تفسير د/ راتب النابلسي
جهاز صغير جداً في الأذن الوسطى ـ جهاز التوازن ـ لو أنه التهب لا تستطيع أن تسير على قدميك، يختل التوازن، سمعتُ أن إنساناً كان مولعاً بالسيْر في الطرُقات العامَّة المزدحمة بالنساء ليمتِّع نظره بمرأى الحسناوات، أصيب بمرضٍ اسمه ارتخاءٌ في الجفون، هذا الشيء قد لا يخطر على بال، هذا الجفن وهو مرتفع هذا بيدك أمره ؟ لو أن الله عزَّ وجل جعله يرتخي ويغلق العين، ولا تستطيع أن ترى إلا إذا رفعت جفنك بيديك فماذا تملك ؟ حركة المستقيم التي بها تفرغ ما في أمعائك بيدِ من ؟ لو أنها تعطَّلت لصرت في حالٍ لا يحتمل، تصبح الحياة عبئاً لا يُطاق، لو أن العضلات القابضة للمثانة انحلَّت، مَن يحتملك في البيت ؟ مَن يخدمك ؟ كيف تقعُدُ بين الناس ؟ عندئذٍ يحتاج الإنسان إلى فُوَط، على من تستكبر ؟ على الذي خلقك من ترابٍ ثمَّ من نطفةٍ ؟ خرجت من عورةٍ ودخلت في عورةٍ ثم خرجت مـن عورة، من ماءٍ مهين، تستحي بهذا الماء، على من تستكبر ؟ لذلك: طوبى لمن تواضعَ عن رفعةٍ، وأنفق عن غُنيةٍ ".
نِعْمَ العبدُ عبدٌ عرف المبتدى والمنتهى:
﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) ﴾
(سورة الفرقان)




تفسير د/راتب النابلسي
قال تعالي:
﴿ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
لماذا لا يرجون ؟ أَهُم من بنيةٍ خاصَّة ؟ أهم من جِبِلَّةٍ خاصَّة ؟ لا والله جبلَّة البشر واحدة، ما الذي جعلنا نرجو وجعل الكفَّار لا يرجون ؟ هو العلم، عَلِمَ أن ما عند الله شيءٌ ثمين، وأن عذابه عظيم، وأن القُرب منه سعادة لذلك رجا ما عنده، فهذا الرجاء ليس اعتباطيًّا، وليس الرجاء غير منضبطٍ بقاعدة، الرجاء منضبطٌ بالمعرفة ؛ فإذا عرفت ما عند الله رجوته، وإذا جهلت ما عنده فلا ترجوه.
أنت في حياتك اليوميَّة ترجو أناساً ولا ترجو آخرين، هؤلاء الذين ترجوهم تعرف حجمهم الحقيقي، وتعرف مقدار تأثيرهم في حياتك إذاً ترجوهم، لكنَّ أُناساً في نظرك تافهين لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون، أو تجهل قيمتهم، أو تجهل حجمهم لا ترجوهم، فالرجاء متعلِّق بالمعرفة، فكلَّما عرفته رجوته، كلَّما عرفته خِفْتَ منه، كلَّما عرفته طَمِعْتَ فيما عنده، كلَّما عرفته سعيت لأرضائه وطلب وده.

تفسير د/ راتب النابلسي
قال تعالي:
﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (7) ﴾
(سورة الفرقان)
كأنَّهم غفلوا عن حقيقته ونظروا إلى بشريَّته، رأوه بشراً مثلهم ؛ يأكلون ويأكل، يشربون ويشرب، يغضبون ويغضب، ينسون وينسى، فبشريَّته صلى الله عليه وسلَّم حجبتهم عن حقيقته، رأوه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وعهدهم بملوك الفُرس والروم أنهم لا يمشون في الأسواق، هذا يمشي بين الناس متواضعاً، يمشي مع المسكين، ومع الأرملة، ومع الضعيف.
عدي بن حاتم حينما جاء المدينة دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي: " مَن الرجل ؟ "، فقال: " عدي بن حاتم "، فالنبي رحَّب به، فلمَّا علم أنه عدي وكان ابن ملكٍ من ملوك نجد أخذه إلى البيت، قال عدي: " في الطريق استوقفته امرأةٌ، فوقف معها طويلاً يكلِّمها في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك ". ففرقٌ كبير بين الملك وبين النبي.
عندما دخل سيدنا عمر على النبي عليه الصلاة والسلام ورآه قد أثَّر الحصير على خدِّه الشريف بكى، فقال النبي: " يا عمر ما يبكيك ؟ " قال: " رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟! " قال: " يا عمر إنما هي نبوَّةٌ وليست مُلكاً "، أنا لست مَلِكاً، أنا نبي.
فهم حينما رأوه بشراً مثلهم يأكل ويأكلون، يشرب ويشربون، وينام وينامون، ويتعب ويتعبون، ويغضب ويغضبون، قالوا:
﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (7) ﴾