التراث سنّة كونية ورسالة تاريخية وضرورة حضارية /د.جيلالي بوبكر


يتناول البحث التراث من حيث مفهومه ومستوياته وقيمته، خاصة في المجتمعات التاريخية التراثية التي يمثل فيها التراث عصب الحياة المادية والروحية، بشقيه المادي واللامادي. وأمام تعدد وتنوع النماذج المجتمعية في صلتها بالتراث يُقدم النموذج البنائي التجديدي الإحيائي على نحو يحفظ شروط قيام هذا النموذج بعيداً عن النموذجين النموذج التراثي البحت والنموذج اللاّتراثي الصرف. أما صلة التراث بالعمل السياسي في المجتمعات النامية فتقوم على صلة الحاكم بالمحكوم، والتراث سلطة في نفوس الناس والعمل السياسي تطوير للمجتمع ونقله من حال إلى حال ومن فترة تاريخية إلى أخرى، وهو ذلك الذي يشمل التغيير في كافة قطاعات المجتمع، فالتراث العلمي متمثلا في الأقسام العلمية الثلاثة النقلي والعقلي والعقلي النقلي له أثره الملموس على العمل السياسي قديماً وحديثاً. فقراءة التراث ونقده وإعادة صياغته ومحاولة إعادة بنائه وفق ما تتطلبه حاجات العصر هو الذي يكفل توظيف التراث إيجابياً وبفعّالية في بناء الحاضر والتطلع للمستقبل، وهي مهمة الكثير من المشاريع الفكرية والسياسية متجاوزة النمط التراثي والنموذج اللاتّراثي.
أ- التراث مفهومه ومستوياته
يكثر الحديث عن التراث أو الموروث أو الماضي أو التاريخ في المجتمعات البشرية، لأن التراث يشكل فيها عنصراً حيّاً تقوم عليه حياتها في الحاضر ويستمر في المستقبل، دون أمل في التجرد منه أو تجاوزه في كل الظروف والأحوال، لأن ميزة المجتمع البشري عن غيره من المجتمعات الأخرى الجامدة والحية هي ارتباطه بالتراث يحتفظ به ويدوّنه فيتناقل من جيل إلى آخر. لذا اتصل تاريخ الإنسان بعلوم الحفريات والنقش والآثار، وسجّل الإنسان أعماله في سجلات فصار المخلوق الوحيد الذي له ماضي مدون و له تاريخ، فالتاريخ عند الإنسان مدوّنة حياته وانعكاس لذاته و لأفعاله و هو ما أثبتته فلسفة الحضارة.
المجتمع البشري الذي له ماضي وتاريخ وحضارة نمطه الأول بدائي بحت وتراثي صرف، التراث في هذا المجتمع هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو نمط الحياة في الفلسفة والدين والفن وسائر الأعمال اليومية، فهو البديل عن كل شيء، وهو مجتمع يندر فيه التغيير الاجتماعي إلا حالات عفوية بعيدة عن القصد ومرتبطة بوسائل وأدوات تفتقر إلى الطابع الفكري المنطقي والعلمي. أما النموذج الثاني فهو المجتمع المدني الغربي الحديث، مجتمع قطع صلته بالتراث فهو لا تراثي، وقد كان التراث في هذا المجتمع قديماً يشكل ماضيه وحاضره ومستقبله، ولما حصل التعارض بين هذا التراث والعلم الحديث والحياة العصرية تخلّى المجتمع الغربي عن التراث وأخذ بكل جوانب العلم الحديث والثقافة المتطورة، وذلك بعد صراع طويل بين أنصار القديم وأشياع الجديد. والنموذج الثالث يخص المجتمع النّامي الذي تحرّر من الاستعمار حديثاً فهو في وضعية انتقال بين القديم والجديد، فهو يعيش قضية الأصالة والمعاصرة، التقليد والتجديد، الوافد والموروث، جدل الأنا والآخر، فهو بين الانقطاع والتواصل، “وهي مجتمعاتنا التي لم تُحسم فيها القضية بعد والتي تُثار فيها قضية التراث والتغيير الاجتماعي فهي مجتمعات تراثية تشارف على العصر بعد أن جابهت الاستعمار وحققت الاستقلال الوطني وبدأت التنمية الاجتماعية الشاملة.”
إنّ المجتمع التراثي في النموذج النامي المتحرر حديثاً صاحب الاستقلال الوطني الحديث يتعاطى مع التراث بكيفية أفرزت اختلالات كثيرة. فالتراث عنده غاية في ذاته، وليس وسيلة لاكتمال التحرر والوصول إلى تنمية شاملة محكمة، فالتراث هنا ليس جزءاً من الواقع بل خارج الواقع، “ويكون بديلاً عن الواقع، يطرد الواقع الحالي، ويُحل محلّه الواقع التراثي ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن… فالتراث لا يقبل واقعاً من خارجه يندّ عنه أو يهرب منه و يثور عليه. التراث ملزم ومشروع وقادر على احتواء كل شيء خارجه. التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه لا يمكن النفاذ إليه.” وهو بهذا المعنى وحدة لا تتشتت وكل لا يقبل التجزئة والانقسام، وكامل لا بداية له ولا نهاية فهو حقائق مطلقة نقلت من الزمان والمكان، تظم الزمان وتحتوي المكان. “فتمّ التنكر للحاضر كلية وتمّت التضحية بأصول الفقه في سبيل أصول الدين وغلبت العقيدة على الشريعة، وأصبح أصحاب التراث معبرين عن مبدأ أكثر منهم عاملين في الواقع ومغيّرين له… الواقع كله مُدان، ولا يمكن تطويره أو إصلاحه بل هدمه من الأساس حتى يبدأ البناء الجديد على أسس راسخة… ولما كان الواقع باقياً والحياة قائمة كأن الهدم لا ينتهي حتى يبدأ البناء ومن ثم يبدو التراث عدائياً للواقع رافضاً له، خارجاً عليه، سرعان ما ينتهي أصحابه بتدمير أنفسهم والواقع باقٍ لم يتغير والمجتمعات تندم وتتحسر على هذه الطهارة الضائعة الخاسرة. ولما استعصى الواقع طال الهدم ولم يأت البناء فظهر السلب دون الإيجاب والرفض دون القبول.”
