للأجيال القادمة كي لا تنسى للتعميم والنشر

الاحتلال الإسرائيلي وتهويد الخليل

د.غازي حسين


"لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها".
اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949-المادة 49
بدأ الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران العدوانية في العام 1967 بالتركيز على مدينة القدس العربية لتهويدها وجعل شطري المدينة الشرقي والغربي عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، متحدياً بذلك الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي ومنتهكاً مبادئ القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949.
صادرت إسرائيل الأراضي والممتلكات العربية في المدينة المقدسة. وهدمت أحياء بكاملها بما فيها حي المغاربة. ودنسّت حرمة الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة. وهدمت جزءاً كبيراً من سور المسجد الأقصى. وطردت مئات العائلات من المدينة العربية وأسكنت بدلاً منها مهاجرين يهود.
وجاء دور تهويد مدينة الخليل بعد أن وضعوا خططهم لتهويد القدس موضع التنفيذ وعبّر عن ذلك بوضوح مناحيم بيغن، وزير الدولة في وزارة أشكول قائلاً:
"القدس والخليل ونابلس هي تراث آبائنا، وبقوة الحق وصلنا إليها وسنظل فيها إلى الأبد".
وبالفعل وصل إلى الخليل عدد من اليهود بحجة الإقامة فيها أيام عيد الفصح فقط. وزارهم هناك عدد من المسؤولين الإسرائيليين ومنهم وزير العمل يغال ألون ووزير الدولة مناحيم بيغن.
"واستمع (يغال ألون) منهم إلى تفاصيل عن مشروعهم للاستيطان في الحي اليهودي القديم في مدينة الآباء (الخليل)".
وقام الوزير مناحيم بيغن بزيارتهم وأطلعوه على مشاكلهم "وأعلن الوزير عن أمله في أن يتم تحسين ظروف الاستيطان في الخليل"(84).
وعندما انتهت فترة العيد لم يغادر المتطرفون اليهود مدينة الخليل بل أخذوا يسعون لاستئجار المنازل والحوانيت فيها ولكن سكان الخليل رفضوا ذلك. وطلبوا من رئيس البلدية أن يعمل على طردهم من المدينة. فأرسل برقية إلى سلطات الاحتلال يطلب فيها ترحيل هؤلاء الدخلاء عن المدينة وكتب الشيخ الجعبري رئيس البلدية إلى ليفي أشكول وإلى دايان طالباً منهما منع إقامة المدنيين الإسرائيليين في الخليل(85).
غضب المستوطنون اليهود على إثر إرسال هذه البرقية وتوجهوا إلى بلدية الخليل، وهددوا رئيس البلدية وطلبوا منه سحب البرقيّة والاعتذار عنها، وطافوا بعد ذلك في شوارع الخليل يستفزون السكان ويهددونهم.
وأكدت صحيفة يديعوت أحرونوت الصادرة في 8/5/1968 ذلك فكتبت تقول:
"جرى أمس تبادل كلمات قاسية بين رئيس بلدية الخليل الجعبري وبين رؤساء المجموعة اليهودية التي تريد السكن في المدينة. وجاء في ادعاء رئيس البلدية بأن رؤساء هؤلاء الأشخاص وعلى رأسهم الحاخام ليفنجر قد وجهوا له التهديدات قائلين له رغم أنفك سنبقى هنا وطلبوا منه استرجاع كتابه الذي كان قد قدمه ضد سكناهم في الخليل. ولقد رفض رئيس البلدية تلبية هذا الطلب".
وعلى إثر الاستفزازات والتهديدات الوقحة التي قام بها المستوطنون اليهود في المدينة اجتمع سكان المدينة وقرروا تشكيل وفد لمقابلة الحاكم العسكري الإسرائيلي في التاسع من أيار وتقديم مذكرة له تتضمن احتجاج السكان على المستعمرين الجدد وإخطاره بأن وجودهم يشكل تهديداً مباشراً للأمن والاستقرار ويؤدي إلى عواقب وخيمة.
وتمت المقابلة مع مساعد الحاكم العسكري ووعد برفع الأمر إلى الحكومة.
لم تستجب الحكومة الإسرائيلية لمطالب أهالي الخليل ورئيس البلدية منتهكة بذلك المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تحظر على دولة الاحتلال أن تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.
