الذكاء الطبيعي والاصطناعي*
نقل

Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
واتا

تأليف روبرت سوكولوسكي**

في هذا المقال لن نحاول أن نحدد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي هو الشيء نفسه مثل الذكاء الطبيعي. لكننا بدلاً من ذلك سوف نفحص بعض الموضوعات والمصطلحات لتي لابد من توضيحها قبل التوصل إلى نتيجة بشأن هذا الأمر ، كما سنبحث كيف يمكن صياغة المسألة الخاصة بالعلاقة بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي.

ومن أول الأمور التي لابد من توضيحها هي الكلمة الغامضة "الاصطناعي" إذ إن هذه الصفة يمكن استخدامها بمعنيين ، ومن المهم أن نحدد أيهما ينطبق في حالة مصطلح الذكاء الاصطناعي. فكلمة اصطناعي تُستخدم بأحد معنييها عندما تُتخذ مثلا وصفا للأزهار ، على سبيل المثال ، كما تُستخدم بالمعنى الآخر عندما تُتخذ وصفا للضوء.

وفي كلتا الحالتين فإن هناك شيئاً يسمى اصطناعياً لأنه جرى ابتداعه. ولكن في الاستخدام الأول فإن كلمة اصطناعي تعني أن هذا الشيء الاصطناعي يتخذ مظهر الشيء الطبيعي الذي يحاكيه ، وإن يكن في حقيقته ليس كذلك. فالاصطناعي هنا هو مجرد الظاهر : إنه فحسب يبين كيف يبدو شيء آخر. فالأزهار الاصطناعية ما هي إلا ورق ، وليست أزهاراً على الإطلاق ؛ وأي إنسان يحسبها أزهاراً مخطئ. ولكن الضوء الاصطناعي ضوء ، وهو ينير بالفعل. وقد تم ابتداعه بديلاً للضوء الطبيعي ، وبمجرد تخليقه يكون الشيء نفسه الذي يبدو عليه. وبهذا المعنى فإن الاصطناعي ليس مجرد الظاهر ، أي ليس تقليداً لشيء آخر فحسب. فمظهر الشيء يكشف عن حقيقته ، لا مجرد ما يبدو عليه.

وحركة السيارة مثال آخر لشيء اصطناعي بالمعنى الثاني للكلمة. فالسيارة تتحرك بصورة اصطناعية ؛ إذ إنها تتحرك فقط لأن البشر قد قاموا بصنعها لكي تتحرك وجعلوها تنطلق عن طريق إطلاق طاقة مخزنة. ولكنها تتحرك بالفعل – إنها لا تبدو فحسب كما لو كانت تتحرك. وعلى النقيض من ذلك ، فإن الألواح الخشبية الاصطناعية في السيارة تبدو فقط كما لو كانت خشباً ، فهي تحترق وتنثني وتنكسر وتبلى ، كما هي الحال بخصوص البلاستيك ، لا كما هي الحال فيما يتعلق بالخشب. إنها تبدو مثل الخشب لدى النظر فقط ومن زاوية معينة فقط ، وتحت أنواع بعينها من الضوء.

ولكن بأي معنى نستخدم كلمة اصطناعي عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي ؟ يدَّعي من ينتقدون الذكاء الاصطناعي – وهم أولئك الذين يستخفُّون بالفكرة ويقولون إنها فكرة قد بولغ في الدعاية لها – أن المصطلح يستخدم بالمعنى الأول ، بمعنى مجرد الظاهر. وهم يقولون إن الذكاء الاصطناعي ما هو إلا تركيبات ميكانيكية معقدة وعملية كهربية تمثل صورة خادعة (بالنسبة للسذَّج) لنوع ما من التفكير. أما مؤيدو فكرة الذكاء الاصطناعي – وهم أولئك الذين يزعمون أن المصطلح يشير إلى شيء أصلي وليس مجرد شيء ظاهر – فيقولون إن كلمة اصطناعي مستخدمة بالمعنى الثاني الذي أشرنا إليه. ومن الواضح أن الآلات المفكرة ، على حد قولهم ، ما هي إلا أشياء من صنع الإنسان ؛ ومن الواضح أن هنالك بشرا يقومون بتشغيلها ؛ ولكن هذه الآلات تفكر بالفعل بمجرد الانتهاء من صنعها والبدء في تشغيلها. وقد يكون تفكيرها مختلفا عن تفكير البشر في بعض النواحي ، تماما مثلما تختلف حركة السيارة عن حركة الأرنب ، وكما يختلف طيران الطائرة عن طيران الطائر ، غير أنه نوع من التفكير الحقيقي ، تماماً كتلك الحركة الحقيقية في السيارة وذلك الطيران الحقيقي في الطائرة.

وإذا افترضنا أن الذكاء الاصطناعي ذكاء حقيقي بالرغم من أنه ذكاء مُصنَّع ، فهل يتعيـن علينا أن نثبت صحة هذا الافتراض ؟ وهل نحن مضطرون لأن نبرهن على أن الآلات تفكر حقاً ؟ وأن الذكاء لديها ليس مجرد مظهر ؟ ربما تكون الإجابة بالنفي ؛ إذ ليس على أحد أن يبرهن على أن الضوء الاصطناعي ينير وأن الطائرات تطير حقا. ذلك لأننا نراها. وإذا أظهرت الآلات المفكرة نشاطا تفكيريا ، فَلِمَ لا نعترف بأنها ذكية حقاً ؟

إن المشكلة تكمن في أن التفكير لا يظهر مرئياً وملموساً بالدرجة نفسها التي تظهر عليها الإضاءة والحركة ، والطيران ؛ وليس بالقدر نفسه من السهولة القول ما إذا كان التفكير موجوداً أم لا. وحتى عندما نتكلم مع إنسان آخر ، فإننا لا نستطيع دائما أن نتأكد مما إذا كان ذلك الشخص يتحدث ويتصرف بصدق أو أنه فقط يتلو عن ظهر قلب ، أي يتصرف بصورة تلقائية. وهناك حالات بعينها تبدو فيها الآلات كما لو كانت تفكر ولكنها في حقيقة الأمر لا تفعل ذلك : فالآلة الحاسبة الإلكترونية يمكنها أن تفعل أشياء تسترعي النظر ، ولكن شخصاً مخدوعاً بها كذلك الشخص الذي يظن أن الأزهار الاصطناعية أزهار حقيقية – قد يقول بأن الآلة الحاسبة لها ذكاؤها الخاص بها. فالآلات الحاسبة قد تكشف عن ذكاء أولئك الذين قاموا بصنعها وبرمجتها ، ولكنها لا تمتلك بصفة أصلية تفكيرها الخاص بها.

ولكن كيف يختلف الذكاء الاصطناعي عن الآلة الحاسبة ؟ أي كيف يختلف عن الحساب الرقمي ؟ وما هو ذلك الشيء الذي تفعله والذي يمكن أن نسميه تفكيرها الآلي الخاص بها ، أو نشاطها الخاص الذي لا يمكن أن يذوب في تفكير الناس الذين قاموا بصنع الآلة وبرمجتها ؟ ؛ وإذا جاز لنا أن ندَّعي أن الآلة المفكرة ، بالرغم من كونها شيئاً من صنع الإنسان ، تكشف عن ذكاء ، فلابد لنا من أن نوضح ماذا نعني بكلمة "التفكير" الذي يقال إنها تقوم به. وهذا ربما لا يكون إثباتا ، ولكنه شرح ، ومثل هذا التبرير يبدو مطلوبا لتأييد ادعائنا بأن الآلات تفكر.

