دراسة نقدية " دلا لة "السفر" في ديوان" رأس المسا فـر" للشاعرسيف الرحبي"



بقلم الباحث: خا لد عبد اللطيف.


يعتبر الشاعر سيف الرحبي أحد رواد الشعر الحداثي بعمان،اذ استطاع عبر مساره الشعري أن يشكل مدرسة شعرية متميــزة ان صح التعبيرتـــتبنى قناعات واضحة ومفاهيم دقيقة لها ارتباط وثيق بالشعرية العــــربية المعاصرة في أبعادها التخيـــيلية للخطاب الشعري، وتجاوزا للمفاهيم التــــقليدية للشعـــر المنحصرة في التمركز حــــول الشكل الشعـري بالأساس( الوزن والقافية).
إن القارئ للأعمال الشعرية للشاعر سيف الرحبي سوف يكتـشف عمق تجربته الشعرية القوية
من خلال أعماله الشعرية التالية:
ـ نورسة الجنون(1981)
ـ الجبل الأخـــضر(1983)
ـ أجراس القطيع (1984)
ـ رأس المسافـــر(1986)
" مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور"
لقد حاول الرحبي الإنفلات من قبضة مؤسسات الدولة ووصايتها التي وعى اديولوجتها منذ وقت مبكر،خصوصا أن رواد الحداثة الشعرية العــــربية الحديثة بدأوا ينظرون لمسألة خـــلق مسافة بين السياسي والشعري.
يقول محمد بنيس " هـــناك شيئان لا بد من التميـــــيز بيــــنهما في ضبط علاقة الشعــــــــــري بالسياسي،لأن حقيقة السياسي تجلت في أكثر من مستوى،منها رؤيته للهـــيمنة،ومنها طريقته وموقفه من تسييرشؤون المؤسسة،أكانت الدولة أم مؤسسة حزبـــــية مضادة،ومنها تـــحديده للشعرووظيفته،ومنها الإنتماء السياسي للشاعر. ليست هذه المستويات هي وحدها الـــــضابطة لعلاقة الشعري بالسياسي،ولكنها الأكثرهيمنة في المجتمع العربي الحديث"(ص151) (1).
لقد كان سيف الرحبي واعيا تمام الوعي بالتحولات السوسيو- ثــــــقافية والسياسية والشعـرية التي مست العالم برمته،وأصبح تصوره للشعر يراهن على الإ نــفتاح على التجارب العالمية في

مجال التوحد حول الإنسان التراجيدي باعتباره جوهر الوجود،والتــشبت بالأسس المعـــــــرفية لا ختبارأسس الإبداع بشكل جلي وواقعي.

يقول سيف الرحبي في حوار أجرته جــــريدة أنوال الثقافي معه:"أنا أحب جدا التوحد الروحي مع الشخصيات التراجيدية في التاريخ البشري،وأعتبر أن الإبداعات الكبيرة في التاريخ صنعها أناس مأساويون في جوهرهم،بداهة لست منهم" أنا على قد حالي" لكنني أحبهم وهم معشري الحقيقيون في الزمكان" (ص16)(2)


