّون بشأن إحياء اللغة العربية ودعم مواكبتها العصر- وبعد ردح طال من الحُلم بإنشاء مَجْمَعٍ واحد للغة العربية في منطقة الخليج، على غرار مجامع اللغة العربية في مصر وسوريا والعراق والسودان وغيرها- بافتتاح القرن الحادي والعشرين بتدشين فضائيات عاميّة شتّى، تملأ نبطيّاتها الدنيا، وتضيق برغائها الآفاق!
إن طفل الأمس- أي قبل أن يمنّ الله على العرب بنعمٍ ظاهرة لم يحسنوا توظيفها- كان يشكو فقط الازدواج اللغوي بين مستوى لغة الشارع والمنزل من جهة، واللغة الرسمية في المدرسة والإعلام من جهة أخرى. أمّا اليوم فقد ازدادت الهوّة هوّة، حينما مُنحت اللهجات العربية شرعيةً رسميّة، فاحتلت الساحات، هنا وهناك. إذ لم يقتصر الأمر على اختزال تراث الأمة في حفظ تلك المأثورات التي تعود إلى عقود مضت من عصور انحطاط الأُمّة لغويًّا وثقافيًّا- ولدى أجيال أُمّية معذورة- لم يقتصر الأمر على حفظ تلك المأثورات، بزعم قيمتها البحثية التاريخيّة، بل أمسى الاتجاه على قدم وساق نحو الاستمرار في هذا الأدب المحكي، إلى ما شاء الله، حتى وإن كان أصحابه محسوبين في النخبة والمتعلّمين!
وهكذا غزت اللهجات كل المنابر التي لم يكن لها قِبَل بها من قَبل، فغدت تكتسح المطبوعات، وسوق الكِتاب، والصحف، والمجلات، والجامعات، والإذاعة، والتلفاز، والإنترنت، والفضائيات. حتى لقد أصبح بعض خطباء الجُمَع، والوعّاظ، والدعاة الدينيين، وشيوخ الأزهر، لا يرون بأسًا في استخدام العاميّة، بل السوقيّة منها، بحجة التحبّب إلى الناس وكسب الجماهيريّة، وكأن اللغة ليست بجزء مما يدعون الناس إليه منذ نزل كتابنا بلسان عربي مبين غير ذي عوج، فصاروا يدعون الناس كما يفعل الداعية الهندي أو الفارسي حينما يستخدم لغته الميسورة، لإيصال الفكرة لا الكلمة. فهل صار الإسلام أفكارًا مستقلة عن اللغة؟ ما هكذا الدين الإسلامي، بل هو دين لغة! لِمَ يضاهئ هؤلاء إذن من يكتبون في مواقعهم على (الشابكة) حول الإسلام أو القرآن، فتراهم يتعمّدون الخطأ اللغوي، وتكسير الجملة نحويًّا، لا جهلاً، ولكن إدراكًا بأنهم بذلك يحاربون الإسلام من عقر داره: اللغة العربية: (طالع: موسوعة تاريخ أقباط مصر: نموذجًا). أمّا إقامة المناسبات، والمسابقات، والاحتفاليات، فحدّث ولا حرج! وبذا باتت تُتوّج الأُمّية تاج العروبة، وتُلبس وشاح التراث والتاريخ والثقافة، وتُمنح بيننا القِدْح المعلّى في شتى الميادين، وبمناسبة وبغير مناسبة! فما نتيجة هذه الفوضى العارمة في دنيا العرب؟ ذلك ما سيتطرق إليه المساق المقبل إن شاء الله.

* عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com

http://www.al-jazirah.com.sa/culture...7/fadaat10.htm
http://www.al-jazirah.com.sa/culture...082007/T06.pdf
Culture Magazine Monday 13/08/2007 G Issue 210

فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428 العدد 210

مساقات
أنا لُغتي أنا !
د.عبدالله بن أحمد الفَيفي*


اللغة: هُويّة الإنسان، بل هي مَيِّزَةُ الإنسان على الحيوان، وكانت أوّل درس تلقّاه آدم عليه السلام، إذ علمه الله الأسماء كلها.

