مانديلا وديكليرك
اذهبوا فأنتم الطلقاء

لا أعرف رجلاً في العصر الحديث طبق قاعدة اذهبوا فأنتم الطلقاء أكثر من نلسون مانديلا، ولو أن مرسي فعلها واستخدم صلاحياته في العفو الرئاسي وقال لمبارك اذهبوا فأنتم الطلقاء لكان شكل مصر، وشكل سوريا ايضاً مختلفاً بشكل تام.
ديكليرك آخر حكام الأبارتيد العتاة، وهو سجَّان مانديلا الأخير، وعليه قامت ثورة الشعب الأفريقي الغاضب، وهو المسؤول عن دماء المئات من السود الذين خاضوا كفاحهم للخلاص من الأبارتيد الذي حكم جنوب أفريقيا أكثر من ثلاثمائة عام بقبضة من حديد وكرس استعلاء الأبيض على الأسود.
في غمرة نضاله ضد الأبارتيد وقع مانديلا في الأسر عام 1964 افلت مانديلا ورفاقه من احكام بالإعدام لكن حكم عليهم بالسجن مدى الحياة وارسلوا الى سجن روبن آيلاند الواقع على جزيرة قبالة سواحل مدينة الكاب. وقد امضى عقوبته هذه كسجين يحمل الرقم 46664 إلى 11 فبراير 1990 حيث تم الافراج عنه.
حين خرج مانديلا من سجنه بعد ستة وعشرين عاما من الاعتقال تحت ضغط ثورة شعبية سلمية هائلة، أجبرت العالم أن يصغي إليها وأحبرت أمريكا وربيبتها إسرائيل على نفض أيديهما من دعم نظام الأبارتيد وتسليمه لنفس القدر الذي دفع إليه الشاه البائس الشريد في الأرض.
واصطف ملايين الأحرار وراء مانديلا، والتهبت بالهتاف الهادر شوارع جوهانسبورغ وكيب تاون وليسوتو، وقال المظلومون في العالم جاء نصر الله والفتح، واليوم يوم الملحمة، اليوم يذل الله الظالمين وينصر المظلومين.. وقال زعماء العالم لقد جاء نبي أفريقيا، واقتربت الساعة وانشق القمر، وأصبح كل شيء في العالم يهتف للرجل السبعيني الأسمر صاحب البسمة الصادقة والشعر الأبيض.
ودقت طبول العدالة، ونشر السود آلاف الأشرطة الموثقة عن التعذيب والقهر الذي مارسه البيض ضد السود، ومشاهد السجون والمعتقلات والتعذيب، وكانت لديهم أسماء الشبيحة الذين مارسوا القهر والتعذيب، وكان لدى البيض بعض اشرطة مماثلة من العنف لمندسين سود، يدخرونها للدفاع عن أنفسهم ساعة الحساب، حينما يحين وقت الوقوف أمام العدالة.
أما نلسون مانديلا فكان له شغل آخر، قلم يكن لديه الوقت ليشاهد هذه الأشرطة اللعينة، وكان يعلم كل ما فيها وقد عاين ذلك سنين طويله في قهره وسجنه، وكان يعلم أن الغضب الذي يغلي به السود على البيض كفيل بأن يستأصل شأفتهم ويعود بهم إلى أوربا التي جاؤوا منها قبل ثلاثة قرون مستعمرين غزاة، بعد أن جرفوا في طريقهم ملايين الحزانى والثكالى والأرامل من السود، وبكاء العذارى وأنين السنين، وكان يعلم أن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم، وكان يعرف جيداً الأسماء الثلاثية لسجانيه العتاة الذين كانوا يهزؤون بحكمته وفلسفته في ظلمة السحن، ويتبادلون النكات الرخيصة أمام الكيم الكبير، وكم كا نيؤلمه أن كثيراً من هؤلاء السجانين كانوا أيضاً سوداً يعملون ارتزاقاً وارتهانانً لمصلحة البيض وأموالهم السحت الحرام.
