مقالي الجديد في بناة المستقبل
السيادة الوطنية والتدخل الإنساني
..................
السيادة الوطنية والتدخل الإنساني مصطلحان متجاوران، ولكنهما أصبحا اليوم عنوانين متقابلين لأسلوبين مختلفين في التعامل مع الدول المارقة، ولكل من المنهجين مدارسه وتأويلاته وفلاسفته، ولكن المجتمع الدولي لا يزال يعكف على عنوان السيادة الوطنية الذي يراه أقل تكلفة ومخاطر وأكثر استقراراً.
وقد كنت أحب أن أناقش هذه المسألة بعيدا عن الراهن السياسي، ولكن ستكون بلا قلب وأنت تكتب في الفلسفة السياسية بعيداً عن عناء بلدك وأهلك، حيث أصبحت النكبة السورية اليوم داعياً صارخاً لتغيير جوهري في السياسة الدولية، وأصبحت مصدر وعي وإلهام بالكوارث التي يتضمنها القانون الدولي القائم، وهي اليوم تستدعي ثورة إصلاحية للخفاظ على القيم الإنسانية التي على أساسها يتلاقى هذا المجتمع الدولي.
ففي سوريا يعيش المواطن في متناقضتين عجيبتين .. فهو يقرأ منذ طفولته في المدارس حديث الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وتشرح له كل يوم أسطورة سايكس بيكو وتآمر الانكليز والفرنسيين والامريكان والطليان والاسبان والهولاند على وحدتنا العربية، وتمزيق كياننا الواحد الممتد من المحيط إلى الخليج ومن الشام لبغدان إلى مصر فتطوان، والذي تجسده لغة واحدة وتاريخ واحد ومستقبل واحد.
وفي الوقت نفسه تتخم عيناه وأذناه بخطب الصخب وأغاني الغضب لكل من يتدخل في الشأن السوري، وترتسم صور افراد الجيش البواسل وهم يقومون بمهماتهم القتالية المريرة ضد كل من تسول له نفسه الاقتراب من حدود سايكس بيكو، وتستمر في إسباغ القداسة المطلقة على كل نقطة حدودية ومخفر وكارافان يرمز إلى هذه الحدود التي رسمت بأنامل السياسيين المخضرمين سايكس بيكو، وثبت ان حكامنا ظلوا أوفياء مخلصين لها طيلة ثمانين عاما من القهر والهوان.
ولكن الكارثة ليست في هذا الهوان الذي يمكن تبريره روحاً وطنية عالية تحرص على تراب الأرض وتحمي حدودها، بل إن الكارثة الأكبر هي في طبيعة تعاملها مع هذه الارض المنكوبة بالاستبداد والتي كتب عليها القدر ان تعيش في ظل أنظمة لا تؤمن بالحريات ولا تعرفها... وحين وثب شباب الوطن يهتفون للحرية تكشف كل شيء وراح الأشرار يطلقون بنادقهم صوب الصدور العارية ويكرسون الموت والقتل والدمار في ربوع الأرض المعذبة الشقية.
وحين يشعر العرب أبناء الأمة العربية الواحدة بالعذاب الذي يكابده أهلهم وإخوانهم في سوريا فإنهم يتسارعون تحت ضغط الشعوب لاتخاذ مواقف قوية ضد النظام ولدعم الشعب المنكوب، وتبدأ الدول العربية بوصفها أعضاء في الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة بتوجيه الرسائل المتتالية لهذا النطام، وهي رسالة كانت دوماً أقل من غضب الشعوب العربية وأدنى من حماسها، وتصل تلك المواقف إلى طرد النظام من مقعد الجامعة العربية والبحث عن بديل من الشعب يشغل هذا الموقع.
وتنفجر إزاء ذلك حماسيات الغضب في النظام الاستبدادي ويعلن كفره ببلاد العرب أوطاني وبالأمة العربية الواحدة وبالرسالة الخالدة، ولا يجد في كل مواقف العرب إلا لوناً من التآمر على السيادة الوطنية والتدخل في الشأن الداخل... والشأن الداخلي هنا هو قيام نظام بقتل أكثر من مائة ألف من شعبه وزج ضعف ذلك العدد في السجون والتسبب في نزوح ثلث الشعب السوري هائماً في أطراف الأرض.
