في لعبة السياسة الدولية القائمة في قلب لغة المصالح المتقلبة، بكلِّ الفضاءات، وفي مختلف السياقات المنبثقة عن مفهوم "المصلحة"، لا توجد هناك علاقات صداقة أبدية، ولا تقوم تحالفات إستراتيجية دائمة، حتى في حالاتِ نشوء المصلحة عن العقيدة وعن الفكرة ابتداء، لأن أيَّ عقيدة إذا كانت هي نقطة الانطلاق في توليد مصلحةٍ ماَّ تُحَدِّد الصداقات والتحالفات في مرحلة ماَّ، فإنها لا تلبث أن تتحول هي بدورها – أي تلك العقيدة – إلى مُخرَجٍ من مخرجات تلك المصلحة، بعد أن تكونَ هذه الأخيرة قد نمت وتطورت وغدت أكبرَ من العقيدة التي ولَّدَتها، وراحت تؤسِّس لعقيدة جديدة، تصلح أن تكون حاضنة لمستويات متقدمة من تلك المصلحة ذاتِها (!!)
على سبيل المثال جاء النبي "محمد بن عبد الله" عليه السلام ليقول لقومه وللعالم من ورائهم أن نقطة الانطلاق في بناء مجتمع متوازن وعادل، هي جعل مصالح ذلك المجتمع قائمة على فكرة "الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح المفيد للمجتمع وللإنسانية"، ليُعادَ إنتاج المجتمع، وليُعادَ ترتيب علاقاته الداخلية والخارجية على هذا الأساس.
ولكن بعد وقت قليل أو كثير من ترسُّخ هذه البُنية المجتمعية، ومن تجذُّر هذه العلاقة بين الفكرة – العقيدة – والمصلحة، على نحوِ: "فكرةٍ تولِّد مصلحة"، حدثت – وما كانت إلا لتحدثَ – تغيُّرات حتمية وعميقة، تعيد توصيف تلك العلاقة على نحو: "مصلحة تصيغ الفكرة/العقيدة". فتبدأ الفكرة في التغير والتطور والتحرك والخروج من قماقم "الثبات" التي شكلتها الفكرة في جذورها الأولى، لتتجاوب مع متطلبات "المصلحة" كما راحت هي بدورها تتجسَّد من خلال تطورها وتحركها وتغيرها عبر سيرورات التأثر بالفكرة التي ولدتها ابتداء ودفعتها إلى مسارات التطور والتغير والتحرك.
وعلى سبيل المثال أيضا جاء مارتن لوثر – المصلح الديني الكبير – ليقول لقومه وللمسيحيين ولليهود وللعالم من ورائهم، أن نقطة الانطلاق في بناء مجتمع أوربي متوازن وعادل ومنطقي هي جعل مصالح ذلك المجتمع قائمة على فكرة "إعادة تفسير العهدين القديم والجديد على نحو يحررهما من انتظار المخلصين لتجسيد مضامينهما التاريخية، بجهد بشري يمارسه المعنيون بالخلاص أنفسهم". ليُعادَ إنتاج المجتمع في ضوء هذه الفكرة – العقيدة – وليُعادَ ترتيب علاقاته الداخلية والخارجية على هذا الأساس.
ولكن وبعد وقت – قصر أو طال – من ترسُّخ البنية المجتمعية القائمة على هذه الفكرة/العقيدة، وعما ينبثق عنها من مصالح، على نحو: "فكرة تولِّد مصلحة"، تحدث – وما كانت إلا لتحدث – تغيرات حتمية وعميقة، تعيد توصيف تلك العلاقة على نحو: "مصلحة تصيغ فكرة". فتبدأ الفكرة في التغير والتطور والتحرك والخروج من قماقم "الثبات اللاهوتي" الذي جاءت وتولدت – أي الفكرة/العقيدة – في سياق أنساقه، أي اللاهوت، لتتجاوبَ مع متطلبات "المصلحة" كما راحت هي بدورها تتجسَّد من خلال تطورها وتحركها وتغيرها عبر سيرورات التأثر بالفكرة التي ولدتها ابتداء ودفعتها إلى مسارات التطور والتغير والتحرك.
