مكتبات العلماء
=----.
............................

ـ خير الدين الزركلي (1893-1986)
...................

(كان عنده خزانتا كتب مليئتان بنوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات)
محمد عيد الخربوطلي
عرفت دمشق كثيراً من الأعلام الذين خلدتهم أعمالهم، وعلى رأسهم الحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ مدينة دمشق، والذي جاء مخطوطه في ثمانين مجلدة، فخلده هذا الكتاب من القرن (السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي) إلى يومنا هذا، وجا بعده من اختصر تاريخه وذيل عليه، وفي المنتصف الثاني من القرن العشرين بدأ المجمع العلمي العربي بدمشق بتحقيقه، وإخراجه للباحثين ليكون لهم معيناً ثراً وغنياً بفوائده.
وفي القرن (الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي) برز في دمشق مؤرخ موسوعي خلدته أعماله والتي في مقدمتها موسوعة الأعلام، إنه خير الدين الزركلي (1893-1976)، هذا المؤرخ الأديب الشاعر كان من الذين اهتموا بجمع الكتب المطبوعة والمخطوطة، وكان كَلِفاً بكتب التراث، فجمع مكتبة ضخمة لا نظير لها في العالم العربي بمحتوياتها ونوادرها...

ترجمة حياة الزركلي:........................
وُلد خير الدين الزركلي في بيروت لأبوين دمشقيين في 7 تموز 1893، وعاش في دمشق، كما كان يتنقل بين بيروت ودمشق، وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى استقر في دمشق وافتتح متجراً، وبدأ يطلب العلم على طريقة القدماء ليلاً، فقرأ على كثير من علماء عصره المتنورين أمثال جمال الدين القاسمي (1866-1914)، وطاهر الجزائري (1852-1920)، وعبد القادر بدران (1863-1927)، ومحمد كرد علي (1876-1953) وغيرهم، ثم درس في المدرسة العثمانية ومدرسة اللاييك في بيروت، ولما عاد إلى دمشق درَّس في المدرسة الكاملية.
أصدر في مقتبل عمره صحيفة (الأصمعي) ولكن لعروبته صادرتها الحكومة العثمانية، وحكم عليه بالإعدام، وفي عام (1918) أصدر صحيفة (لسان العرب) ولم تستمر في صدورها إلا ثلاثة شهور فقط، ثم أصدر صحيفة (المفيد) واستمرت حتى دخول الفرنسيين دمشق عام (1920)، وجاهر على صفحاتها بعدائه للفرنسيين، حيث دعا بقلمه وشعره إلى مقاومتهم، فحكم عليه بالإعدام غيابياً، فترك الشام وهرب إلى حيفا ومنها قصد مصر ثم غادرها إلى الحجاز أيام الشريف الحسين بن علي حيث عمل معه، ثم أقام بالأردن، عاد بعد ذلك إلى فلسطين وشارك في تحرير جريدة (الدفاع)، عاد بعد ذلك إلى مصر وأنشأ مطبعة، ثم تنقل سفيراً للسعودية في عدة بلاد ومنها المغرب واليونان ومصر، توفي بمصر في 25 تشرين الثاني 1976.

مؤلفات الزركلي:
................................

ترك الزركلي مؤلفات عديدة أهمها موسوعة (الأعلام)، وهو قاموس ترجم فيه لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، وقد طُبع عدّة طبعات، وبقي يعمل فيه أكثر من ستين عاماً، وكان يعدّه أغلى من أولاده، فكان شغله الشاغل، ومن كثرة تعلقه به قال: (لو أُحرق الأعلام ألقيت بنفسي في البحر أسفاً).
ومن مؤلفاته المهمة ديوانه الشعري، الذي يعد في طليعة الشعر القومي العربي، وكتاب ما رأيت وما سمعت، وكتاب شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، وأدب البداة، والأمثال، وحكمة الشعر، وسحر البيان، والشعراء العرب في القرن الرابع عشر، وصفحة مجهولة من تاريخ سورية في العهد الفيصلي، وله عدة مؤلفات أخرى معظمها ما زال مخطوطاً، أما ديوانه الشعري الأول (عبث الشباب) الذي نظمه في مقتبل عمره فبعد أن أعدّه للطباعة احترق.

