النظام الأردني نشأ بشكل مقلوب وتأسَّس على أيديولوجية فاسدة , الحلقة الاولn

الملك "حسين" وجدُّه "عبد الله" أرادا للهوية الأردنية ان تكون ملتقى للمصلحة المفرِّقَة، القائمة على "العصبية الضارة"..


وحاربا كل محاولات الشعب الأردني لجعل هذه الهوية ملتقىً للمصلحة الموحِّدة، القائمة على "الفكرة النافعة"..







"المخابرات العامة" تكشف علنا عن السياق المقلوب الذي نشأت فيه الدولة الأردنية


على نفسها جنت "براقش"، ومن فم الآثم تدينُه الكلماتُ..


فعلى قناة "الجزيرة" القَطَرِيَّة، كان أحدُ المتحاورين، أو بتعبير أدق أحدُ "المتطاوشين"، ضابطَ مخابراتٍ أردني سابق، انحصرت مهمته في الدفاع عن الأجهزة الأمنية العربية، وعلى رأسها "دائرة المخابرات العامة" الأردنية.


من جهتنا، لا نظن أن ذلك الضابط ظهر على تلك القناة المثيرة للجدل، ليدافع على ذلك النحو العاطفي من الدفاع، عن دائرة المخابرات العامة في الأردن، كنموذج للدوائر الأمنية العربية، دون إذن من رؤسائه السابقين. أي أن ما قاله على الهواء مباشرة بلا شُبْهَةِ مَنْتَجَةٍ غيرِ بريئةٍ، أو تزييفٍ للأقوال، أو تحريفٍ عن المعنى المقصود، يمثل رأيَ وأيديولوجيةَ تلك المؤسسة الأمنية بلا شك، خاصة وأن أحدا من القائمين على تلك المؤسسة لم يعترض لاحقا على أيِّ كلمة قالها ذلك الضابط المُفَوَّه لا فُضَّ فوه، ولا تبرَّأَ من أيٍّ من أفكاره التي تناقلها الناس عبر فمه ومن خلال كلماته.


فما الذي قاله ضابطنا الهُمام؟!


لقد أعلن ذلك الضابط بالفم المليان، وبما لا يحتمل شكا أو تأويلا، في سياق دفاعه عن النظام في الأردن، وضرورة الاعتراف له من قبل الشعب الأردني بحقوقٍ غير عادية، لا تستحقها الأنظمة العربية الأخرى من شعوبها – وإن يكن بعباراته وأسلوبه الخاصين – أن الأنظمة العربية نوعان.. "الأول هو النظام الذي ينشِئه الشعبُ بعد إنشاء الدولة، ما يجعل النظامَ خاضعا لإرادة من أنشأوه.. وأما الثاني فهو النظام الذي يُنْشِئُ شعبا ودولة، ما يجعل الحقوق والواجبات معكوسة، فيخضعُ المُنْشَأُ، وهو الشعب، لإرادة المُنْشِئِ، وهو النظام.. وضرب مثلا على هذا النوع الأخير من الأنظمة بـ "النظام الأردني"(1). حيث يجب بناء على هذا الفضل وهذه المِنَّة، أن تكون الشعوب في مثل هذه الأنظمة، والنظام الأردني من بينها بطبيعة الحال، جاهزة لرد الجميل إلى الأنظمة التي أنشأتها بعد إذ لم تكن، وذلك بتَقَبُّلِ سياساتها الأمنية التي يجب أن تنصب نحو الدفاع عن تلك الأنظمة وحمايتها باعتبارها صاحبة الفضل في إنشاء "الشعب" و"الدولة" و"الهوية" من ثمَّ.


