التفاصيل الأيديولوجية لخطة الملك حسين لتقسيم الشعب الأردني , بقلم اسامة عكنان

| 2013/04/22
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
التفاصيل الأيديولوجية لخطة الملك حسين لتقسيم الشعب الأردني وجعله يدافع من خندقين متناحرين عن أبشع نظامين وظيفيين هما النظامان "الأردني" و"الفلسطيني".
قادة المقاومة مارسوا بعد عام 1969 الذي تجسَّدت فيه فلسطينية الثورة رسميا، أقصى درجات الصفاقة والرعونة الأيديولوجية والسياسية، فكانوا أسوأ نموذج ثوري حمى أسوأ نظام وظيفي..
بدهاء الملك حسين وبرعونة قادة المقاومة تحولت "مشروع المقاومة" من ثورة شعب أردني تنازع النظام الوظيفي على السلطة، إلى ثورة شعب فلسطيني ينازع الشعب الأردني على السيادة على الأرض وعلى الهوية..

أسامة عكنان

لم يكن من السهل على "الثورة الأردنية" بعد أن أصبحت "ثورة فلسطينية"، أن تواجهَ "نظاما أردنيا" بدا واضحا أنها تنافسه على "السيادة"، بالقوة واليقين والمشروعية نفسها التي كان بإمكانها مواجهته بها فيما لو بقيت "أردنية" تنافسه على "السلطة". إن عناصر "قوة" و"يقين" و"مشروعية" الثورة الأردنية راحت تتآكل منذ بدأت تستشعر "فلسطينيتها" تتجسَّدُ على أنقاض "أردنيتها"، في معادلةِ تناسبٍ عكسي يتضاءل أحد طرفيها ويتقزَّم كلما تكامل الطرف الآخر وتعملق.لقد بدأ النظام الأردني معركَتَه مع نقيضَتِه في الوجود والوظيفة "ثورة الشعب الأردني" بميزان قوى مُخْتَلٍّ لصالحها. فهو نظام تجسَّدت فيه عناصر الهزيمة العسكرية في حزيران 1967، وهي ثورة تجسَّدت فيها عناصر النصر العسكري بعد أقل من عام من هزيمته، في كرامة آذار 1968. وهو نظام فقد اليقين في قدرته على الاستمرار حتى على صعيد كونه نظاما قُطْريا وظيفِياًّ، وهو يرى هيبةَ النظام ومفاعيل السلطة تَتَفَلَّتُ من بين يديه لصالح قوة جديدة صاعدة لا يمتلك أدواتِها المُرْبِكَة والفعالة والمثيرة، بينما هي ثورة راح يغمرها اليقين بأنها تمثل بجماهيريتها وبأيديولوجيتها في المقاومة، البديلَ الأخلاقي والسياسي لكل نماذج السقوط العربية الماثلة أمامها. وهو نظام اهتزت مشروعيَّتُه بعجزه شكلا ومضمونا عن أن يثبِتَ أهليَّتَه لقيادة الدولة التي كان على رأسها، وهي مقاومة شعبية راحت تُؤَسِّسُ لمشروعيتها الثورية بسرعة ونماء واعتزاز، لتكون بديلا لمشروعية نظام هُزِمَ فتهاوي، بعد أن كان يقمع ويضطهد ويمنع أيا كان من حملِ بندقية أو من مجرد الحديث عن رصاصة، كي لا تتعرقل الخطة القومية للتحرير، وهي الخطة التي جسَّدَتها هزيمة حزيران النكراء أفضل تجسيد.ولأن المعركة بينه وبين الثورة كانت معركةَ وجود، فما كان أمام النظام المتهالك إلا أن يبحثَ عن الأسلحة التي تُمَكِّنُه من استعادة ميزان القدرة لصالحه، كي يضمنَ بقاءَه أولا، وكي يضمنَ ثانيا أن يحسمَ لصالحه معركةً ما كان لها أن تستمرَّ زمنا طويلا دون أن تُحْسَم لصالح أحد طرفي المواجهة فيها. نظر النظام إلى القوى المختلفة التي تكَوِّن مُجْتَمِعَةً قدرتَه وقدرةَ المقاومة، فوجدها تنحصر في ثلاثة عناصر يميل اثنان منها لصالح المقاومة، فيما تتوازى في الثالث كفَّة الطرفين، أو هي تتأرجح لصالح هذا الطرف حينا ولصالح الطرف الآخر حينا آخر، وحتى لو مالت لأحدهما دون الآخر، فليست هي التي ستحسمُ المعركةَ إذا ما افتقرَ الطرف القوِّي بهذا العنصر إلى قوة العنصرين الآخرين. وهذه العناصر الثلاثة هي: عنصر القوة العسكرية، وعنصر القوة الشعبية، وعنصرُ قوَّةِ الشرعية.عنصر القوة العسكرية كان هو العنصر الذي يتوازى فيه النظام مع المقاومة، والذي اعتبره النظام غيرَ ذي أهمية لوحده في حسم المعركة، لأن ترجيحَه لصالحه عند الضرورة أمرٌ ميسورٌ ومقدورٌ عليه أكثر مما تقدر على ذلك المقاومة نفسها، فالمهتمون بتسليح النظام الأردني للقضاء على الثورة عندما يكون السلاح وحده هو الفيصل كثيرون، وبالتالي فلا أهمية للاعتداد به أمام عدو يستحوذ على "القاعدة الشعبية" وعلى "الشرعية". فكلُّ الثورات في نهاية الأمر أسقطت أنظمة وطردت محتلين هم بالمعايير العسكرية أقوى منها وأكثر عتادا وعدة، لأنها امتلكت العناصر الحاسمة التي لا ينفع معها سلاح، وهي الشعب والحق اللذين تكون قد تَدَثَّرَت بهما واستخدمت بعد ذلك ما يتاح لها من سلاح بأكثر الأشكال جدوى وفعالية لتحقيق النصر.