عدنان جاموس في حوار مع الموقف الأدبي
* حوار: سلام مراد
الأستاذ عدنان جاموس مترجم سوري، أحب اللغة معنى ومبنىً من بدايات دراسته الابتدائية وإلى الآن، في البداية أحب الخطابة والسجع والوزن والإلقاء، ثم تطورت معه الحكاية فأحبها بعمق، دخل إلى المعاني ومفرداتها، توسع في هذا الجانب بعد أن درس فقه اللغة الروسية وآدابها، في موسكو، مارس الترجمة الفورية الشفهية مع الخبراء الروس والسوريين، في مشروع سد الفرات في السبعينيات، ومارسها كتابة عبر ترجمة الوثائق ومراحل تنفيذ السد أولاً بأول، رافق مسيرة السد من بدايتها إلى تنفيذ المشروع، هكذا حياته كأنها كانت نقاط ماء فتجمعت وشكلت سداً كبيراً، أحب الكلمات، تجمعت الكلمات فشكلت قصائد وقصصاً وحكايات وكتباً وسيراً ومعاجم وقواميس، لتشكل بمجموعها لغة، لم يكتفِ فقط بلغته العربية، درس اللغة الروسية وترجم منها أعمالاً أدبية متميزة لتشيخوف، والحفرة لالكسندر كوبرين وغيرهما كثير... دائم الهيام باللغة يبحث عن الأصح والأجمل، والأنسب للجملة، حياته مسيرة بحث لا تنتهي، يشهد له من يعرفه عن قرب أو بُعد، هكذا أنا عرفته عن قرب وعن بعد أيضاً، يمثل الرجل الصبور الصامت، صمت الحكماء، الذين يعبرون على الشدائد، تتجلى حكمته في صمته وسماعه الآخرين، تعرفت عليه في اتحاد الكتاب العرب، مترجماً ومدققاً ومرجعاً لأصدقائه ولمن يسأله، هو الإنسان المتواضع، يعمل بهدوء، أحب عمله الترجمة، والآن يمارسها على الصعيد الشخصي والعام، وهو رئيس تحرير مجلة الآداب العالمية الفصلية التي تصدر عن الاتحاد منذ عام1974
يعطي عمله من فكره وطاقته، يسمع ويناقش وكان لنا معه الحوار التالي:


س 1 ـ حبذا لو يحدثنا الأستاذ عدنان جاموس عن جزء أساسي من حياته، وهي بداياته في الكتابة والترجمة؟
ج 1 ـ ارتبط تعلقي بالأدب وتذوقي له بادئ ذي بدء بحفظي عن ظهر قلب، وأنا تلميذ في الصف الثالث الابتدائي، قصائد تنسب إلى عنترة بن شداد، كان والدي ينتقيها من السيرة الشعبية، ويدربني على إلقائها بلهجة خطابية مؤثرة، ويطلب مني استظهارها. وكنت أستظهر أيضاً بعض العبارات المُسجَّعة التي تحفل بها السير الشعبية المتعددة الموجودة في «كتبيّة» منزلنا، حيث كان والدي يحتفظ بأغلى ما لديه، ومنها سيرة الملك الظاهر بيبرس، وسيرة بني هلال وتغريبتهم، وسيرة الزير سالم ومجراوِيَّته، وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، وعلي الزيبق، وذات الهمة، وفيروز شاه وسواها، وكانت هذه العبارات المسجّعة تدهش زملائي في المدرسة الابتدائية، فيتحلقون حولي في الباحة ليستمعوا إلى روايتي بعض الأحداث الشائقة التي حفظتها من هذه السير الشعبية، وما يتخلل هذه الأحداث من أبيات شعرية أُلقيها باللهجة التي دربني عليها والدي، وهكذا أصبحت «حكواتي» المدرسة منذ الصف الثالث الابتدائي لغاية الصف التاسع (الثالث الإعدادي) ؛ ثم أولعت بعد ذلك بقصص «ألف ليلة وليلة» التي لم تكن موجودة في «كتبيّة» والدي، ربما لاحتوائها على بعض مقاطع لم يكن يريد لأبنائه الاطلاع عليها وهم بعد