من مقالة نماذج إنسانية من عالم السكون والظلام مثّلت الإعاقة حافزاً لأصحابها – محمد مروان مراد
هيلين كيلر , أسطورة القرن العشرين
الإنسانة الصمّاء البكماء العمياء، التي عاشت خلال الفترة 1880-1968م واستطاعت أن تبلغ أعلى المراكز والجوائز التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان شهادة دكتوراة في العلوم وشهادة دكتوراة في الفلسفة، وذلك بفضل ما بذلته من جهود كبيرة بدعم ومساعدة من أسرتها ومربيتها (آن سليفان) ومجتمعها بشكل عام.
* ولدت هيلين كيلر في ولاية ألاباما بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1880م، وقبل أن تبلغ الثانية من عمرها أُصيبت بمرض أفقدها السمع والبصر، ومن ثم عجزت عن الكلام لانعدام السمع.
لم يتأخر والدا هيلين في طلب مساعدة الأطباء، لكنهم لم يفلحوا في إعادة ما أفسده المرض الذي أصابها، وشعرا أن صفحة سوداء قد بدأت، وأن السعادة قد ذهبت إلى غير رجعة.
لجأ والد هيلين إلى مدرسة المكفوفين حيث تعرّفت الطفلة إلى معلّمة فيها تدعى «سوليفان» التي كانت قد أُصيبت بمرض أفقدها البصر جزئياً وهي طفلة فالتحقت بالمدرسة ثم أصبحت معلّمة فيها بعد أن أتمّت دراستها.
ينبغي أن أتكلم :-
بدأت سوليفان رحلتها الفريدة مع هذه الطفلة فأخذت بيدها في طريق حياتها المعبّدة بالصمت والظلام، وقضت بقية حياتها إلى جانبها تشاركها المصير، تكافح معها في الحياة على طريق تحدي الصعاب وتذليلها، وكانت – ولا شك – رحلة رائعة ثمرتها أعجوبة بارزة على مر العصور.
بدأت «سوليفان» رسالتها في تهذيب سلوك الطفلة هيلين، الذي تأثر بعطف والديها وشفقتهما، ثمّ شرعت في تعليم الطفلة الحروف الأبجدية بكتابتها على كفها بأصابعها، واستعملت كذلك قطعاً من الكرتون عليها أحرف نافرة، كانت هيلين تلمسها بيديها، وتدريجياً بدأت تؤلف الكلمات والجمل نفسها، وبذكائها الشديد لم تنس أية كلمة تعلمتها. وفي غضون ثلاثة أشهر من الجهد المستمر استطاعت الطفلة كتابة رسالتها الأولى إلى صديقتها، وبعد عام تعلمت هيلين تسعمئة كلمة. واستطاعت كذلك دراسة الجغرافية بواسطة خرائط صنعت على أرض الحديقة، فأخذت هيلين تتحسس أشكال الجبال والوديان وضفاف الأنهار بأصابعها، ودرست الطبيعة بحفظ النباتات والأزهار في آنية زجاجية كانت تلمسها لتعرف ما هي وكيف تنمو. وفي سن العاشرة تعلّمت هيلين قراءة الأبجدية الخاصة بالمكفوفين، وأصبح بإمكانها الاتصال بالآخرين عن طريقها، وفي ربيع تلك السنة 1890م علمت هيلين أن نرويجية مثلها صماء بكماء عمياء قد دُرّبت على الكلام فبادرت من فورها إلى معلمتها سوليفان ونقلت إلى يدها هذه العبارة: «ينبغي أن أتكلم».
أنا لم أعد بكماء :-
أخذت سوليفان تلميذتها إلى معلمة قديرة تدعى «سارة فولر» تعمل رئيسة لمعهد «هوراس مان» للصم في بوسطن، وبدأت المعلمة الجديدة مهمة تعليمها وتدريبها على النطق والكلام وذلك عن طريق وضع يديها على فمها أثناء حديثها لتمس بدقة طريقة تأليف الكلمات باللسان والشفتين، وكانت مهمة شاقة وعسيرة، وانقضت فترة طويلة قبل أن يصبح بمقدور أحد أن يفهم الأصوات التي كانت هيلين تصدرها، إلا أن معلمتيها لم تيأسا، ومع مرور الوقت، وبكثير من الجهد والصبر، استطاعت هيلين بعد الدرس السابع أن تؤلف جملة إذ قالت:- «أنا لم أعد بكماء». ولم يكن الصوت مفهوماً للجميع في البداية، فبدأت هيلين صراعها من أجل تحسين النطق واللفظ، فتلقت أحد عشر درساً وأخذت تجهد نفسها بإعادة الكلمات والجمل طوال الساعات، مستخدمة أصابعها لالتقاط اهتزازات حنجرة المدرّسة وحركة لسانها وشفتيها وتعابير وجهها في أثناء الحديث، وقد تحسّن لفظها وازداد وضوحاً عاماً بعد عام فيما يُعَدّ من أعظم الإنجازات الفردية في تاريخ تربية المعاقين وتأهيلهم.
