السمة العمليّة في منهج البحث الإجتماعي وفي التأليف


الثلاثاء ٣١ أيار (مايو) ٢٠١٦، بقلم حسين سرمك حسن


(( إننا في هذه المرحلة العصيبة التي نمر بها اليوم ينبغي علينا أن نفهم نفسية الشعب العراقي وكيف تنشأ شخصية الفرد فيه وذلك لكي نعرف كيف نسوسه أولا وكيف نسير به قدما في مجالات الحياة الجديدة ثانيا. وإني لا أرى من النافع لبلدنا أن نغض الطرف عن عيوبنا أو نحاول التبجح دائما بما فينا من محاسن. فكل أمة لها عيوبها وليس هناك فرد أو أمة وصلت درجة الكمال في كل شيء والأجدر بنا في هذا الطور الحرج من أطوار تاريخنا أن نركز انتباهنا على عيوبنا وأدوائنا لكي تستطيع إصلاحها بدلا من الانشغال بذكر حسناتنا حيث لا تنتفع من ذلك غير الغرور المذموم ))


علي الوردي كتاب (شخصية الفرد العراقي – 1951)


الكتابة مهنة ومصدر رزق:


مع الوردي ظهرت سمة كانت غريبة على المهنة الكتابية في العراق، وهي السمة " العملية "، بمعنى أن الكتابة مهنة أو " شغل " أو – كما يسميها الوردي أحيانا والعامة دائما " مصدر رزق "، وأن الـتأليف " عمل "، وأن الكاتب لا يختلف عن أي " عامل " مهني آخر ينبغي أن " يعيش ". لقد جعل الوردي للكتابة وظيفة مهنية، في حين كانت قبله " مهمة شرفية وجاهية " يتنطّع بها الكاتب. يرى الوردي أن المبدع كغيره من الناس، وهو لا يختلف عن الحدّاد والنجار أو غيرهما من أصحاب المهن والصنائع الفنية. هذه السمة العملية ضرورية لأنها تجعل المتلقّي ناقدا يقيّم السلعة التي بين يديه، وهذا ما يخاف منه أدباء السلاطين كما سماهم الوردي. الكاتب الحديث لا يستطيع مخادعة القراء مهما كان بارعا. بالنسبة للوردي أصبح الكاتب مثل صانع الأحذية، لأنه ينتج بضاعته على نطاق واسع ويعرضها في الأسواق. ومن المستحيل عليه أن يبيع للناس بضاعة رديئة، حتى لو كتب عليها زبور داوود. يقول الوردي:


( لقد استهجن بعض الأدباء هذا القول منّي.. فالكاتب في نظرهم لا يجوز أن يكون تاجرا، إذ أن التجارة عندهم مهنة شائنة، وهي إذن غير لائقة بأرباب الأدب الرفيع. ورث إخواننا الأدباء هذا الرأي من عهودهم السلطانية البائدة كما لا يخفى. فقد كان الأدباء في تلك العهود يعيشون على فضلات موائد السلاطين وأعوانهم من المترفين، ويقلّدونهم في آرائهم ومفاهيمهم، وكان السلاطين وأعوانهم يحتقرون التجارة ومختلف أنواع العمل المنتج باعتبارها من أعمال الأذلاء الخانعين ) (412).


إن هذه النظرة السبّاقة التي تجعل العمل الإبداعي والكتابي " مهنة " لا تختلف عن غيرها من المهن.. تخالف جذريا النظرة السابقة التي كانت ترى إلى الأدب كنشاط ذهني استرخائي وغير مُكلف من ناحية " الجهد " المبذول. كما أنها أسهمت في قطع الطريق على السلوك الإرتزاقي المُهين الذي كان يمارسه شعراء " السلاطين " و " نقاد السلاطين " و" نحاة السلاطين " - كما سمّاهم الوردي - على عطايا وموائد السلاطين المذلة. وهذا ما وصفه في مجال الشعر بـ "شعر الإستجداء"، وهو قد يكون مبرّرا في عهد السلاطين لأن المترفين كانوا في الماضي يمثلون السوق الوحيدة التي يستطيع الأديب أن يبيع أدبه فيها. ولم يكن الأديب القديم – كما يقول الوردي – قادرا على أن يطبع أدبه ويبيعه في الأسواق العامة على نطاق واسع كما يفعل الأديب الحديث، لكن ما هو العذر الذي يتعكّز عليه الأديب السلطاني في القرن العشرين الذي شهد أمرين كبيرين يتيحان للكاتب أن " يعيش " من موارد إبداعه هما: اختراع الطباعة، ونضوج الرأي العام، والذي يصف الوردي بسخريته المعهودة فضلهما حيث جعلا:


( الأديب كصانع الأحذية، إذ هو يستطيع أن ينافس غيره في سعة إنتاجه وجودة بضاعته. وأخذ الناس ينثالون على شراء الكتاب كما ينثالون على شراء الحذاء الجيّد أو غيره من منتجات الصناعة الحديثة ) (412).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ألم يجد الوردي تشبيها آخر للكتاب غير الحذاء وتشبيها آخر للأديب غير صانع الأحذية ؟.


الإهتمام بالقضايا الحياتية اليومية الساخنة:


ولعل هذه الروح العملية قد انعكست على ميدان الموضوعات التي استولت على اهتمام الوردي. فكل الموضوعات التي عالجها في مؤلفاته، كانت موضوعات (عمليّة)، بمعنى أنها تتناول قضايا حياتية ساخنة تمس الواقع المباشر في المجتمع والمشكلات التي تمس وجود الناس، ولم يطرح أي قضية ذات بعد نظري مجرّد كما كان يفعل الكتّاب قبله. وقد اتضحت هذه السمة في أول خطواته الفكرية التنويرية والتي تمثلت في محاضرته الأولى: ( شخصية الفرد العراقي )، حيث تناول فيها مشكلات عملية مباشرة تهم العراقيين جميعا مثل: ازدواجية الشخصية، التربية الزقاقية، الحجاب وقمع المرأة، ازدواج اللغة – الفصحى والعامية – وتأثيره النفسي، الإنحراف الجنسي، وغيرها. وكلها صاغها بصورة ميسرة مدعمة بالأمثلة الواقعية التي استقاها من حياة الناس اليومية.


عدم ميله للفلسفة واعتبار الفلاسفة من اصحاب الأبراج العاجية:


وقد أفضت هذه الروح العملية إلى صفة أخرى اتصف بها السلوك الفكري للوردي، وهو عدم ميله للفلسفة، بل استخفافه بها. فهو يرى أن الفلاسفة من أصحاب الأبراج العاجية المتعالية على الحياة وعلى هموم الناس خصوصا من العامة والمسحوقين البسطاء. فمزية الفلاسفة هو أنهم يتكلّمون فلا يرد أحد عليهم مخافة أن يتهمه الناس بالغباوة أو الغفلة أو الجهل. ولهذا ملأ الفلاسفة القدماء كتبهم – كما يقول الوردي – بالسخافات وصدّق الناس بها. ولو جمعنا الفلاسفة في صعيد واحد وقلنا لهم: اتفقوا على رأي صحيح نُصلح به الناس. لتجادلوا وتخاصموا كما يفعل ركّاب أي سيارة، ولظن كل منهم أنه أتى بالرأي الأصوب. فمشكلة المشاكل في منطق الفلاسفة هو أنه لا يمثل واقع الحياة، ويمكن أن نسميه بمنطق البرج العاجي. فالفلسفة كانت عاملا هاما في عزل المفكرين عن سواد الناس. فهي قد جعلت الناس على طبقتين منفصلتين من ناحية التفكير: طبقة قد صعدت في برجها العاجي تتلذذ بالتأمل في الحقيقة المجردة، وطبقة أخرى بقيت منجرفة بتيار الحياة تريد أن تتكيف للحقائق المتغيرة يوما بعد يوم.


لقد أصبح رجل الفكر بتأثير هذا المنطق يحتقر رجل العمل ويستهجن طريقة حياته ونمط تفكيره. فهو قد أرتفع في السحاب وأخذ يبني لنفسه هنالك القصور والعلالي. فهو لا يفهم مشاكل الحياة ولا يريد أن يفكر فيها إذ هو يعتبر هذه المشاكل سفاسف موقتة لا تتصل بالحقيقة المطلقة ولا تلائم طبيعة التفكير الصحيح. وقد كره فلاسفة الأغريق القدماء جماعة السفسطة لأن الأخيرين ينزلونهم من أبراجهم العاجية. والمشكلة أن الفلاسفة المسلمين ساروا على الوتيرة نفسها، حتى أنهم اعتبروا المنطق الأرسطي مكملا للقرآن. وقد وصل الأمر بابن رشد حدّا أنه رأى أن الحكيم لا يستطيع أن يعيش طبقا لإملاء المنطق إلا إذا اعتزل المجتمع وتنكب عن ملذات العامّة ونزعاتهم الدنيئة، ويجب على الحكماء إذن أن يؤلفوا لأنفسهم دولة خاصة بهم داخل الدولة حيث يعيشون على أساس المحبة والفطرة فلا يتنازعون ولا يحتاجون إلى طبيب أو قاض بينهم، إنما يجدون راحة نفوسهم في الإتحاد بالعقل الفعال الذي يفيض المعرفة على الإنسان !!.