لن نتوقف من كلام الضابط إياه عند ذلك الواجبِ المقدَّس الذي فرضَه سيادتُه على الشعوب التي كانت مَيْتَةً فأحيتها الأنظمة بأن شكَّلتها سياسيا وهوياتيا، أو على تلك التي لم تكن فكانت بفعل الـ "كن فيكون" السياسية لتلك الأنظمة، كما هو حال النظام الأردني كما صرَّح بذلك ضابطنا الهمام. بل سنتوقف عند هوية وطبيعة هذا النظام الذي نشأ بطريقة مقلوبة ونشاز، لتكون بُنْيَتُه قائمةً على أسسٍ مقلوبة ونشاز، وعلى أيديولوجية فاسدة من حيث المبدأ، مادام النظام في الأوضاع السليمة وفي الحالات الطبيعية لا يصح أن ينشأ قبل الشعب المقيم على إقليمٍ، يُشَكِّل من خلال تواجده التاريخي عليه حدودَ الدولة التي يتم البحث بعد ذلك عن نظام سياسي يتولى قيادتَها. ومن حسن حظنا أنَّ الاعتراف بهذه الطبيعة المقلوبة للنظام الأردني جاء على لسان ضابط متعلم ومثقف ومسَيَّسٍ وجريء في مواجهة الكاميرا والجمهور، قدَّمَته تلك المؤسسة الأمنية واجهةً ليتحدث باسمها، حتى لا نتَّهم بأننا نضَلِّل أو نشكِّك أو نصطاد في الماء العَكِر.


إن السياق المقلوب الذي نشأت فيه "الدولة الأردنية"، عبر ظهورِ نظامٍ هو "النظام الأردني"، الذي راح يبحث لنفسه عن شعبٍ وعن أرضٍ يُنْشِئ بهما دولة سماها "إمارة شرق الأردن" بمساعدة موظِّفيه "الإنجليز"، استنادا إلى مرجعيةِ انقلابٍ لم يحرِّر أحدا، عرفناه جميعا باسم "الثورة العربية الكبرى"، جعل من الطبيعي أن يحرصَ النظام على تكريس البعد "العصبي" للهوية الأردنية بشكل دائم خلال سيرورة الدولة التي أنشأها بمساعدة موظِّفيه هؤلاء، ليتسلم إدارتها خدمة لمشاريعهم الصهيونية الإمبريالية من ثمَّ.





كيف تشكلت الهويتان الأردنية والفلسطينية؟!


إن الشعب الذي لا يعي هويتَه، ولا يعرف أبعادَها ومكوناتِها، ولا كيف تكونت أو تشكلت في السيرورة التاريخية، هو شعب لم تتكامل فيه بعدُ صفة "الشعب المستقل"، لأنه بافتقاره إلى ذلك الوعي وإلى تلك المعرفة، لا تكون هويتُه قد تكاملت في الواقع الموضوعي على نحوٍ يؤهِّلُها لأن تتجَسَّد على شكل دولة سياسيا وقانونيا. إن هناك قواعدَ وأصولاً يصنعها الحراك التاريخي للشعوب والمجتمعات وهي تحفرُ في أخاديد الزمن مُكَوِّنات هوياتها التي ستغدو عند استشعارها والإحساس بها جزءا لا يتجزأ من "أناها" الجمعي، ومن "الأنا" الفردي لكل فرد من أفرادها. الهوية الوطنية لأيِّ شعبٍ تتشكل – في الوضع الطبيعي – من الأسفل إلى الأعلى، عبر تطور مديد للبُنى المجتمعية التي تكتشف نفسَها ووحدتَها وتجانسَها ومنطومات مصالحها وحزم ثقافاتها المتميزة عن محيطها مع مرور الزمن، فتستشعر ضرورة التعبير عن نفسها في إقليم جغرافي لإقامة الدولة والنظام داخل حدوده، والتي هي – أي الإقليم والدولة والنظام – المُكَوِّنات الفعلية للهوية الوطنية.