صغار. وكنت أستعير هذا الكتاب من دكان «ورّاقٍ» مجاور يمتهن تأجير الكتب، وبيع بعض اللوازم القرطاسية البدائية، ثم أخذت أقرأ بعض القصص البوليسيّة المترجمة التي كان أخواي الأكبران يشتريانها أو يستأجرانها. وعندما تجاوزت مرحلة الدراسة الإعدادية وانتقلت إلى الثانوية بدأت أستأجر بعض المجلات اللبنانية والمصرية (من مكتبة نِظام)، حيث ينشر الشعراء والكتّاب المعاصرون أعمالهم الأدبية والنقدية؛ كما أخذت في تلك البرهة أطالع بعض كتب التراث القيمة التي كان أخواي يرسلانها إليَّ من الحجاز حيث يعملان. وكان أهمها في نظري شرح ديوان المتنبي للبرقوقي؛ الذي قارن فيه الشارح بين آراء العديدين من شراح الشاعر، وفي مقدمتهم ابن جني، والعكبري، والواحدي وسواهم.. وظهر لدي ميل آنذاك إلى كتابة نصوص أدبية متنوعة، وكنت في كثير من الأحيان أصوغ موضوعات «الإنشاء» التي يكلفنا كتابتَها أساتذةُ اللغة العربية في المدرسة الثانوية صياغة قصصية، فيُعجب بها المدرّسون والزملاء ويشجعونني على الاستمرار في اتباع هذا الأسلوب في الكتابة. وأصبحت أحرص آنذاك على قراءة المقالات النظرية في النقد، والمساجلات النقدية، للإفادة من آراء ذوي الخبرة، كي أهيئ نفسي لكتابة نصوص قابلة للنشر، وعندما أوفدتني وزارة التربية والتعليم إلى موسكو للتخصص في «فقه اللغة الروسية وآدابها» في جامعة لومونوسوف كان يستهويني قبل كل شيء دراسة إبداعات الكُتّاب الروس العظام. وكنت قد قرأت من قبل بعضاً من هذه الأعمال مترجمةً إلى اللغة العربية عن لغة وسيطة، واطلعت على آراء بعض الأدباء العرب في هذه الأعمال، ومدى تأثيرها في نفوسهم، وطريقة تفكيرهم، ونظرتهم إلى طبيعة الأدب. وتابعت في تلك الآونة تجاربي في كتابة الأقصوصة وقراءة ما أكتبه في الأمسيات الأدبية التي كانت تقيمها رابطة الطلاب العرب في موسكو. ولم يكن يخطر لي آنذاك على الإطلاق أنني سأوقف جل نشاطي الأدبي في المستقبل على الترجمة، وقد عينتني الجهة الموفدة عند العودة إلى الوطن مدرساً للغة الروسية في إعداديات دمشق. ووقع في تلك الأثناء عدوان حزيران عام 1967، ولم أجد مخرجاً من الشعور بالإحباط الذي أصبت به في تلك الأيام سوى في الاستجابة لنصيحة بعض الأصدقاء والذهاب إلى العمل مترجماً في مشروع سد الفرات، بحيث أكون صلة الوصل ووسيلة التفاهم بين المهندسين والعمال العرب والروس الذين ينفذون أكبر مشروع للتنمية الاقتصادية في البلاد آنذاك، وبهذا يمكن أن أواسي نفسي بأنني أقوم بواجبي تجاه وطني الذي أصيب بتلك النكسة المريعة، على الرغم من أن هذا العمل لم يكن ينسجم مع ما كنت أطمح إليه في مجال النشاط الأدبي. ولاقيت في البدء صعوبات شديدة تكاد تكون عصية على التذليل؛ بحكم أنني لم أكن أعرف أي مصطلح تقريباً من المصطلحات المتداولة في مجال عملي الجديد، حتى إنني كنت في بعض الأحيان إخالُ أن هذه ليست هي اللغة الروسية التي تعلمتها في الجامعة وفي الحياة المعيشية اليومية في روسيا، ولكن.. لابد مما ليس منه بد، وعلي الآن أن أكتسب اختصاصاً جديداً من دون أن أهمل