ويقول (جورج طرابيشي) في كتابه ( وحدة العقل العربي الإسلامي ) الصادر عام 2002 في معرض تفسيره لبؤس الوضعية الفلسفية في الأندلس:


( رابعا – النصاب اللاشرعي للفلسفة في الأندلس الذي أجبرها على أن تكون لاإجتماعية – asociale ) لا من حيث نفرة الجمهور منها فحسب، بل كذلك من حيث نفرتها هي نفسها من الجمهور. فعلاوة على أنها بقيت فلسفة أفراد، ولم تفلح حتى في أن تكون فلسفة نخبة – شأن شقيقتها في المشرق – فقد جذّرت نفسها، سواء من المنظور الإبستمولوجي أو من منظور استراتيجية الخطاب، في إشكاليات لاإجتماعية: كهف ابن مسرة، متوحد ابن باجة، جزيرة ابن طفيل العزلاء، الطبقة المغلقة لأهل البرهان عند ابن رشد ) (413).


وقفة سريعة مع أرسطو:


يُلقّب أرسطو بأنه ( المعلّم الأول )، لكن – ويا للمفارقة التي تسند آراء الوردي – هو أن هذا المعلم الفيلسوف وصاحب المنطق " العقلاني " قد عاش ومات وهو مقتنع بأن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل !!!. وعلى الرغم من أنه كان متزوجا من امرأتين، لم يكلف المعلم الأول نفسه في أن يعد أسنان إحداهما.
لا يقدّس أفكار أفلاطون ولا منطق أرسطو:


يقول الوردي:


( قام السلاطين، رضي الله عنهم، يدّعون أنهم خلفاء رسول الله، وظِلّ الله في أرضه. وقام الواعظون معهم يقولون: هذا هو الحق الذي لا يتجادل فيه اثنان ولا يتناطح عنزان. ومن مهازل القدر أن يرجع فلاسفة الإسلام إلى أفلاطون وأرسطوطاليس فيمجدونهما وربما قدّسوهما. فقد ذهب الفارابي في تمجيد أفلاطون إلى درجة أن جعله في مستوى الأنبياء. ووصف الفارابي رئيس المدينة الفاضلة بأنه أفلاطون في ثوب النبي محمد. وجاء ابن رشد بعد الفارابي فأخذ يطنب في تمجيد أرسطو حتى وصل به إلى فوق طور الإنسان وجعله أسمى صورة تمثل فيها العقل الإنساني حيث اتضحت به قدرة الإنسان على الاقتراب من العقل المطلق. وسمّاه ابن رشد: الفيلسوف الإلهي ) (414).


إن الوردي يقف عن هذه الطريق مخالفا للاهتمام الواسع الذي أحيا به المثقفون العرب في الثمانينات والتسعينات – وخصوصا الدكتور محمد عابد الجابري – تراث ابن رشد الفيلسوف العربي الذي يقدّس أفكار أفلاطون. فالوردي يرى أن المنهج الأفلاطوني هو منهج يلائم مزاج الطغاة المستبدين. فقد وجدناهم كما يقول الوردي يشترون آلاف الجواري بمال الأمة ثم يأتيهم الأفلاطونيون بالادلة العقلية والنقلية التي تؤيدهم على ما ظلموا وما عبثوا به. إن الجابري – مثلا - الذي يصف العقل في الشرق العربي – لأنه متأثر بالصحراء – بأنه " عرفاني " ولا عقلاني، ويصف العقل العربي في المغرب العربي – لأنه قريب من بيئة بحرية – بأنه " عقلاني "، فيضعنا أمام طائفية معرفية غريبة، يمجّد " العقل " على الطريقة الأرسطية القديمة. في الوقت الذي نجد فيه الوردي ينزع غطاء التمجيد عن أسطورة العقل. ففي مقدمة كتابه: ( خوارق اللاشعور ) يقول أنه يشتهي أن يجعل من كتابه هذا الذي يقدمه بين يدي القاريء صرخة مدوية ضد هذا الدين السائد بين شبابنا المتعلم في هذه الأيام والذي جعلهم يؤمنون بالعقل ويتخذون منه إلها يُعبد. يقول الوردي:


( فأنت لا تكاد تتحدث إلى أحدهم – يقصد الشباب آنذاك – عن شخصية الإنسان حتى تجده متحمّسا يمجد العقل ويرى أنه الأساس الذي ترتكز عليه الشخصية في مختلف أطوارها. فهو يعتقد اعتقادا جازما بأن الإنسان إذا استعمل عقله وأحسن تدبيره حصل حتما على ما يشتهي من شخصية مرموقة ونفوذ كبير ) (415).