الهوية الوطنية الأردنية – ومثلها الهوية الوطنية الفلسطينية – لم تتكون ولا تشكلت أيٌّ منهما على هذا النحو التراكمي الطبيعي، بل هي تشكلت على نحوٍ معكوس، فجاء ظهورها في الواقع من الأعلى إلى الأسفل. أي أن هناك فئةً اعتبرت نفسها "النظامَ" المفترضَ الذي أفرزته تداعيات "الانقلاب الهاشمي" بكل الأخطاء – بل بكل الخطايا – التي تلت انطلاقتَه وسيرورته. وراحت هذه الفئة "النظام" تبحث لنفسها عن إقليم تقيمُ عليه "دولة"، وعن "شعب" تقيم به تلك الدولة في ضوء ضرورة توفر شروط جيوسياسية في هذا الإقليم جغرافيا وديموغرافيا لضمان حسن التعامل مع مُخرجاتِ مشروعٍ كان يتم الإعداد له، هو المشروع الصهيوني الإمبريالي. فظهرت الدولة وظهر شعبها داخل الإقليم المختار بمساعدة الحليف الاستعماري المهيمن آنذاك، ألا وهو "بريطانيا"، وكأنَّها كلَّها إنجازٌ لذلك "النظام" الذي افترض من هذا المنطلق وعلى أساسه، أنه المالك الحقيقي لهذه "الهوية" لأنه صانعُها، وبالتالي فهو صاحب الحق في تحديد مُكَوِّناتها وتغييرها وتطويرها وإضافة مُكَوِّن لها هنا وإسقاط مُكَوِّن من مكوناتها هناك، بل واستخدامها وتوظيفها على النحو الذي يريد، وذلك بحسب ما ينسجم مع مصالحه التي راحت تتكون بعيدا عن المصالح الحقيقية لهذه الدولة المفاجئة التي يفترض أن تكون هي ذاتها مصالح الشعب الذي حوصرَ في داخل حدودها ليجد نفسه فجأة ورغم أنفه يسمى "الشعب الأردني".


ولأن "الهوية الأردنية" نشأت على ذلك النحو وبتلك الطريقة، بعيدا عن وجود وعي حقيقي بها وعن تبلور ضمير جمعي يستشعرها، فلم يكن من الصعب التلاعب بها، لأن هذا الشعب كان في الواقع ينتظر من نظامه الذي صنعه، أن يشرح له مُكَوِّنات هذه الهوية، وكيف يريدها أن تكون ليكونَها، فأصبح من السهل أن يتلون الأردنيون بالألوان التي راح يفيض بها من وقت لآخر نظامُ دولةٍ أُنْشِئَت ليؤدي بها ذلك النظام الدور الوظيفي المنوط به.


كانت تلك هي بداية الفجوة في طبيعة الهوية الأردنية، وفي طبيعة علاقتها مع عناصر الدولة الأخرى. وراحت هذه الهوية ومُكَوِّناتِها تتغير، بناء على دور وظيفي محدد أنشئت هذه الدولة لأجله. فلم يعد "الأردنيون" بعد سلسلة الشروخ والإضافات والإنقاصات التي اعترت هويتَهم لأسباب غير منطقية ولا طبيعيةِ التراكم، يعرفون جوهر تلك الهوية ولا حقيقتَها، فراح كل فريق منهم يبحث عن مَخرج لأزمة الهوية لديه في اختلاق "هويات" فرعية وقاصرة وبدائية وضعيفة، ساعد النظام على دعمها وإبرازها، لأنه رأى فيها عبر حقبةٍ دامت أكثر من تسعين عاما من الهدم والتغييب أنها الوسيلةُ الأضمنُ لاستمرار هيمنته على هذا الشعب الذي اعتبرَ نفسَه مالكَه بعد أن اعتبر نفسه أولا وقبل كل شيء صانعَه، بعد إذ لم يكن موجودا من قبل بشكله السياسي ذاك وبطبيعته السياسية تلك.


فالإقليم الجغرافي المسمى "الأردن" والتجمع البشري المسمى "الشعب الأردني"، لم يكونا موجودين على أرض الواقع ولا بأيِّ مستوى من مستويات التَّكَوُّن قبل عام 1917، وهو عام الاحتلالين البريطاني والفرنسي لبلاد الشام. وعندما قرر البريطانيون أن تكون هناك دولة يسكنها "شعب" ذو مواصفات محددة، ليحكمهم "النظام" الذي جاء مرافقا لهم من الحجاز باحثا عن دولة وعن شعب لأداء دور وظيفي محدد فرضته طبيعة المنطقة في ضوء كل من "اتفاقية سايكس بيكو" التي رسمتها نهاية معارك الحرب، و"إعلان بلفور" مرتقب التنفيذ، بدأت تتبلور شيئا فشيئا عناصر "الهوية" التي يجب أن تتكوَّن مرافقة لظهور "الدولة" و"الشعب" المستهدفين.