في داخل المجتمع التراثي النامي وبذهنية الهدم والموت قبل الحياة، والانطلاق من الّلاشيء تتولد ذهنية الثورة الانقلابية للدفاع على حاكمية الله وإزاحة حاكمية الإنسان فيقوم الصراع بين قوة السلطة القائمة والتي تعتمد على البوليس والجيش في السر والعلن و بين الأجهزة الثورية السرية التي تستعمل العنف والاغتيال السياسي كسبيل لإزاحة الزمرة الحاكمة وتعويضها بصفوة مؤمنة بدلها. “ويتم ذلك كله باسم الله دفاعاً عن حقه وتأكيد لحاكميته وتنفيذا لإرادته وامتثالاً لطاعته، وطمعاً في أجره وثوابه. ولا يتم باسم الإنسان دفاعاً عن حقوقه وتأكيداً لسلطانه وتحقيقاً لمصالحه العامة حتى يعيش في الدنيا حراً كريما. وبالتالي غابت النظرة الإنسانية… فولّد الكبت والحرمان مظاهر التعويض والإشباع. وكأن الله ليس غنياً عن العالمين وفي حاجة إلى دفاع. وكأن الله لم يُكرّم بني آدم في البرّ والبحر ولم يجعله سيد العالمين.” أدّى ذلك إلى ظهور ‘النرجسية التراثية’ التي كسّرت الوحدة الوطنية ووزعت الأمّة على قسمين متصارعين فتوقفت عملية التغيير الاجتماعي، والأخطر في الأمر هو الانشقاق بين دعاة التراث عندما دبت الخلافات فيما بينهم فصار كل فريق يدّعي أنه على الحق وغيره على الباطل. ويكثر في هذا الوضع الاهتمام بشكل الحياة وأطرها “ولا يجد الضنك والبؤس والفقر والجوع من يتصدى له ويرتع المترفون وتستسلم الأمة ويضيع استقلالها على رائحة العطر ومعارض كتب التراث ومعارك الحجاب… ولا تجد قوى التغيير الاجتماعي لديها أية وسيلة لمواجهة القديم القائم وإلاّ اتُهمت بالخروج على المجتمع خاصة إذا كانت المحافظة هو التيار الغالب على ثقافة الجماهير.”
وإذا كان النموذج التراثي يعيش على القديم وحده فهناك نموذج آخر لا تراثي “يقطع الصلة بالقديم لبناء الجديد على أسس من العلم والمعرفة وبالجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث وعدم ثباته أمام العلم الجديد، فالتقدم نحو الجديد مرهون بالتخلص من القديم وهو درس عصر النهضة الأوربية في القرن السادس عشر خاصة وحتى الآن. وكما ظهرت البدائية كتجمعات محلية ظهرت أيضاً الحركات التحديثية العلمية العلمانية على النمط الأوربي كتجمعات فوقية مفروضة على مجتمعاتنا من الخارج.” فالنموذج الّلاتراثي أوجد وفرض أوضاعاً في الفكر والعمل تحصر التغيير في السطح لا في العمق، وفي الشكل لا في المضمون، وتهتم بالتحديث من حيث الأطر ومن دون أدنى اهتمام بالفحوى، “وكان التحديث هو ترك الأنا وتقليد الآخر والقضاء على الهوية والوقوع في التغريب وكما يقول الشاعر: لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية… ويبدو التخلف كمرحلة تاريخية لا يمكن عبورها بمجرد تغيير المظاهر الخارجية…فتحدث التنمية دون مفهوم التقدم، ويتم التحرير والتعمير دون مفهوم الأرض، وتتسع رقعة الخدمات دون مفهوم الإنسان ونتيجة لذلك يحدث انفصام في الشخصية الوطنية وتتجاوز فيها طبقتان من الثقافة: الأولى تاريخية متصلة محافظة أصلية والثانية منقطعة تقدمية مستوردة.”
إنّ ارتباط الحياة في المجتمع التاريخي التراثي بالتراث من جهة وبالحداثة من جهة وفي ظلّ الانقسام إلى فئة الأصالة وفئة التحديث، وبحكم التباين في الاتجاهات حول أولوية البنية التحتية أو البنية الفوقية فغطت فئة الحداثة أو التحديث فئة المحافظة بغير سعي إلى تجديدها، ويقوم الصراع بين التعلم الديني والتعلم العلماني، فهو تجاوز سطحي شكلي من شأنه يوقف التغيير ولا يحدثه، فلم يحصل انتقال المجتمع التراثي في الحاضر من التراث إلى التجديد. والحلقة المتوسطة بين التراث والعصر أو بين القديم والجديد ظهور الليبرالية والتنوير حيث تمجد الحرية ويمجد العقل واستغلال الإنسان للطبيعة وتقدم التاريخ، وأداة انتقال من التراث إلى الثورة. وداخل هذا الوضع الفكري والسياسي سيطرت الأقلية التحديثية على الأغلبية القديمة. “وكما تمثّلت القوى المحافظة للنموذج التراثي وأخذت درعاً يحميها ضد قوى التغيير الاجتماعي فإن قوى التقدم تتمثّل النموذج اللاّتراثي ولكنها تأخذه كرمح تخرق به القوى المحافظة … تقف قوى التقدم وهي في موقع السلطة عاجزة على البناء، وتتصدى القوى المحافظة لحركة التغيير الاجتماعي وهي خارج السلطة وفي مواجهتها. ويكون الحسم في النهاية لقوى الأغلبية الصامتة وقادتها المحافظة.”
المجتمعات النامية الحديثة أصبحت بين نموذجين اثنين أو نمطين، “النمط التراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث، وكان النمط اللاّتراثي يضحي من أجل إحداث التغير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحيائه أو إعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته، وهو القادر على إحداث التغيير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ في التاريخ،من الانتكاسات والردّة وحركات النكوص.” ولما كان التراث مرتبطا بالدين الذي تحوّل إلى عقائد ونظريات ومذاهب وذلك في سياق زمني مكاني تاريخي معيّن فيه صراع المصالح وتضارب بين القوى الاجتماعية. جاء التراث ليعبر عن الصراع والتضارب، وعبرت عن ذلك الفرق السياسية والكلامية القديمة بين تراث القهر وتراث التحرر ، وظهر ذلك في تراث الحركات الإسلامية المعاصرة مثل السنوسية والثورة العرابية وحركات التمرد الوطني في المغرب العربي ومن ثم في الثورة الإسلامية الكبرى في إيران.
