حزب الله والدفاع عن النفس
بروفيسور عبد الستار قاسم
20/حزيران/2013

ماذا يمكن أن تفعل أو تفعلين حضرتك أنت إذا حاصرك جيران من جهات ثلاث، واتفقوا فيما بينهم على التخلص من الرابع الذي يسمح لك بإدخال الماء إلى بيتك؟ وما هو المطلوب من العراق مثلا إذا حاصرتها الدول من مختلف الجوانب، وعملت بعدها على إغلاق المنفذ الوحيد الذي تبقى لها إلى العالم الخارجي؟ أو لنسأل ماذا من المتوقع أن تعمل إسرائيل إذا تم التهديد بإزالة النظام الأردني الذي يفتح البوابة واسعة أمامها إلى الوطن العربي؟
وماذا نتوقع من حزب الله أن يفعل إذا كانت قوى 14 آذار اللبنانية ومن حالفها تتربص به، وإذا كانت إسرائيل تتهدده، وما دامت قوى المعارضة السورية تتوعده وتنذره بأنها ستدخل لبنان بعد انتصارها لتقضي عليه؟ لو كنت مكانه ماذا ستفعل: هل ستفر إلى البحر، أم ستصعد إلى السماء؟ أم ستنظر إلى الأمور بعين الحياة أو الموت؟ هناك من يتذكرون تماما ماذا فعلت حماس عام 2008 عندما تم خنق قطاع غزة من قبل القوات الإسرائيلية والمصرية والسفن الحربية في عرض البحر الأبيض المتوسط. ألم تقم حماس باجتياح الحدود الافتراضية مع مصر متحملة بذلك كل الاتهامات التي انهالت عليها من كل حدب وصوب؟ هل كان مطلوبا من المقاومة الفلسطينية القبول بالموت البطيء، أم أن تجرب عضلاتها لتحيا؟
من الناحية الأمنية والعسكرية، المشكلة ليست عند حزب الله إنما عند المعارضة السورية التي حرصت منذ البداية على زيادة أعداد أعدائها من زاوية الاستنجاد بالغرب، ومن زاوية كيل التهديد والوعيد لحزب الله. الاستنجاد بالغرب يعني أن أعدادا لا بأس بها من السوريين والعرب والمسلمين ستتردد في دعم المعارضة أو ستقف ضدها، وتهديد حزب الله يعني دعوة حزب الله للاستعداد للحرب دفاعا عن نفسه. تعمل الدول عندما تشن حروبا على تقليل عدد الأعداء بالتحييد أو كسب الصداقة، ورفع أعداد الأصدقاء وتمتين العلاقات معهم، ولا يبدو أن المعارضة السورية كانت تحسب الأمور بدقة.

جذور العداء
بعد أن ارتاحت الأنظمة العربية من وجود منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية في لبنان، فوجئت باغتيال بشير الجميل في 14/أيلول/1982 والذي كان قد انتخب رئيسا للبنان، واتخذ قرارا بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل. تم توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في عهد شقيق بشير الرئيس أمين الجميل في 17/أيار/1983. لكن المفاجأة الأكبر كانت في 23/تشرين أول/1983 عندما تم تفجير مقري القوات الأمريكية والفرنساوية في بيروت، واضطرت بسببهما فرنسا وأمريكا إلى الهريبة من لبنان. تبين فيما بعد أن حزب الله، الحزب حديث النشأة، مسؤول عن التفجيرين، وعن إسقاط اتفاقية 17/أيار/1983 الشبيهة باتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية وادي عربة مع الأردن.
دق جرس الإنذار لدى الأنظمة العربية والأمريكيين والأوروبيين على اعتبار أنه أصبح لإيران وحلفائها كلمة في المنطقة، وأن غياب منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان قد أتى بمن يمكن أن يكونوا أشد عداء لإسرائيل. لقد تخوف العرب منذ زمن من صحوة إسلامية، ومن ظهور دول أو منظمات معادية لإسرائيل ترفض وجودها، وفي ظهور حزب الله ما أكد المخاوف. خشي قادة العرب دائما من صحوة سنية بعد الصحوة الشيعية في إيران ولبنان، وخشوا ظهور من يعرقل توجهاتهم التاريخية للاعتراف بإسرائيل والصلح معها، وقد كان في ظهور الحزب ما نغّص على هؤلاء القادة حراكهم الاستسلامي.
كان على الأنظمة العربية أن تتوقع حراكا متصاعدا للحركات الإسلامية السنية، ومزيدا من الضغط على إسرائيل. ولهذا أخذت تتبنى سياسة امتصاص غضب الإسلاميين بوسائل مختلفة منها تعزيز التظاهر بالتدين، والتركيز على بناء إسلام كهنوتي رهباني يبقى مشغولا بقضايا فقهية ثانوية مثل طول اللحية وشعر النساء ومكافآت قراءة سور القرأن الكريم، وبقضايا غيبية مثل عذاب القبر وأهوال يوم القيامة. وقد وجدوا رجال دين معرفتهم بالله قليلة يقومون بمهمة رهبنة الدين الإسلامي وتحويله إلى دين يهتم بصغائر الأمور على حساب بناء الأمة، وهؤلاء هم الذين استلموا مهمة بث الفتنة بين السنة والشيعة فيما بعد.
أما على صعيد إسرائيل، فالمهمة كانت صعبة للغاية من حيث أن الأنظمة لا تستطيع في تلك الفترة الوقوف علنا ضد المقاومة التي تواجه إسرائيل، وكان عليها البقاء ضمن دائرة التآمر.

