رحلة في مكتبات فلسطين
5- المكتبة الخالدية
أهم المكتبات العائلية في القدس

محمد عيد الخربوطلي
عرفت فلسطين عائلة تنسب إلى خالد بن الوليد، سكنت القدس بعد الفتح العمري، ثم نزحت أثناء الحروب الصليبية إلى خربة (دير مردا) في جبل نابلس، ولأجل ذلك أطلق على كل من انتسب إليها لقب الخالدي الديري في القرن السابع والثامن والتاسع للهجرة، ومعظمهم كانوا أهل علم.
مؤسس المكتبة الخالدية والمشتركون في تعزيزها:
اقتنى الخالديون على مدى الأجيال آلاف الكتب المحفوظة، وحفظوها في ديوان أسرتهم الواقع في باب السلسلة، وهو الحي المعروف بهم في القدس، وقد خطر ببال راغب الخالدي أن ينشئ مكتبة عامة تبقى وقفاً ينتفع به طلاب العلم على مدى الأيام والدهور، وكانت والدته خديجة بنت موسى الخالدي قد أوصت بمبلغ من المال لأعمال البر، فأقنعها ابنها راغب أن تؤسس بهذا المال معهداً يستوعب المكتبة وبعد المفاوضة في الأمر اتفق أركان الأسرة الخالدية على أن يكون باب السلسلة مركزاً لتلك الخزانة العلمية التي فتحت أبوابها رسمياً سنة 1900م لجمهور المطالعين، والبناء الذي جُعل مكتبة كان في الأصل تربة مملوكية تعرف باسم تربة الأمير بركة خان، وفيها قبره وقبر ولديه بدر الدين وحسام الدين، وتذكر بعض المصادر أن البناء استخدم كمدرسة انتهت ملكيتها إلى خديجة الخالدي ابنة القاضي موسى الخالدي قاضي عسكر بر الأناضول، فأوصت ابنها راغب الذي تولى مناصب قضائية مثل جده أن يحولها إلى مكتبة لتحتوي كتب العائلة.
وجرى الاتفاق على أنه متى توفي أحد أفراد هذه الأسرة تنتقل كتبه إلى المكتبة الخالدية، وهكذا ضمت إليها كتب يوسف ضياء الدين باشا الخالدي نائب القدس في مجلس المبعوثان العثماني سنة 1878م، وهو العالم الأديب أول من ألف معجماً في اللغتين الكردية والعربية ويعد الأول من نوعه، ومكتبة روحي بك الخالدي الرئيس الثاني لمجلس المبعوثان العثماني سنة 1908 بالآستانة، ونظيف بك الخالدي أحد مهندسي السكة الحديدية الحجازية، وأحمد بدوي بك الخالدي، وغيرهم.

تبويب المكتبة وتنظيمها وعدد مجلداتها:
ما كادت تظهر المكتبة للوجود حتى أقبل إلى القدس العلامة طاهر الجزائري منفياً من دمشق بأمر من السلطنة العثمانية، وكان من غلاة الكتب وصديقاً حميماً لراغب الخالدي، وهو ممن ساعد بإنشاء ظاهرية دمشق، فكلفه بتبويبها وترتيبها، وسعى في إنشاء أوقاف خاصة بها، لتضمن نجاح مستقبلها، وأعد لها فهرساً خاصاً طبع سنة 1318هـ/ 1900م، مما سهل على العلماء والدارسين معرفة كل محتويات هذه المكتبة النفيسة والنادرة، وهذا الفهرس لا يشمل إلاّ كتب راغب وياسين وموسى الخالدي فقط، أما باقي الخزائن فلها فهرس مخطوط.
وقد كتب (جرجس فيلوثاوس عوض) أحد علماء الأقباط لطرازي من القدس في 14 نيسان 1936، أنه زار المكتبة الخالدية وتعهد محتوياتها، فقيل له إنها تشتمل على سبعة آلاف مجلد ثلثها مخطوط، وبين مخطوطاتها سبعة وخمسون مجموعة يضم أعظمها ستين رسالة مختلفة، ومن تلك المخطوطات ما يبلغ عمره السبعة قرون، ولهذه المكتبة مدير خاص يشرف عليها ويحافظ على ذخائرها..
وقد زارها علامة الشام جمال الدين القاسمي المتوفى سنة 1914م أثناء رحلته إلى بيت المقدس، فعبر عن إعجابه بها فقال:

كتبُ آل الخالدي أنعِمْ بها
مَوْرِداً للفضل منه فاحتَسي
مَن أتى منهلها العَذْبِ يُرى
منه بالي فهمه فضلا كُسي
هكذا فليأنسِ مَن كان يطـ
ـلُبُ مَجْداً هكذا فليأتسي
غرسوا في القدس فخراً باهراً
ورِثوهُ عن كرامِ المغرسِ
فجزاهم ربُّنا خيرَ الجزا
ما سرى رَكبٌ لأرضِ المقدسِ
وقد جعل أفراد العائلة منها دار علوم عمومية لمن يرغب المطالعة من أي فرد كان، وشرطوا أن لا يخرج منها كتاب حرصاً على المنفعة العامة، وضمت بالإضافة إلى كتب العائلة المتوارثة كتباً للمستشرقين، كما ضمت عدة مكتبات أوقفها عليها بعض العلماء.
وبلغت محتوياتها بعد ترتيبها ونموها عشرة آلاف مجلد، منها خمسة آلاف مخطوط في كل نوع من الأنواع العلمية العربية والإسلامية، وكان أمينها الشيخ أمين الأنصاري يستهدي نفائس المخطوطات إليها.
كما ضمت المكتبة آلاف الوثائق، اكتشفت مصادفة سنة 1997 تحت السقف القرميدي للمكتبة، وذلك أثناء عمليات الترميم، بعضها وثائق عثمانية، ويذكر عارف العارف أنها ضمت 12 ألف كتاب سنة 1945، وذلك حسب ما جاء في نشرة دائرة الآثار بحكومة فلسطين الانتدابية، من بينها 4000 مخطوط.