تشكل المجموعة الشعرية"رأس المسافـــــر"(3) لسيف الرحبي " تــــتويجا شعريا متميزا بعد أعماله السابقة،"نورسة الجنون" و" الجبل الأخضر" وأجــــــراس القطيع"
فـــفي"رأس المسافر" تبلورت اللغة الشعـــــرية بشكل قوي وأصبحت أدوات الإشــــتغال عــند الشاعرأكثراستنفارا للخصوصية الشعرية بكـل مكوناتها،بحيث نرصد منذ بداية العمل الإ بداعي " رأس المسافر" إلى نهايته تكثــــيفا للصور الشعرية والإيــــقاعات المختــــــــــلفة التي تبرز انفجارالحداثة الشعرية لدى سيف الرحبي وتحكمه في تيمات القصائد الـــتي يـــزخربها الديوان
(28 قصيدة) لتشكل أفقا منسجما مع الدلالات الإ نسانية والكونية التي تعــــــتبر الإنسان جوهر الوجود من خلال اعتبار المعاناة هي الشكل الأكثر تعبيرا عن هـــــــذا الإنسان المـــــــــــنكوب.
وما يميز هذا الديوان هوانفلاته من كـــــل أشكال النمطية والتـــــقليدية في التعامل مع الظواهر المحسوسة،إلى محاولة بلورة رؤى متجددة للإنسان والكون والعالم،وهي رؤى تجد ضالتها في انفتاح الشاعر على قضايا متعددة أهمها أنه كان دائما على سفر،وفي كل يوم هوعلى موعد مع الرحيل.
"رأس المسافـــر" توهج شعري يسائل المأساة في الإنسان،ويفتح أبوابا مشرعة على تفاصيل الذات المعــــذبة،ونقل قهرها النفسي والسيكولوجي والوجودي والابستـــــــمولوجي وتحـــويله واستــــثماره الى قــــوة متــــمردة تأبى الظــــلم وتكره الإستــــــيلاب بكل أنـــــواعه وألـــوانه.
"رأس المسافر" علامة بارزة في الشعر الحداثي العماني المعاصر،تؤسس لمرحلة الإنتقال من الخصوصية المحلية والقطرية إلى العالمية والإنفتاح والتلاقح والتـــمازج من خلال موضوعات ذات أبعاد شمولية وكونية باعتبارها تجسد الإشارات الـــقوية لشعـر الحضارة والتمدن والتقنية والمتجذر في العــــــمق في تأصيل القــــــيم الإنسانية النبـــــيلة والفاضلة.
"رأس المسافــــــر" امتدادات شعـــرية مكثفة تمتح من التصوف والفلسفة والمنطق والتاريخ والسوسيولوجيا،وتــــ ـرصد المسافات والفجوات للذات المتـــــــنقلة من الأفق المغلق الى الأفق المفتوح على كل الإحتمالات والمتعــــــدد السمات والــــــــقسمات.
"رأس المسافر" تجربة مأساوية يتجاذبها قطبان:
ـ قطب الخير الذي يعتمد على المساءلة الحقيقية لمصير هذا لإنسان المهدد في كينونته وفي آدميته والذي يعيش اغترابا وغربة تصدعت لها مسام عروقه.
ـ قطب الشر الذي يرفض مساءلة الجلاد ومتابعته.
"رأس المسافـر" تعبر عن موقف شعري ووجودي،إنه أي الديوان يتنقل بين قطبي المساءلة وإعادة بناء الذات،فراهن التحدي الشعـري عند سيف الرحبي تتجاوب مع الإبدال الشعري في الحداثة العربية،فالديوان منذ البداية يحتــــفـل بقــــــضايا الإبداع الشعري المخــــتمر في بطن الزلزال،ويحتفل أيضا بتأسيس ديباجة للخروج من مآزقه الذاتية وتـــــفعيلها من خلال إمارات المواجهة والمجابهة مع هذا الواقع والتصدي له.
لقد أخلص" رأس المسافر" إلى اللغة الشعرية بكل مكوناتها،وانتشى بالإيقاع القوي والتركيب الدقيق والدلالة المعبرة والصورة الشعرية بكل ما تحمله مــــــن قـــوة الخيال والتخيل والتخييل تجاوزا للغة المحكية التي تحول الخطاب الشعري على ميتا لغة(لغة واصفة)،فــــــفاعلية الحدث السياسي في الديوان تبني خطابها الإديولوجي والديماغوجي لتؤثـــر على المسارالشعري الذي يود الإنفلات من قيود التسلط والوصاية والإحتــــواء والهيمنة والإندماج إلى طرح بدائل أخرى للغربة والإغتراب والمنفى والمعاناة،واستـــــك ناه آفاق جديدة تتـــــــــفاعل فيها الذات مع العالم الخارجي،وليصبح الجدارعلامة على التحول والإنفجاروالولادة الشرعية للـــــقصيدة المتميزة.
فالديوان تحكمه بنيتان:
1 ـ بنية الإنتظار: التي تهيمن على كل القصائد الشعرية في العـــــمل الإبداعي وتجعل منه ( أي الإنتظار) مشروعيا هلاميا لا يمكن التكهن بكل احتمالاته.
ف" تصور النص ليس مطلـــــــقا، إنه منشبك مع سلسلة برمتــــــها للبنيات الأخرى التاريخية – الثقافية والنفسية – المنطية الملازمة له (4)
فالمتن الشعري الرحبي (نسبة الى سيف الرحبي) يتجاوز النزعة التبسيطية والإخــتزالية لينهل من عمق المعجم الكوني.
يقول الشاعر:
تستيقظ آخرالليل
تلقي نظرة على الشارع الخالي،إلا
من أنفاس متقطعة تعبره(5) ص7