جدلية رفض الإسلام وقبول إسرائيل
الأنظمة العربية في أغلبها صنيعة الاستعمار الغربي، وهي في رعاية الولايات المتحدة الأمريكية الآن، وهي بالتالي ليست موجودة لخدمة الشعوب العربية، وإنما للسهر على مصالح الدول التي وضعتها على كراسي الحكم، وإذا كانت ستخدم عموم الناس، فذلك تحت مظلة المصالح الغربية وليس خارجها أو فوقها. طبعا هناك أنظمة عربية ظهرت عبر الزمن من خلال الانقلابات العسكرية، لكنها تميزت بالكثير من الظلم والطغيان والجهل، وثبت فشلها مع الزمن، ومن ضمنها النظام السوري. أي أن الأنظمة العربية تنقسم إلى قسمين: قسم عميل للاستعمار الغربي مثل السعودية والأردن والمغرب، وقسم جاهل، وكلاهما غير صالحين لقيادة شعب أو امة.
الإسلام يتعارض مع العمالة للآخرين ومع الجهل، ولهذا حرصت كل الأنظمة العربية على جعل الإسلام دين حيض ونفاس أو ما شابه حتى لا تتطور طاقاته فيدوس على الأنظمة. وقد ساهمت حركات إسلامية بجعل الطرح الإسلامي ساذجا، وأحيانا قاتلا ومجرما ينفر منه الناس، ويحولهم إلى عجزة منهمكين بالطقوس دون عمل الخير. وهذه هي أكبر عقبة يواجهها المفكرون الإسلاميون الآن من حيث أن ما يطرحونه لا يتناسب مع ما يظن الناس أنه الدين.
تطورت مدرستان متمسلمتان نتيجة سياسات الأنظمة العربية وهما مدرسة الرهبنة ومدرسة الإجرام وكلاهما يسيء للإسلام والمسلمين. والهدف من قيام هاتين المدرستين الصد عن سبيل الله وتقبيح الإسلام بعيون أهل الأرض وعيون أبناء الإسلام، وبذلك تطمئن الأنظمة العربية ومعها أهل الغرب وإسرائيل.
أما من ناحية إسرائيل فالأمر واضح تماما. إذا كانت الدول الاستعمارية هي التي أوجدت الأنظمة العربية، وهي التي أوجدت إسرائيل، فإن على هذه الدول أن تتخذ السياسات المناسبة للمحافظة على بقاء إسرائيل. وجود العديد من الأنظمة العربية مرتبط بدفاعها عن إسرائيل، وإذا كان من نظام عربي موجود بفضل الغرب أن يشذ عن هذه القاعدة فإن الغرب قادر على تغيير قيادته بسرعة. ولهذا لم يكن من الممكن أن تقوم القمم العربية بأي جهد ملموس من أجل ردع إسرائيل، ولم يكن من المتوقع أن يتغلب الناس على سذاجتهم ويدركوا هذه الحقيقة المرة إلا بعد سنوات. إسرائيل عدوة الأمة العربية لكنها صديقة لأغلب الأنظمة العربية، وتعمل بكل قوة على دعمها في مواجهة خصومها الداخليين. فأيهما أفضل للأنظمة العربية: تقديم الدعم لإسرائيل والبقاء في الحكم أم الوقوف مع الأمة العربية والمخاطرة بكراسي الحكم؟

رفض حزب الله والمقاومة
تشكل المقاومة القائمة الآن على أرض الشام، في فلسطين ولبنان، ظهر المقاومة العربية الإسلامية، وهي التي تتحدى إسرائيل ومن معها. المقاومة تدافع عن الأمة العربية، وإسرائيل تدافع عن الأنظمة العربية، ومن غير الذكاء أن يظن أحد أن الأنظمة العربية ستهادن أي نوع من المقاومة سواء كانت شعبية أو مسلحة.
ولهذا تعاونت دول عربية كثيرة مع إسرائيل ومن ضمنها فلسطينيون من أجل هزيمة حماس وكل المقاومة الفلسطينية في الحرب على غزة عام 2008/2009. لقد دعموا إسرائيل معنويا وأمنيا، ودعوا الله أن يوفق إسرائيل في حربها، لكن دعواتهم لم تصل. وفشلت دعواتهم أيضا عام 2012 على الرغم من ظهور بعض الأنظمة العربية المتحالفة مع إسرائيل بمظهر المساند للمقاومة.
بالنسبة لحزب الله، المسألة أكثر تعقيدا بخاصة أنه متحالف مع إيران المتهمة بأنها تحاول الزحف على الوطن العربي. لم تستطع الأنظمة العربية عمل شيء ضد حزب الله أثناء مقاومته للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان لأسباب عدة على رأسها أنها كانت عاجزة، وبسبب الوجود العسكري السوري في لبنان. قاتل حزب الله إسرائيل وهو مرتاح من هموم الخيانة العربية حتى عام 2000 عندما ولى الجيش الإسرائيلي هاربا من لبنان.
ظهرت أنياب أغلب الأنظمة العربية وجزء كبير من اللبنانيين بعد عام 2000 لتنهش حزب الله وتتخلص منه، لكن الحزب كان قويا بما فيه الكفاية، ولم يسعف التطلع العربي وذلك الجزء من الشعب اللبناني إلا حرب تموز/2006، والتي عقد العرب عليها آمالا كبيرة في سحق حزب الله. تعاونت السعودية والأردن ومصر وقوى السنيورة والحريري ومن حالفها من القوى الداخلية، لكنهم جميعا ارتدوا خاسرين. ولم يكن يسلم حزب الله من الهجمات الإعلامية المركزة ضده، فامتشقت آلاف الوسائل الإعلامية على اتساع الوطن العربي والعالم الغربي أقلامها وبرامجها تحرض ضده وتشوه صورته وتتوعده وتتمنى اختفاءه. حتى أن فلسطينيين كثرا، وهم الذين من المفروض أن يتمنوا وجود مقاومة مسلحة فعالة، أخذوا يهاجمون حزب الله.

