أبو القاسم الشابي
راهب من الجهـات الدافئة

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


تبدو الشاعرية، دهشة عذراء بين قبائل المفردات واسرة اللغة، بل هي ازاحة بسيطة للأشياء من مكانها لترصد كل الجهات التي يعانق فيها الشاعر ذاته، وقد قبض على اللحظات الهاربة، وحولها الى فطرة جديدة، ونداءات عصية، توقظ كل ما حوله حتى القرى والمدن النائمة، وتستريح بعد ذلك القصيدة ولو على ربوة في آخر الجرود، او شاطىء على حدود البحار البعيدة... من هنا كان على الشاعر ان يصارع هلاله كل يوم الف مرة على قطرة ضوء ، ليظل حاملاً مشغله الابداعي فوق كتفيه، ومواجهاً مصيره، وقد ألغى من حساباته كل الامور الاخرى ما عدا القراءة المتأنية لطبيعة الطقوس التي حاولت ان تعرقل سير القافلة...
/ ابو القاسم الشابي/ والتفاحة المحرمة: لئن كانت حياة الشابي قصيرة في بلدته/ الشابية/ بتونس الخضراء حياة مثقلة بأوجاعها الباطنية، ومسكونة بمعجزات تفوق قدراته الشخصية، فإنه مع ذلك استوعب حركتي الطبيعة، وارادة التاريخ وبنى من خلالهما موقعه الملتزم على خارطة الشعر العربي الحديث ، لقد تصدى وبشجاعة لعالم الخواء والعدم الذي كان يوزع فيه حصة من الوقت المتبقي لقلبه الذي كان يطارده الموت منذ اللحظة التي اطل فيها على دنياه...
وهو الشاعر المتهم بتلفته نحو السماء السابعة، وهذا ما لا يليق بأنظمة الديار آنذاك، ولا يلائم مستواه الاجتماعي ولهذا لقى من الاهمال في زمنه مما اثر على مواله، وطريقة تفكيره لكنه ظل حتى اللحظة الاخيرة يمتطي قطاره في احدى عربات الرومانسية التي اطلع على فنيتها، من خلال من سبقوه من ابناء جيله كـ/ جبران / وجماعة /ابوللو/ في مصر بزعامة / احمد زكي ابو شادي / ولقد اسعفته قراءته المبكرة لفنون الشعر في تشكيل وعيه، حتى صار فيما بعد اباً روحياً للرومانسية والتي اقتحم فيها حصون الشعر دون مقدمات... فهو المتأمل دائماً، والمتألم وحيداً والداخل الى عالمه على طريقة الواثق بإمكاناته، ولديه القدرة على تحويل المعادن كلها الى ذهب ليسعد الاشقياء ويمتلكون دوراً شرعية وميراثاً يحفظ لهم الوصايا ولو كان هذا الميراث عود ثقاب في ديار جهنم.
وتأتي عظمة / الشابي / من خلال تجاوزه محليته الضيقة في بلدته / الشابية/ الى انتشاره الواسع في الوطن العربي على الرغم من صغر سنه، ومحاصرة الموت له وهو لم ينضج بعد ...
لقد صحب طيور الغابات ورأى فيها متعته وذلك هرباً من عالمه المأزوم، فكانت لغته التراثية شرقية الهوى، مدركاً ان التقليد مهماً اطلع الشاعر على تجارب غيره هو مثل الاصابع العمياء التي تتحرك في الوحول دون ان تعجن شيئاً ، او ترسم خطوطاً تقتحم فيها الشعائر او لتقف في مواجهة الضجيج...
لقد كانت الغابات وطن الحرية لخياله المحلق دائماً، وكيف لا؟! وهو الذي قرأ رأي جبران في الغابة يوم قال :«النسر لايبني عشه في الصفصاف الباكي، والسبع لا يفتش عن عرينه بين الادغال» من هنا استطاعت قصيدة الشابي ان تعكس مفهومه للحرية وتشرعن هذا المفهوم عبر شفافيته الحزينة، واختراقاته الوجدانية الحارة وقد دللت فضاءات اليأس التي دخلتها رؤيته بأن الموت هو النهاية المفتوحة، لكن على الحياة... وكماضٍ قادم لا ترافقه الفزاعة، او تمزق ابعاده الشياطين... يقول :
ما لمزمارك لا يشدو بغير الشهقات؟!
ولأ نغامك لا تنطق إلا باكيات
هوذا ياقلبي البحر وامواج الحياة
اين احلامك ياقلبي لقد فات الفوات...
يبدو الشابي في حواره لقلبه صوتاً أضمره الموت، وجعل من رؤيته فلسفة جديدة في الخطاب الشعري ازاء العالم الذي يحيط به وهو يدخل عتبات النصوص بوحي من البعد الزمني الذي يتلاشى فيه مصغياً الى حجم العصاب الذي يزحف عبره القلب ولكن باستعلائية لا رابط بينها وبين هذا الوجود سوى انه فيها الحدث المدهش لجغرافية الشعر، والطالع من حصته في دمار قلبه الى الجلوس بين فكي مجهول آخر بدا فيه الشابي اقوى حتى من الموت نفسه...
كل ما هب وما دبّ وما
نام وحام على هذا الوجود
من طيور، وزهور، وشذى