القديم؛ وهكذا تحول كل اهتمامي إلى استيعاب المفاهيم الجديدة، والمصطلحات المتداولة، والاجتهاد لابتكار مصطلحات مقابلة للكلمات المرتبطة ببعض أنواع الأعمال غير المألوفة سابقاً حتى لدى مهندسينا العرب، والتي تخلو منها حتى المعاجم المتخصصة. وكانت مهمتي تقتضي إجادة الترجمة الشفهية والكتابية على حد سواء، وتتطلب الإحاطة بـ«فنّ» الترجمة في الحالتين؛ ولم تكن الترجمة الشفهية تقتصر على أن تترجم لشخصية أو بضعة أشخاص يتحاورون حول موضوع محدد، بل تتعدى ذلك إلى الترجمة لنحو أربعين اختصاصياً من المديرين العرب والخبراء الروس الذين يترأسون القطاعات الإنتاجية في المشروع، تحت إشراف المدير العام للمؤسسة من الجانب السوري وكبير الخبراء في المشروع من الجانب السوفييتي يجتمعون كلهم حول طاولة واحدة، ويقدم كل منهم تقريره حول الأعمال التي نفذها في قطاعه، والصعوبات التي اعترضته، والعقبات التي يجب تذليلها، وأسباب التقصير إن وُجد، ومقترحاته لتحسين سير العمل إلخ... ويتخلل ذلك الكثير من النقاشات والمجادلات التي تحتد أحياناً لتصل إلى حد الاتهامات المتبادلة حول أسباب التقصير والعرقلة، وكل هذا يجري عبر المترجم الذي يجب عليه أن ينقل بأمانة كل مايقال في هذا الاجتماع الذي يدوم أحياناً نحو ثلاث ساعات أو أكثر، علماً بأن أي خطأ في الترجمة يمكن أن يخلق سوء تفاهم لا يزول إلاَّ بعد اللتيّا والّتي، والوقت في مثل هذه الاجتماعات جد ثمين، والخطأ الذي يمكن أن يمر من غير أن ينتبه إليه أحد يكلف غالياً عند تنفيذ الأعمال في المشروع؛ ولذا فقد كان القيام بهذه المهمة يتطلب من المترجم أن يعمل ليل نهار كيلا يُفاجأ في مثل هذه الاجتماعات بمصطلح تقني، أو تعبير اصطلاحي، أو قول مأثور، أو مثل سائر، أو عبارة فيها كناية أو تورية في إحدى اللغتين لا يعرف ما يكافئها في اللغة الأخرى؛ وكل هذا يسهُل تدبيره بالشكل اللائق في الترجمة الكتابية، إذ يتوافر للمترجم الوقت الكافي والمراجع العديدة وإمكانية سؤال الثقات من أبناء اللغة التي يترجم عنها. أما في الترجمة الشفوية الفورية فلن يسعفه سوى مخزونه من المعرفة، وسعة اطلاعه، وخبرته في معالجة مثل هذه الأمور, كانت الترجمة الكتابية التي أمارسها آنذاك محصورة ضمن نطاق النصوص التقنية، والمذكرات الهندسية والتصميمية، والدراسات التبريرية، والتقارير الإنتاجية، والبحوث المخبرية، وبرامج العمل الشهرية، والشروح والملاحظات التي تُسجل على المخططات التنفيذية، وكذلك ترجمة الاتفاقيات التي يعقدها الجانبان السوري والسوفييتي في المجالات الإنتاجية، ومحاضر جلسات اللجنة المشتركة الدائمة واللجان الفرعية المتخصصة بهدف تنفيذ هذه الاتفاقيات، ثم ترجمة العقود التي يجري بموجبها إيفاد الخبراء وتوريد التجهيزات اللازمة لتنفيذ المشروع، كما كان عليَّ أن أترجم الخطب الشفوية والمكتوبة التي يلقيها مسؤولون من الجانبين في مختلف المناسبات والاحتفالات. ولم أعد آنذاك أجد فسحة لأتابع نشاطي الأدبي سوى في نطاق «اللجنة الثقافية» التي شكلتها «نقابة عمال سد