يؤكد ‘حسن حنفي’ على ضرورة إحداث النموذج الثالث، النموذج البنائي التجديدي الإحيائي على نحو يحفظ شروط قيام هذا النموذج بعيداً عن النموذجين النموذج التراثي والنموذج اللاّتراثي. وهذه الشروط تنتقل بالإنسان وفكره وحياته عامة من وضعيات انتقال من الأدنى إلى الأعلى بتحويلها إلى وضعيات انتقال من الأعلى إلى الأدنى ومن الخلف إلى الأمام، فبدل من الإنسان إلى الله يكون الانتقال إلى من الله إلى الإنسان، ومن الأمير والرئيس والإمام إلى الجماهير والشعوب والأمّة، ومن الإيمان والنظر والعقيدة إلى العمل والممارسة والثورة، ومن فناء النفس وخلودها إلى بقائها واستمرارها، ومن زوال الحياة الدنيا إلى بقاء العالم واستمراره، ومن الفرقة الناجية إلى وحدة الوطن وتماسكه والذود عنه، ومن الجبر والإكراه والقدر إلى خلق الأفعال والحرية والتحرر، ومن الإشراقية والنورانية والعقلانية و الروحانية إلى العقل البرهاني ومن منهجية النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد، هذه الطريقة في التعاطي مع التراث القديم ومع العصر الحالي هي التي تضمن تجانس التراث مع الحداثة بعيداً عن تغريب النموذج اللاّتراثي، وعن تعصب وتقوقع النموذج التراثي.
أما صلة التراث بالعمل السياسي في المجتمعات النامية فتقوم على صلة الحاكم بالمحكوم، والتراث سلطة في نفوس الناس والعمل السياسي تطوير للمجتمع ونقله من حال إلى حال ومن فترة تاريخية إلى أخرى، وهو ذلك الذي يشمل التغيير في كافة قطاعات المجتمع، فالتراث العلمي متمثلا في الأقسام العلمية الثلاثة النقلي والعقلي والعقلي النقلي له أثره الملموس على العمل السياسي قديماً وحديثاً. فالعلوم النقلية- القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، و الفقه- تركت أثراً سلبياً في سلوك الناس أكثر منه إيجابياً، فعلوم القرآن مازالت تتحدث عن رسم المصحف وعدد آياته وشكله الخ. والأمر نفسه في العلوم النقلية العقلية، ففي علم أصول الدين استعملت التصورات لله وللكون وللإنسان من قبل النظم السياسية التي تبنت التصور الرأسي لله وللعالم والإنسان من الأدنى إلى الأعلى مما سهل أن “ينزلق الحاكم وراء صورة الإله المطلق فيتشبه به ويأخذ صفاته، ويستعير أفعاله فيصبح الحاكم مطلق مثل الله وأفعاله واجبة الطاعة مثل أفعال الله… مازلنا نعرض لقضية ابن خلدون لماذا تنهار الأمم ولا تضع سؤالاً تالياً كيف تتقدم الشعوب وما هي شروط النهضة؟ ما زلنا ننقل عن الغرب الرياضيات الحديثة والطبيعيات الحديثة بل والعلوم الإنسانية المعاصرة، وفي هذا الجو الحضاري العام يستحيل العمل السياسي حيث لا إبداع للجديد ولا تطوير للقديم ولا إعمال للعقل، ولا إجهاد للقريحة فنصبح في العمل السياسي أيضاً ناقلين تتشبث الأنظمة القائمة بتراث القدماء وتنقل المعارضة تراث المحدثية (الماركسية أو الليبرالية أو القومية). والقديم أرسخ جذوراً وأقوى شرعية من قشور المحدثين.”
إذا كان التراث يعيق العمل السياسي و التغيّر الاجتماعي حسب ‘حسن حنفي’ قد يتحول إلى دوافع تُحرك العمل السياسي وتُغير المجتمع من خلال إجابة على سؤال: “مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته؟.” و إمكانية المساهمة تتحدد من خلال النقاط الست التالية: تحرير الأرض من الاستعمار والغزو، فالله والأرض وحدة، والدفاع عن الحريات في مواجهة القهر والتسلط، والعدالة الاجتماعية في مواجهة سوء توزيع الثورة، والتنمية الشاملة في مواجهة التخلف الحضاري، وتأكيد الذات والهوية ضد كل أشكال الاغتراب في الآخر، والحرص على توحيد الأمّة بدل التجزئة والانقسام. ويتم توظيف التراث كدوافع لتحريك الحاضر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع التراثي النامي من خلال رؤية تاريخية، ومشروع إعادة بناء التراث يقوم على حرية الفكر وحفظ مقاصد الشريعة وإصلاح الأرض لا إفسادها واستقلال المؤسسة الدينية وإبطال أشكال ومظاهر النفاق الديني في الدولة ووسائل الإعلام.
يتضح مما سبق أن ما هو سلبي في التراث قد يتحول بفعل دور العقل والحرية وحفظ مقاصد الشرع ومبدأ صلاح الأرض لا فسادها إلى ما هو إيجابي، فمن سيادة التصور العمودي التسلطي للعالم المتمركز حول الواحد إلى التصور الأفقي والتمركز حول الإنسان والأرض والمجتمع والتنمية ومن هنا يتحول التراث كطاقة نفسية واجتماعية مشحونة داخل الوجدان الفردي والوعي الاجتماعي إلى حركة نهضوية فكرية وعملية سياسية واقتصادية تحرك التاريخ وتبني الحضارة.