وينابيع واغصان تميد
كلها تحيا بقلبي حرة
غضة السحر كأطفال الخلود
وهذا خطاب آخر لقلب الشابي شعت فيه لغة الاستعلاء وهي تطمح الى كتابة تاريخ جديد للشعر وللوجود على حد سواء، حتى انه لا يعبأ بالغصة القاتلة والتي جعلها غصة ساحرة داخل النعش الذي احتجز فيه الكون قلبه الحزين، فهو يريد عبر الشعر ان يبدل استراتيجية العالم ولو اشتعلت النيران فوق جفنيه ونامت تحت جلده كل الزلازل الجائعة...
لقد اعطى الشابي فكرة الموت معنى مستقلاً من خلال ارادة فولاذية، ولهذا كثرت في قصائده اختلاطات الاحلام واستطاع ان يفسر الخيبات الانسانية تفسيراً صحيحاً عماده الضمائر الحية الذي يظل فيها الشعب اميراً لا الحكام ولا السلاطين:
إذا الشعب يوماً اراد الحياة
فلا بد ان يستجيب القدر
ولا بد لليل ان ينجلي
ولا بد للقيد ان ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوها واندثر
أليس لهذا النشيد الانساني مفهومه تحت شجرة الحرية الكونية؟
إذ لم يستطع كل طغاة العالم ان يطمسوا فيه صوت الارادة الشعبية ، ولا قتل حتى فيزياء الجسد المتكرر في دوائره المغلقة لأن الحياة هي للشعوب التي تدوس الهموم وتسطو على دمعة السغب في ظل الانظمة الجائرة ...
لقد وصل الشابي الى سلطة النصوص عبر الصور المحسوسة حيناً والمجردة حيناً آخر، وعلى الرغم من تزاحم مفرداته وتكثيفها الا انها جاءت مشحونة بالمعاني وكانت مرجعاً للبطولة الفردية في قارب تعطلت بعض اطرافه وهو يحاول ان يعبر البحار، بعد ما ترك في البراري لوحة الغواية الاولى في تعاطيها مع اليأس المطبق، والترويج لدولة الاحلام القادمة...
وإذا كان الناس حزبان كما يقول / جبران/ حزب يبارك وحزب يلعن، فإن حزب الشابي هو الشعر القادم من مرحلة العصور البرونزية الاولى لأنه اراد فيه ان يكتب للشعر تاريخاً آخر من خلال موضوعات جديدة لم يعد للمديح فيها وجود ولا للوقوف على اعتاب الملوك دور في التقليل من شأن الشعر اذا ما قبض الشاعر على بعض الهبات المذلة...
إن النظرة الكونية التي ضخ عبرها الشابي آلامه وحملها فردوسه اللغوي الى ممرات الدهشة والغواية هي مزيج من الاناقة الروحية، والفطرة السليمة التي تمتاز بها الشاعرية، بل هي شبكة من العلاقات الانسانية التي تستميل الأتباع على الرغم من الفئات الضالة المنتشرة هنا وهناك:
نحن نتلو رواية الكون للموت
ماذا ختام الرواية؟
هكذا قلت للرياح فقالت
سل ضمير الوجود كيف البداية؟
بهذه الحرفية الواسعة استطاع الشابي ان يصطحبنا في شاعريته الدافئة على الرغم من حياته القصيرة ... فهو المناصر لكل القضايا الانسانية وكانت هي النوازع التي انطلقت منها انفعالاته المتناظرة في وحدتي الزمان والمكان على حد سواء، وكانت هي الدافع ايضاً عنده الى تغيير واقع المرأة التي عاشت اسيرة عبوديتها حتى في ظل المؤيدين لخلاصها من هذه العبودية، ورأى في عيش القِنانة مكيدة انسانية أخرى يجب التخلص منها ليعيش الوجود حراً طليقاً كالانوار المضيئة:
خلقت طليقاً كطيف النسيم
وحراً كنور الضحى في سماه
كذا صاغك الله يا ابن الوجود
وألقتك في الكون هذي الحياة
لقد استطاعت نصوص الشابي ان تحمل مشروعها البلاغي عبر الاستعارت، والتشابيه بوعي جديد تمكن من خلاله الشاعر ان يفيض على المشاع السري في بنيتها، وبنى عالماً خاصاً به معتمداً على تناصات قليلة فيها مستنجداً بسارق النار.
/بروميثيوس / حتى يكمل تجربته الشعرية والتي تنقل فيها مركبه بين الامواج الصاخبة وخلف رقصات الشيح والصفصاف ، في الليالي المظلمة وكانت صورة لماحة ذكية وسفينته البرية تبدأ حمولتها بالشعر وتنتهي بالشعر:
الويل للدنيا التي في شرعتها
فأس الطعام كريشة الرسام
لم يكن على خطأ ذاك الفيلسوف الذي قال : ( عليكم ان تقرؤوا النصوص ولو بأظافركم..) وحتى نتخلص من الوثنية التي تسيء الى الشعر علينا ان نعمل بتلك الحكمة لنرتاح بجوار شاهد اخير هو ابو القاسم الشابي...

محيي الدين محمد

المرجع : ابو القاسم الشابي
شاعر الحب والثورة
( رجاء النقاش)