البعث وقضية فلسطين
د. غازي حسين
كانت سورية، أو بلاد الشام، تضم عبر التاريخ سورية اليوم وفلسطين ولبنان والأردن، وكانت فلسطين تعرف بسورية الجنوبية، وظلت جزءاً منها أكثر من 14 قرناً، والتي هي بدورها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، واعتبر الشعب العربي في جميع البلدان العربية وفي كل المؤتمرات التي انعقدت قبل وبعد الحرب العالمية الأولى أن فلسطين هي سورية الجنوبية إلى أن جاءت اتفاقية سايكس بيكو في أيار 1916، وفصلتها عن سورية تمهيداً لمحو عروبتها وقيام إسرائيل فيها.
وكانت دول أوروبا الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا، قد وافقت في تقرير "كامبل" عام 1907 على وجوب تجزئة الأقطار العربية والحيلولة دون وحدتها وتقدمها، وذلك بإقامة «إسرائيل» كحاجز بشري منيع بحيث يشكل في المنطقة العربية وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للدول الأوروبية وعدوة لسكان المنطقة.
جاءت اتفاقية سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 لاقتسام مناطق النفوذ بينهما في الوطن العربي وأعطت بريطانيا وعد بلفور الاستعماري في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 للمليونير اليهودي روتشيلد، ونص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين العربية.
نجحت الصهيونية في مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتضمن نظام الانتداب تحقيق وعد بلفور، وكانت الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب قد نجحت في اقتسام مناطق النفوذ التي كانت خاضعة للامبراطورية العثمانية باسم أنظمة الانتداب كشكل من أشكال الاستعمار الجديد آنذاك، وأقر مؤتمر الحلفاء في سان ريمو عام 1920 بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وعينت بريطانيا اليهودي هربرت صموئيل المندوب السامي الأول في فلسطين، وذلك لفتح أبوابها للهجرة اليهودية.
اهتم البعثيون بقضية فلسطين منذ ظهور حركة "البعث" في أربعينيات القرن العشرين، واحتلت المكان الأول في نضال الحزب منذ تأسيسه في السابع من نيسان عام 1947، وأصبح الحزب يعرف بحزب فلسطين. وتصدى منذ تأسيسه لمحاولات الاستعمار الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين العربية تحقيقاً لوعد بلفور الاستعماري، وكانت حركة "البعث" قد تصدت، قبل تأسيس الحزب إلى الهجرة اليهودية، كأول حركة سياسية في الوطن العربي، ففي العاشر من آب 1944 وجه مكتب "البعث" في دمشق كتاباً إلى المعتمد السياسي الأمريكي في سورية تضمن احتجاجاً صارخاً على قراري الحزبين الجمهوري والديمقراطي بخصوص فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية. وأكد الكتاب أن حق العرب في فلسطين حق طبيعي وتاريخي. ووجه مكتب الحزب في دمشق بتاريخ 23 آذار 1945 كتاباً إلى الوزير الأمريكي المفوض في سورية احتج فيه بشدة على تصريح الرئيس الأمريكي روزفيلت بشأن فلسطين والذي تبنى فيه الموقف الصهيوني.
وقد تصدت حركة "البعث" منذ نشأتها خلال الحرب العالمية الثانية لوعد بلفور الاستعماري والهجرة اليهودية وإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وأصرت على عروبتها وعلى الحقوق التاريخية للعرب فيها.
وتابعت نشاطاتها في الدفاع عن عروبة فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني فيها إلى أن تأسس الحزب، وأعلن الحزب منذ تأسيسه موقفه المبدئي من قضية فلسطين كقضية قومية. ووضّح المخاطر القادمة على الأمة العربية من جراء تهويدها وإقامة الكيان الصهيوني فيها كقاعدة للاستعمار والصهيونية العالمية ومعادية لشعوب المنطقة.
رفض حزب "البعث" على الفور قرار التقسيم، ودعا إلى مواجهة الخطر الصهيوني والتواطؤ الامبريالي، واعتبر الحزب أن «الصراع في المنطقة والذي تعتبر فلسطين محوره الأساسي هو صراع يهدد الأمة العربية بأكملها، وإن كانت فلسطين هي الطرف المتضرر فإنه يمس الأمة العربية جمعاء، وما فلسطين إلا المدخل الذي دخلت منه الحركة الصهيونية والاستعمار لضرب الأمة العربية وطموحاتها نحو التقدم والوحدة، فهو خطر يهدد جميع أقطار المشرق العربي والوجود التاريخي للأمة العربية».
واعتبر الحزب أن الخطر الصهيوني خطر يهدد الأمة العربية وتطلعاتها الوحدوية وشخصيتها القومية ووجودها الحضاري وثرواتها الطبيعية، وأنه خطر سياسي واقتصادي وثقافي وقومي وديني، مما يعني أن الأمة العربية بأسرها مطالبة بالتصدي لهذا الخطر الذي تجسده "إسرائيل" بدعم وتأييد كاملين من اليهودية العالمية والامبريالية الأمريكية وبقية الدول الغربية.
رفع الحزب منذ تأسيسه أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية، وأكد أنه حركة قومية شعبية وركز على الطابع القومي في نضاله وعلى أهمية دور الجماهير في التصدي للامبريالية والصهيونية والرجعية. وأقر مجلس الحزب في العشرين من أيلول 1947 بياناً هاماً حول قضية فلسطين حذر فيه من الخطر الصهيوني وقيام دولة صهيونية على أرض فلسطين العربية، نبه إلى أن هذا الخطر لا ينحصر في فلسطين وحدها بل يتعداها إلى الوطن العربي كله.