أما بالنسبة لصلة الفلسفة بالتراث عند ‘حسن حنفي’ قد تُفهم هذه الصلة بين الفلسفة كوجود قائم حالياً وبين التراث القديم، أو بين الفلسفة القديمة والتراث القديم، أو بين الفلسفة كممارسة للتفلسف وصلتها بالتراث القديم. وأزمة الفلـسفة والـتراث ترتـبط بثنائية الفلسـفة الغربيـة و صاحبها الآخر أو الغرب والتراث الفلسفي القديم و صاحبه الأنا، فهناك بعد الآخر وبعد الأنا وبعد (الواو) الذي يمثّل التواصل والتفاعل والحراك الثنائي من خلال دور العقل، وهو بعد غير موجود تماماً راحت ضحيته ظروف العصر التي افتقدت المنظور المتوازن بين عمق التراث القديم ولا عمق الفلسفة الغربية والمعاصرة، وافتقدت الوعي المتوازن بين تراث مفهوم الهوية هي الأنا والفلسفة الغربية والمعاصرة وهي أقل وضوحاً في التعبير عن الهوية، ومظاهر أزمة الفلسفة والتراث كثيرة. فالتعامل مع التراث القديم تتم بنقل علومه كلها من غير تطوير أو اختيار من حيث وضعها في مستوى واحد، ونقل أقصى ما يمكن من العلم والتعرض لكافة فروع العلم، وتتكرر العلوم القديمة بغير محاولة لإعادة بنائها مثل تكرار القسمة الثلاثية لموضوع الفلسفة القديمة، المنطق والإلهيات والطبيعيات. ولا يتم الربط بين العلم والسياق التاريخي الذي نشأ فيه والواقع الذي أفرزه، الأمر الذي جعل الأزمة قائمة وصار التراث القديم لا يتفاعل بإيجابية مع الوافد ولا مع الواقع. ولضمان هذه الميزة ميزة التفاعل الإيجابي بين التراث الفلسفي القديم والفلسفة الغريبة الحديثة المعاصرة ضرورة إعادة قراءة التراث القديم وإعادة بنائه، والوصول إلى فلسفة جديدة. “وإنها لمسؤولية جيلنا أن يبدع فلسفة إسلامية جديدة طبقاً لظروف عصرنا بعقلية المجتهد، فيصبح الفيلسوف في نفس الوقت أميناً على الحكمة واعياً لمصالح الأمة… لا توجد فلسفة إسلامية واحدة ودائمة لكل العصور بل توجد فلسفات متعددة ومتغيرة بتغير العصور. الفلسفة تعبير عن روح العصر.”
إن صلة التراث بالمجتمع والسياسة في العالم العربي والإسلامي المعاصر وهو عالم تراثي تاريخي تضع الحياة أمام ثنائية تتعدد أوجهها، التراث والحداثة، التراث والواقع، التراث والسياسة، التراث والسلطة، التراث والفلسفة الغربية، وهي ثنائيات تعبر عن أزمة التراث في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر. هذه الأزمة أسبابها ودوافعها كثيرة بعضها داخلي ذاتي خاص بطبيعة التركيبة الفكرية والثقافية والاجتماعية للمجتمع العربي الإسلامي المعاصر وبعضها الآخر موضوعي يتعلق بالظروف التاريخية التي تحيط بهذا المجتمع سياسية واقتصادية و حضارية بشكل عام، والسبيل إلى تجاوز الأزمة هو إعادة بناء التراث القديم من جهة وإعادة قراءة الوافد من جهة ثانية وإيجاد نظرية صحيحة في تفسير الواقع يتضح من خلالها الموقف الحضاري من الواقع، هذا الموقف الذي يُمثّل عتبة ننطلق منها نحو الأمام في سبيل إنقاذ الأمّة من محنتها.
ما زال التراث يؤثر في حياتنا اليومية ويمثل قضية أثارت جدالات ونقاشات حادّة في أوساط المثقفين والمفكرين مع بداية التفكير في النهضة و في مشروعها، ومنذ طُرح سؤال الحداثة لأجل تحديد أسباب التقدم وشروطه، وهي نقاشات طرحت جملة من الأسئلة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مثل قضية التراث ومعناه والحرية والعقلانية والتعامل مع الآخر. والتراث في مشروع ‘حسن حنفي’ يمثل المستوى الأول إلى جانب التجديد وهو المستوى الثاني. ولإزالة اللّبس والغموض يُحدد صاحب المشروع مفهوم التراث ومفهوم التجديد في مشروعه. حيث بدأ كتابه ‘التراث والتجديد’ بسؤال: “ماذا يعني ‘التراث والتجديد’؟” كمشروع حضاري قومي. فالتراث عنده “كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة. فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات.”
المسألة ليست تجديد التراث ما دام التراث نقطة الانطلاق من خلال الوعي الكامل بالمسؤولية القومية والثقافية وما دامت الأصالة تؤسس للمعاصرة والغاية تتحقق بالوسيلة والجديد يأتي بعد القديم. فالتراث ليس مطلوباً في ذاته بل هو وسيلة لتفسير الواقع وتطويره فهو “نظرية للعمل وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض وهما حجرا العثرة اللّتان تتحطم عليها كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية… فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه. ‘التراث والتجديد’ إذن يحاول تأسيس قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط.”
التراث ليس هو مجرد مخزون مادي ولا مجرد كيان صوري نظري قائم بذاته، فالتراث هنا بمستويين مادي وصوري وهو في حقيقته مخزون لدى الجماهير. فما زال التراث محدداً لسلوك الناس في الحياة اليومية، محاطا بالمدح والتقديس أحياناً وبالانغماس فيه هرباً من الواقع الصعب أحيانا أخرى، هذا في وقت انطلق فيه الغير علمياً وحضارياً من الواقع ونقد التراث بل وهدمه وتعويضه بما هو أفضل وأريح. وإذا تناولنا موروثاتنا النفسية نجد أننا مازلنا نحيا على فلسفة الكندي وعلى أصول الدين المعتزلية والأشعرية وعلى التصوف الداعي إلى الفقر والجوع والصبر والتوكل وعلى إعطاء الأولوية للكلي النظري على الكلي العملي. ‘فالتراث والتجديد’ انطلاقاً من معنى التراث يدل على “موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر إسقاطاً من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث… فالتراث والتجديد يؤسسان معاً علماً جديداً وهو وصف الحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر معاش… يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر.” ويكشف المشروع عن ظاهرة البحث عن الذات والأنا، لأن التخلف قد يكون صادراً عن غياب النظرة العلمية الحضارية القديمة، كما أن الفقر قد يكون من تصدير النظم الاقتصادية والسياسية البالية. والبحث عن الهويّة بوجود الآخر كفيل به منهج ‘التراث والتجديد’ الذي ينقلها من حال التلقي والنقلية إلى صرح النقد والإبداع.
