المعراح.... حوارات مذهلة في عالم الغيب
.....
أترك الجدل في مسألة العروج بالروح أم بالجسد أم بهما جميعاً إلى محله في كتب الاختصاص، مع التأكيد على أن رأياً مستنيراً قدمه عدد من المفكرين من الصحابة والتابعين وفيهم عائشة ومعاوية وحذيفة بن اليمان ينص على أن الخبر كان رؤيا حق، أو معراجاً معنوياً روحياً، كرره الغرب في الكوميديا الإلهية لدانتي، يخرج قصة المعراج من صباب الخوارق إلى ضياء السنن.
وأرجو أن لا أبتعد كثيراً عن دلالات المعراج الكبرى عندما أستعرض أمراً دقيقاً ذا دلالة وهو مسألة فرض الصلوات التي تطرحها الروايات المتعددة في السنة النبوية وهو أمر بالغ الأهمية في وجداننا الإسلامي، وفيها أن الرسول الكريم تلقى أمر الله سبحانه بخمسين صلاة في اليوم والليلة، ومع أن المسألة هنا مسألة نصية في غاية الوضوح يتلقاها أصدق البشر عن الله مباشرة من دون أي سلسلة من الإسناد، ومع أن النبي الكريم أولى العالمين بقول سمعنا وأطعنا وهو كذلك، ولكن الرواية تمضي إلى معنى دقيق وهام، وهو أن النبي تشاور مع الرسول الكريم موسى عليه السلام في أمر الصلاة، وأن موسى كان يقول له يا محمد لقد بلوت الناس قبلك وخبرتهم وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، وبوسعك أن تتصور إلى أي مدى يحب الله من الإنسان أن يكون حراً جريئاً في الحق، ويمضي الرسول الكريم إلى ربه فيسأله التخفيف فخمسون صلاة في اليوم والليلة شيء لا يطيقه الإنسان، وحين يسال الله ذلك يحط عنه خمساً، ثم عاد موسى يقول له قوله الأول فما زال به حتى رجع تسع مرت يطلب التخفيف من ربه، وما زال محمد يرجع إلى ربه يحط عنه في كل مرة خمساً حتى بقيت خمس صلوات في اليوم والليلة!
هذه الرواية تقع وفق قواعد المحدثين في أعلى درج الموثوقية من رواية البخاري، وأنها توافق مقاصد الشريعة في إطلاق حرية الفكر إلى الغاية.
ذلك أن النبي الكريم يضرب لنا هنا أدق مواقف حرية الرأي في الإسلام وما ينبغي أن تكون عليه الأمة في وعيها بمصالح الناس ومقاصد الشريعة، هنا يحاور محمد ربه في مسألة تشريعية غير عادية إنها مسألة الصلاة، ومع أن البيان الإلهي كان واضحاً في خمسين صلاة فإن النبي الكريم عمد إلى الحوار والمناقشة مع ربه ابتغاء تحقيق العدالة المنشودة!!
من المؤكد أن الله سبحانه لا يجهل مصالح العباد وقدراتهم ولكنه أراد بصراحة أن يشرك الإنسان في اقتراح الشريعة وهو موقف متألق من منزلة الرأي الحر في الإسلام وهو معنى لا يمكنك تجاوزه ما لم تدرك تماماً حدود المدى الذي يدفعك القرآن الكريم إلى إدراكه.
إنني أحب هنا أن أضع هذا الموقف المتألق للرسول الكريم لنقارنه مع ما ساد في الثقافة المتخلفة أيام الانحطاط التي كانت تتعامل مع الإنسان على أساس أن دوره ينحصر في تلقي الأوامر الجاهزة من رجل السلطة ورجل الدين حيث كان الأول يحتكر إرادة الأمة والثاني يحتكر المعرفة عن الله، وكانت كثير من الزوايا تصرح في غياب المعرفة الصحيحة بمقاصد الشريعة أن السلطان ظل الله في أرضه، وأن أربعين عاماً من إمام جائر خير من ساعة واحدة بلا إمام وغير ذلك من صيغ الاستبداد، وأن أفضل طريقة لبلوغ مرضاة الله هي الطاعة المطلقة لشيخ الطريقة الذي يفترض أن تكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله ‍‍!!، وأن خطأ الشيخ خير من صواب المريد! ، وأنه لا تعترض فتنطرد!! إلى غير ذلك من الصيغ التي لا تشبه في شيء المعنى القدسي الذي تحملنا إليه رحلة المعراج.
منذ قرأت حديث المعراج وأنا لا يغيب عني مشهد النبي الكريم أمام ربه في الملأ الأعلى وهو يدافع عن مصلحة الأمة، يحاور ربه، ويقدم حججه كأعظم محام متألق يذكره الدهر، ورسم بحواره العظيم ملامح دين يدفع بالإنسان إلى أبعد مدى في حرية الرأي واحترام الحجة ورعاية مصالح الناس.