وهكذا أُظْهِرَت لهذا الإقليم الجغرافي ولقاطنيه هويةٌ هي "الهوية الأردنية"، لتكون هويةَ تَجَمُّعٍ بشري من أبناء بلاد "الشام/سوريا"، لم تكن لهم فيما مضى أيُّ خصوصية داخل هذا الإقليم، فهم شاميون، أو سوريون، فيما كانت قبائل البدو المنتشرة في المنطقة تتنقل بحرية، عابرة كل المساحات الممتدة من بادية الشام إلى العراق إلى شمال نجد إلى صحراء النقب دونما أدنى شعور بالانتقال من دولة إلى دولة، أو من أقليم إلى إقليم، أو حتى بتصور الانتقال إلى ربوع قومٍ يختلفون في هويتهم وطبيعتهم وأصولهم وانتمائهم عنهم!!


ولقد كانوا جميعا يُنسبون – شأنهم في ذلك شأن كل أبناء إقليم بلاد الشام – إلى مدنهم إن كانوا أهل حضر، وإلى قراهم إن كانوا فلاحين، وإلى مضاربهم إن كانوا بدوا، ولا يعرفون لأنفسهم تقسيمات إدارية غير تلك التي حكمتهم قرونا طويلة إبان الحكم العثماني، والتي كانت تتداخل فيها المناطق في إقليم الشام تداخلا جعل "إربد" و"صفد" منطقة إدارية واحدة، و"نابلس" و"السلط" منطقة واحدة، و"الكرك" و"الخليل" منطقة واحدة.. إلخ.


وجد هولاء الشاميون السوريون – الذين حاصرتهم حدود الإقليم "الأردني" المرسوم حديثا – أنفسَهم فجأة "أردنيين" داخل إقليم لم تكن تظهر لحدوده السياسية التي رُسِمت بعد الاحتلال البريطاني، أيُّ ملامح قبل ذلك التاريخ. كان هذا الشعب هو "الشعب الأردني"، وكان هذا الإقليم هو حدود "الدولة الأردنية"، وكانت الهوية من ثم هي "الهوية الأردنية" التي لم يجد "الأردنيون" في ظهورها المفاجئ على هذا النحو، وفي منحِها هذا الاسم، وإلباسهم إياها بتلك الطريقة، ومحاصرتهم بها داخل هذا الإقليم، أيَّ مُسوِّغ لحرمانهم من حق اعتبار أنفسهم أولئك الجمع من الناس بانتماءاتهم وقضاياهم "السورية" التي كانت لهم قبل أن يكتشفوا فجأة أنهم "الأردنيون"، كما حصل مع جيرانهم الذين اكتشفوا فجأة أنهم "الفلسطينيون" في السياق نفسه وبالطريقة نفسها في التشكُّل والتكوُّن والتوظيف والاستخدام.


إن الواقع والتاريخ ينبئانا عن الكثير من الأمم والشعوب بل والهويات التي نشأت وتكونت بطريقةٍ غير منسجمة مع المنطق وبقوة خارجية قاهرة، ومتعارضة كل التعارض أحيانا مع حيثيات العدالة الإنسانية. فالأمتين الأميركية والأسترالية مثالا لا حصرا، قامتا على إبادة شعوب وحضارات بأكملها. ومع ذلك فلا أحد يعتبر أن إعادة الأمور إلى نصابها، وإقامة العدل التاريخي، وإحقاق الحق في تلك السياقات، إنما يكون بالعودة إلى الوراء، وبإسقاط ما بُني على الباطل، لأن ذلك في مستويات التَّغَيُّر والتطور الحاصلة انبناءً على تلك الأحداث التاريخية الدرامية، وصل إلى ما يستحيل معه أيُّ شكل من أشكال التراجع إلى الوراء، لا عمليا ولا منطقيا.