وعلى سبيل مثالٍ ثالث أيضا، جاء "كارل ماركس" ليقول للأوربيين وللعالم من ورائهم، أن نقطة الانطلاق في بناء مجتمع إنساني متوازن وعادل ومنطقي، هي جعل مصالح ذلك المجتمع قائمة على فكرةِ "صراعٍ طبقي اقتصادي تؤول فيه الغلبة لطبقة البروليتاريا في منازلة مجتمعية طويلة ومديدة، تجسد صراعا داميا بين علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج"، ليُعادَ إنتاج المجتمع في ضوء هذه الفكرة – العقيدة – وليُعادَ ترتيب علاقاته الداخلية والخارجية على هذا الأساس.
ولكن – وفي سياق سيرورة الصراع الذي أسَّست له الفكرة – العقيدة – نفسُها، ومن قلب واقع "فكرة تولد مصلحة"، تحدث تغيرات حتمية وعميقة ما كانت إلا لتحدث، تعيد توصيف تلك العلاقة على نحو: "مصلحة تصيغ فكرة". فتبدأ الفكرة في التغير والتطور والتحرك والخروج من قماقم "الثبات واليقين الفلسفي" الذي جاءت وتولدت في سياق أنساق خاصة منه، لتتجاوب مع متطلبات "المصلحة" كما راحت هي بدورها تتجسَّد من خلال تطورها وتحركها وتغيرها عبر سيرورات التأثر بالفكرة التي ولدتها ابتداء ودفعتها إلى مسارات التطور والتغير والتحرك.
وإذن،
فإن عقيدة "الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الخادم للإنسانية"، شكلت مرجعية البناء المصلحي للمجتمع وللإنسانية في دعوة النبي محمد بن عبد الله، ليصبحَ ذلك البناء المصلحي وهو يتطور في حاضنة تلك الفكرة، أكبرَ من قدرة تلك الحاضنة على تغطية مستويات التطور الحاصلة فيه وفق التفسيرات السائدة للفكرة – العقيدة – ذاتها، ما يدفع بالفكرة إلى البدء بالتطور والتشَكُّل لتتجاوبَ مع البناء المصلحي وهو يتطور، فلا تغدو تلك العقيدة إذن هي الحاضن للبناء المصلحي للمجتمع، وإنما تتخلق حاضنة جديدة تفرضها المصالح في بنيانها الجديد، حتى لو كانت هذه الحاضنة الجديدة، تفسيرا جديدا وتشكيلا مختلفا للمرجعية ذاتها، يساعدها على اللحاق بالبناء المصلحي وهو يتطور كي تستجيبَ له.
كما أن عقيدة "إعادة تفسير العهدين القديم والجديد بما يكرس مركزية الجهد البشري في فكرة الخلاص اليهودي والمسيحي"، إذا كانت قد شكلت مرجعية البناء المصلحي في دعوة المصلح "مارتن لوثر"، فإن ذلك البناء المصلحي وهو يتطور في حاضنة تلك الفكرة، قد أصبح أكبر من قدرة تلك الحاضنة على تغطية مستويات التطور الحاصلة فيه وفق التفسيرات التي سادت فترة من الزمن للفكرة – العقيدة اللوثرية - ذاتها، ما يدفع بالفكرة إلى البدء بالتطور والتشكل لتتجاوب مع البناء المصلحي وهوو يتطور، فلا تغدو تلك العقيدة إذن هي الحاضنة للبناء المصلحي للمجتمع، وإنما تتخلَّق حاضنة جديدة تفرضها المصالح في بنيانها الجديد، حتى لو كانت هذه الحاضنة الجديدة، تفسيرا جديدا وتشكيلا مختلفا للمرجعية يساعدها على اللحاق بالبناء المصلحي وهو يتطور كي تستجيبَ له.