إذن فقد انصَبَّ جهدُ النظام وتركَّزَت خطَّتُه لحماية نفسه ابتداءً، وللقضاء على ثورة الشعب الأردني في مرحلة لاحقة من ثمَّ، في اتجاه العنصرين الأهم اللذين شكلا في تلك الفترة الحرجة من عمره، الركيزة الأساس في منظومة العناصر المُكَوِّنة لقدرة المقاومة، ألا وهما قوة "القاعدة الشعبية" وقوة "الشرعية". ولأن هذين العنصرين مترابطان بحيث أن كلا منهما يستمِدُّ جزءا من قوته من الآخر، فقد أدرك النظام أن عليه صياغةَ خطَّةٍ قادرةٍ على استحلاب ما تستطيعه من قاعدة شعبية ومن شرعية، لتضعهما في كَفَّةِ عناصر قوَّتِه.بدأ النظام خطَّتَه من معادلةٍ "صفرية"، تُؤَشِّرُ على أن نسبة وجود كلٍّ من "القاعدة الشعبية" و"الشرعية" في كفَّتِه يساوي صفرا، وأن كل عناصر هذه القاعدة وتلك الشرعية إنما هي مُتَجَمِّعَةٌ في كفة المقاومة. ونَسْتَثْنى من الحساب في هذا الشأن، أولئك الذين يُصَنَّفون من بين أفراد الشعب على الدوام خاملين وصامتين أزليين، لأنهم لا يُحْسَبون لا لهذا الطرف ولا لذاك، فهم سلبيون إزاء الحدث القائم، وسلبيون إزاء الحدث القادم على حدٍّ سواء، لأنهم دائما مُتَلَقُّون ومُنْفَعِلون، ويمثلون في العادة نسبةً كبيرة من أفراد الشعب، ويتاخمون فيه من حيث التناغُمِ والانسجام، "فئة المتعاطفين" المذكورة أدناه..أي أن الحديث إنما يدور حول الفئات التالية..1 – "الفاعلون في القاعدة الشعبية بوعي"، وهم في العادة فئةٌ مُفعمة بروح التضحية والعطاء والانتماء، ويشعر أفرادُها بأن مصيرَ شعوبهم هو مسؤوليتُهم المباشرة، فيتصرفون على ذلك الأساس، وهم في العادة أكثرُ الفئات فعالية وقدرة على صناعة تاريخ شعوبهم، وإن كانت فئتُهم لا تشكِّلُ إلا نسبة محدودة جدا من أفراد الشعب، وهم يَجْمَعون بين بعض النُّخَب الثقافية، وبعض البرجوازيين الوطنيين، فضلا عن مهنيين وحرفيين وفنيين أكفاء، بالإضافة إلى طلاب وجامعيين ونقابيين، علاوة على قاعدة واسعة ممن يصلحون مقاتلين شرسين.2 – "المتعاطفون مع من يمثل حالة وعي ونموذج تضحية"، وهؤلاء يكتفون بتعاطفهم، ويقدمون كل ما لا يَفْرِزُهم رسميا وتنظيميا بشكلٍ واضح وصريح، للمعسكر الذي تعاطفوا معه. وهم قد ينقلبون لسبب تراجيدي أو لآخر إلى عناصر فاعلة، أو معادية، أو خاملة. وهم المنطقة الرَّخْوَة في القاعدة الشعبية كلِّها، والتي يلعب جميع الفرقاء المتصارعون على تغيير مشاعرها وعواطفها وعلى استدراجها، ويتنافسون على احتوائها. وهؤلاء مثلهم مثل الفئات الخاملة والصامتة يمثلون فئة واسعة من أفراد الشعب، تزيد أو تنقص بحسب طبيعة الحَدَث المجتمعي، وهم على تماس مباشر مع فئة الصامتين، ومن السهل انتقال أفراد هاتين الفئتين عبرَ تخومِهما من إحداهما إلى الأخرى، أكثر من الانتقال من إحداهما إلى أيِّ فئة أخرى.3 – "الانتهازيون والوصوليون" الذين لا يُحْسِنون إلا القفزَ إلى النتائج بعدما يرونَها ماثلةً ومتجَسِّدَةً أمام أعينهم، ما يجعلهم عديمي التأثير في سيرورة الحدث، مع أنهم ربما يكونون من أكثر الفئات قدرةً على جني ثمار جهود غيرهم واستثمار تضحياتهم بعد انقشاع سُحُبِ الأحداث، وهم في العادة مجموعة من النُّخب الثقافية وأصحاب المال والطموحات السياسية أو الفئوية القادرين على التّلَوُّن، ويفتقرون في الغالب إلى منظومات القيم الأخلاقية الرادعة، وإن كانوا يبدون التزاما بالتقاليد الاجتماعية الضامنة للنفوذ والسيطرة والمكانة، حتى لو كان ذلك بالنفاق والمجاملة والدجل.4 – فئة "المرتزقة" الذين لا يَهُمُّهُم في تحديد مواقعهم ومواقفهم وخنادقهم سوى التَّأَكُّد من أنهم في المكان الذي يَدْفَعُ ويُطْعِمُ ويَكْسِي ويُؤَمِّنُ من ثمَّ المتطلبات المادية للحياة، وهؤلاء أكثر الفئات قدرة على التحلُّل من القيم الخُلُقِيَّة والدينية، وأقلها احتراما للإنسان وحُرُماتِه وحياته، ومن السهل أن يكونوا قتلةً مأجورين "بلطجية، بلاطجة، شبيحة، زعران.. إلخ".وعندما بدأ النظام بصياغة خُطَّتِه منطلقا من هذه النقطة الصِّفْرِيَّة، في مجتمعٍ تلك هي تركيبته، وجد أن الخطةَ كي تعيدَ له شيئا من التوازن المفقود بينه وبين الثورة في عنصر "القاعدة الشعبية"، يجب أن تنجح في تحقيق النتائج التالية..1 – تجزئة القاعدة الشعبية المباشرة للمقاومة من فئة "الفاعلين في القاعدة الشعبية بوعي"، وسحب جزءٍ منها ليتخندق في خندقه هو، أي في خندق النظام بدل خندق المقاومة، والتركيز في أفراد تلك الفئة على من يُصَنُّفون بموجب مقتضيات خريطة الأردن "السايكبيكوية" باعتبارهم هم الأردنيون الذين أُطْلِقَ عليهم "الشرق أردنيين".
