- الصهيونية والعولمة وآثارها



* ومن جهة أخرى نجد للعولمة أصولا عقائدية يهودية غير نصرانية ارتبطت بها على المستوى الاقتصادي والثقافي والسياسي والاجتماعي، تؤثر هذه الأصول العقائدية في توجّه العولمة بصفة مباشرة وبصفة غير مباشرة، من خلال ما تقوم به العديد من الحركات والتيارات الدينية اليهودية، وكذلك الأحزاب السياسية وعدد من الحاخامات في إسرائيل وفي الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها، من نشاطات مختلفة في السر والعلن مستعملة وسائل الإعلام المختلفة والاقتصاد والسياسة والمال والأعمال ووسائل أخرى غير مشروعة مثل المتاجرة بأعضاء البشر وغيرها كثير، نشاطاتها تستهدف بالدرجة الأولى فرض نمط فكري وثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي وحتى عقائدي واحد، يتميّز باحترامه المطلق للديانة اليهودية وتفضيلها على غيرها من الديانات الأخرى، واحترام الشعب اليهودي وتفضيله عن غيره من الشعوب الأخرى، لأن الله اختاره من بين شعوب الإنسانية والتاريخ وقدّمه في درجة التفضيل فهو شعب الله المختار، وهي فكرة ثابتة ومبدأ لا يقبل المناقشة، واحترام دولة إسرائيل وأراضي إسرائيل، فهي هدية إلهية كرّم الله بها الشعب اليهودي، الذي كثيرا ما عانى من التشتت والتمزق والفرقة بسبب مكر الأعداء وظلمهم، وفكرة تفضيل اليهود عن غيرهم وحرصهم الدائم على التقليل من قيمة الشعوب الأخرى ومن أهمية دياناتها وثقافاتها وردّ كل الثقافات والديانات التي فيها التنوير والإشراق والقوّة إلى مصادر وأصول يهودية ليست جديدة بل تحدّث عنها القرآن بإسهاب وفي أكثر من سورة، وعرفها التاريخ منذ القديم، لقد تصدّى اليهود ووقفوا في وجه الأنبياء وفي وجه رسالاتهم فقتلوا الأنبياء وألحقوا بهم كل أنواع الأذى والظلم، كما جحدوا على الحضارات والثقافات التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل أصالتها وخصوصياتها وقوتّها، فالثقافات والديانات الشرقية القديمة ذات مصادر يهودية عبرانية، والتراث الفكري والعلمي والفلسفي اليوناني من أصول يهودية، وحضارة الإسلام مدينة للديانة اليهودية وللفكر اليهودي السابق على كل نهضة في الشرق أو في الغرب أو في غيرهما، وكذلك الأمر مع الحضارة الحديثة والمعاصرة، فهي مدينة لإسهامات اليهود فكريا ودينيا واقتصاديا وماليا في النهضة الأوربية الحديثة، وفي الانفجار العلمي والتكنولوجي، وفي الثورة الصناعية، وفي التأسيس لليبرالية وللحداثة، وفي التأصيل للحرية والديمقراطية والتعددية، إذ تحوّلت أوربا وغربها عموما والولايات المتحدة الأمريكية إلى قوة كبرى تقود العالم، ومن وراء هذا كله اليهود والديانة اليهودية والثقافة اليهودية، الأمر الذي ينبغي أن تستوعبه شعوب الدنيا وتقبل اليهود وفكرهم وسياستهم وكل مخططاتهم في إسرائيل وخارج إسرائيل، وهو شكل من أشكال التسلط المُمارسة الذي تمارسه دول المركز، وإرادة فرض الهيمنة وبسط النفوذ في العالم، ولماّ صارت دولة إسرائيل تنال من الحظوة ومن الدعم ومن المساعدة من قبل القوى العظمى المهيمنة على العالم ما لا تناله أيّة دولة في العالم وذلك لأسباب عديدة إيديولوجية وسياسية واقتصادية ومن وراءها عوامل دينية، ولأنّها الشريك والحليف الأول الذي يحفظ مصالح دول المركز في المنطقة، ومنه صارت إسرائيل تتصرف كأي دولة من دول المركز، لا تعنيها سوى مصالحها، وتضرب بقوة أيّة معارضة من أيّة جهة، كما صارت تصدر العولمة وتفرضها.



* ترتبط العولمة بمخططات الصهيونية العالمية وبممارساتها السرية والعلنية، وبالكيان الصهيوني وما يبديه تجاه العالم بصفة عامة وتجاه العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وبما يُعرف بالمسألة اليهودية في العصرين الحديث والمعاصر، إذ انصب الاهتمام بأوضاع اليهود في الغرب بالدرجة الأولى وفي غيره، وطرحت قضية وجودهم واضطهادهم على مستوى الفكر الغربي، وتعالت صيحات المفكرين الغربيين للكف عن اضطهادهم وضرورة تحريرهم، ففي الفكر الليبرالي الألماني يكون تحريرهم عن طريق الوحدة القومية والفكر الإيديولوجي الألماني وعن طريق الحرية والانتماء للجماعة، وفي الفكر الماركسي الاشتراكي الشيوعي يكون تحرير اليهود من خلال تحرير جميع المضطهدين في العالم، فالحرية والتحرر ملك للجميع وليس لليهود وحدهم، ولا يكون ذلك إلاّ بالقضاء على البرجوازية ولم شمل المقهورين في العالم، والقضاء على كل صنوف الاستغلال، أما الفكر الفلسفي الوجودي فمن جهته يسعى إلى الغاية ذاتها، ليس من خلال الأنا اليهودي أو الذات الصهيونية أو الأنية المتصهينة بل بواسطة الآخر، لأن اليهود هم يهود من منظور الآخر، وإذا كان الآخر هو العدو وهو الجحيم فلا ذنب لليهود في ذلك، فلا ذنب لليهود في كون الآخر يُشيّئهم ويقهرهم، فتحريرهم لا يكون من الداخل بل من الخارج، والعامل الأساسي في قضية الصهيونية واليهودية هو إعلان العداء للسامية، وإذا كانت الثقافة الغربية والأمريكية علمانية فهي من حيث المبدأ والنظر تعارض الدين بما في ذلك الدين اليهودي، لكن في الحقيقة والواقع أن الفكر العلماني له أصول دينية يهودية، لأن اليهود لا يعنيهم تناقض مبادئهم وتحالفهم مع الشيطان وقوى الشر والعدوان، فعندهم الغاية تبرر الوسيلة، لا تعنيهم سوى مصالحهم ولا تهمهم سبل ووسائل الوصول إليها، "إنّ اليهودية أنشأت العلمانية في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي لتخريب الشرائع السماوية والعبث بالثقافات لإفساد الجيل الناشئ بالمبادئ والنظريات التي يدسونها له في التعليم والإعلام والصحافة والنوادي الثقافية..وأن كلمة العلمانية لا علاقة لها بالعلم وإنما هي "اللادينية" فالعلمانية والدين متضادان على الدوام، وتطورت العلمانية في مرحلة فصل الدين عن الدولة إاى مرحلة القضاء على الدين-غير اليهودي- وكان من نتائجها في الغرب تدمير الفرد والأسرة والمجتمع أخلاقيا وروحيا والذي ساعدها على ذلك أن النصرانية تسمح بقبول العلمانية الفاسدة (أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر) بعكس الإسلام الذي لا يسمح بوجودها لأنه لا يتفق معها في أي مرحلة من مراحل تطورها...".[1] والهجمة الشرسة المتوحشة التي تشنها اليهودية الصهيونية العالمية باسم العلمانية وغيرها في السر والعلنية على الثقافة الإسلامية، تتطلب العودة إلى واقع العالم الإسلامي بأكمله وفي كافة مجالاته وتصحيح ما ينبغي تصحيحه، وتقديم الإسلام في صورته الصحيحة، من منطق النهوض الحضاري المطلوب في ظل عولمة لا تعترف إلاّ بالأقوياء وتسحق الضعفاء، لأنّ "المقومات الثقافية والقيم الحضارية التي تشكل رصيدنا التاريخي، لن تغني ولن تنفع بالقدر المطلوب والمؤثر في مواجهة العولمة الثقافية مادامت أوضاع العالة الإسلامي على ما هو عليه في المستوى الذي لا يستجيب لطموح الأمة".[2]



* ارتبطت قضية اليهود في العالم وفي الفكر الأوربي الشرقي والغربي بالدرجة الأولى بتهميش اليهود من جهة وبحركة اضطهادهم في البلدان القومية مثل روسيا وفرنسا وألمانيا، وتنامت الهوية اليهودية في البلدان التي تعيش ضعفا في قومية كشعوب أوربا الشرقية، ففيها تعاظم شأن الصهيونية وظهر الكثير من دعاتها، ونشأت العديد من الحركات الصوفية اليهودية، لتدل على درجة الانطواء والتقوقع في الأنا لحفظ الهوية اليهودية، ولليهودية توجّه ذاتي ضيق ديني وسياسي يقوم على أفكار خطيرة أهمها أنّ الله أبرم عهدا بينه وبين اليهود ووعدهم بالأرض المقدسة الكاملة وبالنصر الكامل بدون مقابل لأنهم أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار المفضّل على كل شعوب الدنيا، ومادام في اليهود مؤمنون متعبدون أسلاف أباء وأجداد وأوائل أو أخلاف وأبناء وأحفاد فالله لا يعذبهم جميعا حتى ولو اغتصبوا الأراضي وسفكوا الدماء ونهبوا ممتلكات الغير ظلما وجورا وعدوانا، ويوجد توجّه آخر يتميز عن التوجّه الخاص بكونه عاما ينفعل ويتفاعل مع الثقافات والديانات والفلسفات الأخرى منذ القدم حتى الآن، فمن عهود الأنبياء ودحض النزعة الخاصة ورد الاعتبار للاتجاه العام إلى غاية عهد الإسلام، ومن قبله عهد المسيح واليونان إلى الفكر الغربي الحديث والمعاصر، هذا الاتجاه العام يضيق ويتسع بدرجة تجاوب اليهود مع الثقافات والفلسفات والديانات التي احتكوا بها.


* إنّ لنموذج الدولة اليهودية في فلسطين أسباب عقائدية ارتبطت بالنزعتين الخاصة والعامة، الخاصة لحفظ الهوية والعامة للتواصل مع الآخر العدو والصديق، وله ظروف تاريخية تجلّى فيها الوعي القومي بشدة في الغرب الأوربي وفي أمريكا، تعاظمت القوميات، القومية الألمانية والروسية والإيطالية والفرنسية والأمريكية القائمة على تعدد المقومات، اللغة والأرض والتاريخ الثقافة والمصير المشترك وغيره، في هذا الجو تعاظمت رغبة اليهود ومن ورائهم الحركة الصهيونية التي تحوّلت من حركة تراثية تاريخية دينية متعصبة وخطيرة إلى حركة صهيونية سياسية في إنشاء وطن قومي لليهود على نموذج الأوطان القومية في أوربا الغربية تُصدّره العولمة ويُصدّره النظام العالمي لجهة في إفريقيا مثل الغابون أو في أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين أو في آسيا وفي الوطن العربي مثل فلسطين، مثلما صُدّر الاستعمار البريطاني إلى مصر والسودان وفلسطين والعراق واليمن والخليج بعد انهيار الخلافة العثمانية في هذه البلدان، والاستعمار الفرنسي لبلاد المغرب العربي ولسوريا ولبنان، والاستعمار الإيطالي لليبيا والصومال،كل هذا في ظل الحضارة الغربية الحديثة وتفوق الغرب ماديا وعلميا وتكنولوجيا واقتصاديا، وانتصاره على الشعوب الأخرى بقوّة الحديد والنار التي صدّرها باسم الحرية الديمقراطية وحقوق الإنسان والأعمار ونقل التكنولوجيا وغيرها، فكان من نتائج توجّه العولمة ونظامها العالمي في ذلك الوقت وتحت مطالب اليهود والصهيونية التي كانت متغلغلة في أوساط