الخطاط حسن المسعود- تجربة الخط تجربة الحياة
سلام مراد
بدأ الخطاط مسيرته الطويلة من جنوب العراق حيث باشر الخط، واتجه إلى بغداد سعياً إلى الفن التلويني، إلى الصورة، من دون أن ينقطع عن الخط، وفي عام 1969 دخل مدرسة الفنون الجميلة في باريس، حيث زاول الفن التلويني، غادر المدرسة ومعها أيضاً غادر الصورة، بقي في بارس ولكنه عاد إلى الرموز الخطية التي بدأ منها انطلاقه.
يقول ميشال تورينيه من أكاديمية غونكور الفرنسية، أن حسن المسعود "يبدأ بخطوط مقتضبة، ضمن فسحة محدودة كلاسيكية المظهر، يستبطن نصوصها الضيف والتوق، لكي تؤول إلى تنام يتجاوز حدود الصفحة، حيث للخط حركية اللوحات المعاصرة، ونص يزخر بالأمل".
إن لكل حرف في الخط العربي التقليدي، بناء يرتبط ببناء حرف آخر، فتشكل الحروف في ما بينها الكلمة. وتعدد الكلمات وتشابكها ليقولدنا إلى أشكال معمارية جميلة، يطلق عليها اسم التشكيلة الخطية أو التكوين الخطي.
يكرر بعض الخطاطين التشكيلة نفسها عدة مرات ويعودون إليها أحياناً بعد سنوات محاولين الوصول إلى الكمال في معالجة الحروف وقوتها. والفراغ المحيط بها ونغم الشكل العام، هنا تبرز طاقة الخطاط وإمكانياته، لنعرف هل تخطى ما هو معروف من التشكيلات الخطية القديمة، أو أنه خلافاً لذلك، يكرر ما يشابه تشكيلات الماضي، وكذلك نبين عند الخطاط صدى شعوره بالجمال، ورهافة الذوق وثراء الذاكرة البصرية التي تحوي أجمل الأشكال وأمتنها.
ولادةُ التشكيلات الخطية تحت أصابع الخطاط، توحي كأنه يخرج أشكالاً يختزنها في مخيلته إخراجاً عفوياً تلقائياً، بينما هي نتيجة تفكير عقلاني أيضاً، إنه يأخذ الجملة ويحطمها، ويعيد بنائها ثانية، ولكن عبر رؤاه، فتكون التشكيلة الخطية كمرآةٍ تعكس أفكاره وأحاسيسه الداخلية، وذلك بإعطاء الخط مظهر الخفة، أو الثقل، بزيادة البياض أو السواد الكثيف لرحفو، وبتفضيل الانحناءات في الخط أو رشاقة الخطوط المنتصبة، وبتصعيد حرارة الديناميكية، أو بإعطاء برودة للسكونية، ترينا التشكيلة الخطية طبيعة الخطاط وتبدي عبر عمله ما هو مخفي من عوالم طفولته الغامضة.
إن إمكانيات التحطيم والبناء للسطر فتحت الباب واسعاً أمام التعبير الفني في مجال الخط العربي.
فالتشكيلة الخطية يجب أن تكون حيوية وحركية، كما لو كانت بعض الحروف وتمنعها، وإذا افتقرت التشكيلة إلى هذه الديناميكية تكون رتيبة مُملة للعين، وخلافاً لذلك ترى التشكيلية نعش نفس المشاهد، بل تنشط تطلعه إلى الجمال، وتحمله على التخيّل أكثر فأكثر برأي ميشال تورنيه تعني الديناميكية هنا بالتالي مقدار الطاقة المختزنة داخل هذه التشكيلة، وأن مجموع الحروف والكلمات داخلها يطالعنا كعمل فني مجرد، يتحسسه ويفسره كل مشاهد حسب عالمه الداخلي.
أما قراءة النصوص نفسها، فإنها صعبة لأول وهلة، ولكن في أكثر الأحيان يقود التمعن والتأمل الطويل لمن يقرأ العربية إلى اكتناه النص.
في حوار مجلة الأفق العدد 118- 25 أيلول 1986 مع الخطاط حسن المسعود يقول: استعملت الحرف العربي كإناء وضعت في آلامي وآمالي. واليابانيون يقولون بهذا الصدد "إن الخط هو الإنسان نفسه" والأمر نفسه بالنسبة لي فحين انعكست تجربتي كإنسان على الخط، أصبح الخط مأوى للحظات المأساوية والمغرمة والمتطلعة التي عشتها، الحرف العربي يمتلك قدرة كبيرة جداً يستطيع الفنان أن يبني أعماله الفنية تحت أفيائها، ويمكن أن تظل هذه الأعمال تجسيداً للحياة الانفعالية المزدوجة لها أصالتها ومعاصرتها الفنية المتميزة.