وبالمثل فإن عقيدة "الصراع الطبقي الناتج عن تناقض علاقات الإنتاج مع وسائل الإنتاج" كمؤسس للمصالح المجتمعية في الهرم الفلسفي لكارل ماركس، ستجد نفسَها عقيدة معنية بالخروج من أطرها النمطية بوصفها حاضنة لسيرورة المصالح المجتمعية، بعد أن أصبح البناء المصلحي المجتمعي أكبرَ من قدرة تلك الحاضنة على تغطية مستويات التطور الحاصلة فيه وفق التفسيرات التي سادت فترة من الزمن للفكرة الماركسية نفسها، ما يدفع بالفكرة إلى البدء بالتطور والتشكل لتتجاوب مع البناء المصلحي وهو يتطور، فلا تغدو تلك العقيدة إذن هي الحاضنة للبناء المصلحي للمجتمع، وإنما تتخلَّق حاضنة جديدة تفرضها المصالح في بنيانها الجديد، حتى لو قبلنا بأن تكون هذه الحاضنة الجديدة، مجرد تفسير جديد وتشكيل متطور للمرجعية الماركسية ذاتها، يساعدها على اللحاق بالبناء المصلحي وهو يتطور كي تستجيبَ له.
أي أنه لا العقيدة التي دعا إليها "محمد بن عبد الله"، ولا تلك التي دعا إليها "مارتن لوثر"، ولا تلك التي أتحفنا بها "كارل ماركس"، تمثل عقائد قادرة على الاستمرار في تجسيد دور الحواضن الأبدية للمصالح المجتمعية، لا الداخلية منها ولا الخارجية، في ضوء التفسيرات النمطية الثابتة التي تم اعتمادها، والتي انتشرت هيمنتها لأزمنة طويلة، للمرجعيات التي تمثل تلك العقائد الثلاث.
فالمصالح الفردية، والبُنى المصلحية المجتمعية والإنسانية، تطورت وتغيرت وتحركت – بفعل طبائع الأمور – إلى أن غدا بقاء حركتها وتطورها وتغيرها محصورا في داخل ما تتيحه التفسيرات النمطية السائدة لتلك الحواضن المعتقدية من آفاقٍ وفضاءات، أمرا مستحيلا، ما فرض عليها أن تنعتقَ في حركتها وتطورها وتغيرها من حدود وسقوف تلك التفسيرات النمطية لتلك الحواضن، لتتحرك وتتطور وتتغير خارجها.
ومن هنا، فإن كل محاولة من أتباع تلك المرجعيات المعتقدية لحصر البناء المصلحي وتقييد حركته وتطوره في داخل حدود تفسيراتهم النمطية للمرجعيات المعتقدية الثلاث الحاضنة المشار إليها، هي محاولة تنطوي على أبشع أنواع العناد لحركة التاريخ، وعلى أكثر قوى الشد العكسي رجعية ونكوصية.
إن أيَّ معتقَدٍ تفسيريٍّ للوجود – وتلك المعتقدات الثلاثة جاءت تفسر الوجود كلٌّ بطريقتها – لا ينطوي على فُسْحَةٍ من العمومية – أشبه بثقب الأوزون وهو يتيح للأشعة الكونية فرصة التسرب إلى حيث لم يكن بإمكانها أن تتسرَّب قبل حدوث الثقب – تتيح له التجاوب المحتَّم مع التطور الحاصل في الواقع الموضوعي، بعيدا عن منطق الوصاية الأبدية، واعترافا بأن تلك الفسحة المعرفية التأصيلية – العامة – هي بوابةٌ لتنفيس أيِّ احتقان محتمل، ناتج عن نمطية الوصاية التفسيرية الأبدية المنطواة في تقديسات الأتباع غير العقلانية للمرجعية الحاضنة ذاتها.. نقول.. إن أي معتقد تفسيري للوجود من تلك المعتقدات الثلاثة لا ينطوي على تلك الفُسْحَة المعرفية، هو معتقدٌ بائسٌ يؤسِّس لصواعق تفجير نفسِه وتدميرها من صميم مكوناته ذاتها.
