الاكتئاب.. بين العلم والحياةسلام مراديُعدّ الاكتئاب من أكثر الأمراض العصرية، انتشاراً. وأسبابه كثيرة ومختلفة، نذكر منها: قسوة الحياة والإرهاق في العمل ووطأة المتطلبات المعيشية. والعلاقات العاطفية، وما ينتج عنها من اضطراب وخيبة أمل. وهناك سبب آخر هو سرعة الزمن وما يرافقها من تقلبات ضاغطة على الروح والجسد. وتشير الدراسات النفسية والطبية، إلى أن عدداً كبيراً من البشر مصابون بالاكتئاب. وتؤكد إحدى الإحصائيات، أن هناك /250/ مليون مصابٍ بهذا المرض. وهم بالتالي ينقلون كآبتهم إلى أكثر من /500/ مليون شخص عن طريق الاحتكاك بهم أو معايشتهم.
في كتاب صادر عن دار الفكر بدمشق عنوانه (الاكتئاب قصة الصراع بين اليأس والأمل)، يبين كاتبه الدكتور أكرم إدريس، أن النساء المصابات بالاكتئاب أكثر عدداً بمرتين من الرجال، وغالبيتهن من المتزوجات. وتوصل الباحث أيضاً إلى أن النساء اللواتي ولدن بعيد منتصف القرن العشرين، هن أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض.
وقد تعود زيادة المرض بين النساء، إلى الاضطرابات الهرمونية الدورية التي ترافق مرحلتي الإخصاب واليأس. وإلى عمل المرأة خارج المنزل وما يترتب عليه من إرهاق جسدي ومعاناة نفسية. وخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أن النساء أكثر استجابة للعلاج، وذلك لأنهن يفصحن عن إصابتهن أكثر من الرجال ويكثرن من الشكوى والتذمر. كما يلجأن إلى البكاء وسحّ الدموع، التي تساعد في طرح المواد الكيمائية المولدة للاكتئاب والناتجة عن التوتر.
وأظهرت الدراسات الحديثة أن المضطربين عاطفياً والحساسين وسريعي الانفعال، هم أكثر المصابين بمرض الاكتئاب. كما يقع فريسة للاكتئاب أناس يحبون الخير والفضيلة ويسعون إلى تصحيح أوضاع قائمة لا تعجبهم، لكنهم غالباً ما يفشلون. فينطوون على ذواتهم خيبة وحسرة، وكأنهم مسؤولون عن كل ما يجري حولهم من أخطاء.
ويرى الباحثون أن الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وما ينتج عنها من خسائر مادية وفقد لأهل وأحبة، هي أحد المسببات بمرض الاكتئاب. ففراق الأحبة صعب والابتعاد عن البيت والوطن مدمر وصاعق. ولا ضير في أن نستعيد عدداً من الأسباب التي تؤدي إلى الاكتئاب أو تسهم في حدوثه:
1 ـ الانفعال. 2 ـ وفاة شخص عزيز. 3 ـ الفصل من العمل. 4 ـ الإصابة بأمراض خطيرة مزمنة، أو الخوف من الإصابة بها. 5 ـ التقاعد عن العمل. 6 ـ المشاكل الجنسية عند الرجال وصعوباتها. 7 ـ تغيير مكان العمل. 8 ـ المتطلبات المادية لشراء منزل أو تأسيسه. 9 ـ مصاريف دراسة الأولاد في الجامعات والمدارس. 10 ـ سفر الأولاد للعمل خارج القطر. 11 ـ الازدحام والضجيج. 12 ـ الإخفاق في الحب وهجر الحبيب.
أما العبقرية، فقد ربط كثير من المفكرين والباحثين بينها وبين مرض الاكتئاب. وعندما بالغوا، ربطوا العبقرية بالجنون أيضاً. وبُعدّ الشاعر الفرنسي لامارتين العبقرية وما فيها من إبداع وجمال، ضرباً من الجنون. وربما تكون هذه الفكرة امتداداً للفكرة الإغريقية التي تقول إن الشاعر أو الفنان يكون في أثناء إنتاج الشعر أو الفن في حالة من التلبس الشيطاني. أو لم تقل العرب قديماً، بأن الجن في وادي عبقر هم الذين يلهمون الشعراء قصائدهم؟.