فالخطأ عندما ينتقل به الزمن إلى مستوى من التكرُّس المؤثر على مجموعة من العناصر والبيئات تأثيرا وجوديا عضويا، وعندما ترتبط به حياة ملايين البشر الذين لا ذنب لهم في مستويات الظلم التي رافقت الحدث التاريخي التراجيدي السابق الذي مهَّد لوجودهم على ذلك النحو، يغدو الصواب أن نتعامل معه كما هو، مع محاولة ما في وسعنا لتحريره من مخلفات ذلك الخطأ بما يخدم البيئة والمحيط والعدالة والمنطق. ماذا يعني هذا على صعيد ما نحن بصدده من حديث عن الهوية الأردنية؟!


من الناحية التاريخية فإن "الهوية الأردنية" – ومثلها "الهوية الفلسطينية" على سبيل المثال لا الحصر – نشأت وتكونت وتطورت كلٌّ منهما في سياقاتٍ غير منطقية وغير مُعَبِّرَة عن سيرورة تاريخية طبيعية كما مر معنا. كما أنها أدت في ضوء الظروف التي نشأت فيها وتطورت من خلالها إلى إنتاج معادلات سياسية غير وطنية وضارة بأهل الجغرافيا المسماة "الأردن" وبتلك المسماة "فلسطين"، وبالإقليم "الشامي السوري" كاملا، متيحة الفرصة لقيام "النظام" الذي أنشأ تلك الهوية ورعاها، بأداء دوره الوظيفي المنوط به. وهي من هنا، أي الهوية الأردنية، كانت ضحية استُخْدِمَت استخداما لا أخلاقيا ولا وطنيا لخدمة مصالح فئة محددة، مصالح لا تمت بصلةٍ – لا من قريب ولا من بعيد – لمصالح المادة البشرية لتلك الهوية، ألا وهم من أصبحوا بموجبها يُسَمَّون "الأردنيين".


لكن هذه الهوية القُطْرِيَّة رغم كل الاختلالات التي رافقت ظهورَها وتَشَكُّلَها، ومع كل الاستخدامات والتوظيفات غير الوطنية لها من قبل "النظام" الذي أنشأها، أصبحت حقيقة واقعة لا يمكن المطالبة بالتراجع عنها لتصحيح الأساس الذي قامت عليه، فهذا أمر يتعارض مع المنطق ومع طبيعة الأشياء، ومع مقتضيات العدالة والتطور بكل معانيها. فلقد أصبحت هناك حقيقة مُكَرَّسَة لا مجال للتراجع عنها هي "الهوية الأردنية"، تعاني من كل القروح والجروح التي سبَّبَها لها "نظام" عرف كيف يستغلها ويستخدمها استخداما ما يزال مردودُه السلبي ظاهرا للعيان. وأمام هذه الحقيقة فليس أمام "الأردنيين" سوى أن يعملوا على إعادة وضع هذه الهوية في سياقها المنطقي والموضوعي، عبر تحريرها من كل الاختلالات والإساءات والتوظيفات غير الوطنية التي عانت منها منذ نشأتِها وبدءِ تكوُّنها في مطلع القرن الماضي.


وإذن فكيف يمكننا أن نتعاطى مع هذه "الهوية" على النحو الذي يقويها ويُفَعِّلُها ويطورها وطنيا وقوميا، ويُمَكِّنُنا من تحريرها من أن تكون أداة في أيدي من يريدون للأردن أن يبقى بحدوده وشعبه، كما كان منذ نشأ وتأسس "دولة وظيفية" بكل ما لكلمة "دولة وظيفية" من معاني ودلالات، بعد أن أصبحت هذه الهوية أمرا واقعا وحقيقة من حقائق التاريخ المعاصر التي لا يمكن التراجعُ عنها أو مناكفتُها أو مقاومتُها؟! بل كيف يمكننا أن نحرِرَّ الدولة الأردنية من أحد أهم مظاهر الفساد الأيديولوجي الذي بُنِيَت عليه، عندما تم تصنيع هويةِ شعبِها في حاضنةٍ لا يمكنها أن تَصبغَ تلك الهوية إلا بالرجعية والنكوصية وأبشع أشكال الوظيفية، ألا وهي حاضنة "العصبية"، بدل تنميتها في حاضنة "الفكرة" التي هي الحاضنة الطبيعية لتطور ونمو الهويات إذا أريد لها أن تؤدي أدوارا ملموسة في النهضة والتنمية والتحرير؟!