لقد أرسى ألان تورنج Alan Turing هذا المبدأ القائل بأنه إذا كانت الآلة تتصرف بذكاء، فلابد من أن نصفها بالذكاء. إذ إن التصرف هو الأساس. ولكن مقياس تورنج لا يمكنه النهوض وحده معياراً لذكاء الآلات. فتفكير الآلات سوف يعيد دائما إنتاج جزء من التفكير الطبيعي ؛ وقد يكون قاصراً ، مثلاً ، على الاستجابات التي نراها على شاشة. وفي هذا المجال فإن خبرتنا بتفكير الآلة يشبه التحدث إلى شخص ما هاتفيا ، وهو أمر لا يماثل وجودنا مع ذلك الشخص ورؤيته وهو يتصرف ويتكلم ويستجيب لمواقف جديدة. وكيف نعرف أن نظرتنا الجزئية إلى ذكاء الآلة لا يشبه زاوية النظر تلك التي تبدو لنا من خلالها الأزهار الاصطناعية مثل الأزهار الحقيقية ؟ وكيف يمكننا أن نعرف أننا لم نخدع لو وقعنا تحت تأثير المنظور حيث يبدو الذكاء الظاهري من خلاله مشابها إلى حد بعيد للذكاء الحقيقي ؟ إن هناك نوعاً من الجدال ينبغي أن يضاف إلى معيار تورنج لكي نبين أن الذكاء الاصطناعي إنما يكون اصطناعيا بالمعنى الثاني للكلمة وليس بالمعنى الأول لها – وأنه على الرغم من كونه مخلقاً وجزئيا فإنه ليس أصلياً وليس مجرد شيء ظاهري. ونحن بحاجة إلى أن نقول المزيد عن الذكاء لكي نوضح ما إذا كان موجودا أو غير موجود ، ونحن بحاجة أيضا إلى أن نوضح الفرق بين أشكاله الطبيعية والاصطناعية.

أولاً :

عند مناقشتنا للفرق بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي ، ينبغي ألا نضع تقسيمات قاطعة وساذجة. وإذا قمنا بصياغة سؤالنا على شكل بدائل صارمة ، فإننا قد نعوق حركة جدالنا ونحرمه من المرونة التي يحتاج إليها. إذ إننا بهذه الطريقة المتصلبة ، قد نضع الحاسب الإلكتروني (الكمبيوتر) في مقابل المخ ، ونحن نحسب الذكاء الطبيعي نشاطا يتم في المخ ، بينما الذكاء الاصطناعي نشاط يتم في الحاسبات الإلكترونية. هنا المخ ، وهناك الحاسب الإلكتروني؛ هنا الذكاء الطبيعي ، وهناك الذكاء الاصطناعي ؛ بمعنى أن النشاط يتحدد بالوسط الذي يتم فيه.

وهذه الطريقة عقيمة وساذجة لأنها تهمل شيئا يمثل جسرا بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي : ألا وهو الكلمة المكتوبة. فالذكاء الاصطناعي لا يحاكي فقط المخ والجهاز العصبي ؛ بل إنه يحوِّل ، ويشفِّر ويتحكم في النص المكتوب. والذكاء الطبيعي ليس مجرد نشاط عضوي يحدث في مخ يعلم ؛ بل هو أيضاً يتجسد في الكلمات المكتوبة على الورق ، والمحفورة على الصلصال ، والمكتوبة بالطلاء على لوحات الإعلانات ، فالكتابة تأتي بين المخ والحاسب الإلكتروني.

وعندما يتجسد التفكير في الكلمة المكتوبة ، فإن هناك شيئاً اصطناعياً فيه. ولنتخذ ، مثالا لنا ، لافتة من النيون تضيء وتنطفئ معلنة عن وجود "فندق". إن ردود فعل الناس إزاء اللافتة لا يشبه ردود فعلهم إزاء صخرة أو شجرة ، فهم يقرأون اللافتة ويستجيبون لها أيضـاً. وهم يتصرفون إزاءها بطريقة تشبه الطريقة التي يتصرفون بها إزاء شخص أخبرهم أن المبنى عبارة عن "فندق" وأنه يمكنهم الحصول على غرفة هناك. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن الشخص الذي وضع اللافتة في مكانها – والذي قال شيئا من خلالها ويمكن حسبانه مسؤولاً عما تقول – ليس عليه أن يبقى بالقرب منها لكي يكون لها تأثيرها. بل يستطيع أن يدع اللافتة وشأنها : إذ إنها تؤدي دورها بدونه. فهي أداة تستطيع أن توضح شيئا وتوصله إلى شخص ما ، مما يدعوه إلى تفسيره والاستجابة له معاً.

وبطبيعة الحال. فإن الذكاء الاصطناعي يعد بأن يفعل أكثر مما تستطيعه الكتابة ، لما له من قدم راسخة في الكتابة ، ذلك أنه يقوم بتحريك التفكير المتجسد في الكتابة. أما التحدي الفلسفي الذي يواجهنا فهو توضيح أي نوع من الحركة يمثلها التفكير. وينبغي أن تجعلنا الاستمرارية بين الكتابة والذكاء الاصطناعي أقل تخوفا من أن يتم يستعاض عنا ، على نحو ما ، بآلات مفكرة ، فبشكل ما ، فإنه قد تم الاستعاضة عنا ، بالفعل ، بالكلمة المكتوبة. فأنا إذا تركت تعليمات مكتوبة ، ليس عليَّ أن أكون موجودا بالقرب منها لكي يكون لهذه التعليمات تأثيرها. ولكن هذا لا يلغي تفكيري : بل هو يضيف إليه. وإذا وجدنا سجلات مكتوبة في أطلال مدينة قديمة ، فإننا لا نعتقد أن هذه الوثائق قد طمست دور المتكلمين في تلك المدينة بوصفهم متحدثين أو أنها قد دمرت ذاتيتهم : ولكننا نعتقد أن كلامهم كان موضع تقدير أكثر حيوية بحسبانه كلاماً في مقابل الكلمة المكتوبة. ونعتقد أيضا أن كتابتهم قد أضافت إلى تفكيرهم ولم تضعفه ، وذلك لأنهم عن طريق الكلمة المكتوبة تمكنوا من "التحدث" إلينا. وبالمثل ، فإن تشفير الكتابة في حالة الذكاء الاصطناعي لا يعني أننا لم نعد بحاجة إلى أن نفكر ، ولكن يعني بالأحرى أن تفكيرنا يمكن أن يُقَدَّر بصورة أكثر حيوية في مقابل ما يمكن عمله بالآلات ؛ وكَوْن بعض أبعاد التفكير يمكن تنفيذها تنفيذا ميكانيكيا تجعلنا أكثر إدراكا لتلك الأبعاد التي نستطيع وحدنا القيام بها. وإذا استطاع الوضوء الاصطناعي أن يقوم ببعض وظائف الضوء الطبيعي ، فإن أنواع التفكير التي لا يمكن أن نجد بديلا لها سوف تطفو على السطح بصورة أكثر وضوحاً بوصفها خاصة بنا وحدنا.

ويمكن أن يقدم التغلغل التدريجي للكتابة في شئون الإنسان مثلا من التاريخ على تسلل الذكاء الاصطناعي إلى المعاملات بين البشر. فالكتابة لم تحل فقط محل الأنشطة اللغوية التي كان الناس يقومون بها قبل أن تكون هناك كتابة ؛ ولكن تأثيرها الكبير هو جَعْل أنوع جديدة من التفكير ممكنة وإعطاء شكل جديد للأنواع القديمة ، وتوسيع الأنشطة الاقتصادية والقانونية والسياسية والجمالية ، والتمييز بينها ، وجعلت من التأريخ أمرا ممكنا. بل إنها سمحت حتى للعقيدة بأن تتخذ شكلا جديدا ، فقد سمحت بظهور عقائد لكل منها كتابها ، مع كل ما يصاحب هذا الظهور من أمور تتعلق بالنص ، والتفسير ، والتعليق. وقد قامت الكتابة بكل هذا عن طريق توسيع نطاق الذكاء. وأسرعت الطباعة من عملية انتشار الكلمة المكتوبة ، ولكنها لم تغير من طبيعة الكتابة.