وجاء في البيان: «..فعروبة فلسطين مهددة بالفناء إذا نفذ مشروع التقسيم وتمكن اليهود الصهاينة من إقامة دولتهم فيها، إن حزب البعث إذ يضع نفسه في طليعة كتائب الجهاد ويعلن استعداده للتعاون مع جميع الهيئات الوطنية المخلصة في تنظيم هذا الجهاد لإنقاذ فلسطين، يدعو الهيئات العربية إلى توحيد الخطط والجهود وتحملها مسؤولية قيادة هذه المعركة الفاصلة وإيصالها إلى النصر».
وطلب الحزب من أعضائه في تشرين الثاني 1947 حمل السلاح والانخراط في كتائب الإنقاذ والتوجه إلى فلسطين للدفاع عن عروبتها، وحذر الحزب من أن «تقسيم فلسطين هو خطر قومي ووطني واجتماعي واقتصادي، وأن خطره سيصيب العرب في جميع الأقطار العربية. أولاً: الخطر وطني وقومي، ففلسطين هي قلب الوطن العربي، كما هي في قلب كل عربي. ثانياً: الخطر اجتماعي اقتصادي..».
وتناولت صحيفة الحزب واجبات الحكومات العربية في مواجهة الخطر الصهيوني وتعبئة جميع الإمكانيات والطاقات لسحقه، ودعت إلى الجهاد قائلة: «الجهاد في سبيل وحدة فلسطين وعروبتها ليس وفاء للتاريخ العربي وتلبية لنداء الأجداد وحسب، بل للحؤول أيضاً دون تهديد الأفكار العربية جمعاء، ووقوعها فريسة في يدي هذا الاستعمار الجديد، الصهيونية العالمية».
واعتبر الحزب أن اقتطاع فلسطين لا يقتصر ضرورة على عرقلة الوحدة العربية، بل يمس أيضاً باستقلال البلدان العربية، لأن الصهيونية تستهدف تأسيس الوطن القومي اليهودي من النيل إلى الفرات».
وأكد الحزب على البعد القومي للصراع، وأن اجتزاء فلسطين هو أكبر خطر يهدد سلامة الأمة العربية ووحدتها واستقلالها.
وتطرق البعثيون في كتاباتهم ومواقفهم إلى الخطر الاقتصادي لليهودية العالمية وقوتها الاقتصادية وبراعة اليهود في عالم التجارة والربا والمال، والدعم اللامحدود لهم من الدول الاستعمارية مما يجعل اليهود في فلسطين مصنعاً يغمر الأسواق العربية بنتاجه، ويقضي على اقتصاد العرب وعلى الوحدة الاقتصادية التي يؤلفها الوطن العربي.
واعتقد الحزب أن الخطر الصهيوني خطر اقتصادي أيضاً، لأن الصهيونية بدعم من الاستعمار ستعمل على فرض سيطرتها الاقتصادية على الأقطار العربية لاستغلال المواد الخام والأسواق والأموال العربية والقضاء على استقلالها الاقتصادي.
ربط حزب "البعث" القول بالعمل للدفاع عن عروبة فلسطين ودرء الخطر الصهيوني عنها، فقرر مجلس الحزب في مدينة حمص بتاريخ 16 كانون الثاني 1948 تجنيد جميع أعضائه للاشتراك في المجهود الحربي للقضاء على الخطر الصهيوني، وأرسل كتيبة إلى الجبهة في فلسطين بقيادة اللجنة المركزية للحزب.
وعندما أشعلت العصابات اليهودية المسلحة حرب عام 1948 شعر الحزب أن واجبه القومي يدفعه إلى الاشتراك في الحرب دفاعاً عن شعب فلسطين العربي، ودفاعاً عن عروبة فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني وأفكاره على جميع شعوب المنطقة.
واتهم الحزب بعض الأنظمة العربية التي أرسلت جيوشها إلى فلسطين بأنها تعمل ضمن خطة استعمارية للقضاء على عروبتها وفتح المجال للصهيونية للتحكم في مصيرها، ودعا إلى النضال الشعبي من أجل تحريرها وتعبئة جميع الإمكانيات المادية والمعنوية في الوطن العربي لسحق الصهيونية. وبالفعل قام بعض الملوك والأمراء والرؤساء العرب وجامعة الدول العربية ببيع فلسطين للصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية للمحافظة على كراسيهم قطعة قطعة وخطوة خطوة إلى أن وصل الوضع فيها إلى ما عليه اليوم من تهويدها وتهويد القدس بشطريها المحتلين، وهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه.
وخاطب الحزب في عام 1948 المواطن العربي قائلاً: «انتبه قبل فوات الأوان، وابذل المال والدماء لتحرير فلسطين، ولرد هذا الخطر عن بيتك وأهلك وأبنائك».
وخاض البعثيون معارك الشرف والبطولة والفداء في فلسطين عام 1948 تنفيذاً للقرار الذي اتخذته قيادة الحزب، وأنشأ الحزب مكتب فلسطين الدائم في الحزب لتنظيم عمليات التطوع للجهاد في سبيل إنقاذ عروبتها وأكد على وجوب أن تكون معركة فلسطين معركة العرب جميعاً لأن مصيرهم مرتبط بمصيرها.
فالجهاد في نظر الحزب والأمة هو لتحرير فلسطين، والقدس مدينة الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين من المستعمرين الصهاينة وزوال الكيان الصهيوني ككيان استعمار استيطاني وعنصري وإرهابي.