ويعلّق الوردي على هذا الرأي – الإبن رشدي الأفلاطوني الأصل – الذي يقدّس العقل بالقول:
( إني لا أكاد أرى نصيحة أسخف من هذه النصيحة. وأصحابنا هؤلاء الذين يؤمنون بهذه النصيحة يشبهون أولئك الفطريين – أي البدائيين – الذين رأوا لأول مرة في حياتهم طيارة تهبط قرب أكواخهم فنظروا منذهلين إلى ساعدي الطيار وأخذوا يتساءلون في دهشة بالغة كيف استطاع هذان الساعدان الضعيفان أن يرفعا مركبة من المعدن في الهواء. إنهم يتخيلون أن الطيار يرفع الطائرة بقوة ساعديه كما يرفع أحدهم ثقلا في الهواء وقد غفلوا إذن عما اختفى في باطن الطيارة من محركات وآلات متنوعة) (416).


تلاميذ المدينة الفاضلة:


والغريب أننا نجد ترجمات وتحقيقات مؤلفات أفلاطون تزداد كما ونوعا في الوطن العربي، كلما مرت بنا السنون وعبرنا إلى الألفية الثالثة التي أصبح المنطق العلمي الحديث الذي نادى به الوردي طاغيا وحاكما في المجال المعرفي الواسع. ترى ما هو الهدف من إعادة ترجمة وطباعة وشرح ونشر مؤلفات أفلاطون !!. يرى الوردي أن أفلاطون حوّل البحث النظري من الشارع حيث انتعش على أيدي السفسطائيين، إلى ( الأكاديمية )، وبهذا عزله عن الحياة الاجتماعية وجعله مغرورا يتعالى على الناس. وأصبح طلّاب العلم شامخين بأنوفهم يظنون أن العلم يجب أن يسمو عن دراسة الهموم التي تشغل بال الجمهور. وإذا نزل المفكر نحو مستوى العامة احتقروه وعدّوه مشعوذا. يقول الوردي:


( وأخذ طلاب العلم " الأكاديميون " يبتكرون المصطلحات الرنانة التي لا صلة لها بالحياة العملية كالهيولى والكلّي والميتافيزيقيا وما أشبه. ففغر العامة أفواههم إعجابا بها وظنّوا أنهم أمام رموز كبرى تكمن فيها أسرار الكون. وجاء المترفون وشجعوا مثل هذه الحذلقة الفارغة حيث وجدوا فيها وسيلة لإلهاء عقول الناس عن البحث فيما هم فيه من بلايا وأرزاء. وكلما ازداد المفكّر حذلقة ازداد المترفون له تقديرا وإكبارا) (417).


وإني لأتساءل هنا – كما تساءل الوردي - عن الفعل النهضوي الذي ستحققه إعادة ترجمة وتحقيق مؤلفات أفلاطون وأرسطو وابن رشد والفارابي في مسيرة هذه الأمة المتعبة المسحوقة ؟.


وعلى ذكر الفارابي – أبي نصر، الفيلسوف العربي المعروف وكتابه الشهير ( آراء أهل المدينة الفاضلة )، ففي الوقت الذي كانت الدولة العراقية مثلا تحتفي به وتقيم لأفكاره المهرجانات والمؤتمرات والملتقيات الثقافية، كان الوردي قد سفّه آراءه بشدة خصوصا في مجال الخصال التي يجب توافرها في الرئيس الفاضل الذي سيقود المدينة الفاضلة والذي اقتبس فكرته هذه من أستاذه أفلاطون الذي عيّن لجمهوريته السعيدة ( ملكا فيلسوفا ). يقول الوردي:


(رأينا الفارابي يأتي بالصفات (العالية) التي يجب أن يتحلى بها رئيس المدينة الفاضلة، ولكنه لم يقف لحظة ليفكر كيف يتمكن الناس من انتخاب هذا الرئيس العجيب. لنفرض أن الناس صدّقوا بهذا الرأي الذي جاء به الفارابي واجتمعوا ليختاروا من بينهم الشخص الذي تجتمع فيه تلك الصفات النادرة. فماذا يحدث ؟. لاشك أنهم سوف يتنازعون ويتخاصمون ويتجادلون حالما يريدون تعيين أحدهم رئيسا) (418).
منقول عن ديوان العرب