مقتطفة من رسائل مجموعة الدكتور عبد العزيز قاسم البريدية :

كتبت بواسطة إيثار عبدالحق

كشف العدد الجديد من مجلة "دابق" في نسخته الإنجليزية السادسة عن تصورات ورؤى كان تنظيم "الدولة" يحاول إخفاءها أو تغطيتها بعبارت مطاطة تحتمل أكثر من وجه ومعنى وتأويل، تاركة لمن يريد أن يتنصل منها لاحقا مجالا رحبا.
"دابق" التي تشكل لسان حال تنظيم "الدولة"، كشفت في أول ما كشفته عن ازدواجية ولو جزئية اكتنفت خطابيها باللغة العربية والإنجليزية، وليس مرد هذه الازدواجية، كما قد يتخيل البعض، اختلاف أساليب العرض والإقناع بين اللغتين ومخاطبة الناس على قدر عقولهم وثقافتهم، بقدر ما هو تعبير عن وجود "وجهين" للتنظيم، يبدل بينهما، فـ"يسفر" حيث ينفعه كشف وجهه، و"يتلثم" حيث يجد التمويه على الملامح مفيدا.
قاعدة "الترويكا"
ولعل استعراض ما قاله تنظيم "الدولة" بحق "القاعدة" ورموزها، فضلا عن أوصافه التي أطلقها بحق أقطاب السفلية الجهادية، يوضح لنا بجلاء عقيدة "الدولة" تجاه التنظيمات الإسلامية الأخرى على اختلاف تدرجاتها وأطيافها، وهي عقيدة تقوم على ازدراء كل هذه التنظيمات وتحقيرها والحط من مكانة أعلامها ومحاولة نسف تاريخهم، بعبارات إنجليزية "مبينة"، لانجد لها مثيلا في خطاب "الدولة" الناطق باللسان العربي، رغم أن العربية تكاد تكون أكثر لغات العالم قدرة على الإبانة والتعبير والوصف بأدق الألفاظ.ففي "دابق" الإنجليزية، لامكان لاسم "القاعدة" -غالبا- إلا مع ألفاظ التقزيم والتضييق، وهي حسب أحد عناوين المجلة "قاعدة الظواهري والهراري والنظاري" التي تتقلب في "الحكمة اليمانية المفقودة"، ومثل هذا الحصر لتنظيم ضخم ومتشعب كتنظيم القاعدة في 3 أشخاص هم: أيمن الظواهري، أبو مارية القحطاني، حارث النظاري، إنما يريد إرسال رسالة مفادها أن هذه "القاعدة" ملك لهذه "الترويكا"، ومصادرة من قبلها، ولهذا فإن "القاعدة" لاتستحق أن تحمل مواصفات التنظيم الجامع للأمة، بعكس "الدولة" التي تحولت إلى "خلافة"، فصار كل متخلف عن اللحاق بركبها في منزلة الخارج عن إجماع الأمة، المفارق لها.وليس خافيا أن تركيز "دابق" على تسفيه الظواهري والقحطاني (تنعته بالهراري) والنظاري، إنما ينبع من موقف هذه الشخصيات التي انبرت لرفض ممارسات "الدولة"، وامتناعها عن مبايعة "الخليفة" بل وانتقاد خطوة إعلان "الخلافة"، واعتبارها مشروع فتنة وشق لصف الأمة.
حادة ومحددة

كل هذا القدر من التعريض بـ"القاعدة" داخل العدد الجديد من "دابق" يمكن أن يبقى مفهوما، أو قابلا للي عنقه -حد الكسر- في سبيل أن نجد له تأويلا يوائم "حسن الظن".. ولكن هذا "الظن" يتلاشى مع المفردات حادة الوضوح، التي اختارها تنظيم "الدولة" ليصم بها "القاعدة"، وهي الأم التي ولد من رحمها تنظيم "الدولة" نفسه!، حين يقول عن النظاري ممثل القاعدة الأبرز في اليمن إنه "قلّد الجولاني بمديحه الماكر، والهراريَّ بغمزه ولمزه (أي قبل إظهارهما للحقد والحسد والعداوة والبغضاء علناً)، وأبا عبد الله الشامي بكثرة كلامه وإطالة قوله وتقسيماته وفلسفته وحقده، والظواهريَّ بتناقضاته".. فهل بعد هذا التحقير لقياديي القاعدة من الظواهري مرورا بالقحطاني وانتهاء بالجولاني من تحقير، وماذا يبقى من هيبة أو مرؤة شخص، ماكر أو خبيث أو ثرثار أو حاقد أو مهزوز، فما بالك بقيادي في تنظيم إسلامي، يفترض به أن يكون بعيدا عن هذه الشوائب الأخلاقية!

