أصدقائي :
تكرمت علي صحيفة الوطن أمس الأحد 22 / 5 / 2016 ، بأن نشرت لي مقالاً ضمن سلسلة مقالات ظرفاء دمشق في القرن العشرين عن ( مصطفى سويد ؛ أبو درويش ) ، وسأنشر المقال هنا كاملاً مع رابط الصحيفة .
أرجو أن ينال إعجاب من سيقرأه .
* * *من ظرفاء دمشق في القرن العشرين
مصطفى سويد ( أبو درويش )
من الظرفاء من تستمع إليه فيعجبك حديثة ويجعلك تضحك من القلب ، لكن الظريف بحق هو الذي يجعلك لا تملُّ من مجلسه أبداً ، بل هو الذي يتمكن من أسر قلبك إليه حتى ولو لم يأت بجديد ، لأن مجرد الاستماع إليه مهما كان نوع الحديث الذي يرويه يــبعث على الضحك والمرح .
أبو درويش سويد كان من الظرفاء النادرين في القرن العشرين ، ظرافته تفيض شلالاً من البهجة الرقيقة ، يصيب رذاذه كل من يستمع إليه فرحاً ويغمر ماؤه كل من ينصت إليه سعادة . . .
رجلٌ تدهشك براعته الفائقة في رواية النكات والطرف دون أن تفتر له شفة أو يبتسم ، ويدهشك أكثر أن ترى الناس من حوله تتلهف على إعادة الاستماع مراراً وتكراراً إلى الطرفة نفسها ، ذلك أنه كان يملك قدرة عجيبة على إعادة صياغة الطرف وإلباسها أثواباً جديدة مبهَّرة تحيط الطرفة بهالة متألقة من السخرية المتجددة تجعل المستمع يتمتع بأسلوب الإلقاء وتتوق نفسه إلى الإطار الجديد حتى ولو حوى المعاني نفسها . . . والسر في ذلك يكمن في أسلوب الرواية ؛ إنه فن الظرافة المبدعة ، قلّ من يمتلكها . . . وقد كان مصطفى سويد ( أبو درويش ) أحد رعاياها ، بل كان من روادها القلائل . . .
هذه البراعة الفائقة في الإلقاء جعلت أبا مصطفى نديماً لرجال السياسة والشخصيات العامة والتجار ، فقد قرَّبه أهل المناصب منهم في أواسط القرن الماضي تماماً مثل ما كان الولاة في العصور الأولى يتخذون لأنفسهم وسائل للتسلية من المغنين والمهرجين والظرفاء .
كان مصطفى سويد يروي نوادره متتالية بأسلوب شيق عذب . . . وقد بلغ من قوة شخصيته وظرافتها أن الأديب حبيب كحالة صاحب مجلة ( المضحك والمبكي ) التي كانت تصدر في دمشق منذ ثلاثينيات القرن الماضي قد اتخذ من شخصيته أبي درويش سويد رمزاً لابن الشعب في ذلك الوقت ، فكان ينشر صور أبي درويش الهزلية الملونة على غلاف مجلته بأشكال ومواقف شتى ، ويضع تحتها تعليقاتاً ساخرة تتناول السياسة المحلية العربية والدولية .
أبو درويش يعرج في مشيته
كانت ظرافة أبي درويش سويد تدفعه لأن يتخذ من كل ما حوله وسيلة لتقديم النكتة . . . وقد كانت له قصة مشهورة تتعلق بكونه يعرج في مشيته ؛ تلك العرجة التي كانت تجعله يميل بجسمه كلما مشى يمنة ويسرة ، وقد كان لهذه العرجة قصة طريفة جداً ، وكان أبو درويش يتفنن في إلقائها فيقدمها كل مرة بلبوس مختلف من الزركشة والبهرجة ، حتى لقد غدت هذه القصة عند الناس مثل الأغنية الأصيلة الممتعة يعيد المرء الاستماع إليها كثيراً ولا يملها ، لأن الطرب المرافق للاستماع إليها يعطيها في كل مرة معاني جديدة .
ولقد بلغ من رغبة الناس في إعادة الاستماع إل هذه الطرفة المتعلقة بالعرجة أنهم كانوا يتحرشون به ويسألونه عن سبب العاهة التي أصيب بها وأدت إلى عرجه ، وذلك ليستمعوا منه مراراً وتكراراً إلى تلك الطرفة التي كان يجددها دوماً بأسلوب جديد وجمل منتقاة ، وسأحاول الآن أن أصوغ هذه الطرفة كما كان يرويها أبو درويش سويد ، ولعلي سأستغرق في ذلك دقيقة أو دقيقتين في حين أن أبا درويش كان يستمر في روايتها نصف ساعة وكان يضيف عليها من حركات وجهه ويديه ووقوفه وجلوسه وميلانه ما يجعل الناظر إليه يشعر وكأنه جالس في مسرح مجهز بالديكور والإضاءة والموسيقا . . . حركات وإيماءات تسابق أحدث المسارح الحالية . والناس تنظر إليه بعجب مشدودة تماماً كأنها خضعت لعملية تنويم مغناطيسي .
يقول أبو درويش سويد جواباً لسؤاله عن سبب عرجه :
كانت لزوجات الأغنياء والوجهاء في زمن مضى طقوس خاصة في كل أمورهن وتختلف هذه الطقوس عن مثيلاتها لدى زوجات الفقراء والدراويش ، من تلك الطقوس الخاصة الطقس المتعلق بحالة الحمل والولادة ، فهؤلاء النسوة الأغنياء يستدعين القابلة ( الداية ) عند المخاض ، ولكن ليس أية داية . . . فكما أن لهؤلاءِ النسوةِ الأغنياء زوجاتِ الأغوات والبكوات طرقاً مبتكرة في حياتهن ووسائل مختلفة عن الفقيرات والدرويشات ، كذلك فإنهن يختلفن عنهن في الدايات ؛ فالداية لديهن امرأة غريبة . . . . ربما لأن المولود أيضاً لديهن شأنه غريب . . .
تدخل الداية إلى البيت بهدوء وتسير في أرجائه بتؤدة وكأنها تحسب خطواتها ، ولاتتكلم حتى يُنادى عليها . . . ثم تدخل إلى غرفة المرأة الحامل التي أتاها المخاض ، ولايدخل معها أحد سوى الأم أو الأخت ، ويبقى الأقرباء رجالاً ونساء ينتظرون على باب الغرفة يترقبون قدوم هذه الفرحة البهيجة ، وتقوم الداية بتهيئة المرأة للولادة . . . وبعد أن تتهيأ هذه لاستقبال المولود المنتظر ، تبدأ الداية بما يسمى بعملية ( مناجاة المولود ) . . . وهذه عملية خاصة بالأغنياء وبمن يسمون بــ ( الأكابر ) ، الأكابر الذين يختلفون عن غيرهم في كل شيء ، ليس في الطعام والشراب واللباس فقط ، وإنما حتى في الحمل والولادة . . . إذن تبدأ الداية بمناجاة المولود الذي لم يولد بعد مستخدمة في ذلك أرق العبارات وألطف التعابير ، فتقول بلهجة حنونة راقية :
ـــ انزل يا حبيبنا انزل . . . انزل يا روحي بالسلامة إن شاء الله . . . تعال تعال ياعيني تعال ميت أهلا وسهلا فيك .
ثم تزعم الداية أن المولود يرد عليها بقوله :
ـــ ما بنزل إلا حتى تشتروا لي بستان الباشا .
فتـنقل الداية طلبه على إلى أهل المرأة الحامل الذين ينتظرون على الباب . . . وتنتظر حتى يأتيها الجواب بالموافقة ، فتقول للمولود الذي لم يولد بعد :
ــــ مو تكرم عيونك يا حبيبي . . . بساتين الدنيا كلها تحت أمرك .
وحين يسمع المولود وهو في بطن أمه هذا الجواب اللبق يزيد في دلاله وغنجه ، فيطلب أيضاً أن يشتروا له مخزناً في سوق الحميدية . . . فتنقل الداية الطلب لأولي الأمر الذين يهزون برأسهم إشارة على الموافقة ، فتعود لتقول للمولود :
ـــ لك والله مخازن الدنيا كلها على حسابك . . . إيه مو تكرم عينك ، إنت بتؤمر أمر .
يفرح المولود كثيراً بهذا الجواب فيزيد في طمعه ، فيقول :
ــــ أريد أيضاً بيتاً في سوق ساروجة حارة قولي ، حيث يسكن وجهاء وأغنياء دمشق .
فتقول له الداية . . . البيوت كلها تحت أمرك . . . أنت بس انزل وكل شيء سيكون جاهزاً لك .
وهكذا تزداد الطلبات ، وتستمر المفاوضات ساعة أو ساعتين والمولود يتدلل ويبالغ في طلباته والداية تتودد له وترجوه أن ينزل إلى أن يرق قلبه أخيرا وينزل فيستقبله الأهل بالزغاريد والأغاني التي تبدأ بالآهات الطويلة ( أوهااااا ) . . .
ويتابع أبو درويش روايته لهذا الكلام فترة طويلة دون أن يضحك أو يبتسم .
يقول : أما أنا فإنني كما تعلمون درويش من أبناء الدراويش ، وحين كانت أمي تتمخض بي ، طلبوا لها الداية فجاءت إلينا . . . ونظراً لأني على علم بما يفعله أبناء الأكابر والأغنياء وكيفية نزولهم إلى هذه الدنيا فقد حاولت أن أحذو حذوهم علَّ القابلة تتماشي مع الوضع الذي تراه قتفعل كما تفعل تلك . . . لكني فوجئت بأن الداية تخاطبني بكلام فيه الكثير من الحزم ، فتقول :
ـــ يالله يا ولد انزل خلصنا ، بدنا نشوف شغلنا .
فأجبتها كما يفعل أبناء الأكابر :
- ما بنزل ، ما بنزل إلا . . .
وما إن سمعت أنني بدأت أقول ( ما بنزل ) حتى صاحت بي :
ـــ نعم . . . لك شو عمتقول ولا . . . نزل ولا . . . نزل العين تطرقك .
فحاولت مرة أخرى أن أتكلم لكنها باغتتني بأن قالت :
ـــ تعال نزل ضربة تخلع رقبتك خلع ، شو محسب ما عنا شغلة غيرك ، هادا يللي كان ناقص والله . . . تتعلم من الأكابر كيف يحكوا وتصدر لنا أوامر وطلبات .
ثم سحبتني من رجلي بعنف شديد ونزلت إلى الدنيا وأنا أبكي وأصيح من الألم فقد التوت رجلي من جذب الداية لها ، وأصبت بالعرج منذ ذلك اليوم .
وهكذا لم تسمح لي الداية بأن أتم كلامي وأذكر طلباتي . . . لقد فاتني أن الداية عندنا ليست مثل الداية عندهم .
أبو درويش سويد والمرض
ذات يوم مرض أبو درويش فاستدعى جاره الصيدلي ليقيس حرارته وتصادف أن الصيدلي لم يكن موجوداً فحضر معاون الصيدلي ، وحين وضع ميزان الحرارة في فم أبي درويش تفاجأ أن الحرارة قد وصلت إلى ثلاث وأربعين درجة ، وما إن أخبر أبا درويش بهذا حتى انتفض مذعوراً ، لأنه من المعلوم أن أعلى حرارة يمكن أن تصل إلى أربعين درجة أو واحد وأربعين ، أما أن يتجاوز الأمر ذلك فإن هذا خطر شديد . . . ارتعب أبو درويش ، وأخذته حالة من الخوف الشديد جعلته يظن نفسه أنه قد مات فأغمي عليه وغاب عن الوعي ، ولم يصحُ إلا على صوت صديقه الصيدلي الذي علم بالأمر فحضر مسرعاً . . . ثم تبين أن ميزان الحرارة هو ميزان زئبقي ويحتاج قبل استعماله إلى نفض لكي تنزل الحرارة ثم بعد ذلك يقوم بالقياس ، فأخبره الصيدلي أن معاونه لم ينفض ميزان الحرارة قبل الاستعمال ، فصاح به أبو درويش قائلاً :
ـــ انفضه . . . انفضه ، الله يلعن يللي نفضك ونفض معاونك .
يمين الطلاق
مر أبو درويش من أمام جماعة فسلَّم عليهم فلم يردوا عليه . . . فامتعض ، وأقسم يميناً بالطلاق ثلاثاً ألا يسلم على أحد طوال هذا اليوم . . .
ثم وفي المساء أراد أن يصلي ، ولما وصل إلى نهاية الصلاة صار وقت السلام ، فكيف يسلم وقد حلف يميناً بالطلاق ، فما كان منه إلا أن التفت إلى اليمين وإلى اليسار وقال :
ــــ مرحبا يا شباب .
وبعد : على الرغم من أن أبا درويش قد توفي منذ ثلاثة وستين عاماً في عام 1953 إلا أنه ما يزال طعم طرائف حكاياه إلى اليوم تحت أضراس من سمعوه في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي . . .