للأجيال القادمة كي لا تنسى للتعميم والنشر

الوكالة اليهودية وتشكيل أول لجنة للترحيل عام 1937

د.غازي حسين

شكلت الوكالة اليهودية في تشرين الثاني 1937 بتوجيه من قرارات المؤتمر الصهيوني العشرين أول لجنة لترحيل الشعب العربي الفلسطيني من وطنه إلى البلدان العربية المجاورة.
وعقدت لجنة الترحيل اجتماعاً في مقر الوكالة اليهودية بالقدس في 21 تشرين الثاني 1937.
وقدم عضو اللجنة فايتس مشروعاً لترحيل العرب عن أراضيهم وعلله بالقول: "إن ترحيل السكان العرب عن أراضي الدولة اليهودية لا يخدم هدفاً وحيداً فحسب، أي إنقاص عدد السكان العرب، بل إنه يخدم غرضاً آخر لا يقل أهمية ألا وهو تفريغ الأرض المملوكة والمزروعة حالياً من قبل العرب، وتحريرها لسكن اليهود".(35)
وعينت الوكالة اليهودية في تشرين الثاني 1937 د. يعقوب تاهون رئيساً للجنة ترحيل السكان وعضوية كورت مندلسون، وأبراهام غرانوف، وجوزيف فايتس، وجوزيف نحماني وعوفيد بن عامي والياهو إيلات. وبحثت اللجنة ثلاثة مواقف مختلفة من الترحيل وهي الترحيل إلى شرق الأردن وإلى سورية وإلى العراق. ولكن أعضاء اللجنة اتفقوا بالإجماع في 19 كانون الأول 1937 على صيغة جاء فيها:
"ونقل السكان العرب بنسبة كبيرة يعتبر شرطاً مسبقاً لإقامة الدولة لأن وجود مثل هذه الأقلية سيشكل خطراً مستمراً من جانب الحركات التي ستسعى للقضاء على وجود الدولة اليهودية الجديدة".(36)
وكانت لجنة الترحيل بحاجة إلى أبحاث دقيقة من أجل تحضير خطط كاملة متكاملة للترحيل، إذ كانت تنقصها المعطيات التي لم تستطع من دونها إعداد خطة للترحيل والاستيطان.

وطالب بعض أعضاء اللجنة بوجوب عدم الحديث عن الترحيل القسري، وأكدوا على أن البلدان العربية المجاورة تستوعب عملية ترحيل السكان.
إن الترحيل غير أخلاقي وغير إنساني وغير واقعي ويظهر الفكر الصهيوني المغرق بالعنصرية والوحشية على حقيقته.
وشكلت لجنة الترحيل لجنتين فرعيتين: الأولى: تعالج الشؤون المالية والإجرائية. والثانية: تجمع المعلومات المتعلقة بالسكان العرب وملكية الأرض.
وتابعت الوكالة اليهودية نشاطاتها لترحيل الشعب الفلسطيني من خلال لجنة الترحيل، فوضع ألفريد بونيه خطة سرية تحت عنوان "ترحيل السكان العرب" وقدمها في تموز 1938 إلى بن غوريون، وتضمنت ترحيل (26) ألف عائلة من الفلاحين الفلسطينيين خارج حدود دولة اليهود المزمع إقامتها. واقترح بونيه أن تكون بريطانيا على استعداد للمساهمة في توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في شرق الأردن والبلدان الأخرى المجاورة لفلسطين.

اجتمعت الهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية في حزيران 1938 لمتابعة حل مشكلة ترحيل الشعب الفلسطيني. وطرح بن غوريون خطة للعمل جاء فيها: "إن الدولة اليهودية (التي لم تقم بعد) ستناقش مع الدول العربية المجاورة مسألة الترحيل الطوعي للمزارعين والفلاحين والعمال العرب من الدولة اليهودية إلى الدول المجاورة."(37)
وأيدت الوكالة اليهودية خطة بن غوريون التي تضمنت التفاوض مع الدول العربية المجاورة في شأن توقيع اتفاقيات تضمن ترحيل الفلسطينيين إلى خارج الدولة اليهودية القادمة. وأكدت الوكالة اليهودية أن العرب لن يرضخوا ولن يتفقوا معها إلاّ عندما يواجهون بالأمر الواقع.
وطالبت الوكالة بوجوب تحقيق الترحيل والإسراع فيه، واللجوء إلى الترحيل القسري، أي الترحيل بالقوة، وتسخير المجازر والإبادة والإرهاب والتدمير لتحقيق هذا الهدف الشيطاني.
وأكد الزعيم الصهيوني في الوكالة اليهودية شموئيل زوخوفيتسي وجوب تنفيذ الترحيل الإجباري قائلاً: "إنني مقتنع بأن من المستحيل أن ينفذ الترحيل من دون القسر، ولا أرى في ذلك أي إجراء غير أخلاقي. أريد أن أساعد اليهود في المجيء إلى الدولة اليهودية وأن أساعد العرب في العبور إلى الدول العربية، كما أن مصادرة الأراضي يجب أن تتم. وعلينا أن نقترح أننا مستعدون لمصادرة الأرض".(38)
ووضع آرثر روبين مشروعاً خبيثاً للترحيل الطوعي يعتمد على نقطتين:
النقطة الأولى: يجب أن يستند الترحيل على اتفاقية مع البريطانيين ومع الدول العربية.
النقطة الثانية: على الحكومة البريطانية أن تقدم قرضاً لشركة تنمية لإعادة توطين المرحلين في شرق الأردن.
وورد في مشروعه العنصري والاستعماري ما يلي:
"لا أؤمن بترحيل الفرد بل بترحيل قرى بكاملها (أي بالترحيل الجماعي للشعب الفلسطيني) ورأيي أن على شركة التنمية أولاً أن تبني عدة مستوطنات نموذجية في شرق الأردن حتى يرى العرب هنا ما يمكن أن يحصلوا عليه هناك".(39)
وتابع بن غوريون، زعيم الوكالة اليهودية مساعيه لترحيل الفلسطينيين إلى العراق فوجه رسالة إلى اللجنة التنفيذية الصهيونية في كانون الأول عام 1938 جاء فيها حول ذلك ما يلي:
"سنعرض على العراق عشرة ملايين جنيه من أجل توطين مئة ألف أسرة عربية من "أرض إسرائيل" (فلسطين) في العراق... العراق تحتاج لاستيطان عربي أكبر ومن المؤكد أنها لن تكره الملايين"(40) وكأن الزعيم الصهيوني بن غورين تهمه مصلحة العراق والعرب.
والتقى بن غوريون في شباط 1939 باليهودي الأميركي الثري إدوارد نورمان الذي أقنعه جابوتنسكي بوجوب ترحيل الشعب العربي الفلسطيني، وحاول نورمان إقناع بن غوريون بالترحيل الاختياري للفلسطينيين إلى العراق.
ولخص بن غوريون موقفه من ترحيل الشعب الفلسطيني في نيسان 1940 على الشكل التالي: "إن ارتباط الشعب اليهودي وارتباط الشعب العربي (الفلسطيني) "بأرض إسرائيل" ليس نفس الارتباط. فالشعب اليهودي يعتبر البلاد وطنه الأول والوحيد. والعرب الذين تعتبر هذه البلاد وطناً لهم، يعتبرون جزءاً بسيطاً جداً من الشعب العربي كله. وهناك وطن شاسع للشعوب العربية. وهذا الافتراض يتيح إمكانية القيام بترحيل عربي إلى بلاد عربية خالصة".(41)
وتابع الصهاينة والمتصهينون من غير اليهود اقتراحاتهم بترحيل الشعب الفلسطيني من وطنه فلسطين وطرح جون فيلبي في عام 1940 مشروعاً للترحيل على حاييم وايزمان، زعيم المنظمة الصهيونية العالمية. ويتلخص مشروعه للترحيل في الشكل التالي:
"في مقابل (20) مليون جنيه استرليني، وإمداد ابن سعود، ملك السعودية بالأسلحة، ومساعدة يهودية في إقامة وحدة عربية قومية يكون هو رئيساً لها، تسلّم "أرض إسرائيل الغربية" (فلسطين) إلى اليهود، في الوقت الذي تكون فيه خالية من سكانها العرب".(42)
واقترح أرنولد لورانس شقيق "لورانس العرب" سيئ الصيت قيام اتحاد فيدرالي بين فلسطين وسورية وشرق الأردن، يضم في داخله دولة (يهودية) بلا عرب، وتمتد بالإضافة إلى الحدود التي اقترحتها لجنة بيرل البريطانية النقب والجزيرة في سورية.
ونجح الصهاينة في غرس فكرة ترحيل الشعب الفلسطيني من وطنه إلى البلدان العربية المجاورة ليس فقط في داخل بريطانيا وإنما أيضاً داخل الولايات المتحدة الأميركية قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني في بلتمور الذي أيد الترحيل، وخلاله، وبرز منهم فليكس فرانكفورتر، وبرانديس قاضيا المحكمة العليا الأميركية وكورش إدلر، مؤسس اللجنة اليهودية الأميركية، والرئيس الأميركي السابق هربرت هوبر. وطالبوا جميعهم بترحيل الشعب الفلسطيني إلى العراق، حتى أن الرئيس روزفلت أخذ يميل بترحيل الفلسطينيين إلى منطقة حلب بعد أن أقنعه الصهاينة بذلك.
ووضع جوزيف فايتس تصوره للترحيل في 20 كانون أول 1940 وقال: "والحل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة. ويجب أن يتم الترحيل من خلال استيعابهم في سورية والعراق وحتى في شرق الأردن".(43)
وزار فايتس دمشق في 10 أيلول 1941 لجمع المعلومات عن الجزيرة وسكانها، كما زار الجزيرة وعاد منها إلى تل أبيب عن طريق لبنان. وكتب في يومياته عن الجزيرة يقول:
"إذا أرادت الحكومات حل المسألة اليهودية فيمكن الوصول إلى حل من خلال ترحيل جزء من السكان العرب (الشعب الفلسطيني) في "أرض إسرائيل" إلى الجزيرة السورية، وبلا شك إلى الجزيرة العراقية أيضاً.(44)
وبعث بن غوريون برسالة إلى موشي شاريت من واشنطن في 8 شباط 1942 قال فيها: "يجب التفكير حتى النهاية. فهذا البلد إما أن يكون لنا أو للعرب. ولن نستطيع البقاء بالمشاركة. وقد عرفوا كيف يحلون المشاكل المأساوية، وبصورة إيجابية. وأنا أقصد نقل السكان".
وبلور بن غوريون موقفه المستقبلي من ترحيل الشعب الفلسطيني من خلال اتفاقات يوقعها مع الدول العربية المجاورة في تشرين الثاني عام 1942 داخل اللجنة التنفيذية الصهيونية بما يلي: "لا أوافق على هجرة متفق عليها (من جانب العرب) ولكنني على استعداد للموافقة على الترانسفير بالاتفاق. فمسألة الترانسفير تعتبر موضوعاً لاتفاقية توقع بيننا: فتبادل السكان سيأتي من خلال علاقات الجوار من خلال اتفاقيات سياسية، توقع بيننا وبين البلدان المجاورة".(45)
وجاء مؤتمر المنظمات الصهيونية الأميركية في بلتيمور وبحضور بن غوريون ووايزمان وناحوم غولدمان وطالب بفتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية "بتحقيق الغرض الأصلي لوعد بلفور وصك الانتداب، لكي يتيحا الفرصة أمام تأسيس كومنولث يهودي هناك."
وحددت الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية في فلسطين في أعقاب إقرار برنامج بلتيمور الصهيوني أهدافها كما يلي:
"1- دولة يهودية ذات سيادة تشمل فلسطين وربما شرق الأردن.
2- نقل (ترحيل) سكان فلسطين العرب إلى العراق في وقت لاحق.
3- قيادة يهودية للشرق الأوسط بأكمله في ميداني التنمية والسيطرة الاقتصادية".(46)
والتقى الزعماء الصهاينة ومنهم آرثر روبين، وسيركين، وتبنكين وكاتسنلسون على تحقيق استيطان يهودي كبير وقوي وترحيل الشعب الفلسطيني إلى سورية والعراق.
وتضمن تقرير الجنرال الأميركي باتريك هورلي، الممثل الشخصي للرئيس روزفلت عام 1943 أن القادة الصهاينة مصممون على إقامة دولة يهودية على كافة الأراضي الفلسطينية وترحيل الفلسطينيين إلى العراق.
نجح الصهاينة في جعل فكرة ترحيل الشعب الفلسطيني هماً من هموم الوزراء والأحزاب البريطانية في عام 1944، حيث طالب وزيران من حزب العمال البريطاني وهما نوئيل بيكر، وزير المواصلات الذي تحدث عن تخصيص مئة مليون جنيه استرليني لإعادة توطين الفلسطينيين، ويهودا ليون، وزير المالية البريطاني، الذي أدخل ترحيل الفلسطينيين في البرنامج الانتخابي الذي صاغه لحزب العمال البريطاني.
ووصلت وقاحة ووحشية وكذب وتضليل بن غوريون حداً قال فيه في أيار 1947: "إنني أقول إن لنا حقاً في "أرض إسرائيل الغربية" كلها. ولا أنادي بترحيل العرب. لقد نادى حزب العمال البريطاني بترحيل العرب. ونحن لا ننادي بذلك. من الأفضل ألاّ يكون هنا عرب، ولكن يمكن أن يكون هنا عرب."
وبذل إدوارد نورمان، المليونير الأميركي اليهودي الكثير من النشاط خلال الحرب العالمية الثانية لتوريط الحكومة الأميركية بتبني ترحيل الشعب الفلسطيني إلى العراق. وربط نورمان ووايزمان المشروع بخدمة الأهداف الحربية الأميركية.
وناشد نورمان في تشرين الأول عام 1945 الرئيس الأميركي هاري ترومان بترحيل الفلسطينيين إلى العراق، لأن الترحيل بحسب رأي اليهودية العالمية قد أصبح وسيلة معترفاً بها وأن الصعوبات القائمة في فلسطين ناجمة عن وجود العرب.
وعبّر حاييم غرينبيرغ، الناطق الرسمي باسم المنظمة الصهيونية العالمية في المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين عام 1946 عن اعتقاده أن قيام دولة يهودية يستتبع ترحيلاً قسرياً لقسم كبير من سكان هذه الدولة من العرب".
حقق الزعماء اليهود والعصابات الإرهابية اليهودية المسلحة مخطط ترحيل الشعب العربي الفلسطيني عندما قامت "إسرائيل" لإحلال أكبر عدد ممكن من يهود العالم محله، ولكن اليهود كعادتهم لجؤوا إلى الكذب والتضليل وأعلنوا وما زالوا يعلنون أنه لم تكن لديهم نية لترحيل العرب ولكنهم استجابوا لنداءات زعمائهم بالنزوح والهرب من فلسطين.

***