والسؤال الذي يمكن أن نثيره حول الذكاء الاصطناعي هو ما إذا كان مجرد امتداد للطباعة أو إعادة تكييف في محاولة الإنسان التي بدأت عندما دخلت الكتابة إلى شئون الإنسان. فمن الواضح أن المعالجة الإلكترونية للنصوص مجرد تحسين للطباعة ، ونوع راق من الكتابة على الآلة الكاتبة ، ولكن الذكاء الاصطناعي يبدو لنا أكثر من ذلك. فهو يبدو قادراً على إصلاح تجسيد الفكر الذي تحقق في الكتابة وعن طريقها. فما الذي سيكشف الذكاء الاصطناعي عنه ؟ هل سيكون مجرد إضافة إلى الكتابة ؟ أم هل سيتضح أن الكتابة كانت مقدمة للذكاء الاصطناعي استغرقت أربعة آلاف سنة ، وهل سيكمن التأثير الكامل للكتابة في كونها إعدادا للتفكير الميكانيكي؟

وإذا كان الذكاء الاصطناعي حقا تحويلا للكتابة ، إذن فهو أكثر شبها بالضوء الاصطناعي وأقل شبها بالأزهار الاصطناعية : أي إنه بديل حقيقي لبعض أشكال الفكر ، وليس مجرد تقليد سطحي. ويتشكل التفكير بفعل الكتابة : ويتعدل الذكاء عندما يتخذ الشكل المكتوب : وتسمح الكتابة لنا بالتعرف على الأشياء وتمييزها بوسائل لم تكن ممكنة عندما كان بإمكاننا أن نتكلم دون أن نكتب. وإذا استطاع الذكاء الاصطناعي بدوره أن يحوِّل الكتابة ، فإنه قد يمكنه تجسيد نوع من الذكاء لا يمكن أن يحدث بأية طريقة أخرى ، تماما مثلما توفر السيارة نوعاً من الحركة لم تكن متاحة قبل اختراعها.

وفي حالة حدوث أية تقنية جديدة ، فإن الجديد فيها يتم فهمه أولاً في إطار الأفق الذي يحدده القديم. فأوائل السيارات ، مثلاً ، كانت تبدو إلى حد كبير مثل العربات التي تجرها الخيول. ولا يلزم وقت لكي تؤكد الاحتمالات الجديدة حقاً نفسها ، ولكي تعطي شكلاً لنفسها وللبيئة التي لابد من أن تجد مكانها في إطارها. وقد استغرقت السيارة بعض الوقت لكي يترتب على اختراعها إعداد الطرق السريعة والجراجات. وتسير نظم الخبرة التي تطورت في المراحل المبكرة للذكاء الاصطناعي على هذا النمط. فهي تحاول أن تحل محل نوع ما من التفكير التقليدي ، وهو نوع يبدو أن الوقت قد حان لاستبداله : إنه ذلك النوع الذي يمارسه موظف في كشك الاستعلامات أو الذي يمارسه صيدلاني – وهو الشخص الذي يعرف الكثير من الحقائق ويمكنه التنسيق بينها ويرسم بعض دلالاتها. ونظم الخبرة هي العربات التي لا تجرها الخيل الخاصة بالذكاء الاصطناعي. وهي تشبه الكتابات المبكرة التي سجلت مجرد محتويات الخزانة الملكية أو توزيع محصول الحبوب.

وليس المقصود من هذا هو التقليل من قيمة نظم الخبرة. فالبدائل الأولية والصغيرة والواضحة للطرق القديمة لعمل الأشياء لابد من أن تستقر قبل أن تحل محلها الإنجازات الأكثر تميزاً والخاصة بشكل ذهني جديد – في هذه الحالة قبل أن يظهر أناس من طراز دانتي وشكسبير ونيوتن أو تظهر السيارات مثل جاكوار ، والطرق السريعة ، ومحطات الخدمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي. وكما وجد الذين عاصروا بداية الكتابة صعوبة في تصور ما استطاع بورجس Borges وبور Bohr أن يحققاه ، أو في تصور ما يمكن أن تكون عليه مكتبة عامة أو مركز أبحاث طبية أو عقد تأمين ، فإننا بالمثل – هذا إذا كان الذكاء الاصطناعي حقاً تجديداً للكتابة – سوف نجد أنه من الصعب علينا تصور الشكل الذي يمكن أن يتخذه التفكير الآلي وهو التفكير الآخذ في الازدهار.

وفضلا عن ذلك ، هنالك قدر من التفكير الإنساني يتصف بأنه ميكانيكي إلى حد ما. وهذا القدر يتطلب فقط أن نكون على دراية كافية وأن نكون قادرين على تسجيل العلاقات والتوصل إلى الاستنتاجات في إطار ما نعرفه. ويمكننا إدراك إلى أي حد يمثل هذا التفكير الروتيني نشاطنا الذهني فقط عندما ينجح التفكير الاصطناعي في القيام بمعظم هذا العمل نيابة عنا. فقطاعات كبيرة من المجالات المتعلقة من جمع المعلومات ، والقياس ، والمعادلات ، واستراتيجيات التخطيط للضرائب أو التأمين ، ومحاولات التوصل إلى خليط مقبول من المضادات الحيوية والربط بينها وبين مختلف أنواع العدوى ، وبناء شبكات الخطوط الجوية وإعداد جداول للسفر عن طريقها ، أو تبين كيفية التكيف مع القوانين واللوائح – كل هذه مهام يمكن ترميزها وتنظيمها وفقاً لقواعد بعينها. والذكاء الاصطناعي سوف يكون قادراً بسهولة على أن يخفف عنا عبء مثل هذا التفكير المضني. ولكن نظراً لقلة وجود النعم الخالصة ، فإنه من المحتمل أيضا أن تتسبب هذه التسهيلات في خلق روتين جديد ومشاق وتعقيدات غير مرغوب فيها ما كان لها أن تنشأ لو لم تظهر الحاسبات الإلكترونية إلى حيز الوجود.

ونحن ندهش تماما ، ولنا الحق في ذلك ، لكيفية قيام الآلات بتخزين المعارف والمعلومات، بل ولكيفية ظهورها أمامنا كما لو كانت "تفكر" مستخدمة هذه المعارف والمعلومات. ولكن هذه القدرات التي تتميز بها الآلات لا ينبغي أن تحجب أبصارنا عن شيء أكثر بساطة ، وربما ، وفي الوقت نفسه ، أكثر إبهارا : ألا وهو التخزين الخارق والتمثيل الذي يحدث عندما يتجسد المعنى في الكلمة المكتوبة. ففي الذكاء الاصطناعي يتغير التجسيد ، ولكن الفرق الرئيس يكمن في النوع الجديد من المادة المجسدة ، وليس في التجسيد في حد ذاته، فضوء النيون الذي يلمع بكلمة "فندق" يضم كثيرا من الملامح التي نجدها في الآلات المفكرة : إذ أن هناك معنى موجودا ، ومنهجا سلوكيا واضحا ، واستنتاجات لها ما يبررها. ويبدو أنه ليس هناك من يتكلم أو يملك المعنى – فالمعنى يبدو كما لو كان يطفو – ومع ذلك فإنه بصورة ما كامن هنالك في اللافتة. والمعنى متاح لكل شخص ويبدو أنه يستمر أطول مما يستطيعه أي متحدث بعينه من البشر.

وفي الذكاء الاصطناعي ، تتجسد مثل هذه المعاني في مواد تسمح باستخدامات معقدة ، إلى أقصى درجة ، لضرب ما من الضروب النحوية*. ومن ثم فإن الآلة تبدو كما لو كانت تفكر ، بينما اللافتة لا تبدو أنها تفكر ولكنها فقط تقول شيئاً. وبدلاً من مجرد مقارنة الحاسبات الإلكترونية والمخ ، ينبغي أيضا أن نقارن بين "تفكير" الآلة و "قول" اللافتة ، وتفحُّص التخزين والتمثيل كما يحدثان في الآلة في الكتابة.

صحيح أن الذكاء الاصطناعي قد يتعدى المستخرج المطبوع* إلى الصوت المنطوق اصطناعيا**. وقد يتحرك فيما وراء الطباعة إلى التجسيد الأدق لمعنى الذي يحدث في الأصوات. وإذا نجح في عمل ذلك ، فإن "كلامه" سوف يكون تحويلا لكتابته وسوف يحمل سمة الكتابة. وسوف يكون الذكاء الاصطناعي قد تحرك في اتجاه هو عكس ذلك الاتجاه الذي يتخذه التفكير الطبيعي الذي انتقل من الكلام المنطوق إلى الكلمة المكتوبة.

