المدينة الفاضلة لليمني أمين باجنيد
بحث عن المثال في عالم يلهث وراء المادة
أيمن دراوشة/ الدوحة / قطر

مَنْ يقرأ ما كتبه باجنيد في نصِّه الذي يحمل عنوان " المدينة الفاضلة " فسوف يجد صعوبة في تصنيف ما قرأ. فهل ما قرأه رواية أم قصة قصيرة أم خواطر أم تداعيات فلسفية ؟!

إنَّ من الصعوبة بمكان تحديد جنس هذه الكتابة المصاغة بذهنية عالية وثقافة عميقة..

إنَّها أدب فوق العادة إن جاز لنا هذه التسمية ، ذلك أنَّ معالجة موضوع الإنسان الذي حيَّر الفلاسفة ليس بالأمر اليسير ، أو كما قال المؤلف نفسه.. ولم تخل هذه الخواطر أو التداعيات من حيرة ، كما لم تخل من تشويش ، ولعل مصدر الحيرة والتشويش أنَّ موضوعها هو الإنسان ، الإنسان الذي أحسن حكيم المعرة وصفه حين قال:
والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد

وقصة الإنسان الذي وجد آثار أقدام أراد أن يتبعها ليعرف صاحبها ، وانتهى به الأمر إلى أن يدرك أنَّها أقدامه هو ، هي رمز لمدى ما يجهله عن نفسه...
وباجنيد في نصه يبحث عن الإنسان المثال.. الإنسان الحق.. الإنسان الذي يوازن بين مطلبه المادي ومطلبه الروحي والذي قلَّ أن نجده اليوم ، وإذا فتحنا بوابة النص أولاً " العنوان " لمصافحة المبوب ، والقبض على دلالته نجد أنَّ " المدينة الفاضلة " تعني لنا:
الصدق ، الأمانة ، الإخلاص ، الوفاء نبذ الخلافات ، الحق ، الصواب ، الخير ، التواضع ، الصبر.

إذن يطالب باجنيد بمدينة نادى بها قبله كبار الفلاسفة والمفكرين والأدباء.. تلك المدينة التي سنها لنا الله في القرآن الكريم ، وأسسها لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

يبدأ النص باستعراض أشخاص حلموا بمدينة فاضلة كسقراط وأفلاطون ، وبعيداً عن هؤلاء يستعرض المؤلف مواقف للصحابة رضوان الله عليهم كقصة من قصص عدل الفاروق رضي الله عنه ، ويستعين باجنيد بنصه بفكر وأساليب وأقوال وأفعال هؤلاء ، ويدعو إلى العمل بها.

كما يستشهد كاتب النص بأسلوب تقني فلسفي بآراء علماء الأدب والفقه تارة وأقوال وأفعال الرسول الأكرم تارة أخرى.

تبدأ الهواجس أو التداعيات أو... بحوار بين عبد الرحيم وعبد الحميد الصديقين الحميمين حول المدينة الفاضلة ، ومن هنا تتصاعد الأحداث وتتأزم ببروز شخوص مثقفة فتظهر لنا شخصية عبد العزيز وعبد الكبير وشخصية سلوى ومسعود.

إذن يرتكز النص في بنائه المحكم على عنصر الحوار ، حيث وظف لنا الكاتب النص هذا العنصر بطريقة مبتكرة من بدايته وحتى نهايته ، مما أبعد الملل عن القارئ ، إنَّه حوار غير عادي حول المدينة الفاضلة فلسفي تأملي يرصد من خلاله حركات الشخوص النفسية بحيوية ورشاقة ، إضافة إلى تحليل الذات الإنسانية واستنباطها والتعمق في أغوارها والكشف عن مراحل تطورها والدوافع الحقيقية وراء تصرفاتها.

جرى " الحوار" العنصر الغالب في النص بين فئات مثقفة منتقاة بعناية ، ومن خلاله أمكن بناء مدينة فاضلة.

المدينة الفاضلة هي الهاجس الوحيد لكاتب النص ، هذه المدينة سكانها من البشر وعلى ساكنيها التقيد بشروط ، كانتزاع المضغة السوداء حتى يصبح الإنسان معصوماً عن الخطأ ، والمقصود بالمضغة السوداء كما نعلم حماقات البشر ، من حقد وبغض وحسد وغش وخداع ونفاق وما إلى ذلك.

لكن ، هل بالإمكان أن تتشكل مدينة كتلك التي تصورها أمين باجنيد " كاتب النص " أو أفلاطون أو المعري أو غيرهم ممن دعوا إلى الفضيلة.

لا بالطبع ، فحقيقة الإنسان هي أنَّ فيه الخير وفيه الشر ، والمدينة الفاضلة التي أراد الكاتب بناءها صعب تحقيقها أو بالأحرى مستحيل فمن الصعوبة أن يكون الإنسان كاملاً مهما عرف عنه من التقوى والورع وما إلى ذلك.

