بمناسبة مرور الذكرى الخامسة والستين للنكبة
النكبة والتمسك بحق العودة
د. غازي حسين


النكبة هي الكارثة المستمرة التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية في 15 أيار 1948 ولا تزال مستمرة، وجرى فيها تهجير حوالي المليون فلسطيني من وطنهم، وطن آبائهم وأجدادهم بعشرات المجازر الجماعية «ومنها مجزرة دير ياسين» وحرب عام 1948 ـ 1949 التي أشعلها العدو الصهيوني. وتمر في هذه الأيام الذكرى الخامسة والستون على النكبة ليبرهن فيها الشعب العربي الفلسطيني للعالم أجمع أن النكبة التي ألمَّتْ به عصية على النسيان، وثبت فيها أن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم حق يأبى النسيان.
استغلت الصهيونية العالمية والدول الغربية جرائم ألمانيا النازية ضد اليهود غير الصهاينة أو ما تسميه الصهيونية بـ «المحرقة الهولوكوست» وأقاموا كيان الاستعمار الاستيطاني الإرهابي والعنصري كأكبر غيتو يهودي في قلب الوطن العربي، معاد لشعوب المنطقة وكحليف استراتيجي للدول الاستعمارية.
واحتفل الآلاف من أبناء «الشعب العربي الفلسطيني في الداخل بتاريخ 16/4/2013م» بـ «مسيرة العودة» التي تنظمها سنوياً «جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين»، وتتزامن مع التقويم السنوي العبري باحتفالات «إسرائيل» بما يسمى بـ «يوم الاستقلال». وجرت مسيرة العودة تحت شعار «يوم استقلالهم يوم نكبتنا» إشارة إلى النكبة التي جرى فيها ترحيل الفلسطينيين وتوطين المستعمرين اليهود محلهم وتدمير أكثر من 530 بلدة وقرية وإقامة المستعمرات اليهودية على أنقاضها.
اختار القائمون على المسيرة قرية خبيزة المهجّرة في المثلث ليتوجه إليها الفلسطينيون حاملين الأعلام السود وعلم فلسطين ولافتات كتبت عليها أسماء مئات البلدات التي دُمرت وهُجِّر أهلها ورفع بعض المسنين وأبناء اللاجئين والمهجرين مفاتيح منازلهم التي دمرت وبنيت فوقها مئات المستعمرات وشارك في مسيرة العودة عدد من مواليد قرية خبيزة الذين تحدثوا لوسائل الإعلام حكاية ترحيل قريتهم وتشريد أهلها وعدم السماح للسكان من العودة إلى أراضيهم والتي هي على مرمى حجر من إقامتهم الحالية، ورفع المشاركون الشعارات التي تؤكد على حق عودة المهجرين واللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم.
ويعتبر أبناء الشعب العربي الفلسطيني في الداخل إن احتفالات ما يسمى بيوم الاستقلال «إسرائيل» هي رقص على دماء الفلسطينيين واستفزاز لمشاعرهم وتجاهل لنكبتهم التي تتحمل «إسرائيل» مسؤوليتها السياسية والقانونية والمادية والمعنوية، وجرت عملية التهجير بقوة السلاح والحرب والمجازر وعنصرية القوانين الإسرائيلية وجاءت مشاركة الجيل الثاني في المسيرة كرد على مراهنة «إسرائيل» أن الأبناء ينسون بعد أن يموت الآباء وأكد المشاركون على أن المهجرين واللاجئين لن ينسوا مدنهم وقراهم (يافا وحيفا وصفد وسلمة واللد والرملة والمجازر التي ارتكبتها العصابات الإرهابية اليهودية المسلحة وإسرائيل بحق شعبهم الفلسطيني.
وتوجهت مسيرة العودة السنة الماضية في 26/4/2012 إلى قريتي كويكان وعمقا في قضاء عكا التي لم يبق فيهما إلاّ بعض المعالم التي تُشير إلى تاريخهما العربي الفلسطيني.
وأكدت مسيرات العودة التي حدثت في عام 2011 و2012 إلى الجولان وجنوب لبنان والأغوار، أي في سورية ولبنان والأردن والضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة وقطاع غزة على الحدود مع الكيان الصهيوني ومحاولة اقتحام الحدود على وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وتمسكه أكثر من أي فترة مضت بحق عودة اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم التي شردوا منها بالقوة وتطبيقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194 وقرار مجلس الأمن رقم 237 ولمبادئ القانون الدولي وأسوة بالتعامل الدولي.
هجّرت «إسرائيل» اللاجئين تنفيذاً لمخططاتها في الترحيل والاستعمار الاستيطاني لإقامة «إسرائيل العظمى الاقتصادية» عن طريق توقيع اتفاقات الإذعان في كمب ديفيد وأوسلو ووادي عربة وإقامة مشروع الشرق الأوسط الجديد، بحيث تكون فيه «دولة اليهود» بمثابة القلب والمركز والقائد للمنطقة العربية والإسلامية. ورسَّختْ الصهيونية العالمية و«إسرائيل» في الأوساط اليهودية، وفي المناهج الدراسية والكتب التاريخية كذباً وبهتاناً (كعادة اليهود في الكذب) أن اللاجئين غادروا مدنهم وقراهم طوعاً ودون إكراه تنفيذاً لنداءات الحكام العرب.
وجاء المؤرخون الجدد، وعكفوا على دراسة وتحليل الوثائق السرية التي أفرجت عنها «إسرائيل» بعد مرور خمسين سنة، وخرجوا برأي هزّ «إسرائيل»، وأعلنوا أن ترحيلاً جماعياً قسرياً قد ارتكبته «إسرائيل» بحق الشعب الفلسطيني عام 1948م، وأطلقوا على ذلك «عملية تطهير عرقي».