ثانيا :

ويمكن للكلمة المكتوبة أن تؤدي دور الوسيط بين الذكاء الطبيعي والاصطناعي. إذ إنها تضم الاثنين : فالذكاء الطبيعي يتجسد في الكتابة ويتعدل بمقتضاها ، ومع ذلك فإن الكتابة اصطناعية إلى حد ما ، بمعنى أنها شيء من صنع الإنسان. ولنبحث ، على نحو أكثر قربا ، هذا الدور الوسيط الذي تقوم به الكتابة. كيف تستطيع الكتابة أن تعمل كجسر يؤدي إلى الذكاء الاصطناعي ؟

سوف ندخل إلى هذا الموضوع عن طريق سؤال أكثر عمومية عن الظروف اللازمة لنشأة الذكاء الاصطناعي : ما هي الأشياء المطلوبة للسماح للذكاء الاصطناعي بالظهور إلى حيز الوجود ؟ إحدى الإجابات الواضحة هي أن لغات بعينها من لغات الحاسب الإلكتروني مثل ليسب LISP وبرولوج Prolog ، تعد أمورا ضرورية. وتتمثل إجابة أخرى في أن الحاسبات الإلكترونية نفسها ، جنبا إلى جنب مع مكوناتها الآلية***المناسبة ، والتركيبة البنائية ، والذاكرة، مطلوبة أيضا. كما أن هناك إجابة أخرى هي أن المنطق الرياضي الذي تم التوصل إليه خلال مائة السنوات المائة أو نحو ذلك على يد جوتلوب فريج Gottlob Frege، وجيسب بينو Giuseppe Peano ، وبرتراند راسل Bertrand Russel وغيرهم – كان ضروريا بحسبانه شرطا لكل المكونات غير الآلية والمكونات الآلية التي بحوزتنا الآن. ومن المشوِّق أن هذا التقدم في الرياضيات والمنطق قد جرى إحرازه لأسباب نظرية بحتة ـ لتوضيح ، مثلاً ، أن الحساب جزء من المنطق البحت (وهذا هو هدف فريج) – وليس بهدف إعداد لغة للآلات المفكرة. واستفاد التطبيق التكنولوجي من الفرصة التي أتاحها الإنجاز النظري : "فقد خلقت الفرصة الشهية ، وخلق العرض الطلب".

كل هذه الشروط المسبقة للذكاء الاصطناعي .. وهي لغات الحاسب الإلكتروني ، والمكونات الآلية للحاسب الإلكتروني ، والمنطق ذو الصبغة الشكلية – قد تم حققها أشخاص معروفون في أوقات بعينها. ويمكننا أن نذكر أسماء وتواريخ لاختراعها. غير أن هناك شرطاً آخر جعل هذا ممكناً ولكنه يختلف في طبيعته ؛ فهو ذو أهمية فلسفية أكبر بكثير ، كما أنه أيضاً أكثر مراوغة ؛ ومن الصعب أن نقول متى ظهر على مسرح الأحداث ومن كان مسئولاً عن ظهوره. ولكن بدونه ، لم يكن يتسنى للذكاء الاصطناعي أو لأي من شروطه المسبقة الأخرى أن نستطيع أن نفكر فيما تعبر عنه العلامة ، أو يمكننا أن نفكر في العلامة نفسها وفي الكيفية التي تتكون بها.

ولكي نوضح الفرق ، لننظر إلى طريقتين للترجمة. ولننظر أولاً إلى المترجم الذي يعمل في اللقاءات الدولية والذي يترجم الكلمات في الوقت نفسه الذي يتم إلقاؤها فيه. مثل هذا المترجم يفكر في الموضوع الذي تجري مناقشته. فلو كان الحديث عن النقل بالسفن في المحيطات ، فإن المترجم يفكر في السفن ، والحمولات ، والقوانين ، والسواحل ، وتيارات المحيط. وهو يتحدث في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه المتكلم الأصلي ؛ وقد يتوقع بعض عبارات المتحدث أو كلماته ، وربما يسبق المتكلم. ويمكن للمترجم أن يفعل ذلك لأن الأشياء التي يتم الحديث عنها والتي يقدمها الحديث تعمل مرشدًا له ؛ إذ لا يركز انتباهه على تحليل كلمات المتحدث.

وعلى النقيض من ذلك ، فلننظر إلى شخص يتعلم اللغة اليونانية ويحاول أن يترجم نصاً يونانياً. فهو يفحص كل كلمة ، ويلاحظ النهايات الإعرابية للكلمات ، ويحدد أي الكلمات لابد من أن تكون الفعل وأيها الفاعل ، ويحاول أن يتبين كيف تنشأ هذه الكلمة نتيجة عملية بعينها مـن عمليات الحذف أو الإدغام ، ويحاول أن يحدد ما تعنيه وكيف تتوافق مع الكلمات الأخرى. وبالتدريج فإنه يستدل على معنى محتمل للجملة. وفي هذه الحالة فإن ما يجري التعبير عنه بالكلمات لا يرشد المترجم ؛ وبالأحرى فإن الشيء المقصود يأتي في نهاية المطاف ، فقط بعد أن تكون الكلمات هي موضع الاهتمام المباشر لوقت طويل. وهذا المترجم لا يمكنه توقع كلمات المتحدث لأن المترجم لا ترشده الموضوعات التي يجرى بحثها. وفي هذه الحالة فإن الأشياء التي يجري التعبير عنها تقع على هامش الاهتمام وتكون الكلمات هي بؤرة التفكير ، في حين أن الكلمات في الحالة الأولى هي التي تقع على الهامش ، أما الموضوع الذي يجري التعبير عنه فيحتل البؤرة.

ويمكننا أن ننتقل من بؤرة التفكير فيما يجرى التعبير عنه إلى بؤرة التفكير في الكلمات ، كما يمكننا كذلك أن نعود إلى الأشياء التي يتم التعبير عنها ، كما يمكننا التحرك خلفًا وأماماً مرة تلو أخرى. وعندما نكون في بؤرة منهما ، فإن الأخرى تظل دائما على الهامش بوصفها بؤرة يمكننا دخولها. والبؤرتان ليستا مجرد بؤرتين متصلتين إحداهما بالأخرى ؛ فكل منهما تكون على ما هي عليه فقط في إطار علاقتها بالأخرى. فالتركيز على الكلمات كلمات أمر ممكن لأنه يتم في مقابل التركيز على ما تعبر عنه الكلمات ؛ والتركيز على الموضوع يكون كما هو (بالنسبة لنا بوصفنا متحدثين) فقط كما يتم في مقابل التركيز على مسمى الموضوع أو ما يمكن تسميته به. وليست هناك كلمات إلا حين يتم جذبها إلى وجهة النظر المزدوجة هذه ؛ إذ إنه ليست هناك كلمات "قابعة هناك" فحسب.

والآن فإن الذكاء الاصطناعي أمر ممكن لأنه يمكننا أن نحول اهتمامنا بحسم كامل ناحية الكلمة ، وبدلاً من تحليل تركيبها النحوي والفونيمي* ، فإنه يمكننا البدء في ترميز الكلمة – أي في أن نستبدل بحروفها سلسلة من الأرقام الثنائية واحتمالاتها الإعرابية عن طريق عمليات تتم بالحاسب الإلكتروني. ويمكننا أن نرتب الكلمة هجائياً ونضع القواعد لها بطريقة جديدة. كما يمكننا تحويلها إلى سلاسل من رقم واحد ورقم صفر وإلى قواعد للتحكم فيها. ولكن عندما نقوم بهذا ، فإننا لا نلغي أبدا فهمنا لأن ما نتعامل معه ما هو إلا كلمة ، وأنها تعبر عن شيء معين ؛ ونحن لا نفصل أبداً الهامش الذي يتم فيه التعبير عن المعنى. ولهذا السبب فإن المحصلة النهائية لترميزنا وتحويلنا تستمر في التعبير عن شيء ما. ولهذا السبب فإننا نطلق على ناتج ما نقوم به وتقوم به الآلة الذكاء الاصطناعي – وهو فهم لشيء ، وليس مجرد إعادة ترتيب لعلامات.

وها هنا ينبغي أن يفهم "المقصود" من برامج الحاسب ، وها هنا أيضا ينبغي استكشافه : ولا يتأتى ذلك بالسؤال عن كيفية التشابه بين الحاسب والمخ ، بل بالتساؤل عن كيفية التشابه بين مخرجات الحاسب والكلمات المكتوبة ، والسؤال عن كيفية حدوث تنقُّلنا بين التركيز على التفكير في التعبيرات وبين التركيز على ما يتم التعبير عنه ، وذلك فيما يتعلق بـ "الكلام" الذي يتم توجيهه إلينا من خلال العمليات التي تدور في الآلة المفكرة.