المدينة التي يقتلها الصمت،ولايعبر شوارعها غير قلة ممن عانوا من النكسة،سهرهم جزء من معاناتهم،وأنفاسهم المتقطعة الحزينة تسبح فـــي أجواء البؤس والضياع،وتتآكل أحلام العابرين عبر انتظارات مميتة في غــــرف جنائزية طـــــفحت بالهــــموم والمآسي ،وتوجت بكل تفاصيل العذابات اليومية للمنسيين والمستضعفين في الأرض.
الإستيقاظ آخر الليل يحتــــمل دلالة واحدة،انفجار الوعي الشقي في أدمغة طال انتظارها،وبكثرة مشاكلها اتسع الخرق على الراتق،وتحولت الفجوة المأمول في صحـــــتها إلى أوهام وهلوسات ضاعت معها آخرالأحلام.
المصابيح تتدافع بالمناكب،قادمة
من كهوف سحيقة
لا تحمل أي سر.
السماء مقفرة من النجوم
الجمال تقطع الصحراء باحثة
عن خيام العشيرة


القطارات تحلم بالمسافرين.
لا أحد......لا شيء.....
أغلق الستارة
فربما لا تحتمل
مشهد مدينة تستيقظ.(6) (ص8).
تشكل المصابيح توهج للضوء والإنارة،وفــــــضاء للإ نبهاروالإشــــــعاع، لكــــنها في القصيدة ولدت ميتة لا تحمل أي سر،ومع الإ نــطفاء يخبو الأمل والطموح،وتطفح إرهاصات الظلام الذي يحتفل بانهزام مصابيح لا تحمل معها أي جديد،وينضاف إلى هـذا المشهد الخامل،تجريد للسماء من نجومها التي ترصع الكون جمالا وحسنا" وزينا السماء الدنيا بمصابيح" (5)تحول الطبيعة بكل مكوناتها خصوصا السماء غير ذات معـــنى،ملفوظة كالنواة في غياب مصدر جمالها ومنبع جاذبيتها،ومصدر فتنتها.
لا المصابيح تضيء،ولا السماء تحتفـــظ بنجومها،ويقاس على هذا المعنى فقدان الحياة لنكهتها
وزوال قيمها بانتهاء وظيفتها الحقيقية الأصيلة.
يتعدد الضياع في القصيدة،وتتعدد معه الأسباب الجوهرية الدافعة إلى التــــشكيك في الإختلالات البيولوجية التي تجعل من الجمال تتيه عن خيام العشيرة ولاتعرف موطئ قدمها،وهـــي العارفة بأسرار الصحراء وبشعابها وكثبانها ونجودها وزوابعها.
بنية الإنتـــــظارتهيمن على قطارات تنتـــــظر مسافرين محتـــــملين،والنفي هو سيد الموقف،إذ لا أحد،ولا شيئ... ولامعنى...ولا توجس..كل شيء توقـــــف عن النبض،حتى لم يعد من الممكن احتمال النظر إلى مدينة فتنتها نائمة واللعنة على من أيقظها.
فإغلاق الستارة هوإغــــــلاق لكل السيناريوهات البشعة الـــتي لا يمكن التفكير في رؤيتها حتى ولوفي الخيال.
ثمة ما يؤذن با نفجاراللحظة
ثمة في الشارع امرأة تقطع القلب
بخطوة الغيب
ثمة قامة تشمر الساعد
عن خيا نتها الكبرى.
طوفان الشكوك يجثم على
الصدر.
وفي الليلة نفسها،
الليلة الملعونة هذه
يفتح الرأس أبوابه
مثل ثوريدفع عاصفة نحوهجرتها
الأبدية. (7) (ص10)
إن الإنفجار ممكن الحدوث،والضغط يولد الإنفجاركما قال ماركس،الأفكار الثورية،والذوات المتعـــــشقة للإنعتاق من الديكـــــتاتورية والبيـروقراطية وكل النزعات الشوفينية والنازية والعــــدمية،وكل أنماط الرجعية والظلامية والتبعية كلها مؤشرات على أن ما لا يحدث اليوم قد يحدث في الغــــد.