ولكنه بدلاً من أن يفتح ملف الانتقام فتح ملف البناء والمصالحة، ولم تفلح كل تلك الأشرطة الرهيبة المسربة من زنازين الموت في مسح ملامح بسمته البريئة التي ظل يطبعها على شفتيه، وهو يتطلع الى المستقبل، ونظر في أكبر ملف أعد لمنصة العدالة عن فظائع ديليرك، ليختار من هناك اسم شريكه في الكفاح والبناء لوطنه الكبير، وفاجأ العالم باختياره سجانه وخصمه ديكليرك ليكون نائباً لرئيس الجمهورية في أول حكومة ديمقراطية تعرفها جنوب أفريقيا!!!
كان اختياراً صادماً!! خاصة لأولئك الذين كانوا يهتفون للنقاء الثوري، ويطالبون بمحاكمة الفلول ومطاردتهم، وفتح محاكم الثورة واستئصال العقل الأبارتيدي، ومحاربة الجينات الاستعمارية البيضاء المسكونة بالامبريالية العالمية والمتآمرة على الوطن.....
وفي خطوة مفاجئة قام بزيارة أوريانا معقل الشبيحة الأشد قسوة ضد نضاله، للقاء أرملة منشئ القوانين الأشد تعصباً ضد السود، ولم يكن يسمح للسود أبداً بزيارة معقل البوير في أريانا حيث العرق الأبيض الهولندي هناك يعيش بيوريتانية رهيبة صارمة.
ولكن مانديلا أطلق لجنة الحقيقة والمصالحة وكان يكتفي من الفريق الرهيب الذي مارس العنف والقهر والقتال بالاعتراف أمام الناس حتى تسقظ الأحكام الموجهة إليه، وتولى هذه المسؤولية القس ديزموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام وشعاره لا مستقبل من دون مغفرة، ولكن من دون الاعترافات، فلا يمكن أن تكون هناك مغفرة، وكانت اللجنة تجمع وثائق العدالة ولكنها كانت تشجع المذنبين على الاعتراف مقابل إسقاط الادعاء، وقد فعل ذلك الوزير المخضرم أدريان فلوك أقسى الجنرالات الذين مارسوا الاضطهاد العنصري، وبعد اعترافه استقبله مانديلا، وكذلك طبيب الموت فوتر باسون الذي ينسب إليه مقتل عشرات الآلاف من السود، وقد أثار هذا العفو غضب فريق مانديلا في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذين راوا ذلك إفراطاً في السلمية ومبالغة في منطق اللاعنف، في حين رفض الرئيس السابق بوتا أن يعترف أمام اللجنة، رغم أن عهده في الثمانينات كان الأقسى في ممارسات الأبارتيد، ومع ذلك فإن مانديلا كان دوما يفتح نافذة جديدة للغفران.
وكان لدى مانديلا سلاح هام استخدمه بذكاء وهو الأشرطة المسجلة لكثير من أنصاره الذين مارسوا العنف الثوري، وكان يذكرهم بأن العدالة لا يجوز أن تكون عوراء، والظلم لا يبرر الظلم، وفي خطوة ذات دلالة تمكن من حشد التأييد لمشروعه في إلغاء عقوبة الإعدام.
في غمرات نجاحاته لم يكن يجهل صيحات ناقديه الذين اتهموه بالتفريط بتضحيات الشهداء وخيانة دمائهم، والتهاون الذي سيؤدي إلى عودة الظلم من جديد، ولكن الرجل كان يقرأ نهر التاريخ في غمار تدفقه من عل، ومضيه إلى غاياته وفق سننه الصارمة بعيداً عن رغائب الصخور العاتية.
لا أدري إذا كان يعلم هذه العبارة اذهبوا فأنتم الطلقاء فقد كان الرجل على صلة بقيم الإسلام في الحرية وقد ألقى كلمة شهيرة في أكسفورد بعنوان الإسلام وتحرير الرقيق، وفي جنوب أفريقيا جالية إسلامية قوية ومحترمة، ولا شك أنه عرف عنها الكثير.
عبارة اذهبوا فأنتم الطلقاء نرويها عادة في معرض الحديث عن الأخلاق العظيمة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك فهي أخلاق النبوة ولكنها من وجهة نظري تحمل أبعاداً ثلاثة دينيا وسياسيا وحقوقياً.
فالموقف الديني في العفو والغفران أصل في الشريعة ولا يجهله أحد، وقد ظهرت في عبارته أخلاق النبوة دون شك، ولكن العبارة أيضاً تشتمل على دهاء سياسي كبير، فقد أدرك الرسول الكريم أن خصومه الذين يواجههم ليسوا مقطوعين من شجرة وأنهم لا زالوا يملكون قدرة على التأثير والتكدير في أمن الدولة واستقرارها وإن عدم تطمينهم يعني تلقائياً بقاء الجمر تحت الرمد، وهو موقف خطير ينذر دوماً بأخطر العواقب.
ومن جانب ثالث فإن الكلمة أيضاً لها بعد حقوقي وقضائي، فقد كان المشهد مشهد ثورة، وكان على الثورة أن تحاكم الناس بعدالة، ومن غير المعقول أن يحكم بالقانون الجزائي بأثر رجعي، فالناس لم تخضع لهذا القنون إلا الليلة، ومن الظلم أن تتم مساءلتهم عن ارتكابات تمت قبل صدور هذا القانون، وبقدر ما كنت تراهم مجرمين في قتل حمزة ومصعب وياسر فقد كانوا يرونك مجرماً في قتل الوليد وأبي الحكم وعتبة وشيبة!!
إن التحولات التاريخية تحتاج لقراءة واضحة من الغفران والمصالحة والإعذار، وتحتاج لقلوب كبيرة تدرك معنى التحولات التاريخية وتبرئها من الثار والاستئصال والانتقام.
إنها كلمة رسول الله: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولكنني أزعم أن الثورات العربية والإسلامية قاطبة فشلت في تطبيق هذه القاعدة، وغلب عليها الثأر والاستئصال وهو الذي أكد للفريق الحاكم قناعته أن لا خيار له إلا الكرسي أو القبر، في حين نجح في تطبيقها النمر الأفريقي الأسمر الذي يحتفي العالم اليوم بوداعه، وهو يدهش العالم: قائد ثورة ليس له أعداء... يودعه العالم كله بالمدامع الحرى الصادقة.
See Translation
‎مقالي الجديد....
..
مانديلا وديكليرك
اذهبوا فأنتم الطلقاء

لا أعرف رجلاً في العصر الحديث طبق قاعدة اذهبوا فأنتم الطلقاء أكثر من نلسون مانديلا، ولو أن مرسي فعلها واستخدم صلاحياته في العفو الرئاسي وقال لمبارك اذهبوا فأنتم الطلقاء لكان شكل مصر، وشكل سوريا ايضاً مختلفاً بشكل تام.
ديكليرك آخر حكام الأبارتيد العتاة، وهو سجَّان مانديلا الأخير، وعليه قامت ثورة الشعب الأفريقي الغاضب، وهو المسؤول عن دماء المئات من السود الذين خاضوا كفاحهم للخلاص من الأبارتيد الذي حكم جنوب أفريقيا أكثر من ثلاثمائة عام بقبضة من حديد وكرس استعلاء الأبيض على الأسود.
في غمرة نضاله ضد الأبارتيد وقع مانديلا في الأسر عام 1964 افلت مانديلا ورفاقه من احكام بالإعدام لكن حكم عليهم بالسجن مدى الحياة وارسلوا الى سجن روبن آيلاند الواقع على جزيرة قبالة سواحل مدينة الكاب. وقد امضى عقوبته هذه كسجين يحمل الرقم 46664 إلى 11 فبراير 1990 حيث تم الافراج عنه.
حين خرج مانديلا من سجنه بعد ستة وعشرين عاما من الاعتقال تحت ضغط ثورة شعبية سلمية هائلة، أجبرت العالم أن يصغي إليها وأحبرت أمريكا وربيبتها إسرائيل على نفض أيديهما من دعم نظام الأبارتيد وتسليمه لنفس القدر الذي دفع إليه الشاه البائس الشريد في الأرض.