ومن هنا فليست اللغة بوعاء الفكر فحسب، كما يُقال، أو بمجرد وسيلة تواصل، بل هي أكثر من ذلك، من حيث هي أداة الفكر، فلا تفكير إلا بلغة. ولذلك فإنها تكيّف العقل وتشكّله وفق نمطها الخاص، ومن ثمّ تنسج الذهن والوجدان على منوال الثقافة التي تنتمي إليها اللغة، فاللغة العربية تصنع عقليةً عربيّة، وتصوغها فكرًا وروحًا وانتماءً، وتطبعها بطابعها، والانجليزية تصنع عقليةً إنجليزية، وتصوغها فكرًا وروحًا وانتماءً، وتطبعها بطابعها، وإن كان مكتوبًا في هويّة صاحبها: عربيّ، أو هندي، أو صيني. تلك هي اللغة، وكذلك تعمل فينا. الإنسان هو لغته. وهذا ما عبّر عنه محمود درويش بعمق شعريّ في قصيدته "قافية من أجل المعلّقات"، من مجموعته الشعرية "لماذا تركتَ الحصان وحيدًا":

ما دلّني أحدٌ عليَّ. أنا الدليلُ، أنا الدليلُ

إليّ بين البحر والصحراءِ. من لغتي وُلدتُ

على طريق الهندِ بين قبيلتَين صغيرتين عليهما

قَمَرُ الديانات القديمةِ، والسلامُ المستحيلُ

وعليهما أن تحفظا فَلَكَ الجِوار الفارسيّ

وهاجس الرومِ الكبيرَ، ليهبط الزمنُ الثقيلُ

عن خيمة العربيّ أكثرَ. من أنا؟ هذا

سؤالُ الآخرين ولا جوابَ له. أنا لغتي أنا،

وأنا معلّقةٌ... معلّقتانِ... عَشْرٌ، هذه لغتي..

أنا لغتي، أنا ما قالتِ الكلماتُ:

كُنْ

جَسَدي، فكنتُ لنَبْرِها جَسَدًا. أنا ما

قلتُ للكلمات: كُوني ملتقَى جَسَدي مع

الأبديّة الصحراءِ. كُوني كي أكونَ كما أقولُ! ...

فلتنتصر لُغَتي على الدَّهْر العَدُوِّ، على سلالاتي،

عليَّ، على أبي، وعلى زوالٍ لا يزولُ

هذه لُغَتي ومعجزتي. عصا سحري.

حدائق بابلي ومسَلَّتي، وهويّتي الأولَى،

ومعدنيَ الصَّقيلُ

ومقدَّسُ العربيِّ في الصحراءِ،

يعبُدُ ما يسيلُ

من القوافي كالنجومِ على عباءَتَهِ،

ويعبدُ ما يقولُ ...

وتشظّي لغتنا العربيّة بين عاميّة وفصيحة تركة ثقيلة، خطيرة على الوحدة اللغويّة والوحدة القوميّة.. على الرغم من أن الفاصل بين بعض العاميّة ذات الأصل الفصيح والفصحى ليس بكبير، ويجب إلغاء الجدار العنصري بينهما، شريطة أن تكون المفردة العاميّة عربيّة الأرومة. أمّا من يقيس اللغة العربيّة بلغات أخرى في حراكها وتناسلها، فحريّ به مراجعة العواقب. فلو استشهدنا باللغة الإنجليزية مثلاً، وقسنا على لغة شكسبير التي لم تعد سائغة في انجليزية اليوم، لكان قياسنا قياسًا مع الفارق الكبير؛ من حيث إن الإنجليزية لغة متحرّكة، لها كل يوم معجم، فلو أخذنا بمقياس شكسبير ولغته، إذن لاحتاج المتنبي إلى ترجمان، وإذن لألغينا من حسابنا القرآن، فهو أقدم، ناهيك عن أدب ما قبل الإسلام. إن العربيّة لغة دينٍ وتراث وحضارة، والقياس بغيرها غير وارد، إلا إنْ رضينا أن نكون بلا ماضٍ ولا تراث متصل ولا تاريخ ثقافي وروحيّ.

كما لا يشكّ عارف بتأثير اللغات الأجنبيّة في الفكر وحياة الإنسان والشعوب. وأن تدريس اللغة الأجنبية في مراحل عمريّة مبكرة يعني تغريب العقل والروح والفكر! وهو ما لا تفعله أمّة إلا وقد سَفِهَتْ نفسها، ورضيتْ أن تكون تابعة لأمة أخرى. هذا ليس كلامًا عاطفيًّا، لكنها منذرات علم اللغة وعلم التاريخ. على أنه يجب التفريق في هذه الجدليّات بين مبدأ تعلّم اللغات الأخرى، وهو أمر مشروع بل مطلوب، وتعليمها في مراحل عمريّة مبكرة.