وقد خالف المفكر (فرنسيس جالتون) الرأي السابق وأنكره، وقال إن العبقرية هي نتاج الوراثة. وما وجود العبقرية والإبداع في بعض الأسر، إلا دليل على ذلك.
وجاء العالم (سلفاتو آريتي)، ليدحض الرأيين السابقين، ويقول: "إن الاضطراب الوجداني يشيع بالفعل بين المبدعين والعباقرة، ولكن الاضطراب النفسي أحياناً يعوق الإبداع الفني والعلمي. وعليه فالمبدع يكون في أحسن حالاته وأفضل إنتاجه في الفترات التي تخف فيها التوترات، وعندها يكون في أفضل حالاته الصحية بدنياً ونفسياً."
ومن الدراسات الشهيرة التي درست العلاقة بين العبقرية والاكتئاب، دراسة أجراها (بوست على /219/ عبقرية من المشاهير في مجالات السياسية والأدب والإبداع الفكري والفني والعلمي والمسرحي، فجاءت النتيجة أن القادة السياسيين هم أكثر قلقاً من غيرهم. وفي ظن الدكتور إدريس أن مصدر هذا النوع من القلق، يعود إلى الضغوط النفسية التي تفرضها طبيعة العمل.
وتشير الإحصائيات التي توصل إليها بوست إلى أن الاكتئاب يصيب 70% من الكتاب والروائيين، و42% من الفنانين، و 41% من الموسيقيين، و 36% من المفكر ين، و 34% من العلماء. وأوضح بوست أن فترات الاكتئاب في حياة هؤلاء كانت متكررة ومترددة وقصيرة المدة لم تتجاوز من أسبوعين إلى أربعة أسابيع.
في حين كانت حالات الفصام والذهان، قليلة للغاية. والانتحار لم يحدث إلا في أربع أو خمس حالات من 291 (العينة التي درسها) وهي:
1 ـ فان كوخ، وهو رسام هولندي وعبقري مشهور، عاش بين الأعوام 1853 ـ 1890. تأرجحت نفسيته بين الابتهاج والمديح والحماسة والبؤس العميق واليأس القاتل. أدخل إلى إحدى المصحات، وعشية عيد الميلاد عام 1888، قطع جزءاً من أذنه اليسرى وأرسلها إلى حبيبته. وفي عام 1890، انتحر بإطلاق النار على نفسه.
2 ـ تشايكو فسكي، وهو موسيقي روسي ذائع الصيت وصاحب بحيرة البجع. تبين أنه مات بجرعة من السم إثر نوبة اكتئاب حادة، وليس بمرض الكوليرا كما أشيع.
3 ـ بولتزمان، وهو مبدع وعالم... انتحر نتيجة إصابته بالمتلازمة الهوسية الاكتئابية أو ما يسمى بالاضطراب الثنائي القطب.
4 ـ آرنست همنغواي، روائي أميركي مشهور من مؤلفاته الشيخ والبحر والفردوس المفقود. عانى من نوبات اكتئاب متكررة ومن إدمان على الكحول. انتحر عام 1956، بإطلاق النار على رأسه.
وقد لاحظ بوست، أن نسبة الانتحار بين العباقرة والمشاهير هي 1.6% فقط. وهي أقل من نسبة المنتحرين من الناس العاديين والتي تبلغ 1.88% ـ 2.7%. ويؤكد أن المبدعين على الرغم من حالات الاكتئاب يمتازون عن الناس العاديين بجديتهم في العمل ومثابرتهم عليه. وأن المكتئبين في غالبيتهم، هم من أصحاب الضمير الحي الحساس المفعم إنسانية وغيرية على المجتمع؛ وأوضح بوست أن المبدعين استمروا في العمل بالرغم من الاكتئاب والحالات الصعبة التي عانوها، بينما كبَّل الاكتئاب غيرهم من الناس العاديين.