فالتراث في المشروع ليس هو معتقدات مقدسة مغلقة ثابتة على صخورها تنكسر كل محاولات التغيير والتجديد ولا هو بناء صوري شكلي لا محتوى له ولا مضمون ولا هو مجرد مخطوطات ومنشورات ومؤلفات أو دوائر معارف وسائر الماديات والمعنويات، فهو ليس بالتراث الصوري الفارغ الذي لا أثر له، ولا هو مجرد أشياء مادية محفوظة كما يفهمه الكثير ويتعاطون معه. فالتراث “هو المخزون النفسي عند الجماهير، هو تمركز الماضي في الحاضر، يتحول إلى سلطة في مقابل سلطة العقل أو الطبيعة تمد الإنسان بتصوراته للعالم وبقيّمه في السلوك ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية وهي المجتمعات التراثية التي ما زالت ترى في ماضيها العريق أحد مقومات وجودها وفي جذورها التاريخية شرط تنميتها وازدهارها.”
ب- التراث قضية شخصية في سياقها التاريخي
يربط ‘حسن حنفي’ انشغال الفكر العربي المعاصر بموضوع التراث بهزيمة العرب في سنة 1967. بعد تقهقر الأنا في مجابهة الآخر. فالهزيمة في جوهرها هي هزيمة التراث فلا أدبيات السياسة ولا أدبيات الدين وهي منبعثة من التراث استطاعت أن ترد الهزيمة، كما ارتبط الاهتمام بالتراث في وقت أصبحت فيه القومية العربية نمطاً للحرية وسبيلاً إلى الاستقلال في العالم الثالث بأكمله الذي عاش أزمة لم تهدد الحدود الجغرافية أو السياسية للبلاد العربية بل هددتها في وجودها، “وما زالت آثارها تتوالى لإزاحة العرب خارج التاريخ ولوراثتهم من شعوب أخرى، وبقوميات بديلة وبتصورات جديدة عن الشرق الأوسط، وحوض البحر الأبيض المتوسط، عصر إسرائيل الكبرى.”
وإذا كان التراث قد قام انطلاقاً من الدين وابتدأ به وارتبط بتعاليمه وأحكامه ومقاصده فهذا لا يعني أنّه ظاهرة دينية بحتة تفرض الدفاع عن الماضي من مشروعية دينية، إنما هو إقحام في تحديات الحاضر ومعارك العصر، “فالتراث ما زال حيّاً في قلوب الناس، ويؤثر فيهم سلباً وإيجاباً يلجئون إليه ساعة الأزمات، ويحتمون به إذا اشتدت بهم عوائد الدهر… مطلق يضع لهم معايير السلوك. ويحدد لهم تصوراتهم للعالم. بل أنّه أكثر وضوحاً من الحاضر نفسه لأنه حضور معنوي وفعلي، ذهني ومادي، عقلي وحسّي. البداية به ليست مثالية بل عن الواقعية. فالتراث واقع وليس مثالاً وإن إزاحته بدعوة الواقعية أو المادية الجدلية لهو إزاحة للواقع نفسه وتخلّ عن النظرة العلمية.” لأنّ التراث هو عصب الحياة وقلبها النابض في حياة الإنسان في عالمنا العربي الإسلامي.
ويؤكد ‘حسن حنفي’ على حقيقة التراث في كونه ليس دينياً فقط، “ففيه يتداخل الديني والشعبي، المقدس والدنيوي.لا فرق في الاستخدام الشعبي بين الاستشهاد بالآية القرآنية والحديث النبوي وبين الاستشهاد بالمثل الشعبي وبسير الأبطال كلاهما مصدر سلطة ومنبعاً لمعايير السلوك. وتتداخل معهما أقوال الآباء والأجداد ونصائح المعلمين والمشايخ والرواد، الكل حجة سلطة وليس حجة عقل يتداخل فيه الصحيح والموضوع، التاريخي والأسطوري، المروي والخيالي، الكل يكون مخزوناً في اللاشعور التاريخي للأمّة وفي ذاكرتها الجماعية.”
الانشغال في التراث ليس من قبيل الدفاع عن الأنا وحمايته، إثبات الهويّة والمحافظة عليها، فالتراث هو أحد مكونات الأنا لا الأنا ككل، لا الذات بأجمعها، فالأنا في حقيقته تراث وعصرنة أو عصرية، انحصار الذات في التراث يؤدي إلى التقوقع، وتصبح هوية لا وجود لها في الحاضر والمستقبل. وقد يستخدم التراث في إخفاء الانصهار في الآخر وإتباعه والانقياد إليه. كثير من الأنظمة التي تدّعي أمام شعوبها حماية التراث ومصالحها مع الآخر. التراث ليس مطلوباً لذاته في المشروع بل هو مجرد أداة ووظيفة وليس جوهراً، يتميز بالتغير لا بالثبات، التراث منعدم في انعدام أساليب استعماله، والواقع الذي يُستعمل فيه والقائم على ذلك الفرد والجماعة، سلطة الدولة وسلطة الجماهير، فهو مدرك في إطار فعل التغير الاجتماعي حين يقوم كعائق أمام التغير أو يقوم كعنصر فاعل على التقدم وعندما تستخدمه السلطة كوسيلة لضبط المجتمع أو لبعث الحركة بداخله ومن داخله، فالتراث جزء من التغير الاجتماعي فهو طاقة مشحونة قد تتحرك سلبا وقد تتحرك إيجاباً تبعاً لاختيارات السلطة الاجتماعية والسياسية.
لذا فالتراث عند ‘حسن حنفي’ ليس تراثاً واحدا بل “التراث تراثان: تراث السلطة وتراث المعارضة، تراث الدولة وتراث الشعب، الثقافة الرسمية والثقافة المضادة. فالثقافة كالمجتمع تتمايز بتمايز السلطة في المجتمع. ولما تكوّن المجتمع من طبقات اجتماعية وكان الصراع على السلطة فيه طبقا لصراع الطبقات أفرزت كل طبقة أي كل سلطة تراثها وثقافتها… التراث نتاج اجتماعي لا يسبق وجود المجتمع، وليد الصراع الاجتماعي والسياسي وليس سابقاً عليه، إفراز اجتماعي كأحد أشكال القوى الاجتماعية المؤثرة في الصراع الاجتماعي. يتغير بتغير موازين القوى. التراث سلطة لأنه يمدّ السلطة السياسية القائمة بشرعيتها والتي تحاول أن تنزع الشرعية عن سلطة المعارضة وتراثها.”