في هذا المقطع يتجسد مشهد امرأة ملوحة بكــل الاحتمالات،ترجم بالغيب،وتؤمن بالانفراج والفرج في زمن الأزمة والشدة والبقاء للأقــــوى طبعا.
زمن المرأة يتلوه زمن آخر هو زمن الخيانة،ولم يعــــد أحــــد يتحدث عـن الخيانات المادية الملموسة يمارس طقوسها الزوج في غياب الزوجة،وتمارس شعائرها الــــزوجة في غياب الزوج،بل أصبح الحديث عن خيانات كبرى رمزية،خيانة في الــمبادئ ،وخيانة في المواقف ووجهات النظر،وخيانات سياسية،وخيانة للذات،وخيانة للإلتزام والعهود.
الشك في كل مكان،الشك يقتحم على المرء خلوته،يهز عرش إيمانه،ويـــقلع إكليل الثقة من صدره،ضاق الشك بنا،وضقنا به،وضاق الشك من الضيق،ومن جراء لعبــته السرية،تنفرط حبات السبحة،ويشرع الرأس في مـــــمارسة البوح والكشف والاعـــــتراف بالتـــلميح تارة وبالتـــــصريح تارة أخرى ململما أحزانه وأحزان العـــــصر كله وجــــمعها في بؤرة واحدة لتسير نحو نهايتها الحتميةالابدبة كما تـــــفعل العاصفة مع الكائنات الـــضعيفة،لكن الشاعر هنا قلب المعادلة وجعل من الثور رمز قوة تدفع العاصفة نحومصيرها السرمدي.
منذ أن تمطى جثتي نعيق
السنوات
وحلق الطائر الشتوي
في عنقي
انبرت أحداث سنتي الأولى،
سنة ميلادي،
نحو زرقة الأبد
مثل شاحنة غرقت باحتمالاتها
في لجة.(ص13) (8).
كلــــــما توغــــــلنا في الديوان إلا وتـــــشكلت بنية الانتظار مرة أخرى على كل مقطع من مقاطعه،فالسنوات العجاف قد أثقلت بكلكلها على جثــــــث الشاعر،بإيـــــقاع دلالي يـؤكد أن الزمن الــــذي يعـــــيشه الشاعرزمن ينعــق فيه البوم والغراب،ولعل رمزية استعمال صوت الغراب في القصيدة باعتباره طائرا تشاءم منه العـــــرب منـذ عصر الجاهلية فهمنا لماذا تم توظيفه بهذا الشكل في قصيـــــــدة"بمناسبة العام الجديـــد"(ص13). (9)
النعيق في القصيدة ليس مجرد توظيف شعــــــري فـقط ،بل هوإحدى السمات البارزة الدالة على الخراب والدماروالنكسة والــــتشاؤم والهزيمة والإحباط وسوء الطالع ودلالة الـنحس.

النعيق مستوى آخر من مستويات الرجة التي أصابت الشاعر وحولته من حالة التوهج إلى حالة الانطفاء والنكوص.
والطائر الشتوي لا يحمل في دلا لته غير برودة الصقيع،وصمت الأحياء،خصوصا إذا علمنا أن الشتاء فصل حزين للذين يحملون بداخــــلهم تـــلك الأسئلة المقلقة/ المستفزة/ الغاضبة/ الفــــــلسفية/ الوجودية حول الإنسان والــــــــكون والطبــــــــيعة.
على عـــنق الشاعر تــــبدأ حكاية الـــتعب الوجودي،والطائر الشتوي يلازم الشاعر،ومن تم لنقرأ الآية الكريمة" وكل ألزمناه طائره في عنقه"(10)
تتجسد الكيــــنونة البشرية من خلال الفعل ود الفعل،فأحداث سنة الميلاد دائما تمثل بالنسبة إلينا تلك الحالة الــــوجودية التي تــــــحدث عــــنها شاعـــــر قائلا:
عدت يا يوم مولدي * عدت يا أيها الشقي.
الا حتمالات الموجودة في الرأس لا تعادلها احتمالات أخرى في الثقل، أعني ثقل المسؤولية وتبعاتها،،ثقل السنوات التي يرزح المعـــذبون فكريا على تــــجرع مرارتها بألم وقـــــسوة لا تعادلها قسوة.
" من التفاتة ذئب ،أرى في ضحكته
هجرة الأسلاف،انفجرت هذه