الفرات». وكنت ألقي في «الأمسيات الأدبية» التي تقيمها اللجنة بين فينة وأخرى أقصوصات مستوحاة من أجواء العمل في مشروع السد. ولكن استغراقي في الترجمة بحكم عملي دفعني إلى أن أسعى للإحاطة بهذا «الفن» من جميع جوانبه، والاطلاع على ما كُتب عنه من دراسات «نظرية» مستخلصة من الممارسة العملية، ومن الخبرة التي تكونت لدى مترجمين متمرسين، وهكذا أصبحت أجد متعة في الاطلاع على تجارب كبار المترجمين العرب الذين تصدوا لترجمة أعمال أدبية روسية، والإفادة من إنجازاتهم، واكتشاف مواطن الضعف والخطأ في ترجماتهم، لاسيما في الأعمال المترجمة عبر لغة وسيطة... وما إن انتهت الأعمال الرئيسة في مشروع الفرات ـ بناء السد والمحطة الكهرمائية وتوابعهما ـ ولم يبق سوى الإكمالات حتى سعيت بكل إصرار لنقلي من العمل في المؤسسة إلى أية جهة أخرى ذات طابع ثقافي. بيد أن مساعيّ لم تجدِ نفعاً، إذ كانت قد بدأت آنذاك أعمال استصلاح الأراضي واستزراعها بالاستفادة من مياه البحيرة التي تشكلت بعد اكتمال بناء السد، وبدأ إنشاء محطات الضخ الكبيرة وشق قنوات الري الضخمة وإقامة مآخذ المياه عليها، وتحديد الدورات الزراعية، وتنظيم المزارع الاستثمارية الخ... وكان كل هذا يجري بالتعاون مع خبراء سوفييت عبر المشاورات والأعمال المشتركة. وكانت الترجمة في هذا المجال تتطلب الإحاطة بمفاهيم جديدة، وحيازة مصطلحات جديدة، وأصرّ أصحاب القرار آنذاك على نقلي نهائياً إلى ملاك «وزارة الري» وتثبيتي فيه، مع الموافقة على نقل مركز عملي من مدينة الثورة إلى دمشق، ومن هنا كانت البداية في ممارستي الترجمة الثقافية والأدبية، ولاشك في أن عملي في مشاريع التنمية الاقتصادية مدة ثلاثة وثلاثين عاماً، وما تخلل ذلك من متطلبات التعاون بين الجانبين السوري والروسي: من مفاوضات رسمية، ومناقشات فنية، واتفاقات علمية وتقنية وتجارية وتنظيمية وإدارية ومالية... الخ... قد أغنت إحاطتي باللغة الروسية من شتى الجوانب، وساعدت على تذليل العقبات والتغلب على الصعوبات في أثناء ترجمة أي نص، سواء أكان ذا صبغة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فلسفية أو أدبية، وذلك لأن هذه الخبرة، وإن لم تكن في المجالات المذكورة، إنما تكونت على أساس متين من التخصص في فقه اللغة الروسية وآدابها أصلاً، ومن المعروف أن المترجم الذي يتصدى لترجمة علم ذي طابع اقتصادي أو فلسفي أو اجتماعي أو حتى إبداعي ـ كالرواية مثلاً ـ يمكن أن تصادفه مفاهيم علمية ومصطلحات تقنية ووصف لعمليات إنتاجية لا يمكنه التعبير عنها تعبيراً سليماً باللغة التي يترجم إليها إلاَّ إذا كانت لديه معلومات كافية عن ماهيتها، وقد لمست ذلك عند مراجعتي لترجمات عديدة في الاقتصاد والفلسفة والإناسة وعلم الاجتماع إلخ... وحتى في أعمال روائية نقلها إلى العربية مترجمون يجيدون اللغتين ولكنهم لا يحيطون بماهية بعض الظواهر والعمليات التي يرد وصفها في النصوص الأصلية.
س 2 ـ برأي الأستاذ عدنان جاموس ماهي الجوانب التي لم يتم تغطيتها من خلال ترجمة تاريخ الأدب الروسي؟.