تناول الباحث شخصية أبي العلاء المعري وتوصل إلى نتيجة أن أبا العلاء كان مصاباً بنمط من أنماط الاكتئاب، ومن أسباب اكتئابه فقدانه البصر في الرابعة من عمره، بسبب إصابته بالجدري، مما أثَّر في حياته تأثيراً بالغاً، فتراه دائم اللوم لنفسه، ناقماً، شاكياً من الحياة وأشكالها، فتتساوى عنده الأشياء فالفرح يشبه الحزن، واليأس يشبه الأمل، وصوت النعي يشبه صوت البشير، والحياة تعب لا قيمة لها. يقول أبو العلاء:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزومِ بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث
وقال أيضاً:
غير مجدٍ في ملِّتي واعتقادي نوحُ باكِ ولا ترنُّم شادي
وشبيه صوت النّعي إذا قيس بصوت البشير في كلِّ نادي
تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغبٍ في ازديادِ
العلاج الروحاني للاكتئاب
إن الدواء هو مفتاح العلاج الأول للاكتئاب، ولكنه وحده غير كافٍ، ومن طرق العلاج الروحاني، تعلّم الاسترخاء، وتغيير العادات، وتعلّم الأمل، ومكافحة اليأس، والصبر حين تأتي النوائب والتعامل معها بروح رياضية عالية.
المكتئب هو إنسان تزعزعت ثقته، واحتار في أمره، وانعدم أمله في المستقبل، لذلكَ يحتاج مريض الاكتئاب إلى علاج روحاني يعيد له ثقته بنفسه، ويجب أن يعلم المريض أن الله لم يخلقه عبثاً، والمرض هو ابتلاء واختبار لمدى صبره على الشدائد، ويؤجر على التحمل والصبر؛ وهذا الصبر لا يقدر بثمن وجزاؤه عظيم تظهره الآية القرآنية التالية: ﴿إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابرُونَ أَجرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍٍ﴾ [الزمر: 39/ 10].
الإنسان الصابر، ذاق عذاباً عظيماً، ومثل صبره يكون أجره عند الله بغير حدود، وبشكر الله وذكره تطمئن القلوب.
﴿أَلاَ بِذكرِ اللهِ تطمئنُّ القُلُوب﴾ [الرعد 13/ 28].
فعملية الذكر تهدئ النفوس الثائرة، وتشعرها بضعفها أمام عظمة الله، وتشعر بالأمان ورعاية الله لها، وبالعناية بها في كل طرفة عين، وهو دواء نافع لمرضى الاكتئاب والناس العاديين، وهو يشتمل على الذكر باللسان في الصلاة والقيام والقعود والحركة وفي أثناء العمل.
كما أن قراءة القرآن الكريم أو الاستماع إليه، لها مفعول السحر في إشراق الروح، وزوال الغمّ، وتفريج الكروب، والشعور بالسرور والقرب من الله.
فالإنسان المكتئب وبعد العلاج الدوائي، عليه أن يتأمل، ويعلم أن الدنيا ماضية ذاهبة لا بقاء لها، وأنها دار بلاء وأنها مكّارة لا يؤتمن جانبها، ولا يطمئن صاحبها، وأن الدار الآخرة هي الحياة فما على الإنسان إلا أن يصبر قليلاً ثم يفرح كثيراً ويسعد طويلاً.
وفي حديث الرسول الكثير من العزاء لأهل الحزن والاكتئاب، يقول: [يودّ ناسٌ يوم القيامة لو أجسادهم تقرض بالمقاريض أو تنشر بالمناشير في الدنيا لما يرونه من عِظَمِ ثواب أهل البلاء عند الله].
يجب إعطاء الروح حقها والتفكير بالله وخلقه وذكر الله، ونعيد ونقول ونختم كلامنا بقول الله تعالى ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ [ الرعد 13 ـ 28].
الكتاب: الاكتئاب ـ قصة الصراع بين اليأس والأمل.
الكاتب: د. أكرم أحمد إدريس
الناشر: دار الفكر دمشق 2008