العام الدراسي بين "التعليق"و"التمديد"
أصدقكم القول أن عنوانا آخر أمسك بتلابيي،وهو (ومجزرة التعليم),لكنني أبشركم أنني تخلصت منه بعد معركة .. وذلك بفضل الله أولا،ثم بسبب آخر هو أن حكما قاطعا مثل هذا يحتاج إلى دراسة معمقة وتتبع للتغيرات التي اعترت مسيرة التعليم.في السنوات الأخيرة طفت على السطح قضية (تمديد الإجازة)،وخصوصا حين تكون نهاية الإجازة في منتصف الأسبوع،علما أن "النظام"أصلا ينص على أن الموظف لا يأتي من إجازة العيدين ليداوم يوما واحدا،ولا يداوم السبت إذا كان آخر يوم في الدوام الذي يسبق إجازة العيدين.ثم جاءت(الفاضحة) أو (المطر) والتي فضحت بعض الفساد المستشري في البلد .. فأصبح الخوف على الطلاب – دون الموظفين !! – سببا لنشوء قضية أخرى،هي (تعليق الإجازة)،والحرص على الأرواح أمر محمود .. ولكن الملاحظ إصابة الناس بهوس (تعليق الدراسة)،بعد أن كادوا يتخلصون من هوس (تمديدها).حديث الناس – عبر "تويتر"- عن تعليق الدراسة،والذي وصل حد فتح(وسم) ..(هل توافق على تعليق الدراسة غدا في ..).هذا الحديث ذكرني بكتاب للأستاذ عبد العزيز الربيع – رحم الله والديّ ورحمه – وهو أحد المدراء السابقين للتعليم في المدينة المنورة،وهو من مواليد سنة 1343هـ،وتوفي سنة 1402هـ.سنأخذ ومضات من الكتاب،ولكن قبل الومضات،نتذكر معا قول بيجوفيتش :(كان النظام المدرسي متطورا في اليابان منذ القرن الثامن عشر،حتى إن نسبة الأميين كانت الأقل في العالم. الكتابة اليابانية معقدة جدا،إلا أن الأمر ليس في الكتابة وإنما في الناس){ص 146 (هروبي إلى الحرية) / علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : إسماعيل أبو البندورة}.يبدو لي أن التعليم عندنا إذا لم يكن متطورا مثل اليابان فإنه كان جيدا،وجادا،وواعدا .. فإلى الومضات :الومضة الأولى : (ولكن الأمر الغريب حقا هو أن يفرض بعض هؤلاء الأساتذة على تلامذتهم وخاصة الضعفاء منهم أن يحضروا إلى المسجد ليدرسوا دروسا خصوصية مجانية وكنت ترى من الطريف حقا تهرب الطلاب من الحضور واختلاق المعاذير من أجل التخلف يقابله من الأساتذة إصرار وتأكيد وإلزام وربما وصل الأمر إلى التهديد بالعقوبة. ولعل الأطرف من ذلك أن بعض هذه الدروس لم تكن تهدف إلى تقوية الضعف أو إلى دفع المتخلف أو إلى انهاض الخامل بل كانت تهدف إلى ما هو أبعد من ذلك ألا وهو توسعة دائرة الثقافة لدى الطلاب وصقل مواهبهم وإذكاء روح البحث فيهم وشحن طاقاتهم العقلية بشحنات قوية من المعارف الحية المتجددة ){ص 70 – 71 ( ذكريات طفل وديع) / عبد العزيز الربيع /منشورات نادي المدينة المنورة الأدبي / الطبعة الثانية / 1402هـ .}.الومضة الثانية : (أهم ما امتازت به مدرستنا عنايتها بتحفيظ القرآن وكان يفرض على تلامذتها ألا يتجاوزا قسمها التحضيري إلى القسم الابتدائي إلا بعد أن يحفظوا القرآن بأجمعه غيبا حفظا جيدا ويؤدون امتحانا فيه. أو إن شئت الحقيقة فهم مكلفون بأداء امتحانين عسيرين أولهما يؤدى أمام لجنة خاصة فإذا اجتازه التلميذ وجب عليه أن يؤدي امتحانا آخر ولعله أكثر عسرا لأنه يتطلب منه أن يصلي في الحرم النبوي طوال شهر رمضان صلاة التراويح بعد أن تنتهي الصلاة العامة. فيصلي خلفه فيها أحد مدرسي المدرسة من حفاظ القرآن مع عدد من زملائه ومعارفه ومن يرغب من المسلمين.){ص 79}.الومضة الثالثة : (الصف الرابع الابتدائي هو أول صفوف المرحلة الابتدائية بعد المرحلة التحضيرية ( مرحلة تحفيظ القرآن) وخلال عامنا الدراسي بهذا الصف زار مدرستنا السيد شكري القوتلي أحد كبار الشخصيات السورية وكان يومها – فيما أذكر وزيرا للمالية في بلاده – وكانت له سمعته الكبيرة في خدمة قضايا العرب وبعد أن تفقد صفنا استأذنه أحد أساتذتي في أن يستمع إلى قصيدة عربية يلقيها أمامه أحد طلاب الصف وكنت أنا الطالب المختار.فألقيت أمامه قصيدة طويلة تزيد عن الستين بيتا){ص 89}. وقد ألقى القصيدة من ذاكرته.الومضة الرابعة : ("مراح .. الأرواح" .. هذا اسم كتاب ولكنني أرجو ألا يتصور أحد أنه قصة أو رواية أو مجموعة من الطرائف بل ولا حتى كتاب مطالعة مدرسي. إنه بكل بساطة كتاب في الصرف وإذا كان طلابنا في هذه الأيام متذمرين وغاضبين لأن النجاح أصبح ضروريا في كل مادة على حدة فليذكروا أنهم – رغم كل شيء – أحسن حالا من زملائهم طلاب الأمس فنجاحهم اليوم في مادة القواعد يعني نجاحهم في مجموعة مادتين هما النحو والصرف بينما كان طلاب الأمس ملزمين بأن ينجحوا في كل مادة من هاتين المادتين نجاحا مستقلا منفصلا.