الولايات المتحدة وتصفية قضية فلسطين
د. غازي حسين
في الرابع عشر من كانون أول من العام 1988 أعلن جورج شولتس وزير الخارجية الأمريكي فتح الحوار المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد أربع وعشرين ساعة من القرار الأمريكي تلقى الدبلوماسيون الأمريكيون في عواصم عربية وأجنبية برقية من وزارة الخارجية الأمريكية برفع الحظر عن الاتصال والحوار المباشر مع ممثلي ومسئولي منظمة التحرير الفلسطينية.
وأصبح باستطاعتهم التحدث والالتقاء معهم دون التعرض للطرد كما جرى مع اندرو يونغ ممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة أو لأية عقوبات أخرى، وعلى الفور أعلن رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عرفات بأن الولايات المتحدة غيرت موقفها من المنظمة.
وأعلنت الولايات المتحدة أن منظمة التحرير قد وافقت على الشروط الأمريكية الثلاث وهي الاعتراف بدولة اسرائيل وبالقرارين 242 و 338 والتخلي عن المقاومة المسلحة.
إن ما حصل هو عكس ما أعلنه عرفات، حيث وافق هو نفسه على الشروط الأمريكية في بيان جنيف عام 1988 .
وانطلاقاً من الموقف الأمريكي الرسمي الجديد تم اللقاء في السادس عشر من كانون أول عام 1988 في تونس بين السفير الأمريكي هناك ووفد منظمة التحرير الفلسطينية مكون من ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والأمين العام المساعد للجبهة الديموقراطية آنذاك، وعبد الله حوراني عضو اللجنة التنفيذية، وعبد اللطيف أبو عجلة أمين عام الدائرة السياسية في منظمة التحرير، وحكم بلعاوي ممثل المنظمة في تونس.
وترسخت الشروط الأمريكية التي وضعها هنري كيسنجر في اتفاق الإذعان في أوسلو في 9/8/1993 الذي وقعه عرفات وفي إعلان المبادئ الذي وقعه محمود عباس والجنرال رابين في 13/9/1993 في البيت الأبيض بواشنطن.
وهكذا تكون الولايات المتحدة قد نقلت علاقاتها مع منظمة التحرير من مرحلة السرية إلى مرحلة جديدة رسمية وعلنية حتى تتمكن من صناعة التسوية برعايتها كحليف استراتيجي للعدو الاسرائيلي لتصفية قضية فلسطين، وتالياً انقسمت الساحة الفلسطينية إلى اتجاهين:
الأول: يعتبر العلاقة مع واشنطون انتصاراً لمنظمة التحرير الفلسطينية.
والثاني: يعتبرها انحرافاً عن مبادئ وأهداف الثورة الفلسطينية سيؤدي إلى تقديم المزيد من التنازلات عن الحقوق الوطنية الثابتة الغير القابلة للتصرف وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم، وإلى اجهاض انتفاضة الحجارة التي عجز العدو عن إخمادها
فكيف بدأت العلاقات السرية بين الطرفين وتطورت إلى المرحلة الرسمية والعلنية؟
عندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في القدس عام 1964 اتخذت الولايات المتحدة موقفاً معادياً بسبب تحالفها الاستراتيجي مع اسرائيل وازدواجية ولاء يهود الإدارات الأمريكية مع أولوية ولائهم لاسرائيل. وتذرعت الولايات المتحدة آنذاك بالميثاق الوطني الذي ينص على معاداة الصهيونية والامبريالية، ويطالب بتحرير القدس المحتلة وفلسطين من الاستعمار الاستيطاني والنظام العنصري وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
واعتبرت الولايات المتحدة أن وجود منظمة التحرير يشكل تهديداً مباشراً لمصالحها ومصالح اسرائيل في المنطقة.