الرزكلي والكتب:
........................

عُرف عنه شدة ولعه بجمع المخطوطات والمطبوعات وكان عارفاً بها، كما عُرف عنه اعتزازه وافتخاره بوجود مخطوطات نادرة في مكتبته الخاصة، مثل مخطوطة كتاب (الإعلام بتاريخ الإسلام) لابن قاضي شهبة وهي بخط مؤلفها.
وخزانة كتبه كانت حافلة بالمخطوطات النادرة والمطبوعات النفيسة، ومن ينظر في فهارس مصادره ومراجعه في كتابه الأعلام يندهش من كثرة ما اعتمد عليه، ومع ذلك لم يعرف عنه أنه بخل يوماً بكتاب نادر أو مخطوط على المشتغلين بتحقيق كتب التراث، وقد شهد بذلك عبد السلام هارون ومحمود شاكر وإبراهيم شبُّوح وغيرهم.

مكتبته:
.........................

كان للزركلي خزانتا كتب، واحدة في القاهرة وأخرى في بيروت، قالت ابنته السيدة طريفة: (إن خزانة كتبه كانت في مكتبه من الدور الثاني من بيتهم، ثم زحفت الكتب إلى بقية غرف الدور الثاني)، أما غرفة مكتبته في بيروت، فقد وصفها د. بكري شيخ أمين فقال: (لم أرَ للغرفة جدراناً، لأن رفوف الكتب كانت تحجز رؤيتها حتى السقف)، ومن شدّة خوفه على خزانة كتبه النادرة هذه والتي صرف عمره في تجميعها، لم يغادر لبنان إبَّان الحرب الأهلية اللبنانية.
كيف جمع الزركلي مكتبته..؟..............................
استفاد الزركلي من رحلاته وأسفاره كثيراً في جمع مكتبته، كما ساعدته أعماله التي تولاها كسفير للسعودية ومندوب خاص للملك في عدة بلدان، كذلك حالته المادية الجيدة التي وفرت له ثمن ما يريد، وعلاقاته الجيدة مع العلماء والناشرين، كل ذلك وفّر له الجو المناسب لشراء كل ما يحلو له من كتب ومخطوطات أو تصويرها، فأثناء إقامته بالمغرب (1957-1963) سفيراً للسعودية، فتح له علماء المغرب خزائن كتبهم الخاصة والعامة، كما أفادته رحلاته الكثيرة إلى مختلف البلدان في جمع خزانة كتبه، فقد رحل إلى تركيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وسويسرة وتونس، ولما كان مندوباً خاصاً للملك في اليونان فتح له ملك اليونان مكتبه الخاص وسمح له أن يصور من مخطوطاتها العربية ما يشاء.
ومع ذلك فقد تجشَّم المشقة كثيراً في سبيل حصوله على مخطوط، أو صورة له أو حتى معلومة عن كتاب، ومن أمثلة ذلك ما ذكره للدكتور بكري شيخ أمين، فقد قال له: (..حين كنت أزور تركيا أزور المكتبة السليمانية في استانبول وهي العامرة بنفائس المخطوطات، كما كنت أنتقل أحياناً إلى الجبال وإلى متاحف لا تزال مجهولة وفيها مخطوطات عربية نادرة، لا أظن أن لها نظيراً في العالم، وكثير منها بخط مؤلفيها أنفسهم، وحدث مرة أن كنت في استنابول أبحث عن كتاب خاص.. فلم أعثر عليه، وفجأة رأيت صديقاً وسألته عن الكتاب، فقال: إنه موجود في بلدة مغينسة، فركبت السيارة إليها، واستغرق الطريق إحدى عشرة ساعة، فوجدتها من أغنى المكتبات، وصرت أعود إليها في كل صيف لأطلع على كنوزها العلمية، وبقيت كذلك سنوات حتى اطلعت عليها كلها..، فبهذه الهمة جمع مكتبته التي كانت قبلة الباحثين.
وكان من عادته أنه كلما ذكر اسم مخطوط في الأعلام، وكان قد أطلع على المخطوط وصفه، وذكر مكان وجوده، كما كان يذكر رقمه وفي أي قسم من المكتبة هو، فمثلاً عندما ترجم (الجَرْباذَقَاني) قال: له كتب منها كتاب حرف العين في الضاد والظاء من كتاب الروحة، وهو مخطوط رأيته في السليمانية ورقمه (5194)، كذلك وصف الكثير من المخطوطات، وأثبت مكان وجودها، كما كان يذكر إذا كان المخطوط قد طبع ومَن حققه وفي أي مكان تم طبعه كذلك في أي عام.

نهاية مكتبته:....................................
من المصائب الكبيرة أن ما يجمعه الآباء يبدده الأبناء، فإما أن يبيعوا خزائن كتب آبائهم لمؤسسات تحفظ هذا التراث، أو يبيعونها لتجار مختصين فيختلسونها اختلاساً، وبعد أن تصبح في أيديهم، ينتقون منها الغالي فيبيعونه بأضعاف ما اشتروها ويغتنون جراء ذلك، وما بقي لديهم يبيعونه للبائعين الذين يبسطون بها على أرصفة الشوارع.
تقول ابنته السيدة طريفة: (إن أخاها د. غيث اضطر إلى بيع خزانة كتب أبيه في بيروت بثمن بخس (14 ألف دولار) إبَّان الحرب الأهلية خوفاً من احتراقها، وهذا الثمن لا يعادل ثمن مخطوطة واحدة من مخطوطات أبيه الذي رحل لأجلها، وللأسف أنه كان فيها جُلَّ المخطوطات التي جمعها، وكان قد أهدى قُبيل وفاته قسماً كبيراً من خزانة كتبه إلى جامعة سعود بالرياض، وذلك خدمة لطلاب العلم، وبعد فترة أصدرت عمادة شؤون المكتبات بالجامعة فهرساً خاصاً طبعته بعنوان (فهرس مكتبة خير الدين الزركلي) فجاء في (546) صفحة للقسم العربي المطبوع، و124 صفحة للأجنبي، وبلغت كلها (3200) عنواناً عربياً وأجنبياً، و59 مجلة عربية وإنكليزية، و342 مخطوطة أصلية، و31 مخطوطة مصورة، وضُمّت المخطوطات إلى قسم المخطوطات بعمادة شؤون المكتبات.
أما مكتبة القاهرة، فقد بيعت بعد وفاته أيضاً، واشتراها الكاتب أمين دَمَسج، لكن وجدت مؤسسة تعرف قيمتها، فقد اشترتها منه جامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
وهكذا توزعت خزانتا كتبه مابين الجامعات والتجار، والحق يقال أن معظم الذين جمعوا خزائن كتب خاصة بهم كانت نهايتها البيع بعد وفاتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة.
==========================================
المصادر
.......................................

1 ـ الأعلام ـ خير الدين الزركلي.
2 ـ الزركلي ـ أحمد العلاونة,
3 ـ عبقريات من بلادي ـ عبد الغني العطري.
4 ـ الشعراء الأعلام في سورية ـ د. سامي الدهان.
5 ـ ذكريات علي الطنطاوي.
6 ـ الوجيز في مراجع التراجم ـ د. محمود الطناجي.
7 ـ مجلة الثقافة الدمشقية ـ عدد خاص عن الزركلي ـ شباط 1977.
8 ـ فوات الأعلام ـ عبد العزيز الرفاعي.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي