الشعر الحر والإنسان
سلام مراد
إن تسمية "الشعر الحر" شاعت في العراق والبلدان العربية منذ أوائل الخمسينات؛ واستعملت للدلالة على نمط من الشعر، خرج على النظام التقليدي للقصيدة العربية، الذي يعتمد فيه البيت الشعري، شطرين متوازين عروضياً وينتهي بقافية مطردة.
خرج الشعر الحر عن هذه النمطية إلى شعر ذي شطر واحد، ليس له طول ثابت، ويجوز أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر ودون التزام بنظام ثابت في القافية.
بين الباحث يوسف الصائغ صاحب كتاب الشعر الحر في العراق، أن الريحاني كان أول من أشار إلى هذا المصطلح عام 1910 بمفهومه الغربي واستعملته جماعة "أبولو" فأطلقوه على نوع من الشعر، كانوا يمزجون فيه عدة بحور في القصيدة الواحدة.
أما الشعراء الرواد، فلم يطلقوا على محاولاتهم الأولى اسم الشعر الحر، لقد وصفتها "نازك الملائكة" بأنها "لون جديد... أسلوب جديد... طريقة...
ووصفها "بدر شاكر السياب" بأنها "شعر متعدد الأوزان والقوافي.
ولكن هؤلاء الشعراء عادوا فاستعملوا تسمية "الشعر الحر" بعد أن شاعت في الوسط الأدبي.
ويرجع الباحث انتشار كلمة الحر، إلى الظروف التي كانت تنتشر فيها كلمات كالحرية والتحرر، وكانت تجد لها وقعاً في النفوس، عبر أكثر من مجال، وبخاصة في المجال السياسي والفكري والاجتماعي.
شهد تاريخ الشعر العربي، محاولات عديدة استهدفت الخروج على قيود الشعر التقليدية، وكانت هذه المحاولات، ترتبط بالتطورات العامة التي عاشها المجتمع العربي، فمثلاً أبو العتاهية نظم الشعر بأوزان لم تعرف قبله، كما حاول هو وآخرون الخروج على القافية الموحدة.
وتحرر الكثير من الشعراء من عمود الشعر، فقالوا أبياتاً من غير قافية واحدة، كما حدثت حركة في الشكل كانت من أسبابها الأساسية التطور الحضاري، قام بها شعراء الموشحات في الأندلس، فنوعوا الأوزان والقوافي في القصيدة الواحدة، وكان لها أثر في كل حركة تجديد جاءت بعدها.
إن من يستقرئ تاريخ الشعر العربي، يلاحظ أن الدعوة إلى التحرر من قيود الوزن والقافية، ظلت هذه الدعوات تتوالى وفي العصر الحديث أيضاً وخاصة في سورية ولبنان ومصر والمهجر والعراق، وكانت هذه الدعوة تلقى دائماً من يستجيب لها بدرجات متفاوتة.
مثلاً نشرت مجلة الأديب اللبنانية 1946 قصيدة لفؤاد الخش بعنوان "أنا لولاك"
أنا لولاك لما كنت وما كان غنائي
يُرقص الكون على لحن السناء
أنا لولاك لما كنت على الأرض سوى ظل فناء
يتمطى تحت قبلات ذكاء
فإذا جاء المساء
يتوارى ويذاب
باضطراب
خفقة خفق سراب
يتلاشى فوق سمراء الرمال
أتت حولت فنائي أزلاً
وسكبت فوق بأسي أملاً
كان من أسباب اهتمام الباحث بالشعر الحر في العراق لأن الشعر الحر أصبح ظاهرة بارزة في الحياة الأدبية، ويرهن على فاعليته وأصالته ولم يعد ظاهرة طارئة ومؤقتة. وأثر وما يزال يؤثر في أجيال متعاقبة من الأدباء. وتطور وتوسع لأنه واكب الحياة والمستجدات الحديثة.
وكان من أسباب تطور هذا الشعر تطور آلية المجتمع، لذلك لابد من تماهي هذا التطور مع الإبداع، والشعر مادة حياتية مزامنة للحياة والتطور، ووفرة شعراء الحداثة في الغرب وتهيئ التواصل المعرفي والثقافي بين الشرق والغرب، أسهم في تحريك حراك القصيدة الحديثة.
هذه الحياة الحديثة كسرت القالب الجامد للقصيدة الكلاسيكية، لأن القصيدة لها أبواب مفتوحة على الإبداع بشكل عام، ومن هنا كانت القصيدة متنفس للشعراء الشباب خاصة، الذين ولدوا من رحم الحضارة والحداثة ولا بد أن تنعكس هذه على حياتهم، لأنهم وجدوا في رحابهم متنفساً أكبر لحياتهم وآلامهم وأفراحهم.