وعودة إلى النص من الناحية الفنية حيث نجد ولادة مصطلحات جديدة لم تكن مألوفة لدينا بالمفهوم الذي أراده باجنيد ، وعلى سبيل المثال هناك مصطلح: فن السهولة.. فن الإقناع.. المصلحة العامة.. المصلحة الخاصة.. الصراع.. الخطأ الأنيق.. الخ

وإذا قلنا مصطلحات جديدة فالمقصود الطريقة التي عالجها الكاتب بطرح تلك المصطلحات حتى يصل بنا إلى درجة الإقناع فمثلاً عالج الكاتب قضية الصراع ، وهذا مفهوم لدينا بأنه عراك على قطعة أرض ، أو ما شابه بين طرفين أو عدة أطراف.
أمَّا باجنيد كاتب النص فيوضح لنا مفهومه للصراع من خلال حوار يدور بين عبد الحميد وعبد الرحيم ، والأمثلة التي ساقها عبد الحميد كلها مدعَّمة بالأدلة والشواهد القانعة للقارئ ، فتارة يستشهد بأدباء كبار مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ، وتارة يستشهد بأقوال كثيراً ما تدور على ألسنة الناس مثل:
" الاختلاف سنة الحياة " ومصائب قوم عند قوم فوائد ، البياض نصف الجمال ، ومن أمثلة الصحابة رضوان الله عليهم قول علي: " لا تستصغرن أمر عدوك إذا حاربته ، فإنك إنْ ظفرت به لم تحمد ، وإن ظفر بك لم تُعْذَر "
وغير ذلك كثير من الأمثلة والشواهد.

وفي مناقشته لمسألة الصراع نأخذ الحوار التالي:
- فمن الأجدر بلقب الفاضل إذن ، الأول الذي يمقت الصراع لا لشيء إلا لأنه لا يحسنه ، وإذن فخسارته مؤكدة ، أم الآخر الذي مع إجادته فن الصراع وقدرته على كسب نتيجته يرفضه ويمقته ، يمقت ما يدعو إليه ، أو ما يرغم عليه من أساليب عدائية وشتم وقذف وقول ما لا يقال ، ورمي الطرف الآخر بما ليس فيه.
- لا شك أنَّ الفاضل حقًّا هو الثاني الذي يربأ بنفسه عن إتيان شيء يستقذره لخلوه من الخير والنفع العام رغم قدرته على إتيانه وعلى كسب نتيجته والحصول منه على فائدة شخصية لا شك فيها.

مثل هذا الحوار وغيره يظهر لنا قدرة الكاتب الإبداعية من خلال تعامله مع اللغة ويبرز ذلك في ردة الفعل التي أحدثها النص من انفعال وتفاعل مع المضمون.

فالذي يمقت الصراع لأنه لا يجيده ليس فاضلاً ، وإنَّما الفاضل من يجيد الصراع ويشمئز منه.

ومن الأمثلة الأخرى على جمالية الحوار وما أحدثه من تفاعل ، تحويل المصلحة العامة إلى مصلحة خاصة تعود على فاعل الخير بالمتعة واللذة فهو يرى بتقديم المصلحة العامة على الخاصة لذة أو متعة هي بمثابة مصلحة خاصة للإنسان الذي يقوم بها.

ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّ المواقف الحوارية التي استحدثها باجنيد خدمت النص خدمة عظيمة وهذا ينم عن فكر عميق وقدرة على رسم الشخصيات الحية حتى بدا لنا النص رسائل فقهية.

وقد استخدم باجنيد أسلوب التشويق ، فهناك كثير من المواقف التي أثارت الترقب واللهث وراء معرفة النتيجة ، ولعل ذلك يظهر جلياً في الفصل الأخير من النص في الحوار الذي جرى بين عبد الرحيم والأستاذة سلوى مسعود.

أمَّا أدوات الاستفهام فقد وُظِّفت بشكل ٍ جيد لتدل على الحيرة والخوف والقلق والزيادة في نفس الأدوات يزيد من مدلول القلق والإحساس بالحيرة.

وختاماً تأتي أهمية هذه القصص في ظل تصويرها الصادق للمجتمع المغلق الفارغ الذي يعيش في الانحطاط والتردي وفي ضوء طغيان الحياة الاستهلاكية وتسجيل الواقع وسلبياته بطريقة واضحة من خلال طرح معاناة بعض الشخوص الحالمة بمدينة فاضلة ، ومن هنا كان لا بدَّ لأمين باجنيد الحق أو كل الحق في البحث عن مثال من خلال نقد الواقع المر.
***************************************