كتب هنري كيسنجر في مذكراته حول موقف واشنطون من المنظمة قائلاً:
" كانت منظمة التحرير معاديةً للامبرياليين بشكل صريح، وملتزمة بتدمير صديقين هامين من أصدقاء الولايات المتحدة- اسرائيل والمملكة الأردنية – لذلك لم يكن لدينا حافز قوي للنظر في الحوار مع المنظمة ليس بسبب ضغوط اسرائيلية(كذب يهودي) بل بسبب تقديرنا للمصلحة الأمريكية ".1
بدأت الاتصالات الأمريكية- الفلسطينية في صيف عام 1970 عندما اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خمس طائرات مع ركابها، وكانت اثنتان منهما أمريكيتان. وأرسلت الولايات المتحدة أحد مندوبي وزارة الخارجية وعدد من موظفي شركة الخطوط الجوية الأمريكية، ومسؤولين من السفارة الأمريكية في عمان للالتقاء مع مسؤولين فلسطينيين لحل مشكلة الطائرات وركابها. وبالفعل تم التوصل إلى حل وسط تقوم بموجبه الجبهة الشعبية بإطلاق سراح الركاب دون الطائرات.. وأطلقت الجبهة سراحهم وفجرت الطائرات.
بعد هذه الحادثة التي أثارت غضب الإدارة الأمريكية وحتى لا تتكرر مرة أخرى قامت الإدارة الأمريكية بإرسال روبرت كلايتون آيمز من كبار موظفي المخابرات المركزية إلى عدد من دول المنطقة بمهمة استطلاعية، وكانت لديه تعليمات بالالتقاء مع شخصيات فلسطينية رسمية وغير رسمية. 2
بدأت الاتصالات بين مبعوثي الادارة الأمريكية وقيادة عرفات منذ أحداث أيلول 1970، ولكنها اتخذت طابعاً سرياً، واتخذ جزءاً منها طابعاً علنياً ثم دخلت في مرحلة الرسمية والعلنية، ووصلت إلى ما وصلت عليه الآن بزيارتي كيري وأوباما إلى رام الله وتل أبيب وبعض العواصم في المنطقة.
في بادئ الأمر قام عملاء المخابرات المركزية وأساتذة أمريكيون بهذه الاتصالات تلبيةً لتخطيط أمريكي وضع أسسه معهد بروكينغز للدراسات ومؤسسة راند ومراكز بحوث ودراسات أمريكية يمولها ويشرف عليها يهود الولايات المتحدة، ووضع هؤلاء التخطيط الأمريكي لمستقبل السياسة الأمريكية تجاه قضية فلسطين والصراع العربي-الصهيوني ولترويض قيادة عرفات وحملها على الموافقة على الانخراط في التسوية الأمريكية في التسوية الأمريكية بالشروط والمخططات الاسرائيلية.
ولعب أساتذة الجامعات الأمريكية في تلك الفترة دوراً في ضرورة توجه السياسة الأمريكية نحو الفلسطينيين كما لعب ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي وبرونو كرايسكي( يهوديي نمساوي) مستشار النمسا دوراً مهماً في هذا التوجه وكتب الأكاديمي الأمريكي دون بيرتز يقول:
" إن تعويض ممتلكات اللاجئيين ليس هماً مصرياً أو لبنانياً، لأن الممتلكات المفقودة ليست لبنانية أو مصرية، انه شأن فلسطيني لا يمكن حله الا بمفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين" . 3
صعدت القوة الجماهيرية والسياسية والعسكرية في بداية السبعينيات من القرن الماضي إلى أعلى مراحلها، وأخذت مكانة ومصالح الولايات المتحدة تتدهور في بلدان المنطقة لانحيازها الأعمى لاسرائيل ومعاداتها لحركة التحرر الوطني العربية وقضية فلسطين، وأخذ تصاعد العداء للولايات المتحدة يهدد بالقضاء على النفوذ الأمريكي في البلدان العربية والاسلامية، فأعلن وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكي في تموز 1970 عن مبادرته للتسوية، وطرح وتبني المعادلة التالية:
"أوقفوا القتال وأبدؤوا الحوار بالحوارات واقترح وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر لتسهيل مباحثات السلام.