كما يمكن أيضا أن يكون شيئا مضللا أن نقول إن الكلمة لابد من أن يكون لها معنى ، لأن المعنى ربما يبدو حينئذ كياناً من نوع ما يقع بين الكلمة والشيء الذي تمثله. وفي بعض النظريات عن الإدراك يتخذ مثل هذا المعنى المتجسد موقعه في المخ (brain) أو في العقل (mind) ، وقد يعقب ذلك جدل حول ما إذا كان يمكن لهذا المعنى أن يوجد أيضا كنوع من التمثيل في الحاسب الإلكتروني وبرنامجه وأنه ليست هناك حاجة إلى مثل هذا الكيان. فكل ما نحتاج إليه إنما هو إدراك المقدرة الكامنة فينا لتركز على الكلمة ، بينما الشيء الذي تمثله يقع في الهامش ، أو أن نركز على الشيء بينما الكلمة التي ترمز إليه هي التي تقع في الهامش. ولا حاجة إلى أكثر من ذلك. فالمعنى هو ، ببساطة ، الشيء كما تعنيه الكلمة.

ونحن نعلم أن فريج Frege قد ابتكر رموزه المنطقية في السنوات السابقة على سنة 1879 ، عندما نُشر كتابه التذكاري Begriffsschrift . ولكن متى أدرك أي شخص ما أنه بمقدورنا أن نركز على الكلمات بوصفها كلمات وأننا بمقدورنا أن نفصل الكلمات حتى ونحن نضع في حسباننا ماذا تعني ؟ ليس هنالك تاريخ محدد لهذا ؛ إذ إنه يعود إلى زمن بعيد. ومـن كان الشخص الذي أجرى هذا ؟ إن الذكاء الاصطناعي مدين لهذا الشخص بصورة كبيرة ، ونحن جميعاً مدينون له بالمثل ، لأننا لا نكاد نتصور أنفسنا بدون هذه المقدرة. إذ يمكننا أن نتجه إلى الكلمة حتى لو كنا مقتصرين على الكلام المنطوق ، ولكننا يمكن أن نتجه إليها بصورة أكثر صراحة وحسماً وتحليلاً بمجرد أن بدأنا في الكتابة. ولكن القدرة التي لدينا على تحويل تركيزنا تسبق الكتابة وتجعلها أمراً ممكناً ، كما أن هذه القدرة تسبق أيضا ترميز الكتابة الذي يحدث في الذكاء الاصطناعي وتجعل من هذا الترميز أمراً ممكناً.

إن قدرتنا على تحويل تركيزنا من شجرة ، مثلاً ، إلى كلمة شجرة تساعدنا على شرح الكيفية التي يتم بها إرساء الكلمات بحسبانها رموزا والكيفية التي يتم بها إرساء الأشياء بحسبان أن الكلمات تسميها أو أن الرموز تشير إليها . ولكن هذه القدرة على تحويل التركيز يمكنها أيضـاً أن تساعدنا على الاقتراب من واحدة من أكثر المشاكل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والطبيعي إثارة للحيرة – إنها مشكلة ما إذا كان في مقدور العمليات الفسيولوجية في المخ أن تمثل شيئا يحدث في العالم. مشكلة كيف يتسنى لنا أن نصف التمثيلات العقلية أو الصور العقلية أو الرموز العقلية. فعندما أرى هذا المصباح ، فإن شيئا ما يحدث في مخي. إذ تنشط الشبكات العصبية. وكيف يتأتى لعمليات التنشيط هذه أن تكون من مجرد عاصفة كهربية أو عملية كيميائية في المخ ؟ وكيف يتأتى لها تقديم أو تمثيل شيء ما يكمن وراءها هي نفسها ويكمن وراء المخ ؟ وكيف يتأتى أنها تقوم بتمثيل هذا المصباح ؟ وكيف يتسنى لنا أن نصف "الكلمة المخية" ، أو "الصورة المخية" للمصباح ؟

إن معظم الكُتَّاب الذين يناقشون هذا الموضوع يقولون ببساطة إن هناك رمزا أو تمثيلا عقليا يقوم بهذا العمل ، ولكنهم لا يفرقون بين "الرمز المخي" وأنواع الرموز التي نتعامل معها عادة – تلك التي نجدها في الصوت ، وعلى الورق ، وعلى القماش ، وعلى الخشب وعلى الأحجار. ويبدو أن الفرق الحاسم بين الرمز المخي والرمز "العام" العادي هو ما يلي : ففي حالة الرمز العام ، يمكننا أن نركز إما على الرمز أو على الشيء الذي يرمز إليه : على هذا المصباح أو على المصباح نفسه. ولكن في حالة الرمز المخي ، فإن المرء لا يمكنه أن يركـز على النشاط العصبي في مخه ؛ بل يستطيع فقط أن يسترعي انتباهه الشيء المقدم إليه ، وهو المصباح. إذ أن الرمز المخي هو بصفة أساسية وبالضرورة أمر شفاف فيما يتعلق به. ولكن المرء الذي يستطيع التركيز على الكلمة المخية ـ ولنقل عالِم الأعصاب الذي يفحص الأنشطة العصبية المتعلقة برؤية المصباح ـ لا يمكنه أن يرى هذه الأنشطة بوصفها تمثيلا للمصباح ؛ ولا يستطيع أن يقصد المصباح عن طريقها (كما يقصد المصباح عرضا بينما هو يركز على عبارة هذا المصباح). وبالنسبة لعالم الأعصاب ، فإن الأنشطة المخية هي بصفة أساسية وبالضرورة أمور معتمة ؛ إذ إنها ظاهرة بيولوجية في حد ذاتها. وفيما يتعلق به فإنها ليست أمورا رمزية ، ليس حتى بصورة هامشية. إذ لابد من أن يبلغه الشخص الذي يفحصه بأن مايراه مصباح.

وعلى هذا فإن الكلمة المخية لا تشبه الكلمة المنطوقة ، ولكن التفكير في كيف نكوَّن الكلمة المنطوقة يمكن أن يساعدنا على توضيح الطبيعة المميزة للكلمة المخية. فالشخص ، في حالة الرمز العام ، يمكنه أن ينتقل من الرمز إلى الشيء ؛ ولكن في حالة الرمز المخي ، فإنه ينقسم إلى شخصين : الشخص الذي يرى الشيء ولكنه لا يرى الرمز المخي ، والشخص الذي يرى الحدث المخي ولكنه لا يرى الشيء. وهذه الملاحظات ، بطبيعة الحال ، ما هي إلا بداية لتحليل التمثيلات العقلية ، ولكنها تشير إلى أن واحدة من أفضل الطرق التي لدينا لكي نطِّوع لغتنا لوصف المخ وصفًا مناسبًا هي وضع الرمز المخي في مقابل الرمز العام وبحث هذا التقابل بجميع تفصيلاته. ولقد استخدمنا آنفاً في هذا المقال تجسيد المعنى الذي يحدث في الكتابة بوصفه عاملا مساعدا في وصف الذكاء الاصطناعي ؛ وهنا فإننا نستخدم تجسيد المعنى الذي نجده في الرموز العامة بحسبانها وسيلة معينة على فهم التمثيلات التي تحدث في الذكاء الطبيعي.

ولنترك موضع التمثيل العقلي ونعود مرة أخرى إلى الكلمة المكتوبة. لقد سلمنا بأن الكتابة المعنية هي الكتابة الهجائية ، وهي النوع المألوف للناطقين بالإنجليزية. ولكن هناك أيضا الكتابة الإيديوجرامية* ، وقد يكون من المشوِّق أن نقرن بين الكتابة الألفبائية والكتابة الإيديوجرامية فيما يتعلق بتحويل التركيز الذي وصفناه آنفاً – وهو التحويل من الاهتمام بالشيء إلى الاهتمام بالكلمة.