2 – تقليص فئة "المتعاطفين" مع المقاومة، بتحويلهم إلى خاملين أو إلى متعاطفين مع النظام، بل تحقيق أعلى درجات الاستفزاز لمشاعرهم وعقولهم ومنظوماتهم القِيَمِيَّة، بشكل يدفع بالكثيرين منهم لعدم الاكتفاء بعدم التعاطف مع المقاومة أو بالتعاطف مع النظام، بل بالانضمام إلى معسكر النظام، والتركيز في أفراد هذه الفئة أيضا على من تمَّ تصنيفهم بـ "الشرق أردنيين".
3 – فتح كل قنوات التواصل الممكنة مع فئة "الانتهازيين والوصوليين" خاصة في مراحل متقدمة من الصراع، بإشعارهم بأن الحسمَ أصبح قريبا لصالح النظام، لضمان قيامهم بالتجييش لصالح مستقبلهم الذي لن يضمنوه إلا مع هذا النظام.
4 – تجييش أكبر أعداد ممكنة من المرتزقة سواء في الصحافة والإعلام، أو في الجيش والأجهزة الأمنية، وفي مجال التعبئة والحشد الجماهيريين، لضمان وجود فئة لا ترحم عندما تدخل المعركة مراحل الحسم الدامية.ولكنَّ تحويلَ الشعب الأردني من شعبٍ ثائرٍ يتمترسُ معظمُه في خندق المقاومة، ويتعاطف مع الثورة، ويقف موقفا معاديا من النظام، إلى شعبٍ بهذه البُنْيَة التي يبدو من الواضح أنها تستطيع أن تخلقُ حالة من توازن القوى في عنصر "القاعدة الشعبية" بين النظام والثورة، يتطلب "أيديولوجيةً" قادرة على إحداث هذه النقلة غير السهلة. أيديولوجيةٌ تصيبُ الشرعيةَ التي قامت عليها "ثورة الأردنيين"، وناجزت بسببها النظام الأردني القُطْري الوظيفي ونافسَته في سلطته، في مَقْتَلٍ. وهنا "مربط الفرس وبيت القصيد".
بنصائح الأميركيين والإسرائيليين، ومعهم نظام "آل سعود" الذي انقلب من داعمٍ عريق لحركة فتح منذ بواكير تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي، ومن ناصحٍ أمين لها بتفجير ثورةٍ لاسترجاع فلسطين من على الأرض الأردنية، إلى عدوٍّ لدودٍ راح يرى فيها وفي المقاومة ككل، مصدرَ خطر عليه مثل ما هو على النظام الأردني، بعد أن كان يتعامل مع هذا الأخير باعتباره الفناء الأمامي لقصور الملوك والأمراء السعوديين..نقول.. بنصائح هؤلاء جميعا، التقط النظام الأردني فكرةً شيطانية لم يكن من السهل أن تخطر على بالِ "إبليس" نفسِه، قرأ فيها – وشجَّعَه عليها أو ربما أمره بها من وُجَدَ لحمايتهم وخدمة مصالحهم في الإقليم – التِّرْياقَ الذي سيعيد الحياة إلى جثته المتهالكة، وطوقَ النجاة الذي سيحميه من الغرق، إن هو أحسن استخدامَها، وتغاضي عما فيها من خسائرَ شكلية مؤقتة تتعلق بأيديولوجية السيادة على الضفة الغربية، ليكون ذلك الترياق هو الشفرة السريَّة للرقم 1968 الذي رأيناه يلاحقنا حيثما حللنا ونحن نتَتَبَّع ونتعَقَّب أحداث المرحلة من 1965 – 1968، وخطابات وتصريحات قادة المقاومة الكبار حول محطات تلك المرحلة.إن إعادة إنتاج الشعب الأردني الذي فَجَّر ثورتَه وفعَّلَها وهدَّدَ بها النظامَ القُطْري بالقدر نفسه الذي هدَّدَ بها إسرائيل نفسَها، بالشكل الذي يجعله ينقسم على نفسه على النَّحو الذي أشارت إليه خطة النظام سالفة الذكر، يتطلب اللعبَ بمنظومة الشرعيات التي فَرَضَت الثورةَ، وتلك التي فرضتها الثورةُ، بشكلٍ يُحْدِثُ فيها تغييراتٍ جوهريةً تَتَسَبَبُ في حالةٍ من البلبلة الأيديولوجية في صفوف أبناء الشعب الأردني. وعلى هوامش هذه البلبلة يتحرك النظام مستثمرا الحالة لإعادة إنتاج هذا الشعب وإنتاج بُناه وعلاقاتِه بالشكل المُسْتَهْدَف في الخطة المشار إليها.