واصطف ملايين الأحرار وراء مانديلا، والتهبت بالهتاف الهادر شوارع جوهانسبورغ وكيب تاون وليسوتو، وقال المظلومون في العالم جاء نصر الله والفتح، واليوم يوم الملحمة، اليوم يذل الله الظالمين وينصر المظلومين.. وقال زعماء العالم لقد جاء نبي أفريقيا، واقتربت الساعة وانشق القمر، وأصبح كل شيء في العالم يهتف للرجل السبعيني الأسمر صاحب البسمة الصادقة والشعر الأبيض.
ودقت طبول العدالة، ونشر السود آلاف الأشرطة الموثقة عن التعذيب والقهر الذي مارسه البيض ضد السود، ومشاهد السجون والمعتقلات والتعذيب، وكانت لديهم أسماء الشبيحة الذين مارسوا القهر والتعذيب، وكان لدى البيض بعض اشرطة مماثلة من العنف لمندسين سود، يدخرونها للدفاع عن أنفسهم ساعة الحساب، حينما يحين وقت الوقوف أمام العدالة.
أما نلسون مانديلا فكان له شغل آخر، قلم يكن لديه الوقت ليشاهد هذه الأشرطة اللعينة، وكان يعلم كل ما فيها وقد عاين ذلك سنين طويله في قهره وسجنه، وكان يعلم أن الغضب الذي يغلي به السود على البيض كفيل بأن يستأصل شأفتهم ويعود بهم إلى أوربا التي جاؤوا منها قبل ثلاثة قرون مستعمرين غزاة، بعد أن جرفوا في طريقهم ملايين الحزانى والثكالى والأرامل من السود، وبكاء العذارى وأنين السنين، وكان يعلم أن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم، وكان يعرف جيداً الأسماء الثلاثية لسجانيه العتاة الذين كانوا يهزؤون بحكمته وفلسفته في ظلمة السحن، ويتبادلون النكات الرخيصة أمام الكيم الكبير، وكم كا نيؤلمه أن كثيراً من هؤلاء السجانين كانوا أيضاً سوداً يعملون ارتزاقاً وارتهانانً لمصلحة البيض وأموالهم السحت الحرام.
ولكنه بدلاً من أن يفتح ملف الانتقام فتح ملف البناء والمصالحة، ولم تفلح كل تلك الأشرطة الرهيبة المسربة من زنازين الموت في مسح ملامح بسمته البريئة التي ظل يطبعها على شفتيه، وهو يتطلع الى المستقبل، ونظر في أكبر ملف أعد لمنصة العدالة عن فظائع ديليرك، ليختار من هناك اسم شريكه في الكفاح والبناء لوطنه الكبير، وفاجأ العالم باختياره سجانه وخصمه ديكليرك ليكون نائباً لرئيس الجمهورية في أول حكومة ديمقراطية تعرفها جنوب أفريقيا!!!
كان اختياراً صادماً!! خاصة لأولئك الذين كانوا يهتفون للنقاء الثوري، ويطالبون بمحاكمة الفلول ومطاردتهم، وفتح محاكم الثورة واستئصال العقل الأبارتيدي، ومحاربة الجينات الاستعمارية البيضاء المسكونة بالامبريالية العالمية والمتآمرة على الوطن.....
وفي خطوة مفاجئة قام بزيارة أوريانا معقل الشبيحة الأشد قسوة ضد نضاله، للقاء أرملة منشئ القوانين الأشد تعصباً ضد السود، ولم يكن يسمح للسود أبداً بزيارة معقل البوير في أريانا حيث العرق الأبيض الهولندي هناك يعيش بيوريتانية رهيبة صارمة.
ولكن مانديلا أطلق لجنة الحقيقة والمصالحة وكان يكتفي من الفريق الرهيب الذي مارس العنف والقهر والقتال بالاعتراف أمام الناس حتى تسقظ الأحكام الموجهة إليه، وتولى هذه المسؤولية القس ديزموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام وشعاره لا مستقبل من دون مغفرة، ولكن من دون الاعترافات، فلا يمكن أن تكون هناك مغفرة، وكانت اللجنة تجمع وثائق العدالة ولكنها كانت تشجع المذنبين على الاعتراف مقابل إسقاط الادعاء، وقد فعل ذلك الوزير المخضرم أدريان فلوك أقسى الجنرالات الذين مارسوا الاضطهاد العنصري، وبعد اعترافه استقبله مانديلا، وكذلك طبيب الموت فوتر باسون الذي ينسب إليه مقتل عشرات الآلاف من السود، وقد أثار هذا العفو غضب فريق مانديلا في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذين راوا ذلك إفراطاً في السلمية ومبالغة في منطق اللاعنف، في حين رفض الرئيس السابق بوتا أن يعترف أمام اللجنة، رغم أن عهده في الثمانينات كان الأقسى في ممارسات الأبارتيد، ومع ذلك فإن مانديلا كان دوما يفتح نافذة جديدة للغفران.