إن الأزمة القائمة حالياً في التحجر والجمود في العالم العربي والإسلامي والثبات الاجتماعي تعود أساساً إلى كوننا “نريد تغيير الواقع الاجتماعي بتراث السلطة السائدة في أجهزة الإعلام وتحت سيطرة الدولة، والموجّه الأول لمناهج التعليم والرافد الرئيسي في الموروث الثقافي الشعبي حتى أصبح جزءاً من تصورنا للعالم وكأنّه هو التراث كله ولا بديل عنه… فالعالم شكله مخروطي هرمي، له قمّة وقاعدة، أعلى وأدنى، يقوم على التدرج.”
وإذا كان التراث ليس هو الدين ذاته و لا هو وسيلة للدفاع عنه، ولا هو الأنا ولا هو وسيلة للدفاع عن الأنا، وليس هو غاية أو موضوع أو جوهر أو ثبات بل وسيلة ووظيفة وتغيّر نشط في داخل المجتمع، ويرتبط بكل ما في المجتمع ويجري في سياق تاريخي ومتصل بكل ما في السياق التاريخي فهو ينهض في الواقع بالإنسان داخل التاريخ، كما يرتبط التراث بالوطن والوطنية ويقول صاحب مشروع ‘التراث والتجديد’ في ذلك: “ولكنه قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل في شقائهم أو سعادتهم… قضية ‘التراث والتجديد’ قضية وطنية لأنها جزء من واقعنا، نحن مسئولون عنه كما أننا مسئولون عن الشعب والأرض والثروة، وكما أننا مسئولون عن الآثار القديمة و المأثورات الشعبية.”
الحديث عن التراث ليس هو حديث عن الدين لأن التراث ظاهرة حضارية ثقافية، والحضارة تتكون في الزمان والمكان وبفعلهما، فالدين جزء من التراث وليس كل ما في التراث في الدين، وليس كل ما في الدين في التراث. “فالتراث إن هو إلا عطاء زماني أو مكاني يحمل في طياته كل شيء… لا يوجد دين في ذاته بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة ويمكن تطويرها طبقاً للحظة تاريخية قادمة.” ولم يطلق وصف ‘إسلامية’ على الحضارة لأنه وصف ديني والمسألة حضارية في أصلها، فالإسلام ظاهرة حضارية وقعت في التاريخ وفي حالات كثيرة تستعمل الألفاظ الدينية بمعان تصف الحضارة التي أنتجها الإسلام باعتباره معطيات حضارية تاريخية إنسانية وليس باعتباره ديناً.
بالإضافة إلى كون التراث قضية وطنية فهو قضية شخصية في حياة الجماعة العربية الإسلامية لأن هذه الجماعة تتعاطى باستمرار مع موروثها الشخصي، وهو موروث إسلامي، “والنسبة تشير إلى الحضارة أكثر مما تشير إلى الدين وتعني أننا والتراث من منطقة حضارية معينة كما يعيش الغربي في تراث مسيحي و لا يكون هو مسيحياً أو كما يعيش الهندي في تراث هندي ولا يكون هندوكيا أو بوذياً. التراث قضية شخصية نلتزم بها، وتختلف دراستنا له عن دراستنا مثلاً للتراث الهندي أو الفارسي أو الصيني أو الغربي لأننا في هذه الحالة نكون مجرد باحثين في حين أننا في الحالة الأولى نكون أكثر من باحثين بل نكون ملتزمين بقضية شخصية.” ففي الحالة الأولى تكون الذات المدروسة ويكون الموضوع المدروس أمراً واحداً فهو وجود إنساني تاريخي يلتقي فيه الحاضر والماضي والمستقبل ويكون الباحث صاحب مسؤولية قومية. أما عند دراسة تراث الغير فلا الذات تندمج في الموضوع ولا موضوع الدراسة جزء من ثقافة الذات الوطنية ولا مسؤولية قومية في البحث.
إنّ أخطاء التراث تعاد صياغتها، ونقائصه لا تُبرر ولا تتعرض للنقد فقط بل يتم إكمالها والزيادة فيها، “فالباحث على نفس مستوى مسؤولية المفكرين القدماء. وهم أتوا به وليسوا غرباء عنه. فإذا انفصل الباحث عنهم وقع في الغربة وأصبحت مسؤوليته هو وليست مسؤولية التراث أن يقضي على اغترابه حتى يشعر بالانتماء وبأنه جزء من التراث وبأن التراث جزء منه.” ويضيف ‘حسن حنفي’ مؤكداً على صفة الشخصية في البحث في التراث على أنّه شخصي ويعيب على الدراسات التي تنعدم فيها هذه الصفة قائلاً: “لذلك تغيب على معظم دراسات باحثينا في التراث عدم أخذ قضاياه كقضايا شخصية والاكتفاء بعرض المادة القديمة كما هي إلى حد التبسيط الرخيص المخلّ بأهمية مثل هذه القضايا للقدماء وقد تطايرت من أجلها الرقاب حينذاك، في حين و أن المعاصرين وقد ضاعت أرضهم وثرواتهم لم يهتزوا ولم يلتزموا، وظلّ التراث بالنسبة لهم قضية ميتة لأنهم ميتون… لذلك كان ‘التراث والتجديد’ تعبيراً عن الحياة الشخصية للباحث. والمشاكل التي عرضت له إبّان العشرين سنة الماضية، وحرصه على التراث وعلى تغيير الواقع في آن واحد، وهي قضية المثقفين الثوريين لهذا الجيل.” تبنىّ المفكر قضية التراث مرتبطة بالتجديد في مشروعه الحضاري القومي على أنها مسألة شخصية ناهيك عن كونها وطنية وقومية، وإذا كان الالتزام في التراث أمرا مطلوباً و أساسياً فذلك لا يضر بحياده كباحث وبموضوعيته كدارس. وعلمه هو مدى التزامه بمشكلات وقضايا التغيير داخل المجتمع والالتزام في هذه الحالة يحتوي العلم، وإذا كان العلم يتعارض مع الإيديولوجية في الفكر الغربي و في الفكر الماركسي ففي الوعي القومي في بلدان العالم الثالث، كل منهما يشدّ الجمهور نحو غاية واحدة. فلا الإيديولوجية تضر بالعلم و لا العلم يضر بالإيديولوجية، لأن الالتزام بالتراث وبالثقافة وبالوحدة الوطنية وهي معطيات تتّحد فيها الإيديولوجية بالعلم.