تميّزت هيلين بحاسة غير عادية وذكاء أخاذ، وقد نزلت ذات يوم في فندق وحضر لرؤيتها النزلاء، وكانوا نحو عشرين شخصاً حملوا إليها الهدايا المختلفة، وذكر كل منهم اسمه وهو يصافحها ويسلّمها الهدية، وكانت سوليفان تنقل لها الأسماء كتابة على كتفها. وفي اليوم التالي تجمعوا حولها من جديد فكانت تصافح كل واحد منهم وتكتب اسمه، وكانت تُدرك بإحساسها ما إذا كان الأهل ينتظرون ضيفاً، وتحسّ بوالدها إذا قدم في عربته، وحضرت يوماً مباراة في كرة القدم فكتبت بعد ذلك في إحدى رسائلها أن الذين شهدوا المباراة كانوا نحو 25 ألف إنسان فهي على الرغم من صممها تحسّ باهتزازات الأصوات والدوي المحيط بها.
خطوة التحدّي الجديد :-
بدأت هيلين كيلر خطوة التحدي الجديدة للحصول على الدراسة الجامعية، فالتحقت بمعهد كامبردج للفتيات في ولاية ماساشوستس، وكانت معلمتها سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي كانت تُلقى. وأما في الامتحانات فتجلس منفردة، ولم تدخل امتحاناً إلا ونجحت فيه، وأمكنها أن تتخرج من الجامعة عام 1904م حاصلة على بكالوريوس علوم وعمرها 24 سنة.
ذاعت شهرة هيلين كيلر فراحت تنهال عليها الدعوات لإلقاء المحاضرات وكتابة المقالات في الصحف والمجلات والمشاركة في الندوات والمعارض، وأصبحت رمزاً لكفاح الأشخاص المعاقين في جميع أنحاء العالم ورمزاً للصبر والإرادة والمثابرة.
وقد عزمت هيلين بعد تخرجها من الجامعة على تكريس كل جهودها للعمل من أجل المكفوفين الذين لم يكونوا محظوظين مثلها، بعد سنتين تمّ تعيينها عضواً في لجنة المكفوفين في ولاية ماساشوستس، وعكفت على كتابة الرسائل والمقالات والكتب، محاولة أن تجعل الذين ينعمون بحواسهم يهتمون بأولئك المحرومين منها وينظرون إليهم بعين التقدير والاحترام لا الشفقة، وفي أوقات الفراغ كانت تخيط وتطرّز، وتقرأ كثيراً وأمكنها تعلّم السباحة والغوص.
آمنت هيلين كيلر بأن المعاقين ينبغي أن يعيشوا ويعملوا مع سائر الناس، متحملين المسؤولية الكاملة.
استمرّت هيلين في السير والسعي في الارتقاء العلمي فدخلت كلية ردكليف لدراسة العلوم العليا، وقد تُوّج سعيها بحصولها على شهادة الدكتوراة في العلوم العليا ودكتوراة في الفلسفة.
قامت في الثلاثينات من القرن العشرين بجولات متكررة في مختلف أنحاء العالم في حملات دعائية لصالح المعاقين للحديث عنهم، وجمع الأموال اللازمة لمساعدتهم.
وكانت أشد لحظات حزنها في عام 1936م عند وفاة معلمتها العظيمة ورفيقة دربها «آن سوليفان» والتي كانت مهارتها في التعليم رائعة كمهارة تلميذتها.
ألّفت هيلين كيلر كتاباً عن حياتها «قصة حياتي»، وألَفت كتاباً آخر بعنوان «العالم الذي تعيش فيه»، توفيت في عام 1968م عن ثمانية وثمانين عاماً.
.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي