جسر الثغور... ماذا بعد؟
مقالي الجديد: كلنا شركاء
وهذا هو اسمها التاريخي، لأنها كانت وما زالت أرض رباط، وعندها تعقد الألوية للدفاع عن ثغور بلاد الشام، وكأنت أول مدائن الشام من جهة الروم، وتاريخها عبق بالشهادة والدم، واليوم تسجل هذه المدينة الحساسة تحولاً كبيراً في موازين القوى في الصراع في سوريا.
لا أومن بالحرب، ولكنني أفهم نشيد الثورة وحداءها وهتافها وثقافتها، وأفهم تماما ًوجوه هؤلاء المبتهجين بالنصر، وسجودهم وركوعهم في محراب الله، وأشعر بدفئ وجناتهم وهم يقبلون أمهاتهم وأخواتهم اللاتي انتظرنهم سنين طويلة، وأستمع قصائدهم وأشعارهم التي نظموها في تراب إدلب وغابات جسر الشغور، وأدرك أن من حقهم بعد ما نالهم من مظالم أن يرفعوا صوتهم بنشيد الحرية.
أكره الحرب وأجزم أن كل سوري يكره الحرب، حتى أولئك الذين يسجدون اليوم في غمرة انتصاراتهم في جسر الشغور يقرؤون قول الله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم.
قبل خمسة أعوام لم تكن هذه البنادق رغبة لأي سوري، ولم يكن هذا السوري من السهل ليرضى أن ترمى شوكة على أخيه في الجبل، وكان معظم هؤلاء المحاربين مواطنين عاديين من سلك العاملين في الدولة عمالاً أو فلاحين او معلمين أو أصحاب حرف وورش، وكثير منهم كانوا أعضاء في حزب البعث، ولم يكن في بال اي منهم أن يقوم ذات يوم بحمل سلاحه في وجه الجيش ولكنها السياسات الخاطئة والقراءات الكارثية للأحداث والظلم والقهر والقمع حولتهم إلى محاربين، وها هي نتائج التحليل الأسود للفريق الأمني الذي دفع بالبلاد نحو حل عسكري باطش يسحق فيه المعارضين حتى الموت، ولا يرى فيهم إلا مؤامرة كونية، وها هو الشعب يستكمل ثورته ونصره، ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.
ولو أن تنظيم القاعدة أو الخليفة البغدادي جاء قبل خمس سنوات بصولجان خلافته ومعه ولي عهده والعشرة المبشرون وعباية النبي ودولارات أمريكا هل كان سيجد من يقف إلى جانبه في مشروع دولته الدموي؟ فمن أين الآن حشد حوله عشرات الآلاف من ابناء سوريا يحاربون ويقاتلون في سياق دولة القاعدة؟
إنه يجد اليوم على التطرف أتباعاً لأن الظلم الذي وقع على رؤوس الناس لم يترك مساحة للاختيار والتأمل، فحين تقصف البراميل أختك وأخاك وتقتل أمك وأباك، وحين يستلم الفتى السوري من فرع المخابرات جثة أخيه الطبيب أو المهندس الذي قضى تحت التعذيب الوحشي، فلا تنتظر من هذا المنكوب أن يلتحق بأمثالنا من المعارضين السلميين أو هيئة التنسيق أو الائتلاف الوطني… إن الأمر الطبيعي تماماً هو أن يبحث المنكوب عن أشد فصائل الثأر دموية وشراسة، وأن يحقق من هناك رغبته المدوية في الثأر والقصاص.
الثوار اليوم مطالبون أن يقدموا للعالم صورة مختلفة عن التجارب المريرة التي عرفتها الرقة والموصل حين كانت فتوحاتهم تقترن دوماً بالدم والنزوح والخروج من البلاد، أولئك الذين قدموا أنفسهم نقيضاً مطلقاً لكل دعوات الديمقراطية والدولة المدنية والحياة المتحضرة.
خطاب الثورة يجب أن يكون واضحاً وإنسانياً، وناطق رسمي باسم الثوار يعتمد خطابا وطنياً واضحاً، يبعث الطمأنينة في نفوس الناس ويقضي على المخاوف ويستند إلى خبرة الرسول الأعظم في خطاب العدالة والسلام والرحمة والعفو، ربما يوفر كثيرا من العناء والحروب أيضا…
كثيرة هي المدن التي تلوح بمفاتيحها للثوار بدون دماء ولا شهداء، ولكن هذه المدائن تحتاج أن تستمع إلى خطاب رحمة، إلى خطاب جماعة، إلى صوت قوي يقف في وجه خطاب الثورة الانفعالي ويشرح بوضوح مصالح الأمة العليا ولا يحترق في لهيب الانتقام…
لقد شهدت الثورة السورية من الفواجع ما يكفي ليكون تراثاً لكل سكان الأرض، وحين ينطلق مهرجان أدب الثورة السورية فإن طوفاناً من الإبداع سيغمر العالم الأدبي، وستكون قصائد الثورة السورية أيقونات على صدور الأحرار ومسامعهم بكل لغات الأرض.
نعم أراهن أن هؤلاء الثوار (الوهابيين كما يحلو للنظام أن يصفهم) سيعودون إلى مكانهم في المجتمع، ويأذنون بقيام حياة سياسية مدنية معقولة، لسبب بسيط هو أنهم كذلك كانوا وكذلك عاشوا، وعندما يرتفع الظلم الذي دفعهم إلى دوامة العنف فإنهم سيعودون تماماً كما كانوا حول مشايخهم وكبارهم ومثقفيهم الذين يحترمون عقيدتهم وجهادهم وصبرهم وثباتهم، ويعلمونهم من جديد ثقافة التسامح والغفران.
الإسلام في سوريا صوفي معتدل، أو قل إنه رباني متسامح، على الرغم من القسوة في مناهج التعليم الشرعي التي نناضل منذ عقود لإصلاحها وتغييرها، والعيش المشترك بين الكنائس والمساجد هو صورة سوريا في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً، ومع أن الحرب تعطي إشارات مناقضة لذلك، وسلوكيات كثير من الثوار لا تبشر بمستقبل متسامح، ولكن لا يمكن الحكم بمعايير محايدة حتى تتوقف طبول الحرب.
وعندما يطمئن الناس أنه لم يعد هناك طيار سوري يلقي براميله على أمهاتهم وآبائهم وأطفالهم، وعندما يشاهدون المجرمين والقتلة أمام محكمة العدالة فإنني اراهن أنهم سيعودون إلى أعمالهم وحياتهم، وستبقى الايديولوجيات المتطرفة ملكاً لأصحابها، وستعود إلى مكانها الطبيعي بين أفراد قلة من المتعصبين تنطوي مشاعرهم بشكل طبيعي على هذا اللون من التشدد، وهي لغة موجودة بشكل فردي في كل مكان، حتى في أشد الدول ازدهاراً وتحضراً، يمارسون تطرفهم ولكن لا يجدون تأييداً في مجتمعاتهم، والحاضنة الممكنة لهذا اللون من التفكير هي في بلاد الظلم والقمع والدم، وعندما تزول هذه الأسباب فإن الحاضنة الممكنة لهذا النوع من التفكير لن تكون موجودة أبداً في بلاد الشام بلاد الأنبياء والإخاء الديني.