وهذا هو ما نشاهده مع الأسف لدى أتباع تلك الحواضن المعتقدية الثلاث:
فالإسلام السياسي بكل فصائله ومُخرجاته المعاصرة التي ورثت فصائلَه ومخرجاتِه القديمه، لا تعترف بتلك الفسحة التي أشرنا إليها، بل هي تكاد تعتبرها هرطقة وتجديفا وكفرا وزندقة، وتصرُّ من ثمَّ على الوقوف عند منطق الوصاية الأبدية بأبشع أنواع النمطية في التعاطي مع العلاقة بين "العقيدة" و"المصلحة"، فلا مصلحة إلا ما تحدِّده "العقيدة" بتفسيرها النمطي الوصائي الموروث المغيِّب لـ "الفسحة المعرفية" التي تحدثنا عنها، لذلك وجدنا الإسلام السياسي يؤسِّس أو يدعو إلى استعادة عقيدة فاقدة لعلاقتها بالواقع الموضوعي، لتغدوَ عقيدة فاقدة لفاعليتها في تجسيد الأبنية المصلحية كما تعبر هذه الأبنية عن نفسها في سيرورتها التطورية المعاصرة.
من جهتها تفعل "اللوثرية السياسية" الشيء نفسَه – ونحن هنا أحببنا أن نوحد الفضاءات المصطلحية لترسيخ أوجه الشبه في الأصوليات الثلاث "الإسلامية"، و"اللوثرية"، و"الماركسية"، لذلك اعتبرنا أن هناك "لوثرية سياسية"، و"ماركسية سياسية" مثلما أن هناك "إسلام سياسي"، راجين أن نُفْهَمَ على النحو الذي أردناه في هذا التأسيس المصطلحي – فنراها تنزع إلى عدم استسهال التجاوب المعتقدي مع المخرجات المصلحية لحركة التاريخ.
نرجو أن يلاحظ القارئ أننا قلنا أن "اللوثرية لا تستسهل التجاوب"، ولم نقل: "لا تستجيب إطلاقا"، كما هو الحال في "الإسلام السياسي"، لأن هذه هي الحقيقة.
فاللوثرية السياسية" التي تعتبر الحاضنة المعتقدية في وقتنا المعاصر ومنذ عدة قرون، للبناء المصلحي القائم على "الليبراليتين السياسية والاقتصادية"، الأولى ممثلة في "الديمقراطية"، والثانية ممثلة في "الرأسمالية"، اتسمت ببعض المرونة في الواقع، جعلتها تخفف من حدة هيمنتها التفسيرية النمطية على تحديد منظومات الأبنية المصلحية الداخلية والخارجية في المجتمعات الغربية عموما، ما أتاح الفرصىة لتلك البُنى المصلحية كي تتطور في الواقع ضمن مشروعية اللوثرية نفسها دون تناقضات قاتلة بينهما، كتلك القائمة بين الحاضنة المعتقدية "التفسير السلفي للإسلام"، والبُنى المصلحية المعاصرة للمجتمعات المسلمة.
إن هذه المرونة لا تعني أن تلك الحاضنة موضوعية وعقلانية أو أنها تخضع لمعايير علمية، ولا هي تعني أن السياقات والأنساق التي حدث فيها تطور البُنى المصلحية المرافقة لها هي بُنى منسجة مع الأخلاق دائما، أو أنها منسجمة معها أصلا في السياقات المذهبية، وإنما هي تفسِّر السبب في طول عمر العلاقة بين الحاضنة المعتقدية والأبنية المصلحية القائمة في المجتمعات التي تهيمن على لاهوتياتها تلك الحاضنة نفسها من جهة أولى، وتشير من جهة ثانية إلى أن هذه المرونة تتحرك ضمن مساحة زمنية ستستنزف حتما كلَّ إمكانات التمدد الكامنة فيها، ليصبحَ التجاوب غير ممكن إلا بانقلاب قيمي ذي طبيعة فلسفية، سيحل يوما ما حتما وبلا أدنى شك.
"الماركسية السياسية" تعتبر الأشبه بالإسلام السياسي لجهة انعدام المرونة التي اتسمت بها العلاقة بين الحاضنة المعتقدية والأبنية المصلحية للوثرية السياسية. فالماركسيون والإسلاميون وإن بدوا مختلفين جذريا في المرجعيات المعتقدية التأصيلية الحاضنة لتصوراتهم للأبنية المصلحية، فأحدهما – وهو الإسلام السياسي – يقيم نفسه معتقديا ومصلحيا على أساس ديني وإيماني بالله، فيما – الماركسية السياسية – تقيم نفسها على النقيض الذي لا يعترف بأيِّ علاقة للواقع الموضوعي بأيِّ شكلٍ من أشكال التدخل تمارسه هذه القوى المفارقة اللامادية في حياة البشر وفي حركة التاريخ، لا بل هي غالبا ما تريح نفسها من أمرها بعدم الاعتراف بها أصلا..