وتحت اسم السيادة الوطنية يمكن أن يحاكم كل سوري لجأ إلى بلد عربي خوفاً من الموت والقتل، ويحاكم كل سوري طلب العون من أهله في بلاد العرب اوطاني، ويتم اتهام الجميع بالعمالة والخيانة والتآمر والتخابر الخارجي لمجرد أنهم وجدوا في إخوانهم من العرب ملاذاً لوقف عذاباتهم وقهرهم وألمهم المستمر.
فإلى أي حد تصبح فكرة السيادة الوطنية فكرة محترمة من الناحية الأخلاقية...
ربما يكون لهذه السيادة ذلك البعد الأخلاقي عندما تكون الأمة تمارس قرارها السيادي عبر مؤسسات ديمقراطية محترمة عكس إلى حد ما قرارات الناس ورغباتهم وآمالهم، وقد يفهم هنا التدخل الإنساني تدخلاً ضد إرادات الشعوب وحرياتها، ولكن حين يقوم نظام ما باقتطاع قدر كبير من موازنة شعب بأسره دون أن يسمح لأحد بالسؤال عن المال المفقود، بحجة أنه يقوم بإعداد السلاح الاستراتيجي لمواجهة العدو، ويستمر ذلك الاقتطاع أربعين عاماً دون علم أحد بالتفاصيل، ثم يتم خلال ثلاث ساعات فقط التخلي الكامل عن هذا السلاح وتسليمه لعدوه التاريخي، دون استئذان أحد ... لا حكومة ولا برلمان ولا حزب ولا هيئات شعبية .... فهنا تكون أسطورة السيادة الوطنية أسطورة سمجة وغير مقبولة بالمرة ولا تحمل أي بعد أخلاقي.
وأعتقد أنه بعد النكبة السورية التي حلت بهذا الشعب الصابر أمام سمع العالم وبصره فإن المجتمع الدولي مطالب أن يعيد النظر بأفكار السيادة الوطنية، وتقديم محددات حقيقية واعتماد مصادقة دولية على أي نظام حكم يزعم أنه يمثل الناس، وبالتالي تكريس قدرات دولية مناسبة للتدخل الإنساني وحماية البشر من بطش حكامهم الذ ي يتم في وضح النهار وتحت النصوص القانونية التي تكرس السيادة الوطنية.
إنني أطالب بصراحة بدور دولي أكبر في تنظيم السيادة الوطنية فالعالم منذ أكثر منذ نحو سبعين عاماً يلتقي في إطار الأمم المتحدة، وهي منظمة تمثل الجميع ولديها مؤسسات دولية هامة تمكنت من تحقيق كثير من الأمن والسلام في العالم، ولا زالت قراراتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة تتصف بالعدالة والاحترام خاصة لجهة مواقفها العادلة في القضية الفلسطينية، وهي لا تزال تعاني من غياب جانب من العدالة في مجلس الأمن الذي ابتكر حق الفيتو ليضمن بقاء الخمسة الكبار في النادي الدولي بعد ان انهارت عصبة الأمم السابقة لعدم وجود ضمانات كافية للكبار للاستمرار في النادي الدولي.
قناعتي أنه لا ينبغي تكريس حاكم ما في العالم بأنه يمثل شعبه حتى يحصل على الاعتراف الدولي عبر آليات محددة في الأمم المتحدة حصراً، ويجب أن يطالب بالشروط والظروف التي تثبت أنه يمثل شعبه، وخاصة في البلدان التي تكون فيها صناديق الانتخابات مؤجرة حسب الطلب وهي حقيقة لا تخفى على أي مراقب في العالم عبر ممارسات النظم الشمولية.
إنها تبدو أحلاماً ولكن ما البأس.. إن كثيراً من الإنجارات البشرية المبيرة كانت مجرد أحلام، ولا تزال أشهر كلمة في التاريخ هي حلم مارتن لوثر كنغ الذي صار بعد نضل طويل حقيقة.