إن هناك ثلاث شرعيات قامت عليها "ثورة الشعب الأردني"، اثنتان منها عسكريتا الطابع، وليستا بذاتي أهمية في هذا السياق، هما "هزيمة حزيران" التي أسقطت "شرعية خيار النظام في التحرير"، و"انتصار الكرامة" الذي أسس لـ "شرعية خيار الشعب في الثورة".أما الشرعية الثالثة ذات الطابع الأيديولوجي، والتي أسست لفكرة "أردنية المقاومة"، وهي الشرعية الأهم في سياق خطة مواجهة الثورة، فهي شرعية "جنسية التأسيس" و"مؤتمر أريحا" و"وحدة الضفتين" التي غيَّبَت "الهوية الفلسطينية" وأذابتها إذابة كاملة في قلب "الهوية الأردنية"، جاعلة من أيِّ حراكٍ يقوم به سكان "الضفة الغربية" أو "الضفة الشرقية" حراكا أردنيا بكل ما لكلمة أردني من معانٍ سياسية وقانونية وأخلاقية.إذ لم يعد هناك فرق بعد "الضم" و"تأسيس التجنيس"، لكي يكون حزبٌ ماَّ حزبا أردنيا، بين أن يؤسِّسَه سكان "الضفة الغربية"، أو من ينحدرون منهم من سكان "الضفة الشرقية"، أو سكان "الضفة الشرقية" الأصليون أنفسهم. ولا عاد هناك من فرق لكي تكون الثورة أردنية، بين أن يطلقها سكان "الضفة الغربية"، أو من ينحدرون منهم ممن يقيمون "شرق النهر"، أو حتى أن يطلقها السكان الأصليون للمنطقة الشرقية للنهر.فمن يقبل الأول دون أن يتذكر في هذا السياق "فلسطينيته" المذابة في "أردنيته" منذ مؤتمر أريحا والتأسيس للتجنيس، عليه أن يقبل الثاني ضمنا دون أن يتذكر ما نسيَه هناك، لأن ما كان سببا للنسيان هناك قائم هنا أيضا بلا أيِّ فرق. ومن يرفض الثاني لأنه تذكر فجأة أنه "فلسطيني" رافضا ذوبانه في "أردنية" فرضتها عليه تداعيات مؤتمر أريحا، كان عليه أن يرفض الأول ابتداء، بأن يتذكر تلك "الفلسطينية" هناك.ولأن أحدا لم يرفض الأول، بل تعامل معه ووظفه لنشر ثقافة "مصلحة الفكرة" وللتخلُّص من التبعية والوظيفية والقُطرية أحسن توظيف، دون حساسية الهويات وجدلها العقيم، فإن أحدا لا يحق له أن يرفض الثاني، وعليه بالتالي أن يوظِّفَه للتحرير والوحدة والنهضة العربية بعيدا عن جدل تلك الهويات أفضل توظيف.ولأن سكان الضفتين كانوا مادةَ الأحزاب السياسية ومادةَ الحراك الوطني والشعبي الأردني، على مدى الفترة التي تلت عمليتي تجنيس عام 1949، وضم عام 1950، دون أن يقول الأردني المنحدر من الضفة الغربية أنه تحرك فلسطينيا أو تحزب فلسطينيا، كذلك فإن سكان هاتين الضفتين كانوا هم مادة الثورة التي انطلقت في عام 1965، وما كان للأردني المنحدر من الضفة الغربية أن يقول بأنه ثار بصفته فلسطينيا، وإن كان قد ثار من أجل تحرير فلسطين، بصفتها أرضه، وبصفتها أرضا سورية قبل أن تكون أرضه، بل وبصفتها أرضا عربية قبل أن تكون أرضا سورية.
إذا بقي الشعبُ الأردني الذي أوجدَه "مؤتمر أريحا" ومعه "تجنيس التأسيس"، شعبا أردنيا، وإذا بقيت ثورتُه التي منحَها ذلك المؤتمر وذلك التجنيس شرعيَّةَ أردنيَّتِها، ثورةً أردنية، فإن النظامَ كان سيسقط لا محالة، إن آجلا أو عاجلا، لا بسبب القوة العسكرية المتنامية للثورة، فهذا أقل العناصر أهمية في انتصار ثورات الشعوب، بل بسبب شرعيتها المتناقضة مع شرعية النظام، وهو ما سيُفاقِمُ التناقضَ القائم بينها وبينه، تنافسا داميا على سلطةٍ تريدُها خادمةً لمشروعها الثوري ومفَعِّلةً لعناصر تقدُّمِيَتِه، بينما يريدُها هو ناحرةً لذلك المشروع وقاضيةً عليه في ضوء وظيفِيَّتِه "السايكسبيكوية" التي لا يستطيع النظامُ أن يكونَ شيئا آخرَ غيرَها.وإذن فلكي يتجنبَ النظام حَتْمِيَّةَ سقوطِه المُدَوِّي بفعلِ ثورةٍ شعبيةٍ أردنيةٍ ستنقلب عليه بالقدر نفسه الذي ثارت فيه ضدَّ المحتل، يجب أن تتغيَّرَ الألوان، وتتجدَّد المُسَمَّيات، لتغدوَ بمذاقاتٍ وروائحَ أيديولوجيةٍ جديدة. يجب أن تنسلخ "ثورة الشعب الأردني" عن جلدها الأردني لتصبحَ ثورة شعب آخر، هو "الشعب الفلسطيني". ولكي يتحَقَّقَ ذلك يجب أن يستشعرَ الأردنيون الذين كانوا قبل مؤتمر أريحا وتجنيس 1949 فلسطينيين، فلسطينيَّتَهم من جديد رغم مؤتمر أريحا التليد ورغم قانون الجنسية العتيد، وأن يُلْبِسوا أثوابَها للمقاومة الأردنية، وأن يبدأوا من ثمَّ بالتأسيس الأيديولوجي لذلك، رغم أنهم يقاومون ويثورون من الساحة الأردنية وعليها، بل وبوصفهم أردنيين تابعية وقانونيا.ومع ذلك فقد لا يكون هذا التلاعب بالهويات، عبر إحداث تَنَقُّلاتٍ فيها على حساب الشعوب ومصالحها، بالأمر الذي قد يُؤَثِّرُ بالشكل المطلوب على بُنْيَةِ الشعب الأردني لتمرير خطة النظام المستهدفة لحماية نفسه وللقضاء على المقاومة الخارِجَة عن سلطته من ثمَّ. فكما أن الفلسطينيين قبلوا بأردنيتهم منذ مؤتمر أريحا، ولم يَحُلْ هذا القبول بينهم وبين أن يثوروا تحت مظلة هذه "الأردنية" مانحين لثورتِهم هويتَها الأردنية باعتبارها هوية أصيلة لها وليست طارئة عليها. فكذلك الأردنيون، قد لن تُغَيِّرَ من ولاءاتِهم ومواقفِهم من الثورة لعبةُ "لوغو الهويات" المكشوفة هذه، ويبقون مع ذلك مساندين لها قلبا وقالبا، ويطالبون النظام بأن يسانِدَها ويقفَ معها ويسمحَ لها باستخدام الأراضي الأردنية كمنطلق للمقاومة، ليعود النظام إلى الحلقة المُفْرَغَة نفسِهاِ، والمتمثلة في التعامل مع شعب أردني لن يكون أمامه هذه المرة شعبٌ ثالثٌ يستخدمُ استحضارَ هويَّتِه مطِيَّةً ليشرخَه ويقسمَه ويُفَتِّتَه بها من جديد.وإذن فما قيمة العمل على دفع أردنيِّي الضفة الغربية واللاجئين والنازحين باتجاه أن يستشعروا فلسطينيتَهم، إذا كان هذا الاستشعار سيعيدُ إنتاج علاقة النظام بهم سياسيا، دون أن يحقِّقَ هذا الاستشعار الغايةَ المرجوَّةَ منه، ألا وهي إعادة إنتاج الشعب الأردني عبر تقسيمه إلى خندقين، يمنحُ أحدُهما للنظام شرعيَّتَه في ذاته أولا، كمُمَثِّلٍ للهوية الأردنية التي يكاد يفقد حتى شرعية تمثيله لها بتنامي المدِّ الثوري الأردني، وشرعية ضربِه للمقاومة ثانيا، التزاما بدوره الوظيفي في الإقليم؟!أمام معضلةٍ كهذه، لم تعد الخُطَّة تكتفي بالدفع باتجاه جعلِ المقاومة تستشعرُ فلسطينيتَها، بما سيترتب على هذا الاستشعار من بروزِ استشعارٍ آخر مهمٍّ هو استشعارُ فئةٍ من الأردنيين لفلسطينيتهم كقاعدة لبدءِ تَجَسُّد "الهوية الفلسطينية" في صفوفهم، دون توظيف هذين الاستشعارين التوظيفَ الأمثلَ في سياقِ العمل على إحداثِ الشرخِ المُسْتَهْدَف إحداثُه في قلب الكتلة الشعبية الأردنية المتماسكة.