هذه قطرة من بحر "النوع" الذي يهاجم به "الدولة" تنظيم "القاعدة"، أما لو نظرنا إلى "الكم" فسنذهل أكثر، ذلك أن 42% تقريبا من مجمل العدد (البالغ 62 صفحة) كان موجها للطعن في القاعدة، ومنها التقرير الذي اقتبسنا منه، وقد جاء في 10 صفحات متعاقبات (من 16 حتى 25)، مما لايدع مجالا للشك بأن "الدولة" لم يعد يرى "القاعدة" كخصم أو منافس، بل هو تنظيم معاد لـ"الخليفة" ومشروعه بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإلا لم كانت "القاعدة" تستحق كل هذا الكم من الهجوم عليها، عبر استخدام ألفاظ محددة في معانيها، حادة في وقعها على الأسماع، والأهم أنه هجوم لايترك للصلح بين الطرفين مكانا، ولا للساعين فيه مجالا.
ولعل الهجوم الكاسح الذي شنه تنظيم "الدولة" على مختلف التشكيلات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية (القاعدة، النصرة، طالبان...)، تلميحا أو تصريحا، مباشرة أو بشكل غير مباشر عبر مهاجمة الرموز (الظواهري، الملا عمر، الجولاني...).. إنما يعطي دلالة واضحة عن المنزلة التي أنزل التنظيم فيها نفسه، وهي –بلا أدنى مواربة- منزلة تطابق أو تكاد تقارب منزلة "لايسأل عما يفعل وهم يسألون"، حتى إن هجوم التنظيم في مجلته لايوفر حيا ولا ميتا، ومن ذلك وصفه قادة "أحرار الشام" الذين قضى العشرات منهم في تفجير غامض، إنهم "مرتدو الصحوات السلولية".. علما أن الذين استشهدوا هم صفوة الحركة التي توصف بأنها من أنشط الفصائل المقارعة لنظام بشار الأسد، وأن منهجها من أقرب المناهج إلى الوسطية، وأميلها إلى فهم فقه الأولويات والسياسة الشرعية.. فإذا كانت هذه صورة "الصفوة" في أذهان منظري "الدولة"، فكيف هي صورة غيرهم؟!

يد الله فوق أيدي المبايعين

ولاشك أن قرار قطع "الدولة" أي شعرة تربطه بـ"القاعدة" هو قرار خطير في دلالاته، ولكن الأخطر منه هو قرار قطع العلاقة مع المحيط الأوسع أي "السلفية الجهادية"، متمثلة في اثنين من أكبر رموزها وهما: أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وهي قطيعة لايمكن فهمها إلا في إطارين، إما أن "الخليفة" بات يتمتع بثقة عالية في قدارت "دولته"، وفي "شرعية" شخصه ومشروعه، إلى درجة تجعله لايبالي باستعداء أي طرف مهما بلغ وزنه وتمدده على أرض الواقع وفي أذهان ووجدان المجتمعات الإسلامية.. أو أنه "جنون العظمة"!
وقد يقول قائل إن الادعاء بهجوم"الدولة" على السلفية الجهادية، لامستند له على صفحات "دابق"، وإننا "نبهر" في تحللينا، ونحن هنا لن نرد على هذا المشكك بأكثر من إحالته إلى الصفحة 38 من المجلة، التي تتوسطها صورة "قاتمة" لأبي قتادة والمقدسي، وتحتها عنوان عريض يقول: "العلماء المضلون" وفي مقدمتها استشهاد بحديث نبوي يحذر من أن "الأئمة المضلون" هم أخطر على الأمة من "الدجال".. فهل قدم "المقدسي" و"أبو قتادة" استقالتهما من الفكر والتيار الذي يتبنيان حتى نقول إن الهجوم عليهما ليس هجوما على السلفية الجهادية، وهل هناك طريقة لتدمير منهج أو تنفير الناس منه، أنجع وأمثل من الهجوم على رموزه الكبرى وتشويه سمعتها؟!