ج2 ـ ثمّة حقبة في تاريخ الأدب الروسي هي، في رأيي، من أغنى، بل ربما هي أغنى الحقب في تاريخ الأدب العالمي كله، من حيث القوة التي تفجرت بها ينابيع الإبداع، والحماسة المتأججة التي كانت تدفع المبدعين إلى ارتياد آفاق جديدة في فضاء الفن الرحب، وهي حقبة العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، فقد ظهر آنذاك عدد كبير من الاتجاهات والتيارات والمدارس الأدبية والفنية، بعضها استوحِيَ من الغرب الأوربي ولكنه سرعان ما اصطبغ بالصبغة الروسية، وبعضها انبثق من التربة الروسية بفعل الظروف الجديدة التي نشأت آنذاك في حياة البلاد، وبعضها واصل التقاليد الأصيلة، ولكن بأشكال جديدة تتلاءم مع المضامين والموضوعات الجديدة التي فرضها التطور الاجتماعي، وقد ظهر في هذه الحقبة مبدعون كبار لا في مجال الأدب فحسب، بل في سائر مجالات الفن الأخرى، وظهر إلى جانب هؤلاء فلاسفة ومُنّظرون ونقّاد، تجادلوا وتساجلوا، وأتى كل فريق منهم ببراهينه وحججه المعلّلة، مما أغنى الحياة الثقافية أيما إغناء، وأدى إلى إنتاج أعمال فنية كانت تُعَدّ في حينها أعمالاً حداثية، ثم أصبحت فيما بعد نماذج كلاسيكية يُستشهد بها بصفتها تحفاً فنية فريدة لن تتكرر. ويكفي أن نذكر هنا في المجال النظري أعمال «الشكلانيين» الروس، التي أصبحت فيما بعد أصولاً لأبحاث ودراسات نظرية ظهرت في الغرب الأوربي، وانتشرت في العالم على أنها نظريات أصيلة مبتكرة، في حين أن جذورها تعود إلى تلك النظريات التي كانت قد ظهرت في روسيا خلال الحقبة المذكورة، وتُرجمت إلى اللغات الأوربية واستفاد منها المفكرون الغربيون في دراساتهم. إن هذه الأعمال الإبداعية والدراسات النظرية لم تحظ بالاهتمام الكافي لدى المترجمين العرب، وقد تُرجمت شذرات منها فحسب إلى اللغة العربية، وربما لو أتيح للكتّاب والنقّاد العرب الاطلاع على أهم ما أُنتج في تلك الحقبة من أعمال إبداعية ونقدية ونظرية لأفادوا منها إفادة كبيرة ولاغتنت خبراتهم في المجال الإبداعي والمجال النظري على حدٍّ سواء، ولوجدوا أجوبة عن الكثير من الأسئلة التي ظلت ردحاً طويلاً من الزمن موضع جدال وأخذ وردّ بين أنصار «الأصالة» و«المعاصرة»، و«القديم» و«الجديد»، و«الكلاسيكية» و«الحداثة»، و«الشعر العمودي» و«شعر التفعيلة» و«قصيدة النثر» الخ...
3 ـ هل استطاع المترجمون العرب أن يصنعوا جسراً ثقافياً، مثلاً بيننا وبين الروس؟
الثقافة، ضمن أطر السؤال المطروح، مفهوم واسع يشمل الفكر الفلسفي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي والفني والجمالي الخ... وإذا نحن استعرضنا الأعمال التي ترجمت (من الروسية) إلى العربية نجد أنها شملت كل هذه المجالات بمقادير متفاوتة، ويمكن القول إن الجسر الثقافي كان باتجاه واحد إذا تقيدنا بحرفية السؤال الذي يستفسر عن دور المترجمين «العرب» بالذات في بناء هذا الجسر. وكانت ترجمة الأعمال الفلسفية والاقتصادية والسياسية والفكرية عموماً إلى اللغة العربية بمنزلة الدعامات الأساسية التي قام عليها الجسر، فيما قامت ترجمات الأعمال الإبداعية السردية مقام الإسمنت الذي ثبّت هذه الدعامات ورسخها. فَمَنْ مِنْ المثقفين العرب لم يقرأ شيئاً من غوغول وتورغينف وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وغوركي وشولوخوف وباسترناك وسولجينيتسين وراسبوتين.. وقد تحدث كثيرون من كبار المبدعين العرب عن تأثرهم بهذا الكاتب الروسي أو ذاك وبهذه الرواية أو تلك. كما ساهمت في بناء هذا الجسر أعمال تُرجمت عن اللغة الروسية لكتّاب ليسوا روساً من حيث الانتماء القومي مثل: جنكيز آيتماتوف القيرغيزي، ورسول حمزاتوف الآفاري، ونودار دومبادزه الجورجي وسواهم.
أما «إكمالات» الجسر فقد اضطلعت بتمثيلها ترجمة بعض الأعمال في مجال النقد الأدبي وعلم الجمال (بيلينسكي وتشيرنيشيفسكي) وبعض الإبداعات الشعرية (بوشكين وليرمونتف وبلوك وماياكوفسكي ويسينين على سبيل المثال لا الحصر).
