د. بهجت قبيسي: العِبْريَّة لمْ تسبقِِِ ِالعربيّة

إشكاليّات عديدة تدور حول اللغة العبريّة وموقف الباحثين العرب من دراستها، وما يردّده العلماء الصّهاينة بأنّها من أقدم اللغات، وأنّها تسبق اللغة العربيّة. وفي حديثه لـ ( الإسلام اليوم) يشير الدكتور محمد بهجت قبيسي أستاذ التاريخ القديم في جامعة حلب السوريّة، وعالم الصّوتيات المعروف، إلى حقيقة اللغة العبريّة، مؤكدًا أنّها لم تسبق العربيّة، وكاشفًا أيضًا عن العلاقة بين السّـامية والعربيّة. يلفت د. قبيسي إلى التّحريف الذي أدخلته الحركة الصهيونيّة العالميّة على اللغة العبريّة لخدمة "الشعور الديني"، مشيرًا إلى أنّ هذا التّحريف بدأه اليهود في القرن الثاني عشر الميلادي، إلى أنْ لعبت الصهيونيّة الحديثة دورها فيه، داعيًا إلى ضرورة دراسة هذا التحريف من جانب علماء اللغة العربيّة بموضوعيّة. ويفنّد د. قبيسي ما يردّده بعض اليهود بأنّهم أقدم شعوب العالم، لافتًا إلى ضرورة أنْ يستغلّ العرب عنصريّة الصّهاينة في الأراضي المحتلة لإبراز جرائمهم، مقابل إبراز التسامح الذي أكّدته الحضارة العربيّة والإسلاميّة في تعاملها مع أصحاب الدّيانات عبر العصور المختلفة. وهذا نص الحديث: باعتبارك أحدَ المتخصّصين في تاريخ اللغات القديمة، لماذا شغلت الأدمغة العربيّة نفسها بالحديث عن نشأة اللغة العبريّة وتاريخها؟ هناك غسيل للأدمغة العربيّة حول نشأة اللغة العبريّة وتاريخها، وربما يعود ذلك لجوانب سياسيّة، وربما لجوانب استشراقيّة أخرى، خاصة وأنّ الكثير من المستشرقين اهتموا بنشأة الكتابة العربيّة، فهناك مقولة للاهوتي "بوستيس" في العام 1537م في باريس اعتبر فيها أنّ "اللغة العبريّة هي أقدم اللغات، بينما الشّعر العربيّ هو أقدم الشعر" ثم أكمل ذلك اللاهوتي "شولتزر" في فينّا عام 1781م، حيث أطلق نظريّته السّامية، واعتمد فيها على التوراة، وسمّى اللغات السّامية بالحامية. ولا شكّ أنّ التخلص من هذا الجدل الذي يُروّج له المستشرقون يحتاج إلى 100 عام كما يقول "بييدروس" والذي لا يعتمد على منهجيّة معينة في هذا الشأن، وهناك كتب كثيرة ظهرت لنقد النظريّات الساميّة، منها للدكتور محمد الحسن في سوريا، وكتابنا حول "ملامح فقه اللهجات". هذا يدفعنا للحديث عن الإشكاليّة الدائرة حول أنّ العرب هم "ساميّون"، فكيف تنظر إلى هذا الجدل؟ أنا لست ضدّ مصطلح الساميّة لكن لكونه يأخذ وجهًا سياسيًا، ومسؤوليتنا كمثقّفين أنْ نبرز أنّ هذا المصطلح دخلت فيه "إسرائيليات"، وأصبح سلاحًا يستعمل ضد العرب. ومن هنا أؤكد أنّ كلمة "سامي" هي توراتيّة ولم نجدها في النقوش المصريّة القديمة أو غيرها من اللغات سواء كانت كنعانيّة أو آشوريّة، وربما جاء إطلاق البعض وصف "الساميّة" على العرب نتيجة لتقصير الباحثين العرب في إبراز أنّ العرب ليسوا ساميّين كما يُقال عنهم. وأتساءل: كيف يمكن أنْ نطلق صفة السّامية على العرب، في الوقت الذي ظهرت فيه كلمة "عرب" في نقوش الألف الثالث قبل الميلاد، وأكّدت ذلك نقوش أكاديّة، وآراميّة، بينما ظهرت لاحقًا السامية في التوراة، وهو ما يؤكّد أنّ العربيّة كلمة أصيلة وتسبق الساميّة والتوراتيّة؟ والنقوش التي وردت فيها العربيّة كانت تعني النور أو المياه، أو الفصحى كما كانت في النصوص الكنعانيّة، واتخذت في النقوش الآراميّة معنى الأمطار والأكاديّة الحامي، وفي نقوش أخرى طواحين المياه، في مقابل ذكرها الفكر التوراتي بالبداوة والصّحراء.