وهكذا درسنا النحو مستقلا عن الصرف في كل صفوف المرحلة الابتدائية فكان لكل مادة من هاتين المادتين كتاب مستقل في كل صف دراسي وكان من ضمن كتب الصرف هذا الكتاب){ص 99}.الومضة الخامسة : ("دروس .. الأشياء" : وكان هذا اسم درس ندرسه في المرحلة الابتدائية ولست أدري بالضبط ما هي هذه الأشياء ويبدو أنها موضوعات شبيهة بما يسمى اليوم في المدارس مادة العلوم وإن كانت فيما أتصور على مستوى أعلى. وكان من الممكن أن يختفي هذا الدرس في طيات الدماغ كما اختفى غيره لو لم يحدث حادث طريف فقد أسندت إدارة المدرية تدريس هذه المادة إلى مدرس تركي يذكر برجال العلم القدامى من الأتراك من حيث الزي والمظهر واللحية الكبيرة. وكان يتكلم العربية بلكنة تركية،ويمتاز بالعلم والإخلاص ولذلك لم يرقه أن يدرس"الأشياء"تدريسا نظريا – كما يفعل غيره – فذلك عمل عقيم ضعيف الأثر. ولكن كيف العمل ولا يوجد "معمل"في المدرسة واهتدى بعد تفكير إلى أن في الإمكان إجراء بعض التجارب من غير اللجوء إلى المعمل....){ص 104}.الومضة الأخيرة،وهي "أم الومضات" : (يتحدثون كثيرا كلما أوشكت السنة الدراسية على الانتهاء عن مشكلة أطلقوا عليها مشكلة الفراغ ولم نعرف نحن أبناء المدرسة القديمة هذه المشكلة ولم نسمع عنها فقد كانت السنة الدراسية اثني عشر شهرا إلا ثمانية أيام. وهذه الثمانية من أيام هي إجازة العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى. وليس هناك أي إجازات أخرى هذا ما يتصل بالعام الدراسي. أما بالنسبة لليوم المدرسي فكان يمتد إلى ما بعد الظهر وكانت صلاة الظهر تؤدى جماعة في الحرم النبوي ثم يعود الطلبة لدراسة حصتين. ينصرف بعدها الطلاب إلى منازلهم لتناول طعام الغداء. ثم يعود الراغبون إلى "معمل"المدرسة – وهكذا كان يسمى حيث يباشرون عملا من الأعمال اليدوية تحت إشراف مدرس مختص إلى أذان المغرب وتؤمن المدرسة خامات العمل وأدواته. ({ص 118}.ثمانية أيام فقط إجازة في عام كامل؟!!!على كل حال،لعل بعضكم يتساءل لماذا أمسك بتلابيبي العنوان الآخر (مجزرة التعليم)؟إضافة إلى ما ذكره الأستاذ (الربيع)،تذكرت ما حكاه لي أحد إخواننا عن مدرسة متطورة افتتحت في المدينة المنورة،وكان منهجها في الرياضيات قويا،لدرجة أنه حين انتقل إلى المرحلة الثانوية لم يواجه أي مشكلة مع الرياضيات،كما أن تلك المدرسة المتطورة كانت فيما يبدو تريد أن تضع لبنة للتعليم الفني .. إلخ.حدثني أيضا عن أحد المدرسين المهرة،والذي تم تحويله إلى العمل الإداري .. و وئد المشروع!!تذكرت أيضا ما كتبه الدكتور محمد الذكير،حين كتب مقالة تحت عنوان : (تشويه اللغة العلمية العربية في تعليمنا العام)، ومما جاء في المقالة :(وإشارتي في العنوان إلى تشويه العربية يتمحور أساسا حول مناهج الكيمياء في التعليم العام في المملكة. مع التذكير أن علماء الحضارة العربية الإسلامية هم الذين أسسوا علم الكيمياء الحديث، وأن مصطلح كيمياء باللغة الإنجليزية هو فرنجة لغوية للمصطلح العربي. (..) وفي البداية أدعو معالي وزير التربية والتعليم أن يتفضل ويتصفح مناهج الكيمياء الحالية في بريطانيا وأمريكا ويبحث فيها عن حرف عربي واحد يتم استخدامه كرمز لأحد العناصر الكيميائية، ومن المؤكد أن نتيجة البحث ستكون سلبية، لأن التربويين في هذين البلدين حريصون على نقاء الإنجليزية كحرص القادة العرب على العربية. ومن ناحية أخرى أطلب من معاليه التفضل بتصفح مناهج الكيمياء التي كانت تدرس في ثانويات المملكة في العام 1384هـ على سبيل المثال، ويبحث فيها عن حرف إنجليزي واحد تم استخدامه كرمز لأحد العناصر الكيميائية. وبعد البحث سوف يتأكد أنه لن يجد سوى حروف لغة القرآن تزين المعادلات والمركبات الكيميائية. وهذا يعكس الحرص عند المسؤولين آنذاك على نقاء اللغة العربية. ) { ملحق ( الأربعاء) الصادر مع جريدة المدينة، يوم الأربعاء 23 / 3 / 1428هـ = 11 / 4 / 2007م.}ألا تدل هذه الشواهد على وجود إفساد للتعليم بعد أن كان واعدا؟!! متى؟كيف؟لماذا؟ لو امتلكت الإجابة .. لأسميت هذه الكُليمة (مجزرة التعليم)!!أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 21/6/1434هـ