س 4 ـ نريد من الأستاذ عدنان أن يتكلم عن الترجمة المعاكسة وهي الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى؟
الترجمة المعاكسة من العربية إلى الروسية بالتحديد شكلت الاتجاه الآخر على جسر التواصل الثقافي، وقد قام بهذه المهمة المستعربون الروس الذين ترجموا الكثير من كتب التراث العربي، بما في ذلك الأدب والفلسفة والحكايات الشعبية ومختارات من دواوين الشعراء العرب في مختلف العصور، كما ترجموا العديد من الأعمال الشعرية والروائية والقصصية المعاصرة مع إلقاء الضوء على هذه الأعمال بدراسات نقدية تقويمية، ولكن هذه النشاطات لم تكن تجري وفق خطة مدروسة، بل كانت ذات طابع فردي، ودوافع شخصية. وكان اتحاد الكتاب العرب في سورية قد اتفق مع اتحاد كتّاب روسيا على ترجمة مئة رواية مختارة من العربية إلى الروسية ولكن هذه المبادرة لم تجد من يتابعها لتؤتي أكلها، كما أن وزارة الثقافة وعدت بأنها ستدرس هذا الموضوع من جميع جوانبه كي يكون العمل مثمراً ويسير على التوازي مع الخطة العامة للترجمة التي أطلقتها الوزارة في نيسان عام (2013)؛ بيد أن خطة الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى لا تتعلق فقط بإرادة الجانب السوري، بل لابد من التنسيق والتعاون مع الأطراف الأخرى ذات العلاقة، وفي مقدمتهم المترجمون ودور النشر الأجنبية الخ... وفي رأيي أن الترجمة من العربية إلى أية لغة أجنبية يجب أن توكل إلى مترجمين أكفياء من أبناء لغة الهدف، أو على الأقل بالتعاون معهم، لكي ترتقي الترجمة إلى مستوى الأصل من حيث سلامة التعبير، ونصاعة الأسلوب، ومتانة السبك، والنَفَس العام السائد في العمل الأدبي، وإلاَّ فإنّ الترجمة لن تلقى إقبال جمهور القراء الأجانب عليها ولن تحظى بالانتشار، وربما أدّت إلى بخس العمل الأصلي حقه من التقدير، مما ينعكس سلباً على مجمل النشاط في هذا المجال، ولذا فإن الاهتمام يجب أن يوجه نحو التواصل مع المترجمين الأجانب ذوي الخبرة والكفاءة، والعمل على إثارة الرغبة لديهم في القيام بهذه المهمة الجليلة.
س 5 ـ لماذا يعدُّ دور الكتاب في الدول العربية متأخراً؟ ولماذا لا يشكلون مرجعية ثقافية اجتماعية؟
ثمّة أسباب كثيرة لهذه الظاهرة من أهمها نسبة الأمية العالية في الوطن العربي مما يضعف التواصل بين الكاتب والجمهور؛ ثم إن الذين يجيدون القراءة نراهم قلما يقرؤون إلى درجة أنه قد شاعت على الألسنة وفي وسائل الإعلام، وجرت مجرى الأمثال، عبارةُ «أمة اقرأ لا تقرأ»؛ ولسنا هنا بصدد الخوض في البحث عن أسباب ذلك فهي متعددة ومتشابكة، ومنها الذاتي والموضوعي... وأظن أن وسائل الإعلام والاتصال المعاصرة يمكن أن تضطلع بدور هام في تحقيق التواصل بين الكاتب والقارئ بمختلف الأساليب، وإذا ما لمس القراء في أعمال كاتب ما صدقاً في تناول الموضوعات التي تتصل بجوهر حياتهم، وعمقاً في تصويرها ومعالجتها فنياً؛ فإنهم سيهتمون بمضامينها ويجهدون في تفهم مراميها وسيكون لهذه الأعمال عندئذٍ تأثير في حياتهم وسلوكهم.
س 6 ـ كيف يختار الأستاذ عدنان الكتب التي يترجمها، وماهي رسالته من خلال الترجمة؟
بصراحة أقول إن أكثرية الكتب التي ترجمتها لم تكن من اختياري؛ بل من اختيار الجهة الناشرة، ولكن قبولي بترجمتها لم يكن عن اضطرار، بل كان بوسعي أن أقبل العرض أو أرفضه تبعاً لقناعتي بمدى جدواه وأهميته. أما الكتب التي اخترتها بنفسي وأنجزت ترجمتها قبل أن أعرضها على أية جهة ناشرة فهي أعمال تتسم في نظري بخصوصية تميزها من الأعمال الأخرى التي تنتمي إلى الجنس نفسه؛ ومنها كتاب «الجمالي والفنيّ».
للباحث والناقد ومؤرخ الأدب الروسي "غينادي بوسبيلوف"، وكان سبب اختياري له هو احتواؤه على نظرية متماسكة تحدد الفرق بين الظواهر الجمالية في الطبيعة والمجتمع والفن، وتحدد جوهر الفن على نحو يميزه نوعياً من سائر أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى، انطلاقاً من أسباب نشوئه ومسار تطوره، وتبين دواعي تنوعه وتفرغه إلى أجناس وأنواع وصنوف وضروب، وتعلل كل الطروحات والمقولات التي تقدمها تعليلاً منطقياً مطرداً، مما يجعل من هذه النظرية بنياناً متكاملاً متناسقاً، ينسجم كل جزء فيه مع سائر الأجزاء الأخرى، ويرتبط بها ارتباطاً عضوياً، فلا تجد فيها أي تناقض أو تعارض.
أما اختياري قصة "السهب" لتشيخوف فسببه أن هذه القصة كانت بداية انعطاف أساسي في إبداع الكاتب، وقد أثارت في حينها عاصفة من الجدل بين النقاد والقراء جعلت اسم تشيخوف يتردد في الأوساط الأدبية في طول روسيا وعرضها لمدة طويلة؛ ومع ذلك فإن مترجمي تشيخوف إلى العربية، وهم كثر، قد ترجموا الكثير من أعماله التي كتبها قبل قصة "السهب" وبعدها، وأغفلوا ترجمة هذه القصة التي ارتأيت أن ترجمتها ضرورية لأنها تدشن مرحلة جديدة في مسيرة الكاتب الإبداعية، وتخلف انطباعاً لا يمحى في نفس قارئها.
س 7 ـ ما هو الهدف والغاية من رواية الحفرة لالكسندر كوبرين كونك مترجماً لها؟
ج7ـ أما اختياري لرواية "الحفرة" فقد كان الدافع إليه هو تفرد هذه الرواية بمزايا عديدة من حيث موضوعها، وأجواؤها، وأسلوب المعالجة الفنية الإبداعية، لثيمةٍ قلما تناولها الأدب العالمي؛ فموضوع البغاء، والوصف الواقعي الدقيق للحياة في بيوت الدعارة، والتحليل النفسي العميق لشخصيات المومسات، ورواد المواخير، وتجار الرقيق الأبيض، شخصية اليهودي الذي لم يتورع عن بيع المرأة، التي أحبته بإخلاص، إلى أحد بيوت الدعارة بهدف الكسب، والذي أنشأ مع أمثاله شبكة عالمية للمتاجرة بالسلع الحية، إن كل هذا يندر أن نصادفه تحت مجهر فاضح يجعل المراقب يرى الأمور على حقيقتها، ويحكم عليها بموضوعية، ويدين المجرم الفعلي، ويبرئ الضحية المتهمة زوراً وبهتاناً، وأظن أننا لن نجد في الأدب العالمي بين أمثال هذا العمل ما يضاهيه من حيث عمق النظرة الإنسانية إلى هذه الظاهرة القديمة قدم المجتمع البشري.
أما عن الأهمية الاجتماعية لهذه الرواية فيكفي لتبيانها أن نورد هنا نص الإهداء الذي مهد به الكاتب لروايته حيث يقول: "أعلم أن كثيرين سيجدون هذه القصة لا أخلاقية وبذيئة، ومع ذلك فإنني أهديها من أعماق القلب إلى الأمهات والناشئة"؟
س 8 ـ ماهي الرسالة التي يحب أن يوجهها الأستاذ عدنان للقراء والمترجمين العرب والأجانب؟.