بل أصبح من الضروري أن يحدثَ الاستشعاران ويتنامى تجسيدُهما واقعيا، عبر إبراز حالة التنامي والتجسيد هذه وكأنها على حساب "الهوية الأردنية"، ومن خلال استحضار شكل من أشكال التناقض الدفين معها، يجعل الأردنيين – الشرق أردنيين – يستشعرون بدورهم حالةً من الخوف والرهبة والهلع والقلق من هذه الهوية الجديدة التي تتشكل في قلب هويتهم وعلى أرضهم، ما قد يُهَدِّدُ وجودَهم، وما قد يجعل هذه المشاعر تتحول إلى سلوكٍ قد يكون محايدا في البداية، وقد يكون معاديا للمقاومة ذاتِها في نهاية المطاف. وهو ما يمكنه – في تصور النظام – أن يستحلبَ أوسعَ كتلةٍ بشرية من "الشرق أردنيين" من خندق المسانَدَة للثورة، لتتحولَ إما إلى فئة محايدة أو متعاطفة مع النظام، بل وربما إلى فئة مساندة له بالممارسة الفعلية.إن إعادة إنتاج الشعب الأردني المُتَخَنْدِق على النحو المشروخ والمتربِّص المذكور سابقا، من رحم شعبٍ أردني متخندقٍ في خندق المقاومة ومعادٍ للنظام، هو الهدف الإستراتيجي الذي انطوت عليه الخطة وعملت على تحقيقه، مستحضرةً لأجل ذلك كل ما رأته مناسبا من وسائلَ وأدواتٍ، لضمان استعادة النظام لشرعيته المُتَرَنِّحَة، ولتمكينه من امتلاك أداةٍ جماهيرية مساندة له يواجه بها "الشرعية الثورية" بعد أن تضعف "الثورة الأردنية"، بفقدانها جزءا من قاعدتها الشعبية، وبظهورها بمظهر "ثورةٍ فلسطينية" تناجزُ نظاما أردنيا على السيادة، وإن كانت ستقبل بتقاسمها معه عبر قبول مبدأ توزيع الأدوار السيادية المثير للضحك والسخرية، بعد أن كانت ثورة أردنية تناجزُ النظامَ لتستحوذَ منه على "كامل السلطة" لممارسة "كامل السيادة" على "كامل الدولة".
إن استحضار الهوية الفلسطينية المُغَيَّبَة، والعمل على تجسيدها بحنكة وروِيَّة تَنُماَّن عن دراية في ممارسة لعبة "لوغو الهويات"، بدءا بدفع المقاومة إلى استشعار فلسطينيتها، مرورا بنقل هذا الاستشعار إلى مختلف مستويات التَّجَسُّد المُمْكِنَة، وانتهاء بتحويله إلى دين يُعْتَنَق لا مجال للارتداد عنه، ودون ذلك التضحية بالغالي والنفيس، هو "الآلية الأيديولوجية" التي تقرَّر استخدامُها لتحقيق الهدف الإستراتيجي السابق.أما "ازدواجية السلطة"، فهي "الآلية السياسية" التي تمَّ ابتداعُها ومن ثمَّ الدفع باتجاه تنميتها ومفاقَمَتِها إلى أبعد الحدود، لتجسيد الأيديولوجية الجديدة بالشكل المساند لكل الأدوات التعبوية المستخدَمَة لترسيخ عملية التَّخَنْدُق الجديدة المترتبة على الخُطَّة. ولكن من خلال معادلة نموٍّ وتفاقم دقيقة ومحبوكة، لا تسمح بالوصول إلى مستويات متقدمة منها – أي من ازدواجية السلطة – إلا بالترافق التام مع وصول تجسيد "الهوية الفلسطينية" للمقاومة إلى مستويات تناسبها، من حيث قدرتُها على منحِ شرعيةِ مواجهتِها للنظام من جهة، ومن حيث تزايدُ عجزها هي عن الحسم أو عن الرغبة فيه، بسبب تعارض ذلك مع أيديولوجية "فلسطينية الهوية" التي بدأت تهيمن وتسيطر من جهة أخرى.وأما "التعبئة المدروسة" في صفوف الشعب الأردني، وتحديدا في صفوفِ من تمَّ تصنيفُهم كـ "شرق أردنيين"، بكل الوسائل القادرة على تحشيدهم وتجييشهم ضد مشروع المقاومة، وضد مشروع "الهوية الفلسطينية" الذي غدا وعاءً لتلك المقاومة، بعد أن يحقِّقَ استحضارُ "الهوية الفلسطينية" وتجسيدُها مَهَمَّتَه، وبعد أن تنجحَ "ازدواجية السلطة" في تحقيق غايتها، فهي بمثابة أمصالِ الوقايةِ الخلفية التي كان النظام يحقنُ بها كل من يستطيع حقنَه، للزج به إلى خندقِ واحدةٍ من الفئات الشعبية المُشَرْعِنَة لخندقه الذي سيكون عندئذٍ قد بدأ يتعافى من حالات الضعف واللايقين واللاشرعية التي حاصرته منذ الهزيمة، إلى أن كادت تخنقه بعد انتصار الكرامة.خلاصة القول إذن، أننا بإزاء مؤامرةٍ استهدفت الشعبَ الأردني وثورتَه بغيةَ السَّطْوِ عليها، وضعت لنفسها خطةً استندت إلى أربعِ قوائم..