ويميز الخطاط حسن مسعود بين الخط العربي والخط اللاتيني وبرأيه يكمن الفرق أن الحرف اللاتيني استخدم في الطباعة منذ بداية القرن الخامس عشر بينما لم تدخل المطبعة إلى المجتمع العربي والإسلامي , إلا في القرن التاسع عشر وبشكل محدود جداً، وهذا يعني أن مهنة الخطاط في المجتمع الأوروبي اختفت في الوقت الذي لا يزال الخط العربي حيّاً ويمتلك صلته المباشرة بالواقع الديني المعرفي في حياة الناس، ويوضح المسعود أن هناك اختلاف ما بين الخطاطين العرب والمسلمين في الماضي والذين كانوا ينتشرون في كل مكان، وما بين العديد من الخطاطين في وقتنا الحاضر، فهناك خطاطون لا يعرفون أكثر من أسلوبين أو ثلاثة وهؤلاء لا يواصلون البحث الفني في القدرات والطاقات التي تكمن خلف هذا الكنز الفني الكبير أنهم بصريح العبارة، ليسوا أكثر من حرفيين.
الخطاط حسن المسعود يقول: لقد أصبح الحرف العربي هو مهنتي، وأصبح مورد عيشي وطموحاتي، فأنا أتعامل معه بخصوصية كبيرة وهذا التعامل من شأنه أن يجعلني أكثر ورقة وتصميمية، فأنا أعمل يومياً ما لا يقل عن عشر ساعات، وقد زادت اهتماماتي في الفترة الأخيرة بالحرف اللاتيني والحرف الصيني ولكن هذه الاهتمامات لا تزال من الخارج فأنا أراقبها لأن ذلك يشكل إثراء نافعاً ومفيداً لعملي مع الحرف العربي.
في لقاء لحسن المسعود مع خطى شمس بين مسيرة الخط العربي، سواء تجربة الخطاط الناسخ، الذي أدى دور المطبعة اليوم، وعرج على تجربة الخطاط المزين، الذي زين جدران المعالم المعمارية، أو حاجيات الاستعمال اليومي والكتب.. وهذا النوع من الخطاطين كان يستوحي الحرف ويستعمله لإبداع تكوينات ذات قيمة تشكيلية تجريدية، ففي الأعمال تتعانق الكلمات والحروف قيماً بينها فيقصر حرفاً ويمد آخر وتخسر بذلك القراءة لصالح القيمة الجمالية.
وبخصوص تطور مسيرة الخط العربي، بين أنه هناك أساليب قديمة للخط عبرت قروناً عديدة ولا تزال مستمرة حتى اليوم، وذلك يعود لجماليتها وقدرتها على مطاوعة الزمن الحديث، بينما هناك أساليب أخرى انحسرت وضاعت أو ندر استعمالها.
هناك من ينادي بعدم تغيير الخط العربي، وكأنما الخطاطون هم مطابع وليسوا ببشر، هذا برأي الخطاط حسن المسعود غير صحيح، فالخط العربي تغير كثيراً وتطور على أيدي الخطاطين. وفي كل مرحلة كان يحدث فيها تحول اجتماعي.
كان هذا التحول ينعكس على فن الخط، لذلك نجد أن خط القرن التاسع في بغداد لا يشابه خط القرن السابع في مكة ولا يشابه خط القرن الرابع عشر في مصر، ويختلف كثيراً عما توصل إليه خطاط اسطنبول في القرن الثامن عشر.
أما كوفي المصاحف في القرن التاسع، فإنه يختلف عن الكوفي المتموت في جوامع القاهرة، ويختلف أيضاً عن الخط الكوفي المعمول بالطايوق في معالم سمرقند.
وهكذا نجد أن الخط في حركة تطور مستمرة، في عصرنا الحالي يعيش في الخط أزمة خاصة ، كما كل الفنون الإسلامية، فلقد فقدنا الكثير من الاختصاصيين، ولم يعد عدد الخطاطين المبدعين يتناسب مع عدد السكان في بلدان الألغباء العربية.
إن عالم الخط عالم واسع جداً، صعب المداس، والجوانب التجريدية فيه تلعب دوراً أهم وأكثف من الجوانب المادية، فالفراغ المحيط بالحروف أهم وأعلى قيمة من الحروف النابعة من النغم الكافي، والطاقة الآتية من تلاقي الحروف وتشابكها.
ومن الناحية التاريخية.. نحن نفتقر للوثائق التي تشهد على مراحل وأساليب كثيرة، فأكثر الأسرار الفنية دفنت مع الخطاطين الكبار، وأرقى الخطوط تسكن مستودعات المتاحف ومخابئها ولن يتمكن الكثير من الناس من رؤيتها بسهولة. أو ربما لن تشاهد أبداً.
وتدخل الناحية التقنية إلى جانب المعلومات النظرية والمشاهدات الجمالية والفلسفة الشخصية لتعطي أهمية تتراوح بين خط وآخر وبين فنان وآخر.
والناحية التقنية هي الناحية الأهم في الخط، ولولاها لأصبح كل النقاد خطاطين. وتحتاج معرفتها لزمن طويل من الممارسة والتمرين على حروف الأقدمين لمعرفة أسرارها الهندسية والجمالية، بعد ذلك يضيف الخطاط إليها من طبيعته وتجربته، فيكون الخط بذلك وسيلة تعبير معاصرة لزمن الفنان متضمناً ردود فعله إزاء أحداث عصره.