ما دام التراث مخزونا نفسيا في الجماهير وهو مسؤولية فردية وجماعية، شخصية وقومية ووطنية ليس هو الأنا بل يحميها ولا يرفض الآخر بل يشاركه الحياة بإيجابية وفعّالية، ليس هو الدين بل الدين جزء منه، الواحد منها يحمي الآخر ويُفعّله، التراث ينمو ويزدهر بالعلم حينما يلتزم الباحث في التراث والالتزام شرط العلم فالإيديولوجية لا تضاد العلم بل تتحد معه في الوعي القومي العربي والإسلامي وفي الوعي القومي لشعوب العالم الثالث. هذه كلّها تمثل دوافع إعادة بناء التراث العربي الإسلامي بشكل عام والتراث الفلسفي بشكل خاص “علومه وأبنيته وحلوله واختياراته وبدائلها الممكنة هي تغير الظروف كلية من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة… هناك إذن فترتان متمايزتان في تراثنا القديم وفي حضارتنا الإسلامية، الأولى الفترة القديمة والثانية الفترة الحديثة، الأولى اكتملت فيها الحضارة في دورتها الأولى والثانية ما زلنا نشاهدها… الأولى تعادل في التراث الغربي العصر الوسيط فيه والثانية تعادل عصوره الحديثة وعلى هذا يكون التقابل بين التراثين، التراث القديم والتراث الغربي محددا جدل الأنا والآخر، عصر الازدهار والاكتمال لدينا في الفترة الأولى هو العصر الوسيط الأوربي، وعصر التدوين والشروح والملخصات أي التوقف والاجترار في العصور الغربية الحديثة. فليس تراثنا القديم هو العصر الوسيط إسقاط الآخر على الأنا، كما أننا لا نعيش في العصور الغربية الحديثة إسقاط الأنا على الآخر.”
كما أن محاولة إعادة بناء التراث تصبح ضرورة ملحّة لأن مجتمعاتنا النامية تراثية والنموذج الاجتماعي التراثي يكون في نمطه يعاني من عيوب رئيسية كأن يؤخذ التراث فيه غاية في ذاته وليس وسيلة لتقدم الشعوب ونهضة المجتمعات، ويكون التراث منفصلاً عن الواقع وليس محدداً له وموجهاً إيّاه لأن التراث فكر وواقع معاً، ويؤخذ التراث كله أو يُلغى كله ولا يقبل التجزئة أو الانتقائية فهو “حقيقة أبدية لا تتطور أو تتغير ولا يخضع لتأويل أو تفسير أو وجهة نظر يشمل الزمان والمكان ويحتويهما فيه فلا فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ولا وجود لمراحل التاريخ أو نوعية المجتمعات أو خصوصيات الشعوب وبالتالي تمّ التنكر للحاضر كلية.” والواقع برمته فاسد لا يجوز تطويره بل هدمه من الأساس ويبدأ البناء من جديد. وبالمقابل نجد النمط الّلاتراثي يأتي كرد فعل على النمط التراثي وهو نمط أو نموذج يقطع صلته بالتراث القديم لبناء الجديد، “على أسس من العلم والمعرفة والجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث وعدم ثباته أمام العلم الجديد فالتقدم نحو الجديد مرهون بالتخلص من القديم وهو نمط عيوبه كثيرة فالتغيير لديه سطحي والتقدم في المظاهر مما أدّى إلى انفصام الشخصية الوطنية وسيطرة الأقلية وتراث الأقلية وانعزال الطبقة الثورية وما ينتج عن ذلك من مخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية، الأمر الذي يستدعي قيام النمط الثالث وهو نمط أو نموذج إعادة بناء التراث وإحيائه وبعثه تطبيقاً لمشروع ‘التراث والتجديد’. فإذا كان النمط التراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث وكان النمط الّلاتراثي يضحي بالتراث من أجل التغيير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحيائه أو إعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته وهو القادر على إحداث التغيير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ له في التاريخ من الانتكاسات والردّة وحركات النكوص.”
وإذا كان التراث في المجتمعات التراثية النامية ليس ديناً مقدساً ولا بناءً صورياً ولا نصوصاً محفوظة أو كتب صفراء فهو سلطة تقوم في مقابل سلطة العقل تمنح الإنسان تصورات عن العالم وعن السلوك وقيّمه ويشكل واحدا من مقومات الشعوب النامية في وجودها ويمثل عامل تنميتها وازدهارها في أصولها التاريخية، ولما كان التراث كذلك فهو مستعمل من قبل السلطة ومن قبل المعارضة في المجتمعات الديمقراطية كما يستعمل من قبل الحاكم والمحكوم والقاهر والمقهور في المجتمعات الطبيعية. كل منهما يجد في التراث ما يؤيده. ويؤكد ‘حسن حنفي’ على ضرورة الاهتمام بالتراث دراسة وبحثاً واندماجاً متبادلاً بين الذات الدارسة والموضوع المدروس، والتزاماً من قبل البحث لأن المستشرق يرصد التراث من حيث حركته التاريخية فيفقد الحياة والموضوعية. “وبالتالي كان علينا تطويره وتغييره بل وقلبه رأساً على عقب، ومن هنا كان التراث واجبا وطنيا والنواح على سلبياته مجرد بكاء وصراخ وعويل لا يجدي. فالسلبيات يمكن القضاء عليها بإنتاج تراث آخر أو تحويلها إلى إيجابيات بفعل سياسي مضاد. كما أن التغني بإيجابياته إعجاب بتراث الآباء والأجداد لا قيمة له إلا بمقدار مساهمة هذه الإيجابيات في حل قضايا العصر الأساسية وقبول تحدياته الرئيسية. فما الفائدة في التغنّي بالعقل في مجتمع غيبي أو الفخر بالعدالة الاجتماعية والمساواة في مجتمع الفقر والفشل والبؤس والشقاء أو الاعتزاز بالحرية في مجتمع القهر والتسلط تفتح فيه السجون والمعتقلات أكثر مما تفتح فيه المدارس ودور العلم أو التشدّق بالوحدة في أمة تقطعت أوصالها وتفرقت شيّعاً يحارب بعضها بعضاًًًًًً.” (كل حزب بما لديهم فرحون).