وبما أن الإديوجراف** شيء يشبه صورة للشيء المقصود ، فإنه يحفظ هذا الشيء بصورة حيوية في العقل حتى عندما يتحول المرء إلى الكلمة المكتوبة. ومن ناحية أخرى ، فإن الكلمة الهجائية تدع جانبا أية صورة للشيء وترمز إلى أصوات الكلمة المنطوقة. وتجذبنا الكتابة الإديوجرامية ناحية الشيء. بينما تجذبنا الكتابة الهجائية ناحية الكلمة ، ولكن أياً منهما لا يمكنها أن تزيح البؤرة الأخرى من البؤرتين. إذ إنها لن تصبح كتابة لو فعلت ذلك.

***

لقد نشأ الذكاء الاصطناعي بصورة أساسية من الرمزية الهجائية. ومن المشوِّق أن نفكر فيما إذا كانت بعض ملامح الكتابة الإديوجرامية يمكنها أن تجد مكانا في الذكاء الاصطناعي ، لكي تكمل الكتابة الألفبائية بصورة ما. فالكتابة الإديوجرامية تستغني عن التصريفات وتأتي بالبنيات النحوية العميقة*** للجمل قريبا من السطح ؛ وهذه الصفات قد تبسط النحو والمنطق الخاصين بالقصص وتجعل ترميز القصص أمرا أكثر سهولة وقد لا يكون التعبير الإديوجرامي مفيدا في خلق لغات برمجة ، ولكن يمكن استخدامه لتعديل ما تطبعه البرامج لمستخدمي الحاسب الإلكتروني لكي يقرأوه ويفسروه. وقد يجعل التأثير الإديوجرامي في اللغة فيما يتعلق بالتفاعل بين المستخدم والآلة هذه اللغة مختلفة عن اللغة التي نتكلمها عادة – إذ ربما تسفر عن نوع من اللغة الإنجليزية الهجين* على سبيل المثال – ولكن ينبغي أن نتوقع هذا. لقد تطورت لغتنا الطبيعية وهي مستقلة تماما عن أي ارتباط بالآلات المفكرة ، وهي ليست متكيفة معها إذ إنها خدمت أغراضا أخرى في ظروف أخرى. فلماذا يجب دفع الذكاء الاصطناعي إلى كل القيود اللازمة لجعل ناتجها يشبه الكلام باللغة الإنجليزية العادية ؟ إن الآلة المفكرة شيء وُجد حديثا ، تماما مثلما كانت الكتابة في وقت من الأوقات. ولغتنا الطبيعية، بقدرتها الضخمة على التكيف ، سوف تجد الوسائل لكي تلتف حولها وداخلها ، حتى لو اضطرت إلى الامتداد فيما وراء شكلها الهجائي لكي تتمكن من عمل هذا.

ثالثا :

إن نوع التفكير الذي يفترض في الذكاء الاصطناعي القدرة على محاكاته هو التفكير الاستنتاجي الاستدلالي – بمعنى التوصل إلى نتائج بمجرد إرساء بديهيات الاشتقاق وقواعده. والقيام بالاستنتاجات يعني التوصل إلى حقائق جديدة على أساس تلك الحقائق المعلومة لنا بالفعل. ولقد كان هذا هو نوع التفكير الذي أراد فريج Frege أن يضع صيغة له في رموزه المنطقية الجديدة ، وهذه الرموز هي بشير لغات الحاسب. أراد فريج أن يضمن دقة الاستنتاجات بجعل كل خطوة في الاستنتاج واضحة ولها ما يبررها شكلاً ، وعن طريق الحفاظ على الاستنتاجات بعيداً عن أية مقدمات خفية. وكان من المفروض أن تجعل رموزه مثل هذا النقاء في التفكير أمراً ممكناً. وكانت النتيجة المرتبة على جهود فريج هي المنطق والبرامج التي تجعل الاستنتاجات واضحة لدرجة يمكن معها تطبيقها بصورة آلية ؛ وبالفعل فإن ذلك الجزء من برنامج الذكاء الاصطناعي – الذي يتوصل إلى نتائج – يسمى أحياناً باسمٍ يسترعي النظر هو "آلة الاستنتاج".

ولكن التوصل إلى الاستنتاجات ليس هو النوع الوحيد من الذكاء ؛ إذ إن هناك أنواعاً أخرى أيضاً. وسوف نتعرض للاقتباس والتمييز بوصفهما شكلين من أشكال النشاط العقلي اللذين لا يمكن النزول بدرجتهما إلى مجرد القيام باستنتاجات. وسوف نبحث أيضا الرغبة التي تدفعنا إلى أن نفكر. وهذه الأشكال والجوانب الخاصة بالذكاء الاصطناعي ـ الاقتباس ، والتمييز ، والرغبة ـ ذات أهمية للذكاء الاصطناعي بطريقتين. فإذا كان الذكاء الاصطناعي يمكنه بصورة ما أن يجسدها ، فإنه سوف يثبت أنه أكثر نجاحاً في قدرته على أن يحل محل الذكاء الطبيعي. ولكن إذا اتضح أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يحاكي هذه القوى والأنشطة ، فإننا سوف نكون قد اكتشفنا بعض حدود التفكير الاصطناعي وسوف نفهم بصورة أفضل الفرق بين الذكاء الطبيعي والاصطناعي.

ويعتمد الذكاء الاصطناعي على كل من الهندسة وعلم الظواهر*. فالجزء الهندسي يتولى تطوير المكونات الآلية للحاسب الإلكتروني والبرامج : أما علم الظواهر فيتولى تحليل الإدراك الطبيعي ، ووصف أشكال التفكير التي يمكن للهندسة إما أن تحاول تقليدها وأن تحل محلها ، أو أن تحاول أن تكملها إذا لم تستطع أن تحل محلها. ومناقشتنا الحالية هي إسهام في علم الظواهر الخاص بالذكاء الطبيعي ، نقوم بها في الإطار الذي تحدده أغراض الذكاء الاصطناعي وإمكاناته.

الاقتباس

إن واحدة من الخصائص الأساسية للذكاء الطبيعي تكمن في أننا بوصفنا متحدثين يمكننا أن نقتبس أحدنا من الآخر. وهذا لا يعني فحسب أننا نستطيع أن نكرر الكلمات التي قالها شخص آخر ، بل يعني أنه يمكننا أن نفهم ونذكر كيف تبدو الأمور لشخص آخر. وذِكْرُنا لكلمات شخص آخر هو مجرد وسيلة نقدم بها لأنفسنا وللآخرين كيف يبدو العالَم لشخص مختلف عنا. والقدرة على الاقتباس تسمح لنا بأن نضيف وجهات نظر إلى الأشياء التي نجربها ونعبر عنها. إذ إنني أرى الأشياء ليس فقط من وجهة نظري الخاصة ، ولكن كما تبدو لشخص ما من وجهة نظر أخرى ، وكما تبدو لشخص له تاريخ مختلف عن تاريخي ، وكما تبدو لشخص له اهتمامات مختلفة عن اهتماماتي. ومن علامات الذكاء الأكبر أن نكون قادرين على أن نفعل ذلك ، إذ إننا نكون متبلدي الذهن إذا رأينا الأمور بطريقة واحدة فقط ، بطريقتنا نحن فقط.

ونحن لا نصف هذه المقدرة بصورة مناسبة إذا أسميناها القدرة على أن نضع أنفسنا في مكان شخص آخر ، كما لو كان الشيء المهم هو أن نشارك ذلك الشخص في حالته النفسية ومشاعره ، ونتعاطف مع أحواله الذاتية. حتى المشاعر والحالات النفسية التي ربما أردنا أن نشارك فيها ما هي إلا استجابة للكيفية التي نلم بها عن طريق الاقتباس. وبالإضافة إلى ذلك ، فإنه من الممكن أن تكون هناك طبقات معقدة من الاقتباس. فأنا أستطيع ، مثلا ، أن أذكر ليس فقط كيف يبدو شيء ما لـ "جون" ، ولكن أيضا كيف يبدو ما يراه "جون" بالنسبة لـ "ماري". ولكن بصرف النظر عن مدى تعقد الاقتباس ، فإنني أظل الشخص القائم بالاقتباس ؛ بمعنى أنني أبقى محور الاقتباس.