وتكررت عملية الترحيل جراء حرب حزيران العدوانية التي أشعلتها «إسرائيل» عام 1967، فاتخذ مجلس الأمن الدولي القرار 237 ونص على وجوب عودة اللاجئين إلى ديارهم.
إن حق عودة المواطن إلى وطنه ودياره حق طبيعي وقانوني ومقدس، فردي بالدرجة الأولى انطلاقاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وجماعي ثانياً انطلاقاً من حق الشعوب الأمم في تقرير المصير.
وينبع حق العودة من الحقوق الطبيعية، ومن حق المواطن في وطنه وحقه في الملكية لاستعادة أراضيه وممتلكاته التي لا تزول بالتقادم أو بزوال الدول أو بتغيير السيادة، وحق شخصي أولاً وثانياً لا تجوز فيه الإنابة أو المساومة أو المصادرة، وحق يملكه الشخص نفسه وليست قيادة منظمة التحرير أو مؤتمرات القمم العربية أو جامعة الدول العربية التي باعت فلسطين.
ويستمد قوته كحق غير قابل للتصرف من القانون الدولي، ومن العهود والمواثيق الدولية، ومن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ومن العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
إذاً حق العودة حق شخصي أولاً، يتعلق باللاجئ نفسه ويربطه القانون الدولي بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وربطته الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الحق منذ عام 1969، لذلك فهو حق جماعي أيضاً، وأكدت عليه المنظمة الدولية منذ عام 1974 كحق غير قابل للتصرف، فالاتفاقات التي يمكن أن توافق عليها مؤتمرات القمة العربية أو جامعة الدول العربية أو أي قيادة أخرى وتتضمن التشطيب عليه باطلة قانونياً، ومدانه أخلاقياً وخيانة وطنية وقومية ودينية.
إن الشعب العربي الفلسطيني رفض ويرفض رفضاً قاطعاً التنازل عن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم ويعتبر أن تفسير بعض قادة منظمة التحرير الفلسطينية بأن حق العودة يعني العودة إلى الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها كمصلحة إسرائيلية لتصفية قضية فلسطين وشطب حق العودة والاعتراف بيهودية الدولة وترحيل فلسطينيي الداخل إلى دولتهم الفلسطينية هو استجابة المفاوض الفلسطيني والقيادة الفلسطينية للإملاءات الأمريكية، وتعلن بعض القيادات الفلسطينية استعدادها للتنازل عن هذا الحق، وبالتالي تضع الشعب الفلسطيني أمام مخاطر الترحيل والتوطين والوطن البديل (الكونفدرالية مع الأردن) والتهجير إلى بلدان أخرى. وشجعت هذه المواقف دهاقنة الاستعمار الاستيطاني اليهودي على المضي قدماً إلى الأمام لابتزاز الدول العربية تماماً كما ابتزوا ألمانيا وبقية البلدان الأوروبية في نصف القرن الماضي للحصول على مصدر جديد لحل أزمات «إسرائيل» الاقتصادية الخانقة وتطبيع العلاقات معها، فأعلن الفاشي ليبرمان عن خطة خطيرة وحقيرة وطرح مشكلة ما يسمى بالمهاجرين اليهود من البلدان العربية مقابل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وأن على البلدان العربية توطين اللاجئين الفلسطينيين فيها. وتطرح «إسرائيل» حالياً أن التعويضات عن أملاك اليهود في البلدان العربية تتجاوز أراضي وأملاك الفلسطينيين، ويعني هذا الطرح الإسرائيلي الجديد شطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتوطينهم في البلدان العربية ودفع التعويضات لليهود عن ممتلكاتهم التي يزيد ثمنها عن ثمن أملاك الفلسطينيين بحسب المزاعم اليهودية.
وبالتالي تعمل «إسرائيل» واليهودية العالمية بدعم من الولايات المتحدة على جعل بلدان النفط العربية مصدراً جديداً لتمويلها وبشكل خاص تمويل جيشها وحروبها العدوانية بعد أن استنـزفت ألمانيا وسويسرا والنمسا وحتى الولايات المتحدة جراء الأزمات الاقتصادية التي تحتاج هذه البلدان.
إن «إسرائيل» تعتبر نفسها دولة جميع اليهود في العالم، وعملت وتعمل على مقاومة اندماجهم وعزلهم وتهجيرهم إلى فلسطين العربية، لذلك يمنح قانون العودة الإسرائيلي «اليهودي» حق العودة إلى فلسطين لكونه يهودياً، ويمنحه قانون الجنسية العنصري الجنسية الإسرائيلية بمجرد أن يدخلها.
وعملت «إسرائيل» والصهيونية العالمية على تهجير اليهود إليها من ألمانيا وبولندا والنمسا وبقية البلدان الأوروبية ومن جميع البلدان العربية ومن الأمريكتين، وذلك لزيادة طاقاتها العسكرية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه رحلت الفلسطينيين من وطنهم، وسكنتْ اليهود الذين هجرتهم إليها محلهم.
ثبت بجلاء أن معاناة اللاجئين الفلسطينيين وعذاباتهم وغربتهم بعد مرور أكثر من 65 عاماً على النكبة لن تنتهي إلاَّ بعودتهم إلى ديارهم في يافا وحيفا واللد والرملة وسلمة وعكا، ولأن ما بُني على باطل فهو باطل مهما طال الزمن، وإن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، وأن عودة اللاجئين إلى ديارهم هي جوهر قضية فلسطين، وأن لا سلام ولا استقرار في المنطقة إلاَّ بعودة اللاجئين إلى ديارهم.