نشأة العربية

في هذا السياق كيف انتشرت العربيّة بين سكان القبائل الآراميّة والكنعانيّة وغيرها؟ - لقد سمّى الآراميون أنفسهم عربًا في دولة "عرابايا" شمال العراق، وتم تشكيل مملكة "عربيا"، إلى أنْ انتشر الاسم (عربي) وبدأت الهُويّة تسبق الاسم، عندما دخل الأجنبي المِنطقة، واحتلها الفرس في العام 539 ق.م، ودخل الرّومان سوريا عام 64 ق.م، ومصر عام 32 ق.م، عند ذلك اضطر الناس إلى التّسمية "عربي" و"غير عربي" للتمييز بين سكان البلد الأصليين وبين الغزاة. إذا عدنا إلى محور اللغة العبريّة.. هل ترى أنّ التحريف قد شابها في الوقت الذي شاب فيه التحريف كثيرًا من اللغات القديمة؟ نعم.. فلقد تمّ تحريف اللغة العبريّة، حتى أصبحت لدينا لغتان في لغة واحدة، وهذا دليل ضعف وليس قوة، فاللغة الأولى هي لغة "الأيشبت" وهي خليط من اللغات الروسيّة والألمانيّة والبولونيّة، وهي التي تستخدم اليوم في "إسرائيل" وتستعمل في الإذاعة والتلفزيون، والأخرى هي التوراة وهذه اللغة ساكنة وثابتة، ومن يريد أنْ يتكلم بها فلا بدّ له من دورة قد تستغرق عامين كاملين. ومع وجود لغة ثانية للعبريّة فإنّ العبريّة التوراتيّة تحرّفت، وهي في الأصل قريبة من العربيّة، ولذلك قد يحتاج العرب لدراستها وفهمها شهرًا كاملاً، عكس غير العرب، الذين يحتاجون عامين لاستيعابها. هل يكشف ذلك أنّ هناك علاقةّ بين العربيّة والعبريّة بالرغم من أسبقيّة الأولى تاريخيًّا كما سبقت الإشارة؟ - هذا يدفعنا إلى ما يتردّد عن نشأة اللغة العبريّة. وهنا أنقل ما تقوله التوراة نفسها عن اللغة العبريّة، عندما تصفها بأنّها خليط من الكنعانيّة والآراميّة، وهما في الأساس لهجتان عربيّتان قديمتان للغة العربيّة، ومادمنا نبحث في الأصل فلا داعي للبحث في الفرع. وتعرّضت لغة التوراة نفسها إلى التّحريف، وتمّ ذلك ثلاث مرّات، الأولى كانت في العام 280 ق.م وظهرت فيها عيوب لغويّة، والثانية في القرن الثالث الميلادي حيث تم استبدال ستة أحرف من اللغة الأصليّة، وفي القرن العاشر الميلادي كانت المرحلة الثالثة؛ حيث أضيفت أحرف صوتيّة إلى التوراة.

