مقالة: (إلى البوطي: عذروك ومابعد الموت عذر !!) للدكتور علي العمري.
-----------------------------------------------
الحمد لله القائل: (وربك يعلم ماتكن صدورهم ومايعلنون).
والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل كما في الحديث القدسي عن ربه:"ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه".
وبعد..

فإنني في هذه المقالة لن أقول: أنني محتار من الموقف حول مقتل البوطي، أو متأسف مما حصل،أو أن الأمر قد انتهى وأفضى الرجل إلى ماقدم فحسب!
بل إنني سأقول:
إن الشيخ محمد البوطي، أو محمد البوطي مجرداً بلا ألقاب بعد الموت لربما كان أكثر شخصية جدلية العام الماضي، بعد تصاعد آرائه الواضحة والجريئة ضد الثورة السورية،وتشبيه القاتلين من حزب البعث بالصحابة، ووجوب الجهاد معهم. تلك المواقف العلنية صوتاً وصورة التي امتدت عبر شريط الزمان والمكان بلا تغيير، أو موضوعية، أو توازن.
ولنا مع مقتل البوطي هذه الوقفات:

1- كان الشيخ محمد البوطي ملأ سمع وبصر أهل الشام خاصة، ثم بقية بلاد العالم العربي والإسلامي عامة. وذلك من خلال دروسه ومحاضراته التي نقلتها العديد من الفضائيات،ثم كتبه المطبوعة والذائعة. وقد تركزت في التزكية والفكر،بل وحتى في عدد من العلوم الشرعية ،التي كانت محل إشادة وتقرير في عدد من الجامعات والمعاهد، رغم الاختلاف النسبي بل وحتى الجوهري في بعضها ككتابه ( الجهاد) وسواه. وقد كنت ممن قرر بعض كتبه كمراجع ، كمحاضرات في الفقه المقارن.
2- نظر العلماء المنصفين والموضوعيين للشيخ البوطي نظرة هادئة واعية، رغم معرفتهم الدقيقة بمواقفه من السلفية، أو ممن يدعو إليها، كموقفه من مدرسة الشيخ المحدث الجليل
( عبد القادر الأرناؤوط - رحمه الله-) وأمثاله، وكذا نظرته للعديد من المواقف (السياسية) و (الدعوية) المختلفة والمضطربة..( تلك المواقف المعروفة والمعلنة شفهياً أو كتابياً لجهات عدة). ولعله مع مستقبل الأيام ستظهر بمشيئة الله بكل تفاصيلها.
ورغم ذلك كان محل تقدير عام لعموم العلماء الوسطيين الذين قرأوا فكره بنظرة من يأخذ العلم من أي وعاء كان، مع موازنة جادة وصالحة للحسنات والسيئات، فضلاً عن علم محرر بأطروحات الشيخ، لا من خلال النقل المتسرع، أو الحكم المتقدم بأيدلوجية ما.
وكنت رغم معرفتي الدقيقة كغيري ممن هو مهتم بملف الشيخ البوطي العلمي والفكري منذ شوط طويل، مع تباين مدارس العارفين به وبأطروحاته، ممن دعا لنشر العديد من كتاباته، بل ومدارستها، في جوانبها المختلفة، مع الموضوعية في النقد، إيماناً بمنهج الشريعة، ومنهجية العالم في النقد الصحيح.
3- بعد موقف الشيخ البوطي من بدايات الثورة السورية تحير الناس في أمره أول الأمر، فمن قائل:
1- هذا رأي الشيخ وما أداه إليه اجتهاده.
2- لعل للشيخ موقفاً لم يستطع الإفصاح عنه.
3- إن أمره غير مفهوم، وتبريره للنظام أمر محير.
4- هذا تحول عن الحق، ومساندة للظالم.
ثم استمر الحال من البوطي إلى قبل مقتله في مدافعته عن النظام البعثي، وإشادته الصريحة والمستمرة له، بنفس اللغة والتجييش، بل وباستجداء النصوص الشرعية ولو كان بعضها ضعيفاً؛ لتأييده، والتشريع لكل أفعاله وجرائمه، بل والمفاخرة للاصطفاف خلفه، كونه- أي الجيش- من أحفاد الصحابة، بل لايقل عنهم دوراً في الجهاد وحفظ بيضة الإسلام!!