في الواقع فإن "الهوية الأردنية" تعرضت لعملية تشويه جعلت الأردنيين يحتارون في طبيعة دورهم الوطني والقومي المنسجم مع جوهر هويتهم تلك. ولقد انصب هذا التشويه نحو نقطتين أساسيتين كلاهما مُدمر للهوية الأردنية ومغَيِّب لها عن ساحة الفعل حتى لأجل نفسها ومصيرها ومستقبلها وحقوق أبنائها.


تمثلت النقطة الأولى في ذلك الفصل الفاجع الذي تمَّ تكريسه بين من أريد له أن يكون "فلسطينيا" مستضافا على أرض "الأردن" بصورة مؤقتة قد تصل إلى ألف عام، ومن الأفضل له أن يحترمَ أصول الضيافة ويتجنبَ التدخل في أمور هذه الدولة، مع أنه أريد له أن يكون شريكا كاملا في كل ما عدا إدارتها والمشاركة في حراكها السياسي، ومن أريد له أن يكون هو وحده "الأردني" المضيف الذي عليه أن يعرف أن علاقته بفلسطين التي نشأت مثل الأردن بشكل نشاز ومقلوب، وبالفلسطيني الضيف الذي نشأ مثل الأردني بالنشازية واللامنطقية نفسيهما، ليست أكثر من التعاطف والدعم المعنويين.


لقد تمَّ خلق ثقافة "التوجس" و"الحياد" بين من أريد له أن يكون "أردنيا" وفقط، ومن أريد له أن يكون "فلسطينيا" وفقط أيضا، الأول يتوجس خيفة من الثاني على هويته التي راح يخاف عليها من هبة الهواء، في تعبير لاواعٍ عن كل معاني انعدام الثقة في هويةٍ يعلم لاوعيه ظروفَ نشأتها غير الطبيعية، والثاني محايد إلى حد سلبي إزاء ما يحدث في الأردن، بعد أن اقتنع هو الآخر بأن هذه ليست أرضه ولا هذا الوطن هو وطنه، وأنه بالفعل مجرد ضيف قد يكون ثقيلا إذا تجاوز حدود اللياقة وتدخل فيما لا يعنيه، بعد أن أُفْهِم أن هويته إنما هي تلك الهوية المقدسة الشهيدة "الهوية الفلسطينية" القابعة غرب النهر تنتظر المخلصين الأبطال مثل "صلاح دين" العصر، و"بيبرس" الزمان.


ولأن هذه الثقافة – في ظل الحقيقة التي تؤكد على أن كل أكاذيب التاريخ لا يمكنها أن تُشْعِرَ الفلسطيني أو الأردني بأن هناك فوارقَ حقيقيةً بين هويتيهما وقضاياهما وحقوقهما وواجباتهما تجاه الأردن وفلسطين معا، بل وتجاه الأمة العربية كلها، يمكنها أن تبررَ وقوف أيٍّ منهما على الحياد في قضايا الآخر ونضالاته من أجل حقوقه التحررية في فلسطين والمطلبية في الأردن – لم تكن قادرة على تحقيق الغاية منها أو النجاح في إحداث الشرخ المطلوب بين مُكَوِّنَي الهوية الواحدة في الأردن وفلسطين تمريرا للدور الوظيفي للنظام وللدولة التي أنشأها وللشعب الذي كونه، لمجرد أن تمَّ إلقاء طعم "الهوية الجديدة" أمام من أريد لهم أن يكونوا "أردنيين" وفقط، وخاصة على مدى العقود الأربعة الأخيرة التي أعقبت مجزرة أيلول عام 1970، فقد تدخل النظام بأجهزته الأمنية ومؤسسات تنشئته الاجتماعية، وفَعَلَ كلَّ ما يستطيعه ليُجَذِّرَ هذه الثقافة، إلى أن غدت هذه الثقافة على الصعيد الاجتماعي الشامل ثقافة تكاد تكون مهيمنة. إنها مرة أخرى ثقافة "حياد الأردني الفلسطيني" و"توجس الأردني غير الفلسطيني"، لتصبحَ قضايا الأردنيين غير موحدة ولا متجانسة ولا متحالفة في مواجهة من استغل الطرفين معا خدمة لمصالحه وتمريرا للعلاقات الوظيفية التي يمثلها في المنطقة.