الطرق التي لاينام فيها المسافرإلا


ورأسه مسنود إلى معضلة
وربما يحلم بعد كأس النبيذ أنه
راحل غدا.(ص14) (11).
من قـــصيدة إلى أخرى في الديوان"رأس الـــمسافر"يــــزداد حجم الألم،وتزداد الرغبة في الرحيل إلى أماكن أخرى بعيدة وشطآن ومرافئ مليئة بأنــــواع أخرى مــــن البشر بعاداتهم وتـــــقاليدهم وثقافتهم وأزيائهم،ومن وسط هذا الصخب الممتزج يخرج الذئب وفي ضحكته شماتة عن الأجــــــداد الذين هاجروا دون أن يـــتركوا دليلا على هجرتهم وغربتهم الأبدية.
ضحكة الذئب تنذر باجتـــثات الأصول من تربتها الطاهرة،وباقتــــلاع أخـــر قلاع الفروسية العـــــربية من جذورها الطيبة.
ضحكة الذئب التي تحــــمل بداخلها كل سمات الافتراس والغدر والكراهية والخبث والتشفي
والنذالة في أقصى مستوياتها.
الهجرة والسفر يحملان مدلولا واحدا للتغيير والتبديل والبحث عـــن البديل،فالمسافريــــ ود الإ قــتراب من المعرفة الهاربة المتملصة من عـــــنفوان السؤال،تحتمي وراء سماق اللوح من رنين الحروف المتوهجة ونداءات النــــساك الملــــــتهبة،وجع الــسؤال الذي يهد ذاكرة المسافر ألف مرة،ويجعل في أوصاله غـــــــصة لا تمحيها رحلة الصيف والشتاء،فوراء كل سفرحكاية تتناسل وتتكاثر كخلايا سرطانية،تتمدد في الزمكان،وتـــــزداد معها جرعات الألم والدوار.
راس المسافرموعود بالرحلة الأبدية بين دول العالم يجـــوب شوارعها وقلاعها وينحت في كل محطة تماثيلا للذكرى والتذكر،وفي كل مرفأ يكتب قصائد عن الزمن الهارب الــذي ضاع في معترك الحضارات.
في المرايا التي تحملني دائما
إلى البعيد
وعبر مرايا قفار أفقية،نزقة
لا أكاد أتعرف
على وجهي الذي
خمشته طيور الهجرة.
لكني حين أنزع قفازات الرؤية
عن حدقة الظلام.
وفي الأنفاق السحيقة
للألم الإنساني،
أتجشم المسيرثانية
لعلي أرى ما لا تراه عين الصوفي


أوالسندباد. (ص36 ـ 37 ) (12)
يظل السفر صفة ملازمة للشاعر عبر القطارات التي تتجه نحو البعيد،وعبر المسافات تنشط المخيلة،وتتجدد المواجع، وتهب الآلام من هجعتما وسباتها متذكرة متسائلة عما كان وعما سيكون ،كاشفة لكود شفرتها لكل من اكتوى بمدارات الحزن والألم من جراء السفر.

من كثرة السفرومتاعبه،ومن كثــــــرة الدوار،تــــتحول سحنة المسافر،وتتغير ملامحه التي ساهمت في تغييرها طيور الهجرة.
سفرالـــشاعرمستمر،إن ه بحث عــــن مشاعـــر الألم الدفــــينة عند الإنسان،إنه رحلة كشف ومكاشــــفة وتجاوزا لنظــــرة الصوفي ،فالأمر ليس معــرفة بالقـــــلب كما يدعـــو الى ذلك المتصوفة بل هي معرفة شمولية لحقــــــيقة من يسافر،ولماذا يسافر؟
رحلة الشاعر/ المسافر لا تشبه رحلة السندباد البحري أوالبري بحثا عـــــن التجارة والربح أو ركوب الأهوال،بل هــــــي رحلة لها أسبابها ودوافعــــــها للــــموضوعية والــــــــذاتية.