وعلّق بن اليعازر عضو الكنيست ورئيس إدارة حزب حيروت على رفض أهالي الخليل القبول بالاستعمار الاستيطاني في مدينتهم قائلاً:
"إن توطين اليهود في مدينة الخليل وفي أي مكان آخر في "البلاد" (أي في فلسطين) هو عمل قانوني بموجب المنشور الذي صدر من قبل المجلس المؤقت للدولة، الذي ألغى الكتاب الأبيض، وإن كل إجراء يجري اتخاذه لمنع اليهود من الاستيطان في أرض إسرائيل هو عمل غير قانوني"(86). وأكد اليعازر في مؤتمره الصحفي أنه يجوز لكل يهودي الاستيطان في أي مكان يقع ضمن أراضي (إسرائيل) بما في ذلك شراء الأراضي وإقامة المنازل عليها، وإن كل يهودي يقرر عمل ذلك سيحظى بالحماية الكاملة للقانون الإسرائيلي.
وبمناسبة الذكرى العشرينية لتأسيس الكيان الصهيوني وصلت إلى الخليل مجموعة مؤلفة من (30) عائلة إسرائيلية من المتدينين المهووسين تحت ستار إقامة احتفال ديني في المدينة، ونزلوا في فندق النهر الخالد وصباح يوم الاحتفال تجمهروا أمام باب الفندق وأخذوا يرقصون ويهتفون بأن الخليل لهم، ثم ساروا في مسيرة استفزازية من الفندق إلى المسجد الإبراهيمي الشريف وهم يحملون لافتات كتب عليها أن الخليل إسرائيلية. وتابعوا مسيرتهم الاستفزازية والوقحة بحراسة جنود الاحتلال الإسرائيلي حتى اقتحموا الحرم الإبراهيمي وزادوا من غطرستهم وفجورهم وصخبهم داخل المسجد الإسلامي الشهير. وعادوا بعد الظهر إلى الفندق وانتزعوا اللافتة التي تحمل اسمه ووضعوا بدلاً منها لافتة كُتب عليها "المدرسة الجديدة لمركز استيطان اليهود في الخليل"، كما أغلقوا الطريق المؤدية إلى الفندق.
أثار هذا التصرف العدواني والاستفزازي والوقح ذهولاً كبيراً في مدينة الخليل. فاجتمع وجهاء المدينة ورجالها وبعثوا ببرقيات احتجاج إلى المسؤولين والحاكم العسكري، ولكن احتجاجاتهم ذهبت أدراج الرياح. أخذ الوضع يتفاقم في المدينة العربية مع تصاعد الأطماع والاستفزازات اليهودية والمدعومة من قبل الحكومة وقوات الاحتلال الإسرائيلي وخاصة بعد أن وصل إلى المدينة وزير الأديان الإسرائيلي وأعلن بوقاحة منقطعة النظير عن تأييده لمطالب المستوطنين اليهود بالاستيطان في الخليل وأمر بتشديد الحراسة على مراكزهم.. وألقى خطاباً أمامهم قال فيه:
"إن بلدة الآباء (الخليل) تناديكم منذ عشرة آلاف عام، ولقد كنتم الطليعة التي حققت لإسرائيل ما لم تحققه حرب حزيران".
وأدلى يغال ألون، وزير العمل بتصريح أعلن فيه دعمه للاستيطان اليهودي في الخليل.
وقاد تشجيع الحكومة الإسرائيلية للاستيطان في الخليل إلى تصعيد الروح العدوانية والإرهابية لدى المستوطنين مما زاد من استفزازاتهم للمشاعر العربية والإسلامية وانتهاك الحرمات الدينية للمسلمين في المسجد الإبراهيمي الشريف وشرعوا بإقامة حفلات الرقص والصخب الماجنة داخل الحرم الإبراهيمي وبحماية قوات الاحتلال.
ووصلت استفزازاتهم الوقحة حداً دخلوا خلال صلاة الجمعة إلى المسجد ومعهم كلابهم، وعندما أخذ أحد الشيوخ يتلو القرآن الكريم فما كان من اليهود إلا وأن هجموا عليه ومزقوا المصحف ورموه به وانهالوا عليه ضرباً حتى أغمي عليه.
قابل وزير الحرب الإسرائيلي موشى ديان في 3/6/1968 رئيس بلدية الخليل ووجهاء المدينة ورفض اعتراضاتهم على استيطان اليهود في المدينة. وأعلن ديان أن الحكومة الإسرائيلية لن تتخذ أية تدابير لترحيل اليهود الذين استوطنوا أو لمنع قدوم يهود جدد"(87).
وقال ديان: إن القيادة العسكرية ستؤمن الأمن الضروري في المدينة وأن المسؤولية رفعت عن البلدية وبالتالي استمرت الحكومة الإسرائيلية في تأييد الاستيطان اليهودي في الخليل وحمايته وتشجيعه ودعمه كمقدمة لتهويد المدينة كما حصل في مدينة القدس.
وفتحت سلطات الاحتلال فرعاً لبنك ليئومي في المدينة فقام رجال المقاومة الفلسطينية بنسفه، مما دفع سلطات الاحتلال للقيام بحملة اعتقال جماعية ونسفت عدة منازل في المدينة كعقاب جماعي لسكانها.
أجبر الحاكم العسكري بلدية الخليل على السماح لليهود بزيارة المسجد الإبراهيمي ثم قرر السماح لهم بالصلاة فيه، وانتزع فيما بعد جزءاً كبيراً من المسجد وحوّله إلى كنيس يهودي تحت ذريعة أن المستوطنين يريدون الصلاة في الحرم الإبراهيمي بمناسبة الأعياد اليهودية.
وقرر وزير الحرب الإسرائيلي الجنرال ديان "أن المستوطنين في الخليل وكل يهودي آخر يرغب في ذلك سيؤدون صلاة رأس السنة في المغارة الإبراهيمية(88). وطلب من سلطات الأمن أن تتخذ كافة الترتيبات الكفيلة بضمان أمن وسلامة المصلين اليهود في الخليل أثناء أداء الصلوات في الحرم الإبراهيمي.
اعترض واحتج أهالي الخليل في 30/9/1968 على السماح لليهود بالصلاة في المسجد الإبراهيمي وأبلغوا وزير الحرب بأنهم مضطرون لأن يعارضوا في إجراء اليهود صلواتهم في الحرم الإبراهيمي لأنه مكان مقدس للمسلمين وهو مسجد إسلامي ولا يجوز لليهود إقامة الشعائر الدينية فيه(89).
ولكن مجرم الحرب موشي ديان قال لهم إن السكان اليهود في الخليل سيقيمون شعائرهم الدينية في الحرم الإبراهيمي في يوم الغفران على غرار ما حصل في العام الماضي، كما أن هناك نية لتحويل المسجد الإسلامي الموجود داخل المغارة الإبراهيمية إلى كنيس يهودي.
وأعطت جريدة هاعولام هازيه صورة واضحة عن تصرفات اليهود في مدينة الخليل وكتبت تقول: "سمعت وأنا راكب سيارة الباص مع مجموعة من اليهود في طريقنا إلى الخليل أن زمرة منهم اتفقوا فيما بينهم على الاعتداء على المواطنين العرب عند أول مناسبة. وقال بعضهم إننا سنلهو ونلعب أمام أعين العرب في المدينة وكأننا في الحدائق العامة بتل أبيب، وإذا بدا الاشمئزاز أو النفور على أي مواطن عربي، فيجب أن ننهال عليه فوراً بالضرب الشديد لنعلمهم درساً في الآداب والأخلاق العصرية "وقال مراسل الجريدة الإسرائيلية: "لدى وصول قافلة السيارات اليهودية إلى مشارف الخليل علا الغناء والرقص والصخب في داخلها وكان واضحاً أن المقصود بذلك هو إثارة السكان العرب والتحرش بهم. وراحوا يسرحون ويمرحون في أرجاء المدينة وكأنهم يزورون أطلال مدينة خربة لا أحياء فيها. ورأيت الشباب والشابات يقفزون بجنون إلى ساحات الحرم الإبراهيمي على مرأى من الشيوخ وعلماء المسلمين. وكانوا يؤدون صلواتهم كالمعتاد وداهمهم المراهقون اليهود بكل فجور وفسق. وعندما حاول هؤلاء الاحتجاج على انتهاك حرمة بيت الله، انهال عليهم المراهقون بالسباب والشتيمة والضرب وحتى بذم إلههم ودينهم. وهكذا ثار الشيوخ وغيرهم من المواطنين العرب لكرامتهم ودينهم"(90).