ممنوع على حزب الله
هناك أكثر من ستين فئة ودولة تشارك في القتال في سوريا مع المعارضة، ليس حبا في المعارضة أو سوريا، وإنما بهدف تدمير سوريا. وقد سبق أن توجهت إلى المعارضة قائلا بأن عليها عدم إدخال القوى الخارجية في الصراع لأن هذا يطيل عمر النظام، وأن إبقاء الصراع محليا يعجل من عملية التغيير السياسي في سوريا. تدخلت أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، ومنظمات مسلحة عديدة، وقوى 14/آذار اللبناني. لم يدع أحد من المتباكين حاليا أي طرف للخروج من سوريا، لكن الجميع استنفر عندما تدخل حزب الله. والسبب واضح وهو أن رأس حزب الله هو المطلوب.
حزب الله محاصر الآن من إسرائيل وقوى 14/آذار اللبنانية، وقوى المعارضة في سوريا، ومن البحر غربا. فماذا يفعل؟
وكلمة للمقاومة الفلسطينية: إذا كان هناك من المقاومة الفلسطينية من يظن أن الأنظمة العربية ستربت على ظهر مقاوم فإن عليه أن يراجع نفسه. إذا نُحر حزب الله، نُحرت المقاومة الفلسطينية.

الفتنة المذهبية الإجرامية
كنت قد كتبت أول كتاب صدر في العالم حول الثورة الإيرانية عام 1979، وقلت فيه إن أمريكا والأنظمة العربية ستستعمل الفتنة المذهبية بين الشيعة والسنة كأمضى سلاح لمواجهة إيران وتحطيم نظاتمها الجديد. كنت عندئذ مدرسا في الجامعة الأردنية، ووجدنا ذات صباح عام 1979 نسخا في مكاتبنا تتحدث عن الخلافات بين السنة والشيعة وتكيل الشتائم والسباب للشيعة، وتورد الشتائم التي يكيلها أهل الشيعة لأهل السنة.
منذ 1979، وهناك محاولات مستميتة من شيعة وسنة فاسقين لا يعرفون الله لبث فتنة دموية يدفع ثمنها الناس البسطاء العاديون ويعتلي عرش جماجمها حكام فاسدون عملاء لإسرائيل وأمريكا. هناك من يقاومون هذا التوجه الفتنوي، لكن قدرة المفسدين على حشد وسائل الإعلام وتوظيف رجال الدين ورصد الأموال أعظم بكثير. عبر هذه السنوات الطوال، استطاعت قوى البغي أن تقنع جماهير عريضة بأن المذهب الآخر كافر ويجب التخلص منه ولو بالتعاون مع الصهاينة وأمريكا. ولا أشك للحظة بأن الكثير من المواقع الإليكترونية الشاتمة سنية كانت أو شيعية، والعديد من المفجرين لأنفسهم يقعون تحت وطأة أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية والعربية تربويا وثقافيا.
اشتد أوار الفتنة الطائفية بعد انتصار حزب الله عام 2006. ظنت الدوائر المتربصة أن إسرائيل ستقضي على حزب الله بسهولة، لكن ظنهم خاب، فاستعاضوا عن ذلك بتكثيف جهودهم الفتنوية، وذلك لتبرير تمزيق وسحق حزب الله ومن والاه أو أيده أو تحالف معه.
وفي مواجهة هذه الفتنة على كل المسلمين من سنة وشيعة في أرض الإسلام وبخاصة في ديار الشام والعراق أن يتحدوا. التصدي للفتنة واجب ديني ووطني وقومي، وعلى كل المؤمنين بوحدة الناس، ووحدة الأمة العربية والإسلامية أن يقفوا صفا واحدا في مواجهة المفتنين. الفتنة لا تصيب الذين ظلموا فقط، وإنما الذين لم يظلموا خاصة.