فقراءة التراث ونقده وإعادة صياغته و محاولة إعادة بنائه وفق ما تتطلبه حاجات العصر هو الكفيل الوحيد بتوظيف التراث إيجابياً وبفعّالية في بناء الحاضر والتطلع للمستقبل، وهي مهمة مشروع ‘التراث والتجديد’ متجاوزا النمط التراثي والنموذج اللاتّراثي.
خاتمة
الإنسان الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، في كل الأحوال وفي كل العصور، في الزمان وفي المكان، يعيش على التراث، أو الموروث التاريخي، الفكري والثقافي والاجتماعي والديني والحضاري عامة، الموروث الدفين في اللاشعور أو في ما تحت الشعور أو على هامش الشعور أو المغروس في الشعور ومن دون شك في الشعور واللاشعور معا، يشتغل في العمق أو في السطح أو فيهما معا، على المباشر أو على غير المباشر، في السر أو في العلن،عموديا أو أفقيا،في حالة القوة والتقدم أو في حالة الضعف والتقهقر، في حالة الانتشار أو في حالة الانصهار، في النوم أو في اليقظة، في حالة الشك أوفي حالات اليقين، في حالات الانتصار أو في حالات الانكسار، في الوحدة والتكتل والاستقرار أو في التمزق والتشرذم والتناحر، في جو الحرية والتحرر والاستقلال والإبداع أو في أتون العسف والاستبداد والطغيان والاستعمار، في فضاء النظام والعدل أو في جو التوتر والجور، في البداوة أو في الحضارة،في عالم الأفكار والخيال أو في عالم الواقع والمادة، في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، في الإيمان والتصديق والتسليم بالله وبملائكته وبرسله وبكتبه وبالجنة والنار وبالقضاء والقدر خيره وشره أو في الكفر بكل أشكاله وأساليبه، في الدنيا والآخرة.
وفي حالات أخرى كثيرة ومتنوعة تتفاوت في درجة القوة والشدة والمدة من حيث النفع أو الضرر يبقى التراث الكيان الرئيسي الفردي والاجتماعي والإنساني التاريخي والحضاري والثقافي الذي يؤسس لكل بناء جديد في أي مستوى إنساني مهما بلغ من التعقيد والقوة أو مهما وصل من الضعف والانحدار، فيحدد عناصر الثبات والدوام في الذات وتتحقق الهوية الذاتية الجامعة لشروط التأليف والتركيب والوحدة التي تتصدى لكل دواعي التجزئة والتفتت والانقسام، وكلما كانت تراثيات الوحدة أقوى وأمتن وفي مستوى التوحيد كلما استقرت في الزمان والمكان، فكثير ممن هزتهم رياح التشرذم ونالت منهم في المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل فقدوا لوازم المواجهة وأسباب التصدي وشروط التحدي لهشاشة أواصر الوفاق والإجماع في الموروث التاريخي، وكثير ممن هلكوا وهلك بناؤهم الجديد إنسانيا واجتماعيا لانعدام التراث لديهم ولحاجتهم إلى ما يحمي صنيعهم من الانهيار ويحفظ ويقي كيانهم من الإتلاف ويكون لهم سندا و وجاء، وكثير ممن هم مازال التراث هو عصب حياتهم على الرغم ما تحقق لديهم من تطور حضاري علمي وتكنولوجي، جمعوا فعلا وممارسة بين الأصالة والإبداع والمعاصرة، فازداد عندهم التراث رونقا وجمالا ودعما وتعزيزا وقوة ومنعة، كما ازداد حاضرهم عظمة وإجلالا وإكبارا وصاروا مثالا يُحتذى به وقدوة يُقتدى بها وعبرة لمن يعتبر، فإنّ من لم يعظه الموت فلا واعظ له، ومن لم يقتد بالتجربة اليابانية الحضارية المعاصرة فلا قدوة له، ومن لم يتعظ بإعصار فوكوشيما اليابانية فلا واعظ له.
التراث يقبل الكف والإحياء كما يقبل التغيير والتعديل والتجديد، ولما كان التغيير من سنن الكون فالتراث يؤسس للجديد في إطار عصرنته ليتحرر من الماضي وباعتباره قديما ليحل في الحاضر بثوب جديد يُلبسه إيّاه العصر ويسافر به في اتجاه المستقبل الذي يُفترض أن يكون مشرقا بضياء الماضي وبشعلة الواقع والحاضر وبما يضفيه نور المستقبل على الإنسان وعلى التراث وعلى الحضارة وعلى التاريخ وهو يتحرك ويتكون وينبني، أي على تاريخ الإنسانية المفضّلة والمشهود لها بالتكريم وهو ينتقل من التكوين إلى البنية في دأب وديدان منتصرا للسنن الكونية. فلن تجد لسنّة الله تحويلا. ولن تجد لسنّة الله تبديلا.


الهوامش
1- حسن حنفي: دراسات فلسفية، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة، مصر،سنة 1988، بدون طبعة، ص136.
2- المرجع نفسه : ص137.
3- المرجع نفسه : ص137-138.
4- المرجع نفسه : ص138.
5- المرجع نفسه : ص139.
6- المرجع نفسه : ص140.
7- المرجع نفسه : ص140-141.
8- المرجع نفسه : ص143.
9- المرجع نفسه : ص143.
10- المرجع نفسه : ص160-161-167- 168.
11- المرجع نفسه : ص209.
12- حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الأول، دار قباء للطباعة شركة مساهمة مصرية غريب، الطبعة 3، سنة 1998 ص105.
13- حسن حنفي: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة 5، سنة 2002، ص13.
14- المرجع نفسه : ص13.
15- المرجع نفسه : ص13-14.
16- المرجع نفسه : ص19-20.
17- حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص153.
18- حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الأول، ص343.
19- المرجع نفسه : ص343-344.
20- المرجع نفسه : ص344.
21- المرجع نفسه : ص361.
22- حسن حنفي: التراث والتجديد، ص23.
23- حسن حنفي: التراث والتجديد، ص23.
24 – المرجع نفسه : ص24.
25- المرجع نفسه : ص24.
26- المرجع نفسه : ص25.
27- المرجع نفسه : ص25، أنظر هامش الصفحة.
28- حسن حنفي : دراسات فلسفية ، ص109-110.
29 – المرجع نفسه : ص137.
30 – المرجع نفسه : ص143.
31- المرجع نفسه : ص156.
32- سورة الروم: الآية 32.