ورداً على الاستيطان في الخليل والمساعي لتهويد المسجد الإبراهيمي وانتهاك حرمته وتدنيس طهارته وقداسته والإصرار على صلاة اليهود فيه وتحويله إلى كنيس ألقى أحد أبطال المقاومة قنبلة أمام باب المسجد الإبراهيمي. وعلى الفور احتلت القوات الإسرائيلية شوارع المدينة وأسطح المنازل فيها وسمحت لليهود بالتدفق عليها لحضور اجتماع عقدته حركة "إسرائيل الكبرى" ومنعت المسلمين من الصلاة في المسجد. وأعلنت عزمها على بناء كنيس يهودي فيه. وباشرت بهدم أحد مداخل المسجد تمهيداً لذلك. وحولت المدينة إلى سجن كبير. وزجت بالمئات من الشباب العرب في السجون. ونسفت عدداً كبيراً من منازل المدينة.
وأعلن السفاح بيغن أنه في المستقبل غير البعيد ستقوم بلدة (يهودية) كبيرة في الخليل.
وصادرت قوات الاحتلال (10) دونمات لإقامة مدرسة دينية ووحدات سكنية للمستعمرين اليهود في المدينة وهدمت الباب الشرقي للمسجد الإبراهيمي لبناء كنيس يهودي عليه داخل الحرم الإبراهيمي.
ومهدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي لهذا العمل الخطير بتظاهرات قام بها مئات من الجنود في قلب مدينة الخليل وهم يشهرون السلاح في وجه المواطنين العرب ويطلقون النار ويلقون بالقنابل الصوتية لإرهاب سكان المدينة العربية.
ووجه وزير الحرب الإسرائيلي ديان تهديداً إلى الشيخ محمد الجعبري، رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي لدى اجتماعهم إليه وأنذرهم بالطرد إلى ما وراء نهر الأردن هم وجميع أهالي الخليل إذا لزم الأمر.
وجاء تهديد مجرم الحرب ديان رداً على مطالبة المجلس البلدي بالتوقف عن تدنيس المسجد الإبراهيمي حالاً والكف عن سياسة هدم البيوت واعتقال المواطنين وتعذيبهم واستفزاز الأهالي وعدم توطين اليهود في المدينة.
وجه رئيس بلدية الخليل وعلماء الدين الإسلامي في المدينة مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى وزير الحرب الإسرائيلي أعربوا فيها عن الاستنكار الشديد لأعمال الهدم التي قامت بها سلطات الاحتلال في الحرم الإبراهيمي وبشكل خاص هدم الباب الشرقي والدرج المؤدي إلى المسجد الإبراهيمي وجاء فيها:
"إن هذا الباب والدرج المذكورين يعتبران جزءاً من المسجد الإبراهيمي الشريف، وهما من الآثار الإسلامية الخالدة، وإن الأرض المحيطة بالحرم هي ملك للأوقاف الإسلامية، وتابعة للمسجد.
إن الباب المصفح بالحديد الذي لا يزال تحت الأنقاض هو من الآثار الإسلامية الهامة. إن القيام بهذا العمل يعتبر تغييراً لمعالم هذا الأثر الإسلامي الخالد، وهو ما يتطلع إليه المسلمون في جميع أنحاء العالم بقلق بالغ، سيما وأن الإقدام على هذا العمل يعتبر إزالة لجزء من المسجد الإبراهيمي، وهو يثير مخاوف المسلمين ويعتبر انتهاكاً واعتداء على حق المسلمين في مسجدهم المذكور(91).
عبر نتن ياهو، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق عن الأطماع اليهودية في الخليل قائلاً: "نحن باقون في الخليل إلى الأبد".
وكرست اتفاقية الخليل التي وقعها ياسر عرفات مع نتن ياهو تقسيم المدينة العربية والاعتراف بالحي اليهودي فيها وإعطاء 20% من مساحتها للمستوطنين مقدمة لتهويدها، مما ينذر باستمرار الصراع فترة طويلة من الزمن إلى أن يعود الحق المغتصب لأصحابه الشرعيين.
إن الخليل لن تستسلم وتذعن لتهويدها وتهويد المسجد الإبراهيمي الشريف. وستستمر في المقاومة والتصدي للحفاظ على عروبتها ودينها إلى أن تتحرر المدينة من الاستعمار الاستيطاني اليهودي.

***