1 – إعادة انتاج الشعب الأردني وخندقته بشكل مختلف عما فرضته الثورة من تخندقاتٍ، "هدفاً".
2 – استحضار "الهوية الفلسطينية" كحاضنةٍ لـ "المقاومة الأردنية"، لتغدو مقاومة فلسطينية، "آليَّةً أيديولوجية" لتحقيق الهدف.
3 – تكريس "ازدواجية السلطة" كأرضٍ خصبة لتوريط الثورة بين ما تفرضه فلسطينيتها الناشئة وما تشدُّ باتجاهه أردنيتها المنحورة، "آليةً سياسيةً" لتحقيق الهدف.
4 – التعبئة والتحشيد في صفوف فئات "الشرق أردنيين" من الشعب الأردني، حُقَنَ تجهيز وأمصالَ إعداد للمعركة الفاصلة القادمة. وبإزاء خطة مُحْكَمَة يقوم على تنفيذها جهازُ دولةٍ مسنودٍ بأعتى الخبرات الاستخبارية في العالم، تواجهها مقاومةٌ لم تكن أيديولوجيا في مستوىً من النضج والوعي الملائمين للتعاطي بحكمةٍ وحنكةٍ مع خطةٍ كتلك، كانت المقاومة تُسْتَدْرَجُ خطوة خطوة إلى مَقْتَلِها. ومع أنها كانت تستشعر ذلك كلما راحت أشكال مواجهتها مع النظام تنبئ عن شراسة وحزمٍ غير مسبوقين، إلا أنها كانت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة الأيديولوجية، ما حال بينها وبين أن تكون قادرةً على الحسم الذي كانت ستقدر عليه على الصعيد الأيديولوجي بالدرجة الأولى، لو أنها كانت ما تزال تَتَدَّثُر بأردنيتها. لأن السؤال الذي كان يطرح نفسه عند كل مواجهة، وهو: "عما كان يدافعُ النظام، وعما كانت تدافع المقاومة".. كان ينطوي على الإجابة بشكل ضمني، سنكتشفه بكل وضوح في تداعيات الأزمة التي نشبت بين النظام والثورة في حزيران 1970. أي قبل المجزرة الرهيبة والنهائية بأقل من أربعة أشهر، وبعد الأزمة السابقة بأقل من أربعة أشهر أيضا.
على مدى سنتين ونصف السنة تقريبا هي المدة الفاصلة بين أزمة شباط/فبراير 1968، ومجزرة أيلول/سبتمبر 1970، لم تكن ثورة الشعب الأردني تخرجُ من مُخَلَّفات صدامٍ مع النظام حتى تجدَ نفسَها وقد فُرِضَت عليها معالمُ صدامٍ آخر جديد يعمل ضمن الخطة الدافعة باتجاه الإبقاء على التماسك في جبهة الحل السلمي من جهة، وباتجاه تصفيتها هي نفسها بصفتها مشروعَ مقاومة يستهدف تحرير الأرض المحتلة من جهة أخرى.وهكذا فما كادت أزمة شباط/فبراير 1970 تؤول إلى ما آلت إليه من اتفاق هُدْنَوِيٍّ هشٍّ ومؤقت، حتى بدأت الأوضاع تسير بوتيرة متسارعة نحو استفحال عناصر صدامٍ جديدٍ بين الطرفين. ولقد تجَلَّت أجواء هذا الصدام في بعض الإجراءات التي اتخذها النظام فيما بدا أنه إعداد لمرحلةٍ مقبلة قد تكون أكثر شدة وحسما. "فقد بدأت القوات الخاصة تبرز تدريجيا كقوة مسلحة يُعِدُّها النظام لمجابهة المقاومة على امتداد الأردن. وبدأ النظام في تعبئة البدو وتسليحهم علنا. وراح يحقنهم ضد المقاومة ويشوِّه صورتَها لديهم، معتمدا على سذاجتهم وتقاليدهم القبلية. واستمر في عملية التعبئة في صفوف القوات المسلحة لاستعدائها على المقاومة"(1).وفضلا عن ذلك فقد لجأ النظام إلى افتعال حوادث استفزازية كانت تهدف إلى شحن الأجواء بصورة تعدُّ الرأي العام الأردني بشكل يتيح نجاح خطة الصدام الأخير عندما يأتي وقته المقرَّر. "فمن حادث 2 مايو/ايار الذي تعرضت فيه القوات المسلحة الأردنية لمجموعة تابعة لحركة "فتح" كانت متجهة إلى الأرض المحتلة، وما نجم عن الحادث من إنزالٍ استعراضي لقوات مدرعة، إلى نسف بعض البيوت السكنية خلال اشتباكاتٍ نجمت عن الحادث المذكور. إلى معارك "وادي الأردن" بين الفدائيين والقوات الأردنية، مرورا بحوادث إطلاق النار في الزرقاء بتاريخ 8 و9 و10 مايو/أيار، إلى غيرها من الحوادث، كان النظام يعدُّ العُدَّة لليوم المشهود"(2).والثورة – كعادتها – تعيش وهمَها المتجذِّرَ في أعماق أيديولوجيتها، والقائم على أنها رغم "فلسطينيتها" التي أصبحت متجسِّدة بشكل علني ورسمي وقانوني، منذ ذلك التزاوج التاريخي بين فصائل المقاومة ومنظمة التحرير الفلسطينية(3)، قادرةٌ على فرض إرادتها في تقاسم السيادة مع النظام على الساحة الأردنية، وأنها تملك الحق والشرعية في ذلك، متجاهلة حقيقة أنها منذ انسلخت عن أردنيتها لم تعد تملك أيَّ شرعية لا يقبلها النظام الذي بدأ يُوَسِّع في دوائر المتمترسين في خنادقه من "الشرق أردنيين"، وأنها بدأت تفقد امتداداتِها الجماهيرية في فئة واسعة من هؤلاء، ولم تعد تقدر على استدرار التعاطف العربي الرسمي معها، إذا لم تكن قادرة على حلِّ مشكلاتِها مع النظام بما يقبل به النظام نفسه ويرتضيه.