رجال المال والأعمال وصنّاع السياسة في الغرب وفي أمريكا تشجيع هجرة إلى فلسطين إلى أن جاء وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور المتضمن الموافقة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وأُنجز الوعد وتأسس الكيان الصهيوني وتوالت النكبات والنكسات على فلسطين وعلى العالم العربي والإسلامي ككل، فمن تنفيذ وعد بلفور 1948 إلى هزيمة 1967 إلى نكسة 1973 إلى استسلام الأنظمة العربية للأمر الواقع والخضوع لمشاريع التسوية منذ معاهدة كامل دافيد بين مصر وإسرائيل حتى الآن، لكن الصهيونية والنزعة اليهودية الخاصة ممثلة في التيارات الدينية والأحزاب السياسية وفي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على السلطة تمنع كل بريق أمل في تسوية عادلة بين العرب واليهود، لأنّ الكيان الصهيوني في أبعاده الدينية وأصوله العقائدية السياسية يحلم بالمعجزة، بدولة إسرائيل الكبرى، بأرض الميعاد وتحقق العهد والوعد، بالأرض المقدسة الكاملة، وبالتفوق وبالنصر الأبدي المبين، يصبح فيها العرب والمسلمون جزءا منها في ثقافتهم وأموالهم في عالم العولمة واقتصاد السوق.


* بمقتضى المرحلة التي يعيش فيها اليهود ودرجة الانتصار والتفوق التي حققوها وتواجدهم في مراكز القوة والغلبة في العالم سياسيا واقتصاديا وماليا وعسكريا صاروا في مركز العالم يروجون للعولمة على مقاس الأمركة المتصهينة، وينفذون مخططات الحركة الصهيونية القائمة على مبادئ النزعة الدينية اليهودية الخاصة التي ترفض العيش مع الآخر، ولا تقبل التساوي معه في الحقوق والواجبات وأمام القانون، لأنّ وجود اليهود مع آخر متعدد في الثقافات والهويات والأديان يفقدهم مقومات هذا الوجود، لذا فهم يحرصون على إذكاء معاداة السامية وإبطال الهولوكوست- المحرقة- من طرف أيّة جهة ومهما كانت بهدف تقوية الصهيونية، لأنّه كلّما تعاظم الاتجاه المعادي للسامية تنامت مع ذلك الصهيونية ووجدت مبررات شرعيتها، لذا فالصهيونية تسعى دوما إلى تقوية العداء للسامية لتبرير حالة الشتات وعُقد المحرقة والاضطهاد والتطهير العرقي، وهو أمر مكشوف ومفضوح في العالم، تكشفه نشاطاتهم السياسية والاقتصادية التي تقوى باستمرار لكونهم كانوا وراء أحداث انقلابية سياسية وغيرها نوعية في العديد من بلدان العالم، ويبسطون سيطرتهم التامة على جهات القرار والمراكز النافذة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها، وإلاّ كيف يرفض بلد كالصين الشعبية التوقيع على معاهدة الشراكة الاقتصادية مع البلدان العربية في الأيام الأخيرة، وبينه وبين العرب والمسلمين علاقات تاريخية حميمة وثقافية متينة واقتصادية وتجارية قوّية، وذلك لتضمن بند في الاتفاق ينصّ على أنّ القدس الشرقية هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطين العربية الإسلامية، ويقومون بالتخطيط لتنفيذ مطالب الصهيونية والردّ بقوّة على أيّة معارضة تقف في وجه أطماع وأحلام إسرائيل الكبرى، لكن قوتهم كلما ازدادت ازداد معها رفض الآخر لهم وبشدّة، ماذا تستفيد الإنسانية من حل مشكلة اليهود على حساب شعب ضاعت أرضه وسُلبت حقوقه، وظهرت مشكلة أكبر هي مشكلة فلسطين.