لقد أحيت إسرائيل- على سبيل المثال- لغة ميتة، وفرضتها على شعبها، ولا تعبأ بالإنجليزية، مثلما نفعل، لتعيش ازدواجنا، أو لتجعلها مصيرها المحتوم؛ لأنها تدرك أن العبرية تعني: إسرائيل. فمتى ندرك نحن أن العربيّة هي: العرب؟

أمّا الباحثون عن الحياة الخدميّة وطلبتها فكُثر، والإنجليزية أداتها اليوم، غير أن شأن اللغة، لدى من ينظر إلى أبعد من قوت يومه، هو شأن آخر.

ثم من قال إن الإنجليزية قد أصبحت الطريق الصحيح لتلقّي المعارف والعلوم المختلفة، كما تسوّق هذه اللازمة الدعائية؟ هذا امتداح لا يقوله الإنجليز أنفسهم، بل هم يصفون لغتهم بأنها "لغة مجنونةCrazy Language "، والأكاديميات الأمريكية تشكو اليوم من تخلّف طلبتها في العلوم والمعارف قياسًا إلى الألمان أو اليابانيين، فهل أنقذتهم الإنجليزية؟! واليابان- من جهتها كذلك- لا تمنح الإنجليزية تلك الأهمية القصوى التي يمنحها إياها بنو يعرب، ولا تراها طريق معرفتها المُثلى، كما يرون. وأذكر هنا أنني كنتُ وبعض الزملاء في لقاء مع سفير اليابان لدى المملكة، رفقةَ وفدٍ برلماني ياباني، فسألنا عن تعليم طلابنا في اليابان، وعن اللغة التي يتعلّمون بها، (سألنا عن الإنجليزية بالإنجليزية طبعًا، مع وجود ترجمان بين العربية واليابانية، لم يكن له من دور!)، فضحك السفير قائلاً: هناك بعض المدارس الخاصة لمن شاء، إلا أن التعليم الرسمي والعام لدينا باليابانية!

إن من حجج المهوّنين من شأن المخاطر المحدقة باللغة العربية، سواء من مروّجي العاميّة أو دعاة اللغات الأجنبيّة، استدلالهم بالآية القرآنية: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". وكأن في هذا ضمانة أبديّة ببقاء اللغة العربيّة. وما حجتهم بسوى تأويلٍ موظّف لغَرَض التقليل من تأثير العاميّات أو اللغات الأجنبيّة، وإلا فالنصّ جاء عن "الذِّكْر"، لا عن "اللغة". و"الذِّكْر" محفوظ، إنْ في اللوح المحفوظ، أو في البلدان الإسلامية، عربيّة وأعجمية، كأفغانستان، أو باكستان، أو إيران، لكن اللغة غير محفوظة في تلك البلدان. بل لقد صارت لغة العرب أسوأ من لغة أولئك، الذين علّمونا لغتنا ويعلموننا إيّاها، منذ سيبوية إلى سعيد الأفغاني! فليت شعري أين اللغة المحفوظة بحفظ القرآن؟ أم هل نريد أن تغدو العربية كالقبطية لغة صلوات وطقوس فقط؟

كما أن من المغالطات المألوفة كذلك الخلط بين شعار "اطلبوا العلم ولو في الصين"، و"من عرف لغة قوم أَمِنَ مكرهم"- وهما شعاران يعنيان: نقل المعرفة وتعريبها وتوطينها، لا جعلها جسرًا للانسلاخ والتبعيّة والاغتراب- وبين تبرير الهجمة الشرسة على العربيّة من مستعمرٍ غازٍ أو مستعمر وطني، مدافعٍ عن عُقَدِهِ اللغويّة بالتهوين من شأن الازدواج اللغوي، العامي الفصيح، والعربي الأجنبي، دون أن يملك ما يقدّم إلا التقوّل والتأوّل وإظهار التفاؤل. وها قد خربت مالطا، وشبعت خرابًا، وليس من التفاؤل في شيء دس الرؤوس في الرمال!

المفارقة أن تأتي كل تلك الضجة حول أهمية اللغة الإنجليزية والتهويل من عظيم ما ستمنحنا إياه من مستقبل المنّ والسلوى، على الرغم من تعثّر طلابنا في كل اللغات، فلا هم أفلحوا في العربية ولا هم أفلحوا في الإنجليزية، فالخيبة عامة طامّة.

لماذا؟ لأن من يُتقن لغته الأمّ هو أكثر تأهيلاً لإتقان أي لُغةٍ أخرى، من حيث إن اللغة مهارة ذهنيّة منطقيّة، تُكتسب بمنطق اللغة الأوّليّ في الذهن، فمن يتقن العربية سيسهل عليه تعلّم أي لُغة، بل سيبزّ سواه من المتردّين أصلاً في لُغتهم الأمّ.

ولنا مع هذا الموضوع مخاضٌ في المساق المقبل، بمشيئة الله.



* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com