مصائب تعرضت لها المكتبة:
في سنة 1967 احتل الصهاينة مدينة القدس، فتعرضت المكتبة كغيرها للعدوان، فقد حاول الصهاينة الاستيلاء عليها عدة مرات.
وفي سنة 1973 لم يبق فيها إلاّ 6000 كتاب من بينها 1500 مخطوط فقط.
في سنة 1982 قاد (غورين) كبير حاخامي الجيش الصهيوني سابقاً حملة ضارية للاستيلاء على المكتبة، واحتل الطابق الأعلى منها، وأتى بعدد من تلاميذ مدرسة ياشيفا التلمودية التابعة لحركة يهودية مغالية، وذلك تحت شعار إعادة بناء الهيكل في ساحة الحرم القدسي، فتصدت له عائلة الخالدي، وجمعت هبات من العرب والمسلمين والفلسطينيين، وتحركت على محورين، اللجوء إلى المحاكم المحلية لمنع ضرر وأذى الحاخام، وترميم المكتبة وما فيها من كنوز، وبعد فشل الحاخام من استيلائه على المكتبة بدأ مضايقات أخرى، مثل ما فعلته بلدية القدس للاستيلاء عليها، وما فعله الجيش الصهيوني والمستوطنون المسلحون، لكن المرحومة هيفاء الخالدي تصدت لهم وصبرت على ذلك، وأخيراً أعطيت إذناً بترميمها، وكان ذلك في سنة 1987، وبقي المبنى في حوزة آل الخالدي، لكن المكتبة التي انتصرت على الصهاينة،هزمتها عوامل أخرى أدت إلى إغلاقها، وصار حالها كحال سبيل الماء الخرب في مدخلها، ولا يعرف إلى اليوم سبب إغلاقها.

أخبار عن المكتبة:
في سنة 1977 أصدر د. رشيد الخالدي دراسة عن طريق جامعة كولومبيا في نيويورك، كشف فيها عن محتويات المكتبة الوثائقية وباللغة الإنكليزية.
في سنة 1985 بدئ بوضع فهرس جديد لها وستنشره مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، وهو من صنع د. نظمي الجمعة.
في سنة 1995 بدأت أعمال ترميم المخطوطات، كما بدأت أعمال ترميم مبنى كبير من أوقاف العائلة المقابلة للمكتبة، ليصبح ملحقاً توضع فيه الكتب المطبوعة ولتبقى المخطوطات محفوظة في المبنى القديم، كما تلقت المكتبة معونات من اليونسكو والصندوق العربي للإنماء، ومن هولندا.
ولكن لماذا توقف كل هذا العمل وأغلقت المكتبة أبوابها؟ لا أحد يعلم..؟!


من نفائس مخطوطات المكتبة:
- الكشاف للزمخشري – تفسير للقرآن – نسخة نفيسة جداً كتبت سنة 685هـ، وهي بقلم عبد القاهر بن علي الحموي.
- شرح المنظومة الشاطبية في علم القراءات لعلم الدين السخاوي، كتبها أحمد الجزري بمدينة أرزنجان سنة 676هـ، ويوجد نصف المخطوط فقط.
- سنن النسائي في الحديث، يوجد الجزء الثالث منه فقط، كتبه ابن قاسم بقرطبة سنة 383هـ.
- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، الجزء الأول منه بخط ابن أخي المؤلف سنة 692هـ.
- المدهش لابن الجوزي.
- نموذج العلوم لمحمد بن حمزة الفناري.
- مختصر حياة الحيوان للسيوطي.
- قهوة الإنشاء لابن حجة الحموي.
- مشير الغرام بفضائل القدس والشام للمقدسي.
- تفسير أبي الليث للسمرقندي.
وغيرها من آلاف المخطوطات النادرة.

المصادر:
1- الأعلام للزركلي 2/ 366.
2- أعلام فلسطين محمد عمر حمادة.
3- فهرس المكتبة الخالدية – طبع 1900 القدس.
4- رجال من فلسطين- عجاج نويهض 24.
5- مقدمة منادمة الأطلال لعبد القادر بدران.
6- المعاصرون – محمد كرد علي 269.
7- خزائن الكتب العربية – فيليب طرازي – 1/ 142 – 143.
8- طاهر الجزائري رائد التجديد – حازم محيي الدين.
9- المفصل – عارف العارف.
10- المخطوطات العربية في فلسطين للمنجد 5 – 11.
11- مجلة المعرفة – دراسة إياد طباع عدد 544.
12-مدارس القدس ومكتباتها-محمد عيد الخربوطلي –ط-وزارة الثقافة-دمشق-2012