ج8 ـ قالوا منذ القديم وما زالوا يقولون حتى الآن: "الترجمة خيانة" وإنني أقول: "الترجمة أمانة". والقول الأول يحدد العلاقة بين النص الأصلي وترجمته؛ أما الثاني فيحدد العلاقة بين المترجم والأمة التي سيقرأ أبناؤها ترجمته. وإذا كان من المتعذر تلافي "الخيانة" فإن بالإمكان تقليصها إلى حدود دنيا لا تكاد تذكر، انطلاقاً من الشعور بوقر "الأمانة". وكما أن "الرائد لا يكذب أهله" كذلك على المترجم ألا يغش قارئه. وعندما يتصدى المترجم لترجمة عمل أبدعه أديب عبقري أثر في ثقافة شعبه وفي تكوين شخصية الإنسان في أمته، عليه أن يشعر بعبء الأمانة التي انتدب نفسه لأدائها؛ ويجب ألا يغيب عن باله أن أبناء أمته يأتمنونه على نقل ما أبدعه هذا الأديب العبقري إلى لغتهم ليتعرفوا الجديد الذي أضافه إلى الثقافة الإنسانية، وأداء الأمانة بهذا المعنى يتطلب من المترجم أن تكون ترجمته أمينة، وهنا بيت القصيد، فالأمانة في الترجمة أبعد ما تكون عن النقل الحرفي الذي يزهق روح النص الأصلي، ويلغي الأسلوب الفريد الذي يميز الكاتب من سواه؛ فالدقة في النقل الحرفي هي دقة غير دقيقة، والأمانة فيه هي أمانة غير أمينة،؛ إذ إن مهمة المترجم لا تقتصر على نقل المعاني نقلاً معجمياً صحيحاً، بل تتعدى ذلك إلى الاقتراب ما أمكن من أسلوب الأصل؛ بقدر ما تسمح بذلك خصائص لغة الهدف، ويمكنني القول إن لغتنا العربية التي اغتنت بمختلف أساليب الكتابة ووسائل التعبير على مدى ما يزيد على ألفي سنة قادرة على إمداد المترجم بكل ما يحتاجه لنقل أي أثر قديم أو حديث، أياً كانت اللغة التي كتب بها، وأياً كان أسلوب كاتبه. وتبقى جودة الترجمة متوقفة على سعة اطلاع المترجم، وعمق معرفته، ورهافة حس، ودربة ذوقه الجمالي.
ولا شك في أن ثمة قواعد عامة للترجمة، ولكن هذه القواعد لا يمكن تطبيقها على جميع الأعمال الإبداعية، فلكل حالة خصوصيتها، وطرق معالجتها. وتدل التجربة على أن مترجم الأعمال الأدبية لا بد له قبل البدء بالترجمة منذ أن يستوعب السمات العامة التي يتميز بها أسلوب الكاتب، ومنظومة الصور الفنية السائدة لديه، والإيقاع الذي ينتج عن انتقاء المفردات وتجاورها وتناغمها وتنافرها وتكرارها وتوازيها وتناظرها في العبارات المسبوكة؛ وفق نظام معين يؤدي إلى خلق نبضٍ يهمس في عروق العمل بمجمله، فيجعل منه جسماً حياً مترابطاً ومنسجماً تسوده روح فريدة واحدة. وهناك العديد من الأعمال الأدبية، لاسيما أعمال دوستويفسكي، التي تتميز بأسلوب متوتر، وعبارات متشنجة، ونبرة ثاقبة، تختلط بسخرية غاضبة، وتعبر عن انفعال نفسي جياش، ومع ذلك فقد ترجمت أحياناً بأسلوب هادئ ساكن، وعبارات مقولبة مصقولة، مما أفقد الأصل خصوصيته وفرادته. وهكذا فإن الأمانة في الترجمة، كما أراها، لا تتحقق في الترجمة الحرفية، بل في الترجمة المكافئة التي يحرص القائم بها على ألا يكون فيها "فاقداً" ولا "فائضاً" وعلى أن تكون الشحنة التعبيرية ـ الانفعالية في كل وحدة ترجمية مكافئة ـ لما هي عليه في الأصل، وهذه معادلة صعبة بلا ريب، وتحتاج إلى ميزان أكثر حساسية من "ميزان الذهب"، ولكنها تستأهل من المترجم بذل قدرٍ من الجهد الإبداعي كافٍ للارتقاء بموهبته الترجمية إلى مستوى موهبة الكاتب الإبداعية.