تابع الباحث والشعر الحر والدراسات حوله، وهي تتوزع بين الصحف والمجلات عراقية وعربية، سواء في العراق أو خارجه، فالموضوع لم يكن سهلاً، لأن الحقبة التي درس فيها الباحث الشعر الحر طويلة، وفيها تجارب كثيرة تتطلب دراستها وقتاً وجهداً مكثفاً.
استند الباحث في دراسته إلى محور تاريخي يتابع الأحداث عبر تسلسلها الزمني، والآخر نقدي يتعرض للظواهر والقيم الشعرية ويناقشها، ارتباطاً بالأساس التاريخي، عبر التركيز على نماذج الشعراء البارزين، ودراسة نتاجهم الشعري شكلاً ومضموناً، كلاً على حده.
قسم الباحث دراسته إلى بابين رئيسيين:
الباب الأول في المضمون، وتضمن أربعة فصول، يتعرض الأول منها إلى التيارات الفكرية الرئيسة التي عبر عنها الشعر الحر، متمثلة في الماركسية والقومية والوجودية، ويبحث الفصل الثاني المضمون السياسي الذي احتواه الشعر الحر سواء عبر علاقة الشعر بالأحزاب أم عبر علاقة نماذجهم بالأحداث السياسية. وبالجو السياسي العام الذي كان سائداً في تلك السنوات، أما الفصل الثالث فيبحث في المضمون الاجتماعي من خلال التعبير عن الواقع الطبقي، وإدانة الاستغلال، واستلهام التناقضات الناجمة في المجالات المتنوعة.
ثم الفصل الرابع الذي عبر عن خصائص الشعراء النفسية، أشار الباحث فيها إلى بعض المميزات النفسية الخاصة التي كان يعبر عنها نتاج عدد من الشعراء البارزين.
والباب الثاني كان لدراسة الجوانب الفنية، وقسمه الباحث إلى أربعة فصول أيضاً.
في الفصل الأول دراسة عن موسيقى الشعر الحر عبر الوزن والقافية، وذلك ليثبت الباحث أن الشعر الحر حقق السبق في التجديد من خلال الإطار الموسيقي، واستطاع بذلك أن يؤثر في تطور الجوانب الفنية الأخرى بما فتحه أمامها من آفاق.
وفي الفصل الثاني دراسة لغة الشعر الحر، طبيعتها ومصادرها والعوامل التي أثرت في تطورها، والدور الذي لعبته في تحديد القيم الفنية العامة للقصيدة.
الفصل الثالث درس فيه الباحث الصورة الشعرية وتطور مفهوم الصورة في الشعر الحديث؛ من أبسط أشكال الصور من خلال الصفة ثم التشبيه فالاستعارة فالصورة الطويلة، وصولاً إلى القصيدة الصورة، ثم خصائص الحركة والصمت واللون الضوئي في الصورة الشعرية، ودراسة الرمز والأسطورة في الشعر الحر، الفصل الرابع كان لدراسة طبيعة البناء في الشعر الحر، والعوامل التي أدت إلى تطوره، وبيان أهمية الحركة والنمو في بناء النماذج المتطورة من الشعر الحر.
كما ركز الباحث على التطور الذي حصل لحركة الشعر الحر خلال السنوات 1958-1974.
اعترف الباحث أنه في دراسته هذه يغامر بدراسة هذا الموضوع، وأن موضوعه متشعب ومتسع وغير ممهد.
ولكنه يقول "أن أية دراسة، تعتمد منهجاً نقدياً، بروح علمية، يمكن أن تساهم بتواضع، في فتح الطريق أمام مزيد من الدراسات الجادة والمنهجية".
إن هذه الدراسة أضافت جهداً وعملاً متواصلاً لحركة الشعر الحر في العراق، ولم يدعي الباحث أنه يأتي بشيء لم يأتيه غيره، بل هي مساهمة تساهم في إضاءة صور جميلة ودراسات توضح حركة الشعر الحر؛ فهي دراسة أضافت شيء ألا وهو أسلوب الباحث ونكهته المختلفة عن أي دارس أو باحث آخر، تظهر بصمات كل دارس وباحث من خلال كتاباته وأسلوبه واختياراته، للمواد التي يدرسها، يكفي الباحث أنه لم يقل كما قال أبو العلاء المعري:
وإن كنت الآخير زمانهلآت بما لم تستطعه الأوائلالكتاب: الشعر الحر في العراق
الكاتب: يوسف الصائغ
الناشر: اتحاد الكتاب العرب دمشق 2006م