جيراير سوفاليان... بقلم آرا سوفاليان
الكفاءة هي الشهادة الاولى التي تقرر مصير الطالب لأنها تحدد النهج الذي سيسير عليه، وتاتي بعدها الشهادة الثانوية لتقرر أمر آخر شديدة الأهمية يتعلق بالشهادة الجامعية بحيث يطرح السؤال الآتي بإلحاح: في حال تخرجك هل ستذهب لأخذ شهادتك الجامعية أم انك ستتركها حيث هي؟
والمصيبة هي التالية "يتم تحديد مستقبل الطلاب والطالبات بالأزمنة المقابلة لمرورهم بذروة الطيش والجهل واللامبالات...وبعبارة أدق في فترة المراهقة"!!!
وتشاء الأقدار بأن يراهق كل طلاب وطالبات الدنيا ما بين شهادة الكفاءة وشهادة البكلوريا فيتم تحديد مستقبلهم على أجمل صورة وأحلى تكوين ويكوّنون مستقبلهم، بما تفرضه عليهم المراهقة، واستجابتهم البيولوجية لها، وموقفهم منها وموقفها منهم وهذا ينعكس على حياتهم الدراسية ونجاحهم ومعدلات نجاحهم التي تكون في أغلب الأحيان تتناسب عكساً مع استجاباتهم للتبدلات البيولوجية المرافقة.
كنا أنا وجيراير سوفاليان نصادف طلاباً ممن طلبوا العلى فسهروا الليالي وعيونهم منفّخة وآذانهم متورمة وقد خرج البخار من رؤوسهم المتعبة فندرك تماماً أن هؤلاء لن يراهقوا لا الآن ولا في المستقبل ولا في أي يوم وتحمرّ خدودهم من الخجل إذا تحرشت بهم فتاة، فيستغفروا الله ويعودون الى كتبهم ودفاترهم، كان منظر هؤلاء يثير في نفوسنا الضحك وكانت نوبات الضحك تمتد وتطول حتى نودع بعضنا أنا وابن عمي جيرو كل الى بيته، وعندما نصل نتابع التحليلات على الهاتف كنا أصدقاء لبعض فتيات القصّاع وكان لكلٍ منّا ليلاه.
كان يتصل بي ويطلب مني أن اذهب الى منزله لندرس معاً (كنا كفاءة) فأقول له تعال أنت فيرفض ويلح فأذهب أنا وكنا نجلس في غرفة السفرة ونضع أمامنا كتبنا ودفاترنا ولأن للشروع في الدرس مقومات فلقد كان يضع المسجلة الريل الفيليبس الكبيرة في مكان عال ويطلب مني اختيار الموسيقى التي ستواكب جهودنا الجبارة في انتزاع العلم...ولأن الخيارات كانت محدودة وهي ليست أكثر من ستة خيارات كنا أنا وهو نستقر على واحد من ثلاثة.
فرقة ستارز المصرية أو المنوعات وأغلبها للبيتلز وتوم جونز وانجل بيرت هامبردينغ وشيرلي باسي، أو اليوناني.
وبالعودة الى الاشرطة المتاحة (البكرات أو الريلات) حيث لم يكن الكاسيت معروفاً آنذاك، كانت هناك بكرتين للموسيقى الشعبية الأرمنية وارد ارمينيا السوفياتية وكان عمي مانييل أبو جيرو لا يمل من سماعهما البكرة الاولى تحوي برنامج الرقص الشعبي الأرمني وكانت البكرة تبدأ بأغنية Ya Maniage و تأتي بعدها أغنية Noubare Boyin Tshinar et الى آخر السلسلة، والبكرة الثانية تحوي كل أغاني Sayat Nova واولها أغنية Djanim Ghourbanim وبعدها أغنية Is Kou Ghimaten Tshem kidi Djavahir Kari Nemanis والوجه الثاني يحوي حفلة لايف للمغنية الفرنسية من أصل أرمني روزي آرمين ويبدأ بأغنية Yerevani Siroun Aghtshig ، أما البكرة الثالثة فتحوي كل أغاني Adis Harmandian وتبدأ بصولو الفلوت وأغنية Dzaghigner ويبدأ آديس هارمانديان برائعته التي لا تموت Dzepoum er sevana وبعدها مباشرة Mi kenar ثم Nouneh Nouneh وهي الأغنية التي لطشها غوّار الطوشة بلا اذن ولا أحم ولا دستور وغيّر كلماتها الى يامو يامو يا ست الحبايب يامو وهي في الأصل أغنية لعاشق يحب فتاة اسمها Nouneh ويشكو من بعدها عنه هذا البعد الذي لا يد لها فيه لأنه من صنع أهلها.