إن فلسطينيتها – أي فلسطينية المقاومة – التي تمسكت بها وغرقت في وهم قداستها الوطنية وأولويتها وضرورتها الحتمية للتأسيس لمشروع التحرير، بعد الوقوع في الشِّرَك واستحضار كلِّ الأمراض السياسية والأيديولوجية الرابضة في اللاوعي، هي ذاتها التي تمنعها استنادا إلى كل الشرعيات من أن تمتلك أيَّ حق في استخدام الأراضي الأردنية لأيِّ غرض، بالشكل الذي لا يرتضيه النظام الأردني الذي تمكن من أن يستعيد شرعيته المتهالكة في تمثيل تلك الشريحة الواسعة من الأردنيين الذين تنكرت لهم المقاومة عندما تجردت من ردائها الأردني ولبست رداء جديدا مصطنعا ومفتعلا لا قيمة له على الصعيدين السياسي والثوري، هو الرداء الفلسطيني.استمر الوضع على هذه الحال بين أخذٍ وردٍّ وبين شدٍّ وجذبٍ، إلى أن جاء شهر "حزيران" وقد أصبحت الأجواء مكهربة، وغدا الصدام متوقعا بين لحظة وأخرى، "إلى أن بدأت حوادت الصدام يوم "6/6/1970" حين حاولت القوات الخاصة اعتقال بعض عناصر المقاومة أمام "الجامع الحسيني" في عمان، ما سبَّبَ تبادلا في إطلاق النار. وفي 7/6 تصدت القوات الخاصة بالزرقاء لسيارة تابعة للجبهة الديمقراطية، ونتج عن ذلك اشتباكٌ اتسع نطاقُه حتى شمل مدينة الزرقاء بأكملها، واستمر حتى آخر الليل. وفي اليوم التالي 8/6 أطلقت سيارة أردنية مسلحة النار على كمين لميليشيا "فتح" و"الجبهة الديمقراطية" على طريق "العين – المقبرة"، كما أطلقت النار على عناصر للجبهة الشعبية في أحد البيوت في حي "المصاروة" بعمان"(4).وازداد تعقيد الموقف، واتسع نطاق الاشتباكات، وامتدت ساحات القصف لتطالَ معظمَ الأحياء السكنية ومخيمات اللاجئين في عمان والزرقاء. وفي محاولة منه لوصف خطورة الموقف "عقد كمال ناصر المتحدث الرسمي باسم اللجنة المركزية في القاهرة مؤتمرا صحفيا قال فيه: إنه سيتم استدعاء جميع السفراء العرب في مصر لتسليمهم مذكرة إلى قادة الأمة العربية وزعمائها ليطَّلِعوا على حقيقة الأحداث الأخيرة في الأردن وليتحملوا مسؤولياتهم الكاملة"(5). ومع ذلك فقد استمر الوضع متأزما وتواصلت الاشتباكات فيما كان يبدو أنه محاولة جادة وأخيرة من النظام لتصعيد الموقف إلى أبعد مدى له بشكل يتيح له تغيير موازين القوى على الأرض لصالحه، ويخوِّله التعرف على مواطن الضعف والقوة في قوة المقاومة، ما يؤشر على أن المعركة الحاسمة قد اقترب موعدها. "فقد استمر القتال يوم 11/6، وروى الخارجون من عمان أن الرعب يسيطر على المدينة، وأن المحلات مغلقة والشوارع خالية إلا من آثار المعارك، والجرحى يموتون بسبب عدم توفر بلازما الدم والكهرباء"(6).إلا أن إصرار الثورة على القتال ودفاعها المستميت عن المخيمات وعن مواقعها، وإظهارها لقدرات قتالية متميزة يبدو أنها كانت تتطلب كل الثقل العسكري للنظام كي يتمكن من تحجيمها في وقت لم يكن هذا الأخير قد قرَّرَ بعدُ الدفعَ بكل ثقلِه إلى ساحة المعركة. فضلا عن ردود الأفعال المختلفة الصادرة هنا وهناك، والمطالبة بوقف إراقة الدماء بين الأشقاء، "وإن كانت كلُّها ردود فعل تُجمِعُ كما جرت العادة على تحميل المسؤولية لطرف ثالث، وعلى ضرورة الحفاظ على سيادة النظام الأردني على الأرض الأردنية"(7) والحفاظ على الثورة كورقة ضاغطة في أيدي الدول أعضاء جبهة الحل السلمي.نقول.. يبدو أن كلَّ ذلك دفع بحُمَّى الأزمة نحو الهدوء، وبدأت تَخِفُّ تدريجيا عناصر التوتر بعد أن وقَّع "الملك حسين" نفسه تحت وطأة الضغوط التي تعرَّضَ لها من الثورة ومن "القوى الوطنية الأردنية". وهي الضغوط التي تجلَّت في مطالبة الملك علنا بعزل مستشاريه المقربين "رؤوس الخيانة" كما أسمتهم إذاعة صوت العاصفة مساء يوم "11/06/1970"، "وذلك حين طالبت الإذاعة الملك حسين بأن يختار بين سقوط نظام حكمه أو عزل مستشاريه المقربين رؤوس الخيانة"(8).وما كان من "الملك حسين" في ظل وصول الأزمة إلى ذلك المستوى، وفي ظل عدم اتخاذ القرار بالحسم العسكري بعد، إلا أن خضع لهذا الضغط، "ففي الحادية عشرة والنصف مساءً، قطعت إذاعة عمان برامجَها لتبُثَّ رسالة من "الملك حسين" إلى القوات المسلحة تُلِيَت بالنيابة، وأعلن فيها عن إعفاء خاله اللواء "ناصر بن جميل" القائد العام للقوات المسلحة، واللواء "زيد بن شاكر"(9) قائد سلاح المدرعات من منصبيهما، وإسناد قيادة سلاح المدرعات بالنيابة إلى العقيد "كاسب الصفوق"(10) الذي قاد القوات الأردنية في معركة الكرامة، على أن يكون هذا السلاح تابعا للملك"(11).