السفر عند الشاعر موقف وليس سياحة،رؤيا للكون وليس مجرد رؤية محدودة في الزمان والمكان،السفر توحد باللامتناهي .
فالإيقاع الشعري المتــــداول في قـــصيدة" مرايا القفار" يـــتسم بالحزن والألم،فــــــــكلمة "القفار" تحمل دلالة صريحة وواضحة لكل معاني( التــــــصحرـ العزلة ـ الوحشة ـ الخوف ـ الفيا في ـ الصحراء ـ القحط ـ الجفاف ـ المتاهة ـ ......الخ).
إن الإيقاع الدلالي في القصيدة منسجم ومتـناغم مع الإيقاع التركيــــبي الذي يعـــــتمد جملا إسمية متوازية مع الجمل الفعلية ليشكلا إيقاعا مزدوجا.
يقــول هنري ميــشونيك" تترسخ شعرية الإيقاع في الرؤية إلى النص كإنتاج لإيقاع الذات الكاتبة،بما هومتعدد ولا نهائي،يستعصي على الاختزال إلى ثنائية الدليل.....إن شعرية الإيقاع تظل مفتوحة على الدوام،لأنها مفتوحة على تاريخانية اللغة،والأدب،والنظري ة" (ص84 .(13)
المسافر الحقيقي لايتوقف عن السفر،هوفي كل مرة موعود بالسفر،وموعود بالهجرة الابدية التي تنادي روحه في كل مرة ودون سابق إعلان أو إنذار.
السفرعند الشاعرجزء من الذات من هروبها المتواصل نحو
سأنام وأترك كل شيء للريح
النابحة أمام بابي.
سأترك القلم والسجائر والمنفضة
الملآى بفيالق المغول وهم
يغتصبون السبايا في
مدن الذاكره.
سأنام وأترك كل شيء للريح. (ص 46 ) (14)
هل هي استراحة المحارب من سفر طويل؟ هل هي لحظة المصالحة مع الذات بعد عشرات السنين من الضياع والا غتراب؟هل هي طفرة الحنين إلى الوطن بعد غياب طويل؟

تعب المسافر من السفر،وقرر ترك القلم والسجائروالمنفضة بعد مجيء المغول،هم أكثر عدة وعدد وهووحده أعزل،أنهكته القطارات والسفن والطائرات،هو سينام ولكن..........
" رأســــــــــــــه مسنود إإلى معضلة" (ص14) (15).
التجربة الشعرية الحداثية للشاعر سيــــــف الرحبي في "رأس المسافر" تسافــــر عبر تخوم
اللا متناهي،وتنشد رؤيا شعرية متكاملة لها مايــــــبررها،لها مواقفها وإبدالاتها في عالم متغير تكاد تكون فيه الاستمرارية مغامرة في عالم متحول يشق طريــــــــقه بعلوم الإ تصال والتقنيات الحديثة،
وتتنافر بداخله موجات الصعود الإلكتروني لتقتل حضارة القيم ورموز الإبداع.
على كل يظل القلق سيد الموقف،وبدونه لن يكون هناك حرص على تجاوز الكائنات الطحلبية التي سماها الشاعرسيف الرحبي في إحدى قصائده ب" المسخ".
سأختم هذه الدراسة بقولة لسيف الرحبي يتحدث عن "رأس المسافر" يقول فيها" في "رأس المسافر" كتبت" لقد تعب الحائط من السفر" لكن ها أنا أجد نفسي في غمرة أسفارجديدة وبلدان جديدة هي الأخرى،ويبدو من الصعب الإقلاع عن هذا الإدمان القاتل السعيد،ولذلك تجد في كتابتي أن الغياب والمستبد(بكسرالباء) وأن الناس والأشياء دائما في رحيل مستمر"(16)

*الهوامش:


(1) ـ محمد بنيس" الشعر العربي الحديث" الجزء الرابع" ـ مساءلة الحداثة ـ دار توبقال للنشرط1 1991. ص 151.

(2) ـ جريدة" أنوال الثقافي" حوار مع الشاعرالعماني سيف الرحبي" السبت 14 فبراير1987 العدد 359 ص 16.


(3) ـ سيف الرحبي"رأس المسافر" دار توبقال للنشر" ط1 1986.
- louri lotman « la structure du ****e artistique op.cit .p390 (4).
(5) ـ سيف الرحبي"رأس المسافر" دار توبقال للنشر" ط1 1986.
(6) ـ نفسه (ص8).
(7) نفسه(ص10).8)
(8) نفسه(ص13).
(9) نفسه (ص13)
(10) سورة الاسراء الآية.
(11) ـ سيف الرحبي"رأس المسافر" دار توبقال للنشر" ط1 1986.(ص14).
(12) ـ نفسه( ص36 ـ37).
- henri Meschonnic.critique du rythme.op.cit.p715. (13)
(14) ـ سيف الرحبي"رأس المسافر" دار توبقال للنشر" ط1 1986 (ص 46).
(15) ـ نفسه (ص14).
(16) ـ جريدة" أنوال الثقافي" حوار مع الشاعرالعماني سيف الرحبي" السبت 14 فبراير1987 العدد 359 ص 16 .