البكرة الرابعة تحوي أغانٍ يونانية كانت مشهورة في بداية السبعينات وفيها أغنية pala mayka وأغنية hotshi hotshi وZingwalla ورقصات شعبية يونانية تبدأ بـ Zorba وتنتهي برقصات لا نعرف اسماؤها.
الريل أو البكرة الخامسة وهي حفلة مسجّلة للفرقة المصرية المسماة ستارز وكانت هذه الفرقة قد زارت سوريا وعملت لمدة شهر كامل في كازينو الوادي الأخضر في الربوة، ولم تبق عائلة أرمنية لم تذهب الى الوادي الأخضر لمشاهدتها، وكان المغني فيها يدعى Yervant ويبدوا انه كان محبوباً من اعضاء الفرقة فألقوا له أغنية بإسمه، وهناك عازف آخر في الفرقة يبدوا انه من الدراويش واسمه أليكّو Alekko كانوا يغنون له "خود الوزة أليكو خود الوزة ونام...وللحقيقة فإن الستارز كانت فرقة قوية جداً ويملكون جهاز ايكو بينسون اميركي وكان أمبلي الصولو غيتار رائعاً جداً والذي يعزف آلة الصولو كيتار كان يفتح الريفيرب فيخيل للناس ان صوت الكيتار يأتي من مغارة، وكان هناك اتفاق بينه وبين عازف الدرامز يوحي للمستمعين انهما يتبادلا الآلات بحرفية رائعة، وكانوا يغنون Lonely Table Just For One للمغني Engelbert Humperdinck وكذلك أغنية توم جونز الجديدة Delilah وبعض الأغاني الفرنسية والارمنية ومنها Hay Tanzara و أغنية Ov To keghetsig في هارموني ثلاثي احترافي، واغنية Manoushag eyi ويعزفون موسيقى رائعة أم كلثوم أنت عمري، وكان هناك شاب يعمل في شركة فيليبس آريسيان قسم الصيانة الكائنة في منطقة الفردوس مواجه مدرسة التجهيز وهو صديق لجيرو وكان قد استأجر محل في القصاع مواجه فرن القصاع اليوم، لصيانة الالكترونيات راديو ـ مسجلة، إتفق هذا الشاب مع فرقة ستارز على ان يسجل لهم شريط ريل لإحدى حفلات ليلة الأحد فأخذ مسجلة ريل عريض أكاي وسرعة بطيئة واستطاع الحصول على تسجيل رائع أهداه لفرقة ستارز وأهدى جيرو نسخة من هذا التسجيل الذي كنا لا نتوقف عن سماعه ونحن ندرس من أجل الكفاءة.
والشريط الأخير كان شريط المنوعات يبدأ بأغنية Engelbert Humperdinck - Take My Heart وكنا نعجب بلعبة البنكز في بداية الأغنية وهي مقياسين فقط ولكنها حركة ذكية أعطت للأغنية جمالية رائعة وبعدها بعض الأغاني الفرنسية ثم أغنية Shirley Bassey Love Story وفي الوجه الثاني كان Lp الـ Beatles المسمى Abbey Road وفيه الأغنيات "Here Comes the Sun" و"Something" و "Oh! Darling" و"Because" و"Her Majesty"من الـ Lp المسمى A Hard Day's Night كانت هناك اغنية "Can't Buy Me Love" وكانت تسحرنا ايضاً أغنية Yesterday وأغنية Hey, Jude, don't make it bad Take a sad song and make it better وكان جيرو يضحك في أواخرها عندما يصل جون لينون وجورج هاريسون الى طبقات عالية جداً...في كل مرة نستمع الى هذه الأغنية بالذات.
كنا نتحدث كثيراً عن الرباعي The Beatles
John Lennon
Paul McCartney
George Harrison
Ringo Starr
وكانت هذه مقوماتنا واستعداداتنا للكفاءة بحسب الطريقة التي نفهمها، وكانت زوجة عمي وهي أم جيرو تشحذ هممنا بالضيافة الحلبية الفاخرة...شراب التوت وشراب الورد وشراب الفريز مع قطع الكاتو والسابليه ومعقود الباذنجان مع كبوش القرنفل وحبات الجوز والنانرج والكبّاد والمجففات من مشمش وإجاص واشياء أخرى طيبة للغاية...وكانت تحضّر لنا السندويش وعصير الفواكه لتوسيع مداركنا استعداداً للكفاءة وما يكافئها وهي تعتقد اننا سنفلح، وفي الحقيقة كنا نفلح ولكن مع البيتلز وفي الغسّاني فقط لا غير.
ويأتي وقت الاستراحة فننطلق الى القصاع كل يبحث عن ليلاه فنوفق في الوقوف لمدة خمس دقائق خلف شجرة الكينا الضخمة في الحارة المؤدية الى درج الغساني مع ليلى وزميلاتها فكنا نتبادل النظرات أو بعض الكلام على عجل ويذهب كل في سبيله، نصعد انا وجيرو بإتجاه درج الغساني وننعطف الى اليسار وننزل في نزلة الغساني لنلتقي كل مع ليلاه من جديد ونتبادل النظرات والابتسامات وتذهب ليلى الكبيرة وليلى الثانية الأصغر مع صديقاتها بإتجاه مشفى الزهراوي وننطلق نحن في أثرهما وندخل في الحارات خلف مشفى الفرنسي فتصعد ليلى الصغرى الى بيتها ونرجع من حيث أتينا لتوصيل ليلى الكبرى الى بيتها ونعود وقد استحوذت علينا تلك المشاعر الجميلة.
ولنكون اكثر قرباً من ملاعب الصبا انتقلت مكاتبنا الى منزل خال جيرو وهو في منتصف نزلة الغساني على الاسطوح وكانت هناك بحرة ماء في الوسط، ودالية عنب وجوّ دراسي رائع جداً خاصة وأن أهل البيت في بيروت ومع ذلك فلقد احضرنا معنا المسجلة الريل الفيليبس وشكّلنا اذاعة تولت ازعاج الجيران، وخاصة هؤلاء الذين يستعدّون للإمتحان فخجلنا ثم صرفنا النظر عن الصوت المرتفع، واحتفظنا بذهابنا الى الغساني والعودة وشراء الكاتو من محل بندلي الرومي في القصاع والعودة لسماع البيتلز بصوت منخفض وجاء الفحص فنلنا ما نستحق.
ترك جيرو المدرسة والتحق بالمهنة التي يحبها كل الأرمن وهي مهنة الحديد والنار، وشكلت أنا اول فرقة موسيقية غربية هي الـ Black Eagles وكنا خمسة عناصر أنا على الاورغ ولم يكن عندي أورغ واوسكار آريسيان على البيس كيتار وطوني كيبابيان على الدرامز وسمير باشورة على الصولو غيتار وجورج مارديني مغني...وكنا نتمرن في قبو مدرسة المنار وكانت هناك فرقة اخرى تتمرن في مسرح الأمين، وذهبنا لزيارتهم وجاؤوا لزيارتنا فعرفنا انهم أقوى منا وأقدم وهم على التوالي أيمن فحام صولو غيتار رامي جبري أكور كيتار وسمير فحام بيس كيتار وباسم شحادة درامز وعلي جمعة مغني...وكان سمير فحام هو المسؤول عن الفرقة وتقرر بالاتفاق ان انضم الى فرقة سمير وايمن فحام واسمها DIABLES للعمل في فندق نداف في بلودان وكانت هذه الخطوة أول الطريق بإتجاه الاحتراف، ووجدت أمامي كل الاغاني التي كنا نحبها ونسمعها أنا وابن عمي جيراير واكتشفت ايضاً أنني استطيع عزفها كلها ضمن الحد الأدنى للتمرين.
انهيت المرحلة الثانوية ودخلت الجامعة وكنت في كل مرة أحنّ لصداقتي والايام الجميلة التي قضيتها مع جيرو وخاصة في الاوركيسترات وفي الموسيقى ففي كل مرة نعزف فيها أغنية من الريلات التي كانت عند جيرو تذهب بي الذكريات الى صديقي وابن عمي الذي لم يؤذيني في كل عمره ولا بكلمة واحدة، ولم تشوب علاقتنا شائبة، وكنا متفقين تماماً وفي كل شيء، وسرعان ما ادركت ان جيرو قد اتجه اتجاه آخر، وصارت لديه ليلى حقيقية تحبه ويحبها، والتزم في العمل مع والده في مهنة الحديد والنار، واقترب موعد زفافه.
احببنا خطيبته كثيراً وكان يأتي بها لزيارة أهلي، ونشأت صداقة قوية بين العروس وأمي وأختي، وبدأت التحضيرات المتعلقة بملابس العروس وفستان العرس، وفجأة توفى والدي يوم الخميس 13 أيار 1977 فقرر جيرو وعروسته تأجيل العرس، ولم ينجح تدخل أمي، فلقد أصرّت العروس ومعها جيرو وأهله على تأجيل العرس حتى الانتهاء من فترة الحداد، وكان جيرو يزورنا كل يوم مع خطيبته التي كانت تلبس ملابس الحداد، وعادت الذكريات تداعب خيالي لأكتشف من جديد هذا الشاب الرائع الذي يكبرني بسنة واحدة والذي ترك ولم يزل أثراً جميلاً في حياتي...كان يتصل بي في الانتخابات ويطلب مني ان اذهب مع اخوتي الى الكنيسة لننتخب لائحة الهنتشاك ويرافقنا حتى صندوق الاقتراع لكي لا يحدث خطأ.
وتخرجت وأديت خدمة العلم ولم تنقطع الزيارات بيننا خاصة وأنه أظهر من المحبة والاخلاص هو وأهله ما يفوق الوصف...كنت أراه في حفلات نادي الهومنمن أنا مع فرقتي الموسيقية وهو مع أهله وبيت عمه ومعه عروسه، وكان يقترب من الاورغ وعروسه بين يديه، يطلب مني أغنية ما، فكنت أنفذ ما يطلبه مني على الفور، كنت أشعر انه قطعة مني فهو ابن عمي ودمه من دمي ويحمل اسم عائلتنا وشهم وكريم ومحترم وقيادي في الحزب، وتسبقه ابتسامته وتواضعه وحبه للناس، ومسألة التواضع هذه كانت مفتاح تقييمي للناس، لأن المتكبر أو المتعجرف في العائلة كان ولا يزال لا يساوي عندي شيء، وفي يوم خارج التقويم لا أتذكره ابداً ولا أريد أن أتذكره، وجدت نفسي أمام سريرجيرو في مشفى دار الشفاء في العدوي اذكر انني دخلت غرفته مسرعاً ونظرت في عينيه وكان صاحياً فقلت له الحمد لله على سلامتك...وكانت أنابيب أكياس الدم والسيرومات وانابيب المفجر والقساطر تدخل في جسده وتخرج وجلست امامه وكانت معنوياته عالية وجسمه لا زال يحتفظ بعضلات الرياضي فلقد كان لاعب كرة القدم في فريق الهومنمن، قاومت دموعي فأنا لا أريد أن أبكي أمامه ونجحت، وفي الممر عرفت القصة لقد كان أعضاء النادي في رحلة ربما رياضية وفي طريق العودة نام سائق الباص في منعطفات الثنايا فوقع حادث أليم، وكان جيرو وصديق له في أول مقعد بعد السائق، ولا أعرف ما الذي حدث، ولكن صديق جيرو تحطم وجهه على النافذة الامامية للباص وتوفي قبل الوصول الى المستشفى أما جيرو فلقد كانت جراحه بليغة ولكن الله كتب له الحياة، كنا نتوخى الحذر وكان جيرو يغيب ليعود ويسأل عن صديقه فنجيبه انه بخير...ومرت الايام وكنت أراه في النادي وفي الكنيسة وفي بيت أهله أزوره ويزورني ولم يتغير جيرو ولم تتغير ابتسامته فلقد كان يجمع في قلبه كل التواضع والحب، ومرة اتصل بي وقال لي: هل ستذهب غداً الى الكنيسة قلت له طبعاً ستجدني هناك وربما أصل قبلك قال لي لا لن تصل قبلي سأكون هناك مع كل أعضاء النادي فهذه المناسبة عزيزة جداً على قلوبنا.
ووصلت الى الكنيسة ولكن ليس قبله...لقد كان النادي مستنفراً منذ الصباح الباكر في باحة الكنيسة بكل كشافيه ومرشداته وكل القياديين وحتى الكشافين الكبار كانوا قد اتفقوا جميعاً على الحضور بالملابس الكشفية الكاملة فالمناسبة عظيمة جداً وهي أول زيارة لأول رئيس جمهورية ارمني بعد استقلال ارمينيا عن الاتحاد السوفياتي السابق الى سوريا وتقرر ان يلقي سيادة الرئيس ليفون دير بيدروسان كلمة في الحضور...وقرر جيراير ان يكون اول المستقبلين للرئيس الارمني وأصرّ أن يحمل بنفسه علم أرمينيا على الصاري المذهب المنتهي برأس رمح، وفي ذلك مخالفة للتقاليد الكشفية فلقد أصرّ جيرو أن ينزل من مرتبة قائد كشاف الى مرتبة حامل علم، وبغض النظر عن كون هذا العلم هو أجمل علم على قلب جيرو فإن جيرو كقلبه المحب هو مسكن التواضع...صافحته وقبلته والكشافة من خلفه ودخلت الكنيسة وقد اغرورقت عيناي بالدمع...وجاء الرئيس وسمعنا الخطاب وكان جيرو يتحرك في الكنيسة يصعد السلالم والادراج ويتولى ايصال بعض الشباب الى سطح الكنيسة يذهب سريعاً ويعود سألته عن سر هذه الحركة الغير طبيعية فلم يجب بشيء وابتسم ومضى مسرعاً، وحللت الامور لوحدي وفهمت انه كانت هناك مخاوف من ان يتم اختراق الحرس الشخصي للرئيس الأرمني فيحدث ما لا تحمد عقباه هنا وفي باحة كنيستنا...وانتشر حراس الرئيس الذين جاؤوا معه من أرمينيا في كل مكان بملابسهم السوداء وسلاحهم المخبأ تحت الثياب ووصل اثنان منهم الى سطح الكنيسة، ووقفوا حول القبة ووقف آخرون أمام قبة جرس الكنيسة وآخرون على سطح المدرسة وغيرهم على المنصة والبقية وقفوا مع الحرس الجمهوري السوري في باحة الكنيسة وعلى المدخل الرئيسي وباب الكنيسة وباب صالون المراسم والضيافة وجرى تفتيش سريع لكل شيء في باحة الكنيسة وعلى المنصة وتحت المنصة وتم تفتيش اجهزة التصوير وأجهزة الصوت، وكل الحضور وكان جيرو يحمل بيده كل مفاتيح الكنيسة والصالونات والمدرسة والقاعات والصفوف والاسطحة والطلبات تنهال...قال لي "الله يمضي هل نهار على خير"...وانتهت المراسم وذهب رئيس ارمينيا بسيارة الرئاسة ومعه سيارات الوفود، وجلس جيرو متعباً على آخر مقعد من مقاعد الكنيسة...وأراد الله ان يمضي هذا النهار على خير.
وتزوجت وحضر حيرو عرسي هو وزوجته واولاده وكان يزورني في بيتي وازوره في بيته، ورزقت بابنتي الاولى بتاريخ 19 شباط 1997 وجاء ليبارك لي ووصل متعباً وقد تغيرت ملامحه، وأغمض عيناه المتعبتين قليلاً على كرسي الصالون...انها مهنة الحديد والنار وهي مهنة شاقة جداً، مهنة والدي ووالده وأعمامه جميعاً...هذه المهنة التي تعيد كميون نزل في وادي مع حمولته، تعيده الى وضعه السابق قبل الحادث...كان والده مانييل هو شيخ المهنة في دمشق وكنا نسميه عمي مع العلم أن والدي لا أشقاء له فهو وحيد وله شقيقة واحدة اسمها بيرلانت وتعيش في لبنان...وكان والدي ينادي كل اولاد عمه بلقب أخي أو يا إخوتي، وكان يقول لنا عمكم مانييل، وعمكم ابراهام، وعمكم سركيس، وعمكم ليفون، وعمتكم آرمين، وكنا نحب عمنا مانييل كثيراً ونحب زوجته ام جيرو وهي مثل زوجها لم تخطئ بحقنا أبداً، كنا نرى عمنا مانييل في صور عرس والدنا ووالدتنا ونراه في صور العمادة المتعلقة بي وباخوتي جميعاً فلقد كان عرّابنا وكان يحبنا ويعاملنا كأولاده, وشاء القدر ان ينفرط عقد العائلة، وتهاجر أولاً عمتي آرمين الى اميركا هي وزوجها واولادها، ويذهب عمي سركيس الى لبنان ويتوفي هناك وتهاجر عائلته الى كندا، ويذهب عمي ابراهام مهاجراً الى كندا هو وزوجته وأولاده ويتوفى هناك، ويتوفى والدي ثم عمي مانييل والد جيرو ثم عمي الأصغر ليفون وبعده عمتي بيرلانت في لبنان، وبعد جنازة عمي مانييل والد جيرو قال لي جيرو: لم يبقى من الكبار في العائلة أحداً لقد تضعضعت عائلتنا حتى عمي الأصغر ليفون لم يتركه الله لنا فلقد أخذه وهو لم يبلغ الستين بعد...ظالمة هي هذه الحياة.
وفجأة تلقيت اتصالاً مزعجاً لا أعرف ممن! وشعرت ان هناك امراً مروعاً قد حدث وان هناك شيء يتم اخفاؤه وطلب مني ان اتوجه الى كراج الكويت الى محل والد جيرو وذهبت مسرعاً ومعي زوجتي ووصلنا وتركت السيارة في وسط الكراج وزوجتي فيها وركضت نحو جيرو وكان ممدداً على الأرض ورأسه يتوسط بركة من الدم، وجثوت أمام جثته ومددت يدي لرفع قطعة القماش التي كانت تغطي جسده، فتصلبت يدي وتجمدت فتراجعت...كم هي قاسية هذه الحياة لقد مضى ومعه تواضعه وحبه لكل الناس وأخلاقه الكريمة وشهامته، لقد رحل ابن عمي جيرو في حادث انفجار اسطوانة اكسيجين، لقد كانت غلطة معلم، وغلطة المعلم كفرة، ومنتهى الكفر ضياع انسان كجيرو، هذا الرجل المحترم المحب والشهم الذي لم يكن له أعداء وترك بعده أطفال صغار وأم عظيمة رفضت الاستسلام للواقع...وتحضرني في هذا المقام قصيدة لأبي العلاء المعري فيها هذا البيت:
تَـعَبُ كُـلّها الـحَياةُ فَـما أعْجَـبُ إلاّ مِـنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُـزْناً فـي ساعةِ المَوْتِ أضْعَافُ سُـرُورٍ فـي سـاعَةِ الـميلادِ
هذه القصيدة تغني عن قول الكثير...ابو علاء المعري حبيب الارمن...لقد أحب الارمن ابو علاء المعري وترجموا كل اعماله للغة الارمنية وطبعوا أعماله في دار الاستشراق في جامعة يريفان بمجلد ضخم كل اوراقه باللون الأسود وكلمات المعري باللون الابيض.
تعبٌ كلها الحياة ـ لأبي العلاء المعرّي
غَـيْرُ مُـجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَــوْحُ بـاكٍ ولا تَـرَنّمُ شـادِ
وشَـبِيهٌ صَـوْتُ الـنّعيّ إذا قِيسَ بِـصَوْتِ الـبَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَـكَتْ تِـلْكُمُ الـحَمَامَةُ أمْ غَنَّـت عَـلى فَـرْعِ غُصْنِها المَيّادِ

صَـاحِ هَـذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ فـأينَ الـقُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَـفّفِ الـوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِـنْ هَـذِهِ الأجْـسادِ
وقَـبيحٌ بـنَا وإنْ قَـدُمَ الـعَهْدُ هَــوَانُ الآبَـاءِ والأجْـدادِ
سِـرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً لا اخْـتِيالاً عَـلى رُفَـاتِ العِبادِ
رُبّ لَـحْدٍ قَـدْ صَارَ لَحْداً مراراً ضَـاحِكٍ مِـنْ تَـزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِـيـنٍ عَـلى بَـقايا دَفِـينٍ فـي طَـويلِ الأزْمـانِ وَالآبـاءِ

فـاسْألِ الـفَرْقَدَينِ عَـمّنْ أحَسّا مِـنْ قَـبيلٍ وآنـسا مـن بلادِ
كَـمْ أقـامَا عـلى زَوالِ نَـهارٍ وَأنــارا لِـمُدْلِجٍ فـي سَـوَادِ
تَـعَبُ كُـلّها الـحَياةُ فَـما أعْجَـبُ إلاّ مِـنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُـزْناً فـي ساعةِ المَوْتِ أضْعَافُ سُـرُورٍ فـي سـاعَةِ الـميلادِ

خُـلِقَ الـنّاسُ لـلبَقَاءِ فضَلّتْ أُمّــةٌ يَـحْـسَبُونَهُمْ لـلنّفادِ
إنّـما يُـنْقَلُونَ مِـنْ دارِ أعْـمالٍ إلــى دارِ شِـقْوَةٍ أو رَشَـادِ
ضَـجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الجِـسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ

كـيفَ أصْبَحتَ في مَحلّكَ بعدي يـا جَـديراً مـنّي بحُسْنِ افتِقادِ
قـد أقَـرّ الـطّبيبُ عَنْكَ بِعَجْزٍ وتَـقَـضّى تَــرَدّدُ الـعُـوّادِ
وَانْتَهَى اليأسُ مِنكَ وَاستشعَرَ الوَجْدُ بـأنْ لا مَـعادَ حـتى الـمعادِ
هَـجَدَ الـسّاهرُونَ حَوْلَكَ للتمْريـضِ وَيـحٌ لأعْـيُنِ الـهُجّادِ
أنـتَ مِن أُسْرةٍ مَضَوْا غَيرَ مَغْرُوريـنَ مِـنْ عَـيشَةٍ بِذاتِ ضِمادِ

فَـعَزيزٌ عَـليّ خَـلْطُ الـلّيالي رِمَّ أقـدامِـكُمْ بِـرِمّ الـهَوَادي
كُـنتَ خِـلّ الصِّبا فلَمّا أرادَ البَـينَ وَافَـقْتَ رأيَـهُ فـي المُرادِ
ورأيـتَ الـوَفاءَ للصّاحِبِ الأوَّلِ مِـنْ شـيمَةِ الـكَريمِ الجَوادِ
وَخَـلَعْتَ الـشّبابَ غَضّاً فَيا لَيْتَــكَ أَبْـلَـيْتَهُ مَـعَ الأنْـدادِ
فـاذْهَبا خـير ذاهـبَينِ حقيقَيْن بِـسُـقْيا رَوائِــحٍ وَغَـوَادِ
ومَــراثٍ لَـوْ أنّـهُنّ دُمُـوعٌ لـمَحَوْنَ الـسّطُورَ فـي الإنْشادِ

والـفَتَى ظاعِنٌ ويَكفيهِ ظِلُّ السَّـدْرِ ضَرْبَ الأطْنابِ والأوْتادِ
بـانَ أمْـرُ الإلَـهِ واختَلَفَ النّاسُ فَـداعٍ إلـى ضَـلالٍ وَهَـادِ
والّـذي حـارَتِ الـبَرِيّةُ فِـيهِ حَـيَوَانٌ مُـسْتَحْدَثٌ مِـن جَمادِ
والـلّبيبُ الـلّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغْترُّ بِـكُـوْنٍ مَـصـيرُهُ لـلفَسادِ

أبو العلاء المعري
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 23 06 2013