****
والآن لنعيد النظر في أحوال المتأملين في شأنه:
1- أما الذين قالوا: إن موقف الشيخ البوطي من الثورة هو ما أداه إليه اجتهاده الخاص، وتقديره للمصالح والمفاسد، وهو مما لاتثريب عليه فيه شرعاً وعقلاً، فإنني أقول:
أ- نعم من حق الشيخ البوطي أن يبدي كغيره رأيه الشرعي، وموقفه السياسي، الذي أداه إليه اجتهاده، أصاب أم أخطأ.
ب- ليس من حق الشيخ البوطي أن يلبّس على الناس أمر دينهم فيدّعي أن حزب البعث من أحفاد الصحابة - وحاشاهم-، وهو حزب يعرف البوطي فضلاً عن غيره أنه حزب قائم على نبذ العبادة لله، ومحاربة الدين وأهله، وتاريخهم لايحتاج لبيان!.
فهل مثل هذا الحزب الكافر يُؤيد؟
وهل مثل هذا الحزب السفّاح يُنصر؟
وهل مثل هذا الحزب القاتل عبر عقود يُفاخر به؟
وهل مثل هذا الحزب المحارب للدين يُوصف بأنه أحفاد الصحابة؟
ثم أليس من صفات (المجتهد) الورع ومعرفة الواقع؟!
أبعد كل جرائم البعث الكافر، وتواطئه مع أعداء السنة وأهلها في إيران ولبنان، ونهب حقوق الشعب الطاهر المؤمن، وسحقه براجمات الشيوعية الملحدة الروسية والصينية،يكون اجتهاد شرعي نصرة لأفاكين لايؤمنون بشرع؟!
ولذا نتساءل: هل ما أداه إليه البوطي من اجتهاد هو مجرد قراءة للواقع، وتقدير للمصالح والمفاسد، وكأننا نجهلها، أم تأييد علني مستمر للظالم وأعوانه، وتشجيعه على ارتكاب الجرائم في حق الأطفال والنساء والشيوخ باسم الدين، وتحت راية الملائكة، وفي معية الله؟!!
****

2- أما الذين قالوا: أن للشيخ البوطي فيما يبدو رأياً مختلفاً، لكنّ النظام أجبره أن يقول ما لا يقر به، وأن النيات موكولة إلى الله، فإنني أقول:
أ- ليس في شريعة الإسلام أن يحاسب أحدٌ أحداً على الباطن، إنما الحساب على الظواهر. ومما ظهر لنا بكل وضوح ، وبأداء مستمر: أن البوطي وقف داعماً بنصوص شرعية اختارها لتأييد البعث الكافر، ودعمه ضد أبناء الشعب السوري المؤمن الموحد.
ب- أنه لايجوز في كل المذاهب الفقهية المعتبرة تأييد القتلة، ودعمهم لسفك الدماء، واغتصاب النساء، واقتلاع العيون، وبقر البطون ممن هم في عمر الورود فضلاً عن غيرهم، بحجة أنه لربما كان مضطراً، وتحت مراقبة الجيش. ففقه الضرورات والحاجيات المنزلة منزلة الضرورة لاتبيح في كل الشرائع والمذاهب قتل الغير، والمشاركة فيه، وتأييده على جرائمه. وقد فصلت في رسالتي للماجستير(فقه الضرورة والحاجة بين القواعد الفقهية والأدلة الأصولية وتطبيقاتهما المعاصرة) ما لا ينبغي أنه يجهله مسلم فضلاً عن عالم، من حرمة الدماء، وحرمة الظلم، وأن المضطر يحرم عليه سفك دم غيره، أو اغتصابه، أو سرقته، مع ذكر ماقد يسوغ فيه الاختلاف شرعاً وعقلاً.
فهل ياترى كان الشيخ البوطي، يجهل ماسبق؟
ولو كان ذلك كذلك فأين فطرته، ومظاهر تدينه، التي تناديه بقول الحق، عن دعم القتل في كل خطبه إلى قبل قتله بأسابيع؟!
ألم يلحظ البوطي موقف إخوانه من العلماء الذين ما أطاقوا الظلم، وبشّعوه، أو حتى اعتزلوا الناس إذ لم يقدروا على الكلام؟!
ألم ير وهو العاطفي الرقيق المئات الذين خرجوا من جامعه أول الأمر محرمين للظلم وأعوانه وأعتاده ضد الأطفال والنساء والشيوخ عملياً، لامواعظياً وبكائيا؟!
ج- لو أن كل من دعا لدعم القاتل علناً، وهو يعلم أن القاتل فاجر كافر، معتد أثيم، عتل زنيم، ثم سكت عن جرائمه بحجة أن النيات عند الله لتذرع كل شيخ معمم وغير معمم عن أفعاله الأثيمة، وخطاياه في حق نفسه وغيره بأن له (تاريخ ماض)، وأن الحاجة والضغط دعياه للسكوت عن الظلم، بل والمشاركة فيه، والتحريض عليه!
وبهذا المنطق لما كان هناك داع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
وبذات المنطق لامحاسبة على كل من طغى وبغى بحجة الضغط!
وبذات المنطق فلا معنى للحرية والكرامة والجهاد والمقاومة والشرف!
****