نقول.. إن "الماركسية السياسية" تشبه "الإسلام السياسي" في عدم الاعتراف بالفسحة المعرفية التي نوَّهْنا إليها سابقا. فهي تحاول دائما البقاء ضمن التفسيرات النمطية الثابتة والمقدسة على نحو لاهوتي للعلاقة بين الحاضنة المعتقدية والبناء المصلحي للمجتمع، وهي التفسيرات المستندة إلى "الصراعات الطبقية"، وإلى "التناقضات بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج"، وإلى "التفسير الاقتصادي الصرف للتاريخ".. إلخ.
أي أن الإسلام السياسي يعاني من مأزق معرفي لأنه لا يريد الاعتراف بفسحة معرفية تساعده على إعادة إنتاج مرجعيته الحاضنة على نحو يمكنها من اللحاق بالبنى المصلحية الجديدة للمجتمعات الإنسانية، وهي البنى التي لا تعترف بالدين ولا بأي شكل، كأساس وكشريك مهيمن في بناء منظومات المصالح، وفي ترتيب العلاقات بين البشر داخليا وخارجيا. كما أن "الماركسية السياسية" تعاني من المأزق نفسِه، لأنها لا تريد – مثلها مثل الإسلام السياسي – أن تعترف بفسحة معرفية تساعدها على إعادة إنتاج مرجعيتها الحاضنة على نحوٍ يمكنها من اللحاق بالبُنى المصلحية الجديدة للمجتمعات، خارج نطاق أحادية فكرة "الاقتصاد"، و"الاقتتال الطبقي على لقمة الخبز"، و"التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج".. إلخ.
ومن غرائب التشابهات بين "الإسلام السياسي" و"الماركسية السياسية"، أنه وكما أن هناك من يُطلق عليهم "الإسلاميون المتنورون" الذين يعملون على إعادة إنتاج "المرجعية الإسلامية الحاضنة" بشكل غير نمطي يحرِّرُها من الموروث الذي لا يعترف بتلك الفسحة المعرفية، سعيا إلى تخليق مقاربات تقلِّصُ المسافات القائمة بين "الحاضنة المرجعية" من جهة، وبين "البناء المصلحي" من جهة أخرى، فإن هناك أيضا من يطلق عليهم "الماركسيون المتنورون" الذين يفعلون الشيء نفسه على صعيد إعادة إنتاج "الحاضنة الماركسية".
أي أنه وبقدر ما أن هناك "أصولية إسلامية متطرفة" يجسِّدها "الإسلام السياسي المعاصر" عموما، و"أصولية ماركسية متطرفة" تجسدها "الماركسية السياسية المعاصرة"، لا تختلف في لا علميتها ولا عقلانيتها عن لاعقلانية ولا علمية الإسلام السياسي المتشدد، فإن هناك متنورون إسلاميون يعملون على إعادة إنتاج المرجعية الإسلامية الحاضنة، لتتجاوب مع مخرجات الأبنية المصلحية للمجتمعات البشرية وتلحق بها وتستجيب لها، ومتنورون ماركسيون يعملون الشيء نفسه في مرجعيتهم الحاضنة ذاتها.
خلاصة القول أننا بصدد واقع حال عالمي تتصارع فيه وتتنافس على الوجود والتجسُّد والهيمنة، ثلاث حواضن عقدية هي "الحاضنة الإسلامية"، و"الحاضنة اللوثرية"، و"الحاضنة الماركسية"..
الأولى أفرزت "الإسلام السياسي" منعدم المرونة في تأصيل العلاقة بين "المرجعية الحاضنة"، و"البنى المصلحية المجتمعية"، ولا يخلو الأمر من وجود متنورين على هذا الصعيد يحاولون حل هذه الإشكالية الخطيرة.