وافقت مصر على مبادرة روجرز في 22 تموز 1970 ودخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 7 آب1970 .
وركزت الولايات المتحدة في آب 1970 على تشجيع تسوية سياسية قائمة على المبادئ التي يجسدها قرار مجلس الأمن 242 ،وذلك بالعمل للتوصل إلى اتفاق بين مصر واسرائيل عن طريق سياسة الخطوة خطوة لفتح قناة السويس وأوضح روجرز سياسة الادارة الأمريكية آنذاك قائلاً:
"إذا استمرت عملية الخطوة خطوة فسيصبح بالامكان التوصل إلى حل سلمي عبر التطبيق الكامل للقرار 242 " 4
وتزايد انهماك الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر في شهري آب وأيلول1970 في أزمة الشرق الأوسط، وأخيراً بدا أن موت الرئيس عبد الناصر في الوقت الذي كانت فيه أحداث أيلول في الأردن توشك على الانتهاء قد فتح الباب على مصراعيه لسياسة مصرية خارجية أكثر اعتدالاً بطبيعة الحال. 5
وكتب مستشار الأمن القومي الأمريكي وليم كوانت عن موقف ادارة الرئيس نيكسون قائلاً:
"في هذا الحين أصبحت الثقة باسرائيل في البيت الأبيض تفوق الثقة بوزارة الخارجية، وبدأ كل من نيكسون وكيسنجر على الفور تغيير وجهة السياسة في الولايات المتحدة" 6
وكان السفير الأمريكي قد طلب من الملك حسين ضرب المقاومة الفلسطينية إلا أن الملك رفض طلبه القيام بذلك، فغضب الملك وطلب من واشنطون سحب السفير، وبالتالي كانت واشنطون وراء أحداث 17 أيلول.
لم تغير أحداث أيلول في الأردن توجه الولايات المتحدة نحو الفلسطينيين بل رأت واشنطون أن الفرصة مؤاتية أكثر مما مضى للتوصل إلى تسوية سياسية بسبب ما لحق بقيادة منظمة التحرير من خسائر، حيث أعلن وليم روجرز وزير الخارجية" أن مصلحة الفلسطينيين يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. 7
وصرح السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة تشارلز يوست آنذاك بعد تصريح روجرز قائلاً:
"إذا أردنا السلام في المنطقة يجب أن نراعي مصالح وتطلعات الفلسطينيين في المنطقة". 8
واعترف روجرز لأول مرة أمام الأمم المتحدة بوجود الشعب الفلسطيني الذي أنكرته غولدامائير في 25 أيلول1972 وقال:
" أن حلاً شاملاً يتطابق مع قرار مجلس الأمن رقم242 يجب أن يراعي التطلعات المشروعة لكلا الطرفين "اسرائيل" وتطلعات الشعب الفلسطيني أيضاً" . 9
وتابعت الولايات المتحدة سياستها القائمة على اعتبار الشرق الأوسط منطقة هامة وحيوية للأمن القومي الأمريكي، حيث أكد الرئيس نيكسون في تقريره إلى مجلس الشيوخ حول السياسة الخارجية بين القوتين الأعظم بسببه.
1) جريدة الثورة دمشق في 18/12/1984
2) القبس الكويتية في 15/3/1984
3) د. محمد شديد، الولايات المتحدة والفلسطينيون بين الاستيعاب والتصفية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1981، ص 137.
4) المصدر السابق نفسه، ص 148.
5) وليم كوانت، عقد من القرارات 1967-1976، السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الاسرائيلي، مكتب الخدمات الطباعية دمشق1984، ص148 .
6) المصدر السابق نفسه ص 150 .
7) د. محمد شديد، الولايات المتحدة والفلسطينيون، مصدر سابق، ص 146.
8) المصدر السابق نفسه ص 146.
9) المصدر السابق نفسه ص 147.