3- وأما القائلين بالحيرة في شأن البوطي، وعدم القدرة على تفسير أمره، فإنني أقول:
أ- أعوذ بالله من تحجر العقل، واستغفال القلب!
أبعد الإفصاح المستمر عن دعم القاتل، وتأييد الفاجر، يبقى الإنسان في حيرة وتردد؟!
أبعد أن يرى كل من له بصر وبصيرة مشاهد أهلنا في سوريا أطفالاً وشيوخاً ونساء، ودماؤهم تشق الأرض، ثم يسمع أنات من كتبوا رواياتهم طيلة أربعة عقود في سجني الأسدين، ثم يتحير من موقف البوطي، ولايرى له تفسيرا !!
ما هذا الكلام البارد، وماهذه المتاجرة الرخيصة بدماء الأطهار الشرفاء؟!
هل بلغت الحنية والشفقة والرحمة والإنسانية عند البعض طلب السكوت عن الشيخ البوطي ، وهو لم يتورع علناً من تأييد الجيش والمقاتلة تحت شرعته باسم الله والدين والوطن، وعلى منهج الصحابة حسب فريته، ثم لايقول كلمة حق فيه، أو عبارة واضحة عنه لاجلجلة فيها؟
ألم يبلغ سمع هؤلاء قول الحق تعالى: (يا أيها النبي اتق الله)؟!.
ألم يبلغهم قول نبيهم عليه الصلاة والسلام : " إن الأمة إذا لم تقل للظالم ياظالم فقد استودع منها"؟!.
إن رحمة الإسلام ونبي الإسلام ليست مواتا، و حاشاه بأبي هو وأمي -عليه الصلاة والسلام- أن يرحم ظالما، أو أن يسكت على معتد، وهو القائل عن أعلم الأمة بالحلال والحرام، ومن حلف بالله على حبه: " أفتان أنت يامعاذ؟!". فكيف بمن فُتن وفتَن لا من أجل اجتهاد في الدين، بل من أجل تقويض الدين بتسميمه بالآراء الفاجرة، وسفك دماء الأطهار من أحفاد الصحابة الشرفاء؟!
(فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون* الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)؟!.

****

4- وأما من قالوا: أن البوطي قال برأيه وأعلن عن موقفه الظالم بقناعة تامة، بحكم معرفة به، وبسابق مواقفه، واستمراره في خطبه ودروسه على نفس خط التأييد للنظام البعثي الكافر، فهذا به شهدنا، وعليه حكمنا، وعلى مثله اعترضنا.
وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن،يقلبهما كيف شاء. وكم من صحابي ارتد، ومؤمن قتل غيره عمدا، واتبع هواه وكان أمره فرطا؟.
والحق عندما يُعرف، يُعرف به الرجال، لأن الحق لايعرف بالرجال، ولا يُفصّل على هيئات ملابسهم، ومسمياتهم، وألقابهم!
ومانقول إلا بما دعانا إليه القرآن: ( وما شهدنا إلا بما علمنا وماكنا للغيب حافظين).
وبعد: فهذا موقف صعب يمر على الأمة، ترى فيه قدواتها ينهارون، وتتآكل قيمتهم وشعبيتهم، وتتشظى قيمهم وهموهم. والتاريخ دول، والحق ثابت، ولايضيع الله أجر من أحسن عملا. ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله ، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره.