اليهود وعمليات التّحريف

وهل كان التّحريف لخدمة أغراض معيّنة كما هو معروف عن اليهود لتشويه التاريخ وتزييف الحقائق؟g - الواقع أنّ الصهيونيّة هي التي حاولت استغلال الشعور الديني كنقطة أساسيّة في التحريف والتشويه للغة العبريّة. والحقيقة أنّ عمليّات التّحريف بدأت عندما أضاف اليهود أحرفًا صوتيّة - كما أشرت- إلى اللغة العبريّة وأرادوا أنْ يجعلوا من الدين قوميّة. ولابد أنْ نفرّق علميًا بين صِنْفَين من اليهود في الأراضي العربية المحتلة، الأول وهم يهود "الإشكيناز" القادمون من أوروبا، وهؤلاء صهاينة اغتصبوا الأرض، واحتلوا بلادًا ليست لهم، والثاني وهم اليهود العرب المقيمون في فلسطين والذين أقاموا فيها مع المسلمين والمسيحيين، وإنْ كان جميع اليهود في فلسطين هم من المحتلين لأراضي الغير لإعانتهم للحركة الصهيونيّة في التوسع على حساب البلدان العربيّة والإسلاميّة، الأمر الذي يؤكد أنّ هذه الصهيونيّة لم تقتصر قديمًا على تحريف اللغة العبريّة، بل راحت تحتلّ الأرض العربيّة في العصر الحديث. وهل ترى أنّه جدير بعلماء اللغة العربيّة دراسة هذا التّحريف الذي طرأ على "العبريّة"؟ من الضروريّ بالفعل إجراء هذه الدّراسات، خاصة في ضوء اهتمام الجامعات الأوروبيّة باللغة العبريّة وقراءة جميع نقوشها. إنّ اللغة العبريّة لم يكن لها وجود أو تاريخ قبل القرن الثالث قبل الميلاد، ممّا يشير إلى أنّها لم تسبق العربيّة بأيّ حال من الأحوال، بل إنّها جزء من لهجات عربيّة قديمة. ولا ننسى أنّ اللغة هي كشّاف الشعوب، فالألفاظ التي أطْلِقت قديمًا في العصر الإسلاميّ كانت لها دلالة معينة، فمثلاً كان يُطْلقُ على السيّدة عائشة -رضي الله عنها- "الحُمَيْراء" ؛لأنّ شعرها كان أحمرَ، وعمّة الرسول - صلى الله عليه وسلم- "الزّرقاء" لأنّ عينيها كانتا زرقاوَيْن، وأنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه كان يُطلق عليه "الأبيض" لبياض وجهه، ويُوصَف عمر -رضي الله عنه- بالأشقر؛ لأنّ وجهه كان أشقر. ونتيجة للشّواهد السابقة، فإنّ دراسة التّحريف الذي طرأ على اللغة العبريّة، يكشف عن طبيعة الصهيونيّة.

مزاعم يهوديّة

وكيف نردّ على مزاعم اليّهود بأنّهم أقدم شعوب العالم في محاولة لتأكيد سيطرتهم على الأراضي العربيّة التي يحتلونها اليوم؟ أبسط استشهاد للردّ على ذلك هو الأهرامات الشامخة في مصر، وقد تمّ بناؤها بين الأسرتين الثالثة والسادسة 2250 ق.م. وحسب الفكر التوراتي فإنّ إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان في العام 1800 ق.م، وإنّ موسى -عليه السلام- كان في العام 1300 ق.م، وإذا أخذنا هذه التواريخ وجدنا بناء الأهرامات قبل موسى -عليه السلام بنحو 1000سنة. وفي هذه الجزئيّة أيضًا، فإنّه كما هو معروف فإنّ اليهود عملوا في السُّخرة كما تذكر التوراة في الوقت الذي لم تُبنَ فيه الأهرامات بالسُّخرة أو بالطّين كما كان يستخدمه اليهود، وهذا كله يؤّكد أنّهم ليسوا أقدم شعوب العالم، وأن قبلهم شعوبًا أخرى أبرزهم القدماء المصريّين.