* لا تنفصل العولمة عن إسرائيل وعن كافة مرجعياتها الدينية، فالتيارات الدينية اليهودية وراء توجّه العولمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا، والقوى المهيمنة في العالم شركاتها ومؤسساتها المالية تديرها هيئات ومنظمات ومخططات يهودية، كما تدير السياسة الداخلية والخارجية لهذه القوى، كما يقف الفكر اليهودي وتقف الحركة الصهيونية وراء السياسة الإسرائيلية في فلسطين وفي المنطقة العربية ومع العرب والمسلمين ومع كل الجهات التي تقف ضد الجرائم اليومية التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني وفي حق الشعور الإنساني وفي حق القيّم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية والدينية العليا، لكن إسرائيل لا تبالي بالشعور الإنساني في تمرير خططها ونشر ثقافتها، وفي المحافظة على وجودها كقوّة اقتصادية وسياسية وعسكرية، كل هذه القوّة تنبعث من القوّة الدينية، ومن الإيمان الراسخ بدلالات ومعاني التوراة والتلمود وسائر الشرائع اليهودية، ومن الإيمان الراسخ بأهداف ومخططات وأساليب الصهيونية العالمية، فالصراع الفلسطيني العربي الإسلامي مع إسرائيل تديره قوى إسرائيلية تعتمد على التيارات الدينية، هذه التيارات الدينية التي تقف عقبة كبرى أمام تسوية المشكلة الفلسطينية اليهودية، وتعتبر الأرض الفلسطينية مقدسة وهدية ربانية لا مساومة عليها، وهي فكرة تغذيها أسطورة الأرض المقدسة الكاملة في الفكر الديني الصهيوني المتطرف، الذي يقوم على معتقدات العهد والوعد والأرض المقدسة الكاملة، العقائد التي حددت موقف اليهود والصهاينة بمختلف تياراتهم الدينية والسياسية وغيرها من الأنا اليهودي الصهيوني ومن أحلامه ومطامحه، ومن الآخر العدو والصديق في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.


* إنّ موقف اليهود من الذات ومن الآخر العدو ومن الآخر الصديق منابعه دينية صهيونية، موقف لا يتغير بتغير المواقف السياسية، ولا بتغير الظروف الاقتصادية وغيرها في العالم، ولا يفقد وحدته وتماسكه أمام تعدد التيارات الدينية وتباين الاتجاهات المذهبية داخل التيار الديني الواحد، ولا أمام كثرة واختلاف الأحزاب السياسية وتعدد الحكومات في دولة إسرائيل ذات المرجعيات والأصول الدينية، فهناك التيار الديني اليهودي الأرثوذوكسي الغالب المتمسك بيهودية التلمود والتوراة وشرائعها وبخصوصيات اليهود، وهو رد فعل للتيار الديني اليهودي الإصلاحي التنويري، وعلى الرغم مما يبديه التيار الأرثوذوكسي من انقسام نحو الصهيونية بعضه يعترف بها وبعضه لا يعترف بها، وعلى الرغم من انقسام التيار الأرثوذوكسي وهو الذي يسيطر على كل المقدرات والإمكانيات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها إلى تيار إصلاحي وتيار تقدمي وتيار المحافظين، وبالرغم من تعدد الأحزاب داخل التيار الأرثوذوكسي، حزب البيت الصهيوني وحزب التوراة الموحدة وحزب الشرقيين والقرائيين وغيرهم، فإنّ هذا التعدد في الفكر الديني والسياسي المنبثق عن المعتقدات الدينية اليهودية لم يؤثر البتة في نظرة اليهود إلى الذات وإلى الغير، سواء في علاقتهم بالعرب والمسلمين في أرض فلسطين المغصوبة أو خارج فلسطين.