(الشرعية يا سيد كيري لا يمنحها أحد في العالم لأي حاكم إلا عبر شعبه)... هكذا يطرحون رؤيتهم الديمقراطية ولا يسألون أنفسهم للحظة أين هي هذه الشعوب المنكوبة التي يفترض أن تقدم الشرعية؟؟ وفي المثال السوري فإن وزير المغتنرين السوري السيد جوزيف سويد يقول قبل الأزمة إن عشرين مليون سوري مهاجرون ومهجرون، وفي النكبة هاجر نصف الباقين أو نزحوا إلى خيام داخلية ومراكز لجوء، ومن يجرؤ على القول أن الربع الباقي حسب تصريحات الوزير نفسه قادر على الاختيار في بلد يقيم تماثيل ونصباً تذكارية للبوط العسكري، وتقدم سجونه شهرياً الآلاف من القتلى من سجناء الرأي تحت التعذيب، وتقدم كليات الفنون الجميلة فيه امتحانات نهاية العام برسم البوط العسكري والزغردة على ملامح دعسه على الثائرين من أبناء الوطن؟؟؟
إن التعبير عن إرادة الناس وسيادتهم الوطنية عبر صناديق تديرها آلة الموت هذه هو استهانة بالإنسانية والإنسان، واستدعاء لشريعة الغاب والظلم والقهر.
إنها قراءة ستحظى بلا شك بالاعتراض الصاخب من القومجيين والوطنجيين الذين يزاودون في السيادة الفارغة ولا يشيرون من قريب ولا من بعيد إلى الجيوش النظامية والميليشيات غير النظامية التي استقدمها هذا النظام من عرب وفرس وروس للقتال المباشر ضد الناس في سوريا.
وبعيداً عن النكبة السورية فإن الحديث عن دور أكبر للمجتمع الدولي في تقرير الهيئة الحاكمة ودورها السيادي والسياسي، هو أمر جوهري ويستحق ان يتعامل معه العالم بمسؤولية وعقلانية، فنحن جزء من الأسرة الدولية، وقيم الإسلام تعزز هذه الحقيقة فالإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، وهي كلمة تحمل ثلاث محددات متقابلة: التعارف وعمل المعروف والاعتراف المتبادل.
وقناعتي أن من واجب المجتمع الدولي أن يمارس دوره في تحقيق الاعتراف الدولي بنظام ما، وكذلك سحب شرعيته عبر آليات قانونية اتفاقية تقوم على أساس تقدير مسؤولية هذا النظام وقدرته على تحقيق العدل والسلام، وليس عبر مزاج السياسيين في الدول الكبيرة، وفي هذه الحالة فإن على من يفكر باستلاب إرادة الشعب أن يدرك انه أمام امتحان عسير فيما يأتي من الأيام، فهو مطالب أن يقف أمام المجتمع الدولي الذي يملك آليات كثيرة للتحقق من التزام هذا النظام بمعايير العدالة، حتى يمنحه الاعتراف وسيكون أمامه كثير من الوسائل القانونية أيضاً لنزع هذا الاعتراف وإجبار هذا النظام على الرحيل حين يمارس الشر ضد شعبه.
قناعتي أن التابو المقدس الذي منحته الأمم المتحدة عند قيامها لاحترام السيادة الوطنية بحاجة اليوم إلى مراجعة شاملة، لقد بالغ المؤسسون في احترام السيادة الوطنية ليضمنوا دخول أكبر عدد من الأعضاء الذين بدؤوا عام 1945 بواحد وخمسين عضوا وكانوا مضطرين لتحجيم دور المؤسسة الدولية حتى ينتسب الباقون الذي كانوا عادة تحت أنظمة شمولية مستبدة، ولكن هذا الواقع تغير جذريا اليوم ولم يعد المجتمع الدولي مضطراً لهذا اللون من الاستجداء لأنظمة الاستبداد.
سيثير هذا الموقف كثيراً من المستبدين الشموليين السابحين في رغد السيادة الوطنية، ولكنه سيثير الفضول الإيجابي لأولئك الذين ينالون شرعيتهم عبر آليات ديمقراطية حقيقية، بل إنه سيدفعهم لتطبيق أقصى معايير الجودة في الأداء والعدالة والمساواة حتى يحظوا باعتراف المجتمع الدولي وبالتالي الاستمرار في تأييده ودعمه، خاصة إذا تمكن المجتمع الدولي من تطوير أدواته وقام بتحويل نزع الشرعية من خطاب تحد فارغ لسياسيين لا يجيدون إلا لغة الخطابة، إلى آليات حقيقة يمكنها فرض إرادة المجتمع الدولي بآلياته الديمقراطية المتحضرة على أوهام الاستبداد السياسي.