الثانية أفرزت "اللوثرية السياسية" المتسمة بالمرونة النسبية التي أتاحت لمُخرجها الناظم للبُنى المصلحية في واجهتيه الليبراليتين "الديمقراطية" و"الرأسمالية"، العيش والاستمرار والتجدد لمدة قرون، بعيدا عن التناقضات المدمرة بين الحاضنة العقدية ومُخرجاتها المصلحية.
وهي حاضنة تستنزف مع مرور الوقت كل إمكانات التجاوب المتاحة بين العقيدة والمصلحة، لتصبح الحاجة في مرحلة معينة تنصب باتجاه "عقيدة جديدة" بالكامل، بسبب حتمية إنتاج منظومة مصالح مختلفة تماما عن تلك التي أتاحتها قرون من التجاوب المرن بين الحاضنة والمصلحة.
وهو ما يعني الانزواء التام لتلك "الحاضنة اللوثرية" عن أن تتدخل في تقديم أي نوع من الشرعية وتحت أي عنوان للبنى المصلحية الجديدة التي ستتمخض عن استنزاف المخرجات المصلحية للرأسمالية ولليبرالية السياسية، كلِّ إمكانات تجديد نفسها، لأنها ستتعارض – أي البنى المصلحية الجديدة الناتجة في قلب انهيار البنى الرأسمالية الليبرالية السياسية القاصرة – مع كل إمكاناتها المتاحة لمنحها الشرعية، أي مع كل إمكانات اللوثرية ذاتها.
فحاضنة معتقدية "لوثرية" أسَّسَت للرأسمالية واقتصاد السوق الليبرالي المتغول، وللديمقراطية الليبرالية الغربية القاصرة، وللصهيونية الاستعلائية العنصرية، لا يمكنها الاستمرار تحت أيِّ عنوان عندما يتمُّ استكمال كل عناصر الزخم الموجودة في تلك المخرجات الثلاث الأساس التي احتضنت اللوثرية مشروعيتَها على مدى القرون الماضية.
أما الحاضنة الثالثة وهي "الحاضنة الماركسية"، فقد أفرزت " الماركسية السياسية"، منعدمة المرونة هي أيضا – مثل الإسلام السياسي – في تأصيل العلاقة بين "المرجعية الحاضنة"، و"البنى المصلحية المجتمعية"، ولا يخلو الأمر من وجود متنورين على هذا الصعيد يحاولون حل هذه الإشكالية الخطيرة.
وبالتالي فإن مستقبل البشرية مرهون في واقع الأمر بمُخرجات هذا الصراع الذي يُخاض على جبهاتٍ ثلاث هي:
الجبهة الأولى: وهي الجبهة التي يفرضها صراع الحواضن المعتقدية مع تصوراتها للبنى المصلحية المتولدة عنها هي ذاتها أولا وابتداء، في معركة شرسة لتغيير العلاقات بين "العقيدة" و"البنية المصلحة للمجتمع".
الجبهة الثانية: وهي الجبهة الي يفرضها صراعٌ يُخاض على جبهات المواجهة بين تلك الحواضن كل منها وهي تناجز الحاضنتين الأخريين، فلسفيا وسياسيا.
الجبهة الثالثة: وهي جبهة الصراع الذي تخوضه "اللوثرية السياسية" مع ذاتها "عقديا" ومع مخرجاتها "مصلحيا"، في الداخل، ضد الخارجين على "اللوثرية السياسية" نفسها هي ومخرجاتها المصلحية من قلب النظام اللوثري العالمي المركزي نفسه، ومع أعدائها ومناوئيها والمتضررين منها في الخارج، سواء كانوا من "الإسلام السياسي"، أو من "الماركسية السياسية"، في معركة تأجيل الموت والفناء قدر ما تستطيعه، عبر العمل على تأجيل انتهاء مخرجاتها الثلاثة وهي "الليبرالية السياسية"، و"الليبرالية الاقتصادية"، و"الصهيونية العنصرية"، وذوبانها في مُخرج إنساني جديد لن يكتمل إلا بالاستفادة من مُخرجات الصراع كله وعلى الجبهات الثلاث كاملة.