****
وختاما:
1- لقد قتل البوطي ، وهو فيما هو ظاهر ومعلن، ومايجب شرعاً وعقلاً التأمل فيه، والحكم عليه، دون النيات التي شأنها عند من يعلم دروبها وخفاياها، أنه كان مؤيداً للنظام الكافر الظالم، وداعماً له. وهو بهذا الوصف الواضح مناصر للمحاربين لله ورسوله والمؤمنين، الصادين عن الله ورسوله، الناقمين من أولياء الله المؤمنين .وهو شرعاً ( مقاتل) بالرأي، لا مجاهد يصطف مع الحق وأهله، والمظلومين في العراء، والمسحوقين في أحراش الظلام!
ولذا جاز أن يمتنع عن الصلاة عليه أهل العلم وأكابر الناس؛ فلإن امتنع الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة على من عليه حق دَين لآدمي، فعدم الصلاة على من لديه حقوق دماء معصومة متعلقة برقبته أولى وأكبر.
مع الإقرار أن المساجد أماكن مقدسة، وأن حرمتها باقية إلى يوم القيامة.
2- على كل مسلم، فضلاً عن عالم الاتعاظ والاعتبار، وأن التاريخ لايمتد بأمجاده وعطر ثناءاته إلا لمن اتقى الله في شأن نفسه وشأن أمته، ورأى الله ثم عباده أحسن ماكانوا يعملون.
قال الله تعالى: ( يوم تبلى السرائر فماله من قوة ولاناصر).
وقال تعالى: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).
وقال جل شأنه: ( يوم تجد كل نفس ماعملت من خير محضرا وماعملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد).
3-تعيش الأمة حالة وعي كبير، وماعاد ينطلي عليها إشفاق غير موضوعي، ويستدعي حنينها من يجور عليها مهما طال خيره، وطابت كلماته، وذاعت فتاواه. فالاتكاء على اختيار بعض النصوص الشرعية صحيحة كانت أو ضعيفة، وأقوال مشهورة أومهزوزة لعلماء معتبرين، لتركيع الشعوب، وإحكام أنفاسها تحت ظلال الدين المغشوش ، والفقه المنهوب، لن تهتف له روح، ولن يذل له عقل، ولن تستسلم له نفس!
لأن الآيات الشريفة، والأحاديث الصحيحة، والأقوال المعتبرة، لا تُجزَّأ، ولا تحجَّم، ولاتُفسَّر لفرد، ولا زمن تاريخي، بل بمجموعها، وقواعدها، وكلياتها، التي تفضح زيف أحبار السوء.
والدين باق، وعلماء التقوى والخشية من الراسخين في العلم هم المأهلون لقيادة الحق والحقيقة، مهما حُرفت النصوص عن ظاهرها، ومجملها، أو حُيدت الآراء لمصالح النفس واسترضاء عدد من البشر، دون كل البشر!
4- الشيخ البوطي إنسان مسلم أولا وآخرا، قدم للأمة حيناً من الدهر عطاءً ونفعا، وجهاداً معرفياً وتربويا، كما خالف الإسلام وتعاليمه في أمور كبيرة وخطيرة، ولكنه في المآل يبقى مسلماً، للمسلم أن يترحم عليه، ويدعو له، ويستفيد من كتبه، ويعقّب على فكره، ويتعظ من خاتمته.
5- كان يتمنى كل ناصح وغيور أن يسمع الشيخ البوطي لنداءات المشفقين والمحبين وحتى الناقمين، الذين كتبوا ونادوا. ولكن وآه من لكن لاحيلة أمام القدر، ولانصح يرجى بعد المقدور.
والله أعلم بحقيقة قتله، فلإن كان النظام الآثم قد قتله اعتقادا منه بعودته عن تأييده له، فهو خير نرجوه، ولكنه لايعفيه من دماء أسيلت، وقلوب احترقت. مع الإقرار بأن العودة للحق فضيلة، وهي خير من التمادي في الظلم، ولعل الله أن يجبر بها بعض أو كل ما حصل من جور. ولكنها مما لايجوز الاستناد إليه، والمحاكمة عليه، طالما أنها كانت إما من الغيبيات، أو التخرصات. وإن كانت الأخرى ممن يرى مقاتلته فقد اجتمع الخصوم، والديّان سبحانه يفصل بينهم بعدله.
6- شأن النيات والعاقبة أمر غيبي عند أرحم الراحمين، والعدل اسمه، والجزاء عنده، والموعد الحساب، ولايظلمك ربك أحدا.

اللهم ارحم شهداء أهل الشام، واجبر مصابهم، وارحم ضعافهم، وكن لهم، وامكر بهم، ولاتفتنا بعدهم. ونعوذ بك أن نقول زورا، أو أن نغشى فجورا، أو أن نجر إلى مسلم فجورا. أنت تحكم بين عبادك فيما اختلفوا فيه، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولاتجعله ملتبسا علينا فنضل.
والحمد لله على كل حال، وصلاة وسلامًا على سيدنا محمد صاحب الرحمة والشفاعة في الدين والدنيا ويوم المآل.

وكتبه
علي بن حمزة العمري