وكان لدى مانديلا سلاح هام استخدمه بذكاء وهو الأشرطة المسجلة لكثير من أنصاره الذين مارسوا العنف الثوري، وكان يذكرهم بأن العدالة لا يجوز أن تكون عوراء، والظلم لا يبرر الظلم، وفي خطوة ذات دلالة تمكن من حشد التأييد لمشروعه في إلغاء عقوبة الإعدام.
في غمرات نجاحاته لم يكن يجهل صيحات ناقديه الذين اتهموه بالتفريط بتضحيات الشهداء وخيانة دمائهم، والتهاون الذي سيؤدي إلى عودة الظلم من جديد، ولكن الرجل كان يقرأ نهر التاريخ في غمار تدفقه من عل، ومضيه إلى غاياته وفق سننه الصارمة بعيداً عن رغائب الصخور العاتية.
لا أدري إذا كان يعلم هذه العبارة اذهبوا فأنتم الطلقاء فقد كان الرجل على صلة بقيم الإسلام في الحرية وقد ألقى كلمة شهيرة في أكسفورد بعنوان الإسلام وتحرير الرقيق، وفي جنوب أفريقيا جالية إسلامية قوية ومحترمة، ولا شك أنه عرف عنها الكثير.
عبارة اذهبوا فأنتم الطلقاء نرويها عادة في معرض الحديث عن الأخلاق العظيمة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك فهي أخلاق النبوة ولكنها من وجهة نظري تحمل أبعاداً ثلاثة دينيا وسياسيا وحقوقياً.
فالموقف الديني في العفو والغفران أصل في الشريعة ولا يجهله أحد، وقد ظهرت في عبارته أخلاق النبوة دون شك، ولكن العبارة أيضاً تشتمل على دهاء سياسي كبير، فقد أدرك الرسول الكريم أن خصومه الذين يواجههم ليسوا مقطوعين من شجرة وأنهم لا زالوا يملكون قدرة على التأثير والتكدير في أمن الدولة واستقرارها وإن عدم تطمينهم يعني تلقائياً بقاء الجمر تحت الرمد، وهو موقف خطير ينذر دوماً بأخطر العواقب.
ومن جانب ثالث فإن الكلمة أيضاً لها بعد حقوقي وقضائي، فقد كان المشهد مشهد ثورة، وكان على الثورة أن تحاكم الناس بعدالة، ومن غير المعقول أن يحكم بالقانون الجزائي بأثر رجعي، فالناس لم تخضع لهذا القنون إلا الليلة، ومن الظلم أن تتم مساءلتهم عن ارتكابات تمت قبل صدور هذا القانون، وبقدر ما كنت تراهم مجرمين في قتل حمزة ومصعب وياسر فقد كانوا يرونك مجرماً في قتل الوليد وأبي الحكم وعتبة وشيبة!!
إن التحولات التاريخية تحتاج لقراءة واضحة من الغفران والمصالحة والإعذار، وتحتاج لقلوب كبيرة تدرك معنى التحولات التاريخية وتبرئها من الثار والاستئصال والانتقام.
إنها كلمة رسول الله: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولكنني أزعم أن الثورات العربية والإسلامية قاطبة فشلت في تطبيق هذه القاعدة، وغلب عليها الثأر والاستئصال وهو الذي أكد للفريق الحاكم قناعته أن لا خيار له إلا الكرسي أو القبر، في حين نجح في تطبيقها النمر الأفريقي الأسمر الذي يحتفي العالم اليوم بوداعه، وهو يدهش العالم: قائد ثورة ليس له أعداء... يودعه العالم كله بالمدامع الحرى الصادقة.‎