وحين نتكلم فإننا نستعرض دائما الطريقة التي تبدو بها الأشياء لنا في مقابل كيفية ظهورها للآخرين. وتؤثر الكيفية التي تبدو بها الأمور للآخرين في الطريقة التي تبدو بها لنا. وهذه التكملة لوجهات النظر البديلة نهملها عندما نركز على الاستنتاجات الاستدلالية المباشرة. فمنطق الاستنتاج منطق خاص بمناجاة النفس – وهو منطق ذو عين واحدة ، تتم فيه تصفية كل اختلافات وجهات النظر ونعترف فيه فقط بما ينتج عن مقدماتنا. وحتى في المنطق الصوري الذي يحاول أن يتناول الحالات التي لا تشملها مجموعة محددة من البديهيات – حتى في المنطق غير الرتيب الذي يحاول أن يتماشى مع المواقف والحقائق التي لا تترتب على المقدمات التي يتم إرساؤها في النظام – فإننا نظل مقتصرين على الاستنتاجات التي نستخلصها من وجهة نظر واحدة. وكما كتب رايموند ريتر Raymond Reiter : "إن كل الشكليات غير الرتيبة الحالية تتناول مفكرين ذوي أداة واحدة. ومع ذلك فمن الواضح أن الوكلاء كثيرا ما يجدون أنه لابد من إرجاع الاستنتاجات غير الرتيبة إلى وكلاء آخرين ، مثلا، في التخطيط التعاوني أو في الأحداث الكلامية*. ومثل هذه المواقف المتعددة العوامل تتطلب نظريات شكلية مناسبة نفتقدها حاليا".

واقتصار المنطق على وجهة نظر واحدة هو تجريد مشروع ومفيد ، ولكن ينبغي النظر إليه بوصفه محدوداً ، ولا يقدم صورة كاملة لتفكير الإنسان. ففي تفكيرنا الطبيعي ، تشكل آراء الآخرين تأثيراً في الآراء التي لدينا. ونحن لا نستمد مواقفنا فقط من البديهيات التي نقبلها بحسبانها حقيقية. وإذا جاز للذكاء الاصطناعي أن يحاكي التفكير الطبيعي ، فإنه لابد من أن يطور برامج يمكنها التعامل مع وجهات نظر بديلة وليس مجرد التفكير الاستنتاجي المباشر. ولابد من أن يطور منطقاً يأخذ في الحسبان بصورة ما توقعات المتحدث وأقواله ويقوم بصياغة جدل حواري ، وليس مجرد جدل أحادي المنطق. ومثل هذا التوسع في التفكير الاصطناعي سوف يساعد بالتأكيد على محاكاة الاستراتيجيات والمواقف التنافسية. ومن ناحية أخرى ، إذا كان الاقتباس يقع فيما وراء الذكاء الاصطناعي ، فلربما كنا وحدنا مراكز الاقتباس النهائية في التفكير ؛ وربما تستمر آلاتنا المفكرة فقط في أن نقتبس منها ، ولن تصبح أبداً قادرة على أن تقتبس منا بدورها.

التمييز

وهناك نوع آخر من التفكير يختلف عن التفكير الاستنتاجي وهو النشاط الخاص بالتمييز. ويستطيع برنامج للحاسب أن يميز ، بمعنى أنه يمكنه اختيار بند معين بدلاً من آخر ، ولكن مثل هذا النشاط يفترض أن شروط التمييز قد تمت برمجتها في الآلة. ومن الموضوعات الأكثر أولوية هي ما إذا كان التمييز يمكن أن "يهبط" على الآلة. بمعنى هل يمكن للآلة أصلاً تأسيس شروط التمييز؟

وفي تفكيرنا الطبيعي لا نقوم باستنتاج التمييزات. ويشكل تمييز وجوه جانبية متباينة لأحد المواقف عملاً بدائياً من أعمال التفكير ، أكثر مما يشمله الاستنتاج. وهو أيضاً علامة على الذكاء الشديد ، وبصفة خاصة إذا كان بندا التمييز لم يتم إرساؤهما مسبقاً في الأفكار المشتركة التي نختزنها في لغتنا. فعلى سبيل المثال ، لكي نفهم أننا في موقف صعب ما ، هنالك شيء يهددنا ، وهنالك أيضا شيء مرغوب فيه بصورة مغرية ، وحين يكون لدينا إحساس بالمذاق الخاص لكل من التهديد وعنصر الجذب ، فإن هذا عمل من أعمال البصيرة في صورتها الخام. ذلك أنه لا يمكن استنتاجه من المقدمات. وهذا النوع من التفكير ، وهذه الاستنتاجات التي تهبط علينا ، هي أصل البنود التي تكوِّن معرفتنا المشتركة. وهي سابقة على البديهيات التي يتم منها التوصل إلى استنتاجاتنا.

وبالمثل ، فإن مجموعة القواعد والتمثيلات التي تكوِّن أحد برامج الحاسب الإلكتروني ، أو قاعدة المعلومات ، وقاعدة المعرفة ، تفترض أن التمثيلات المخزَّنة قد تم تمييز إحداها عن الأخرى. وهذا المخزون من التمييزات كان بناؤه قد تم عن طريق الذكاء الطبيعي. وكل تمثيل، وكل فكرة في الذكاء الطبيعي ، ليست مجرد فكرة تتسرب إلى المخ كما يتشرب ورق النشاف بالسائل ؛ إذ لابد أيضا من تمييز فكرة ما عن الأخريات. ويدخل بعض التفكير ، وبعض التمييز. ولكن هل هناك أية وسيلة يمكن بوساطتها للذكاء الاصطناعي أن يولِّد تمييزاً بين أنواع من الأشياء ؟ وهل يمكن للتمييزات أن تهبط على الآلة ؟ أو هل تشبه الآلة المفكرة حيوانا منزليا أليفا ، نغذيه فقط بما نختار أن نقدمه له ؟

الرغبة

للرغبة ارتباط بالتفكير بوسيلتين. فهناك أولاً الرغبة في معرفة المزيد : أي حب الاستطلاع الخاص بتعلم المزيد من الحقائق أو الحافز إلى الفهم بصورة أكثر كمالاً. ولكن هناك أيضا الرغبة في أوجه الإشباع الأخرى مثل التغذية ، وممارسة الرياضة ، والراحة ، وما إلى غير ذلك ، ولنسمِّ هذه الرغبات العواطف. إذن كيف يرتبط التفكير بالعواطف ؟

من الطرق الشائعة للتعبير عن هذه العلاقة القول بأن العقل هو خادم العواطف. ومن وجهة النظر هذه ، فإن العواطف التي تولد معنا تحدد الأهداف التي نريد تحقيقها ، وأوجه الإشباع التي نسعى إليها ؛ إذن فالعقل يؤدي دوره لنتبين كيف نستطيع أن نحقق ما تجعلنا العواطف نريده. فالرغبات تحدد الأهداف ، والتفكير يحدد الوسائل. وفي وجهة النظر هذه هناك مجال ضئيل للمناقشة العقلانية للأهداف لأن الأهداف لم يجر تحديدها بواسطة التفكير.

مثل هذا الفهم للعلاقة بين الرغبة والعقل يتناغم مع بعض الافتراضات الخاصة بالذكاء الاصطناعي. ومن السهل أن نرى أنه بإمكان الحاسب أن يساعدنا على تحديد كيفية التوصل إلى تحقيق الهدف ـ ربما عن طريق استخدام التقنيات المتعلقة بحل المشاكل العامة التي ابتدعها آلان نيويل Allen Newell ، وكليف شو Cliff Shaw ، وهربرت أ. سيمون Herbert A. Simon ـ ولكن ينبغي أن تكون الأهداف محددة للحاسب الإلكتروني مقدما ، تماما مثلما تحدد له الحقائق. فالحاسب الإلكتروني يساعدنا على التوصل إلي أهدافنا عن طريق التوصل إلى الاستنتاجات المناسبة للمشكلة التي نواجهها والإمكانات التي لدينا. وعلى هذا ، فإذا كان الذكاء الطبيعي هو بحق خادم للعواطف ، فإن الذكاء الاصطناعي قد يقطع شوطاً بعيداً في أن يحل محله.