نتوقف في هذا المقال عند هذا القدر من عرض الوقائع، تاركين تحليل الأزمة بكل تفاصيلها التي سبقت أحداث أيلول ومهدت لها إلى مقالات لاحقة، فانتظرونا.

الهوامش..
(1) – المرجع السابق، ص 63.
(2) – المرجع السابق، بتصرف من الصفحات 65 و66.
(3) – في 28/أيار /1964 تمَّ قيام منظمة التحرير الفلسطينية قيادة معبئة لقوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركة التحرير بقرار منبثق عن المؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد بمدينة القدس, وتمت المصادقة على الميثاق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية, وانتخاب السيد "أحمد الشقيري" رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة، وتأسس المجلس الوطني الفلسطيني. وفي عام 1966 تمَّ إنشاء الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين للحفاظ على التراث والهوية الفلسطينية. وفي 4/شباط /1969 تمَّ إعلان انضمام حركة فتح لـ م.ت.ف وترأس "ياسر عرفات" المنظمة. وفي 6/أيلول/1969 تمَّ انضمام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى عضوية المجلس الوطني واللجنة التنفيذية ل م.ت.ف. وفي عام 1970 تفجر الصدام بين م.ت.ف والحكومة الأردنية.
عن موقع منتديات "دن دن"، من مقال بعنوان "تواريخ هامة في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية"، بتاريخ 7/8/2008، على الرابط التالي:
http://love7s.mam9.com/t69-topic
(4) – عن جريدة النهار اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ 8/06/1970.
(5) – عن جريدة الأهرام القاهرية، العدد الصادر بتاريخ 10/06/1970.
(6) – عن صحيفتي الأهرام القاهرية والنهار اللبنانية، في عدديهما الصادرين بتاريخ 11/06/1970، وعن جريدة الهدف، العدد الصادر بتاريخ 12/06/1970.
(7) – كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، مرجع سابق، ص 83، بتصرف.
(8) – عن جريدة النهار اللبنانية، العدد الصادر بتاريخ 11/06/1970.
(9) – الأمير زيد بن شاكر هو رئيس وزراء أردني أسبق، ولد في مدينة عمان بتاريخ 4 أيلول، 1934, وتوفي في 30 آب 2002. حصل على شهادة الدراسة الثانوية العامة من كلية "فيكتوريا" بمدينة الإسكندرية في مصر سنة 1951. وتلقى علومه العسكرية في الأكاديمية الملكية الحربية "ساندهيرست" عام 1955. التحق بكلية القيادة والأركان "ليفن وورث" في الولايات المتحدة عام 1964. اتقن العديد من اللغات، منها اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الإيطالية واللغة الإسبانية. وقد شغل خلال حياته المناصب التالية:
1955-1957: مرافق للملك الحسين بن طلال.
1957-1958: مساعد ملحق عسكري في السفارة الأردنية في بريطانيا.
1964-1970: قائد لواء مدرع وفرقة مدرعة.
ترفع إلى رتبة عقيد وإلى قائد السلاح الملكي المدرع.
ترفع إلى رتبة عميد وإلى قائد فرقة مدرعة.
1 آب 1970: أسند إليه منصب مساعد رئيس هيئة الاركان لشؤون العمليات.
5 آذار 1973: عيّن رئيساً لهيئة الأركان ورئيساً للديوان الملكي الهاشمي ومستشار للملك الحسين بن طلال لشؤون الجيش العربي.
تشرين أول 1974: ترفع إلى رتبة فريق.
8 كانون الثاني 1976: قائد عام للقوات المسلحة الأردنية.
آب 1984: ترفع إلى رتبة فريق أول.
حزيران 1987: ترفع إلى رتبة مشير.
27 نيسان 1989: رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
7 كانون أول 1989: رئيس الديوان الملكي الهاشمي.
21 تشرين الثاني 1991: رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
14 تشرين أول 1993: رئيس الديوان الملكي الهاشمي.
8 كانون الثاني 1995 – 4 شباط 1996: رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
4 شباط 1996 منحه الملك الحسين بن طلال لقب "أمير".
30 آب 2002 توفي في قصره بمدينة عمان.
(10) – ولد اللواء الركن "كاسب الصفوق الجازي" عام 1928 في منطقة تسمى "أبو صفاه" إلى الغرب من "الجفر". بدأ تعليمه في مدرسة "الجفر" على يد معلمه "محمد العسلي". في 24 تشرين ثاني 1943 التحق بالقوات المسلحة، وتلقى التدريب في مدرسة "التدريب العسكري" في العبدلي. وكان يقود المدرسة "الشريف محمد هاشم". ونقل "كاسب الجازي" إلى سرايا المشاة ولم يتجاوز عددها آنذاك الثلاث كتائب وحاميتين. في الأول من آب 1948 رُقِّيَ إلى رتبة رقيب. وبعد أن تم تشكيل كتيبة المشاة السابعة تقرر ترشيحه لدورة المرشحين الأولى بسبب تفوقه وكفاءته. فتخرج منها في الأول من نيسان عام 1951 والتحق بكتيبة الحسين الثانية. وكان لكاسب الصفوق دور هام في معركة الكرامة التي دافع عنها لواء "الأميرة عالية" الذي كان تحت قيادته. وكان لانتصاره على العدو في المعركة دور بارز في مستقبله العسكري. فقد أسندت إليه مناصب عديدة بعد ذلك من بينها قيادة الفرقة الثالثة، إلى أن تم تعيينه عينا في مجلس الأعيان.
عن موقع "الشبكة العامة للحويطات"، على الرابط التالي:
http://www.alhowaitat.net/t29245.html
(11) – كتاب المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني – دراسة تحليلية لهجمة أيلول، مرجع سابق، ص 79 – 80.