* منذ أن وطئت أقدام اليهود الأرض الفلسطينية وهم يعملون على تسخير كل ما لديهم من قوّة وغلبة وتفوق لسحق الفلسطينيين ومحوهم من الوجود وامتهان كرامة العرب والمسلمين، من دون اعتبار للماضي الذي عاش فيه اليهود مع العرب والمسلمين في سلام وأمن طيلة العصور الإسلامية الماضية، وكان تفوقهم العلمي والديني والفلسفي في الجو الإسلامي في الأندلس، حيث عاش المسلمون واليهود والنصارى تحت راية واحدة في وفاق ووئام وانسجام، وبلغت شخصيات من اليهود أعلى المراتب وأرقى المناصب في الدولة الإسلامية، فكان موسى بن ميمون قد تأثر بالفلسفة الإسلامية واشتغل الطبيب الخاص للكامل، وكان اليهود يرفضون الاحتكام للقضاء اليهودي ويحتكمون لدى القضاء الإسلامي لما فيه من عدل وإنصاف لا يوجد في غيره، واستطاع اليهود أن يوفقوا بين العروبة والثقافة الإسلامية، وكل هذا يعود إلى الفرق الموجود بين الإسلام واليهودية وغيرها، فاليهودية غزت الشعوب واغتصبت أراضيها ودمرت بنياتها المادية والاقتصادية، وقتلت الأطفال والنساء والشيوخ وأهلكت الحرث والنسل، واستخدمت وتستخدم الأسلحة المحرمة دوليا ومارست مختلف صنوف القهر والظلم والعدوان من قتل وتشريد وتجويع وسجن وتعذيب، وارتكبت جرائم نكراء ضد الإنسانية في الخفاء والعلنية، بينما الإسلام دخل بلدان العالم فاتحا لا غازيا يحمل عقيدة التوحيد لشعوبها، ينشر بينها العدل والمساواة وينبذ التفرقة والتمييز على أساس الجنس والعرق، لم يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، ولم يدمر المساكن على رؤوس أصحابها مثلما فعلت الصهيونية في فلسطين وجنوب لبنان، وما فعلته الأمركة والغرب في جهات عديدة من العالم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات وغيرها، الإسلام حافظ على حياة الشعوب وعلى أمنهم وعلى لغاتهم وثقافاتهم وعقائدهم، ولم يكن هناك أي عدوان من المسلمين على اليهود والنصارى أو حتى على أصحاب المعتقدات الوثنية، فنظام الإسلام أممي، كل الفئات تعيش تحت كنفه في حماية كاملة من دون تمييز بينها، وانتشار الإسلام والحركة الإسلامية في الماضي للفتح لا للغزو ولتعميم عقيدة التوحيد بدل الفكر الوثني ولرفع الظلم والاستعباد وإنزال الحق والعدل ولإقرار الأخوة والمساواة بين الناس من دون اعتبار للألوان والأعراق، أما انتشار الحركة الإسلامية في العصرين الحديث والمعاصر وكأن الإسلام ينبعث وينطلق من جديد، فهذا الوضع ارتبط بمواجهة الاستعمار والتخلف العقائدي والفكري والاجتماعي وغيره، وجاءت نهضة الحركة الإسلامية سابقة على العولمة، لكنّ العولمة في إطار أوضاع الغرب الأوربي المعاصر وفي سياق ظروف الأمركة المتصهينة تلقى كل الدعم والتأييد والمساندة بالمال والأعمال والقوّة العسكرية وغيرها، الأمر الذي أخرج دولة إسرائيل - التي قامت على اغتصاب الأرض وعلى أشلاء أهلها - من بلدان الأطراف والمحيط وجعلها عنصرا فعّالا وقياديا في المركز، تصنع العولمة وتعممها بالجمع بين السبيلين سبيل المكر والخداع وسبيل قوّة الحديد والنار.



[1]- نقلا عن كمال الدين عبد الغني المرسي، العلمانية والعولمة والأزهر، ص 08.
[2]- محي محمد مسعد: الإسلام وتحديات العولمة، ص122.