ولكن التفكير الطبيعي ليس خارجياً تماماً بالنسبة لرغباتنا. صحيح أننا ، بوصفنا بشرا ، نبدأ بالعواطف التي تسبق التفكير ، ولكن قبل مضي وقت طويل يدخل تفكيرنا إلى مجال رغباتنا ويحدد ما نريده ، بحيث نريد بطريقة مبنية على التفكير. فنحن نرغب ليس فقط في التغذية وإنما في تناول العشاء ؛ ونحن لا نريد مجرد المأوى ، وإنما نريد البيت المستقر ، وتصبح عواطفنا وقد اخترقها ذكاؤنا. وعلاوة على ذلك ، فإن أنواعا جديدة من الرغبة تنشأ وهي رغبات لا يمكن إلا أن تكون لكائن مفكر. فنحن نستطيع أن نرغب في الشرف والانتقام ، والعدالة ، والعفو ، والشجاعة ، والتأمين ضد أخطار المستقبل ، والمجتمع السياسي. و "رغبتنا العقلانية" تشتمل ليس فقط على حب الاستطلاع والتعبير عن العواطف المبني على التفكير ولكن أيضا تأسيس طرق الرغبة التي لا يمكن أن تحدث إذا لم نفكر.

وقد يكون الذكاء الاصطناعي قادراً على أن يفعل شيئا مع الأهداف التي تُحدد مقدما، ولكن هل يمكنه أن يثير خليط الرغبة والذكاء الذي يكوِّن قدراً كبيراً مما نفكر فيه ونعمله ؟ هل يمكن أن يثير حب الاستطلاع ؟ إن الآلة المفكرة تتحرك بفعل الطاقة الكهربية ، ولكن هل يمكن أن تكون هناك وسيلة لإعطائه نوعا من أصل الحركة التي نسميها الرغبة ؟ هل يمكن أن يصبح تفكيره رغبة مبنية على التفكير ؟ أو هل ستكون الرغبات كلها دائما هي رغباتنا نحن ؟

إن التوصل إلى الاستنتاجات عبارة عن نشاط ذهني يختص بنا بقدر أقل كثيراً من الأنشطة الثلاثة التي ناقشناها لتوِّنا. وبمجرد إرساء الافتراضات وقواعد الاستنتاج ، فإن أي إنسان يمكنه استنتاج النتائج. حتى لو حدث أن كنا الأشخاص الذي يقومون بالاستنتاجات ، فإننا لسنا بحاجة إلى أن نؤمن بما نتوصل إليه. بل نحتاج فقط إلى أن نقول إن هذه النتائج تترتب على تلك المقدمات. ويمكن للاستنتاج أن يظل استنتاجا نظمياً* إلى حد بعيد. ولكن في الاقتباس فإننا نبرز بصورة أكثر حيوية من تلقاء أنفسنا ، وذلك نظرا لأننا نفرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شخص آخر. وعند التوصل إلى تمييز فإننا نفكر أيضا بصورة أكثر أصالة، وأكثر استقلالا ، نظرا لأننا نكون وراء أية حقائق ومقدمات قد يرسي دعائمها لنا شخص ما ويسمح ببساطة لشيء واحد بتمييز نفسه عن شيء آخر. وفي الرغبة المبنية على التفكير نعبر عن الشخصية التي قمنا بتنميتها والكيفية التي تشكلت بها عواطفنا بفعل تفكيرنا. فالاقتباس ، والتمييز ، والرغبة هي صيغ من التفكير أكثر أصالة مقارنة بالاستنتاج. وبالرغم من أن هذه الصيغ من التفكير خاصة بنا بصورة أدق ، فإنها لا تصبح مجرد صيغ ذاتية أو نسبية. إذ إنها تعبر عن موضوعية وحقيقة تناسب أبعاد التفكير والوجود التي تشترك فيها ، وهي الأبعاد التي تُهمل في التفكير الاستنتاجي.

ولو كان الذكاء الاصطناعي قادراً على تجسيد صيغ من التفكير مثل الاقتباس ، والتمييز ، والرغبة ، فإنه قد يبدو أكثر شبهاً ببديل أصلي للذكاء الطبيعي ، من مجرد صورة زائفة له. وقد يبدو ، في اصطناعيته ، أنه شبيه بالضوء الاصطناعي. وقد يبدو بصورة ما قادرا على البدء في تفكير خاص به ، وفي عمل شيء لا يمكن إرجاعه إلى تفكير ومسئولية هؤلاء الذين يصنعون الآلات المفكرة ويستخدمونها. ولكن حتى إذا كان الذكاء الاصطناعي لا يستطيع بشكل كامل أن يجسد مثل هذه الأنشطة ، فإنه على الأقل يستطيع أن يكملها ، وعن طريق إكمالها يمكن أن يساعد على فهم ماهيتها. ونستطيع أن نتعلم الكثير عن الاقتباس ، والتمييز ، والرغبة عن طريق فهم لماذا لا يمكن إعادة إنتاجها ميكانيكيًا ، إذا تبين أن هذه هي الحال. ويمكننا أن نتعلم الكثير عن الذكاء الطبيعي عن طريق التفرقة بينه وبين الذكاء الاصطناعي. وإذا كان بوسع الذكاء الاصطناعي أن يساعدنا على فهم ماهية التفكير ـ سواء عن طريق المحاكاة أو عن طريق التباين ـ فإنه سوف ينجح ليس بوصفه مجرد تقنية ولكن بحسبانه جزءاً من علم الطبيعة.





--------------------------------------------------------------------------------

* الثقافة العالمية ، العدد 44 ، جمادى الأولي 1409 هـ - يناير 1989 م – ص ص 27 – 45.

وكان العنوان الأصلي للمقال:

Natural and Artificial Intelligence, by Robert Sokolowski, Daedalu, Winter, 1988, Vol. 117, No. 1.

** روبرت سوكولوسكي يعمل أستاذاً للفلسفة في الجامعة الكاثوليكية بأمريكا.



* كلمة "نحوي" هي ترجمة كلمة Syntactic والمقصود بالنحو هنا هو نَظْم الكلام أو بناء الجملة. أو بمعنى آخر ترتيب المفردات داخل الجملة الواحدة. (المترجم)

* المستخرج المطبوع printout هو أية معلومة خارجة عن الحاسب الإلكتروني مطبوعة على ورق باستخدام آلة طابعة ملحقة بالحاسب. (المترجم)

** الصوت المنطوق اصطناعيا أو توليف الكلام هو إحداث أصوات كلامية بوسائل اصطناعية عن طريق توليد الموجات الصوتية ذات الترددات اللازمة. راجع مقال"علم الأصوات وتطبيقاته العملية" في كتابنا الحالي. (المترجم)



*** المكونات الآلية hardware للحاسب الإلكتروني هي الأجزاء الصلبة المكونة للحاسب. ويقابلها software أي البرامجيات. (المترجم)

* الفونيم في أحد تعريفاته هو أصغر وحدة صوتية عن طريقها يمكن التفريق بين المعاني. (المترجم)

* أي الكتابة الرامزة للفكرة. كما في الكتابة الهيروغليفية والكتابة الصينية. (المترجم)

** أي الرمز الفكري. (المترجم)



*** البنية العميقة هي التركيب الذي يحدد معنى الجملة والذي يتحول فيما بعد إلى تركيب ظاهري بوساطة قوانين تحويلية اختيارية أو إجبارية. وهذا المصطلح من المصطلحات الرئيسية في النظرية لتحويلية التي تضع لكل جملة في اللغة تركيباً باطنياً وتركيباً ظاهرياً. (المترجم)



* اللغة الإنجليزية الهجين Pidgin English هي إنجليزية مبسطة مختلطة بلغات عديدة ، مثل الإنجليزية المستخدمة في هونج كونج. (المترجم)

* علم الظواهر أو الفينومنولوجيا هو فرع من العلم يبحث في وصف الظواهر وتصنيفها. ويطلق أيضا على الدراسة الفلسفية لتطور العقل. كما يطلق على الوصف العلمي للظاهرات الواقعية مع تجنب كل تأويل أو شرح أو تقويم. (المترجم)

* المقصود بالأحداث الكلامية speech acts هو القيام بعملية الكلام. (المترجم)

* أي خاص بنظم الكلام. أو بعبارة أخرى نحوياً. (المترجم)