ومقابل الصورة العاتمة للمقدسي والفلسطيني، تحتفي "دابق" بصورة "مشرقة" في إضاءتها وحجمها والتعليق المرافق لها، وهي تتناول للمفارقة شخصية أكثر من مغمورة، لم تدم شهرتها سوى ساعات قبل أن تقضي نحبها، ونقصد بها "الإيراني "هارون مونس" الذي قتل قبل حوالي أسبوعين في عملية تحرير رهائن في "سيدني"، وحينها اتفقت كل من أستراليا وإيران على وصفه بالرجل الذي يعاني "اضطرابات نفسية"، دون أن تنسبا له القيام بعمل إرهابي، حتى إن أستراليا اعتبرت الحادث "عنفا ناجما عن دوافع سياسية"، دون أن تأتي على سيرة الإسلام أو "التطرف".

"مونس" الذي كان مجهولا قبل أواسط الشهر الأخير من 2014، حين نفذ عملية احتجاز الرهائن، أفردت "دابق" لصورته صفحة كاملة (الصفحة الخامسة)، وأبرزته وكأنه علم من الأعلام وشيخ من الشيوخ المتبحرين في العلم، وهو تصرف يثير الدهشة، التي سرعان ما تنقضي عندما نعلم سر هذا الاهتمام والتبجيل، ونحن نقرأ الاقتباس الذي نسبته "دابق" لهارون مؤنس، وهو يحمد الله على أن "شرفه ببيعة إمام زماننا"، مضيفا: "إن الذين يبايعون خليفة المسلمين، إنما يبايعون في الحقيقة الله ورسوله، ويد الله فوق أيديهم"، في تشبيه واضح لبيعة "الرضوان" التي عاهد فيها المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال قريش.
واللافت أن "دابق" لم تنكر أن "مونس" يتحدر من الطائفة الشيعية، قائلة على لسانه: "لقد كنت رافضيا، لكن ليس بعد اليوم، فالآن أنا مسلم والحمد لله".
القاعدة "تتمدد"
هذه المفارقة في التعاطي مع المقدسي والفلسطيني من جهة، و"مونس" من جهة أخرى، ترسخ بلا أدنى ريب الاعتقاد السائد حول ميزان "الدولة" في القدح والمدح، أو في إثبات صلاح شخص أو فساده، وتدينه أو ردته، وهو ميزان الولاء لــ"الخليفة"، فالنكرة يصبح معروفا والمتهم بأخلاقه وتدينه يغدو مبرأ، من لحظة مبايعته على "السمع والطاعة"، والمعرفة يتحول إلى نكرة، وأخلاقه ودينه يخضعان للتشكيك، في اللحظة التي يرفض البيعة أو حتى يتردد فيها.ولعل أهل سوريا بالذات كانوا أكثر من شهدوا على بيعات "جبت" كل ما مارسه أصحابها من فساد عريض متعلق بالدماء والأموال، ورفعتهم إلى مقام "الأمراء المجاهدين" بمجرد إعلان ولائهم لـ"الخليفة"، وليس هذا المنهج ببعيد عن موقف "الدولة" من "هارون مونس"، الذي اتهم بقتل زوجته السابقة، وبـ50 حالة اعتداء جنسي، حسب وكالة أنباء "فارس".لقد انعكست صورة "الدولة" وتصوراتها في الإصدار السادس من "دابق"، كما لم تنعكس من قبل في أي خطاب رسمي لقيادي "الدولة"، حتى في خطابات "العدناني" المعروف بأنه أشدهم تعصبا وغلوا.. ما يجعل أبواب التساؤلات تنفتح على مصراعيها أكثر من ذي قبل، وعلى أعتابها أجوبة معلقة عن ماهية العقيدة التي يتبعها التنظيم، و"المنهج" الذي يسلكه، و"العلامات" التي يستدل بها وهو يصعد شجرة يبدو أنه لن يجد من ينزله عنها، بعد أن قسّم العالم إلى فسطاطين لاثالث لهما.
وأخيرا، فقد غطت مقابلة الطيار الأدرني المأسور "معاذ الكساسبة" على "دابق" واستطاعت أن تجذب كل الأضواء إليها، رغم أن المقابلة ليست سوى تفصيل هامشي، في إصدار أريد له أن يكون حاسما بل وقاصما في بيان موقف "الدولة" من "القاعدة"، عندما سمح لها أن "تتمدد" على غلاف "دابق" وتكون عنوانه الأوحد