ولأن النقطة الأولى ما كان لها أن تتحقق، ولا أن ينجح النظام في تكييف الواقع الأردني ليتعاطى معها بعد أن تتجسَّد فيه باعتبارها مُكَوِّنا من مكونات بُنية المجتمع الأردني، إلا بإحداث شرخ آخر أشد ضررا وأكثر بدائية وتراجعا من شرخ "الأردني – الفلسطيني"، ألا وهو الشرخ "القبائلي – العشائري" داخل المُكوِّن "الشرق أردني"، و"العائلي – الحمائلي" داخل المُكَوِّن "الغرب أردني" لهذه الهوية، فما كان منه إلا أن راح يعمِّق هذه النزعة العشائرية والحمائلية في قلب المكونين الشرق أردني من جهة والغرب أردني من جهة أخرى، مُرَسِّخا ثقافةَ كونها – تلك النزعة – بوابة الحقوق، وصِمْغَ الارتباطات المجتمعية المُنتجة للمكانة وللمصالح وللمكاسب.. إلخ.


لقد أدرك النظام في سياق إثبات جدارته في أداء الدور الوظيفي المنوط به، أن نجاح خطتِه في إحداث الشرخ الكبير الأول، يحتاج إلى تغذية تلك الخطة بإحداث ذلك الشرخ على صعيد المُكَوِّنين نفسيهما، بعد أن نجح في تخليقهما مرجعيتين لتشكيل "المصلحة" و"الحق" و"السياسة" في الدولة التي تضمهما معا، بدل أن تكون مرجعية كل ذلك هي "المواطنة"، وهكذا كان. وراحت تتعمق شيئا فشيئا النزعة العشائرية وإلى جانبها النزعة الحمائلية بأكثر أشكالها عنصرية وشوفينية وفراغا في الدلالة والمضمون، بعيدا عن إحساس الجميع بأنهم في خندق معاناة وألم واحد، تحت رحمة نظام عرف كيف يستخدم الجميع ويستغل الجميع ويغيِّب الجميع ويجرُّ الجميع إلى الهاوية.


ولكننا لا نستطيع استحضار السياسات التي اتَّبَعها النظام الأردني في استخدام وتوظيف "الهوية الأردنية" عبر عقود عمره التي تجاوزت الخمسة والستين عاما منذ استقلاله عام 1946، أو التي تجاوزت التسعين عاما منذ نشأة الإمارة في عام 1921، دون أن نُؤَسِّس لثقافات "الترابط المجتمعي" التي كان النظام يتحسَّسُ طبيعتَها في المجتمع الأردني الذي كان يُشَكِّلُه ويطوِّرُه، ليتحرك بها ومعها، وليحركَها من ثمَّ خدمةً لسياساته في هذه المرحلة أو في تلك من عمر "الدولة القُطْرِيَّة الوظيفية" التي كان يديرها، متجاوبا مع المتغيرات المحلية والإقليمية التي كانت تفرض نفسَها على تلك الثقافات من حين لآخر.





ثقافات الترابط المجتمعي في الأردن بين "العصبية" و"الفكرة"


يعتبر الكثيرون ممن حاولوا دراسة ثقافات الترابط التي تسود المجتمع الأردني، أن هناك نوعين من ثقافات الترابط يسودان العلاقات بين الأردنيين، هما "ثقافة العصبية" و"ثقافة المصلحة". وبينما تقوم "ثقافة العصبية" في نظر أنصار هذا التقسيم، بسبب "الحاجة إلى التعاضد والتجمع لمواجهة خطر خارجي ما، ما يجعل البيئة المناسبة لانتشارها هما البادية، حيث خطر الغزو من القبائل، والقرية، حيث خطر الجوع إذا لم يعطِ العمل إنتاجا كافيا"(2). فإن "ثقافة المصلحة" تجد – لدى أصحاب هذا التقسيم ذاته – في حياة المدينة أنسب بيئة لازدهارها نظرا لتضاؤل الخطر وانتفاء الحاجة المباشرة للتجمع. "وهكذا أعلى أهل المدينة قيمةَ الفرد حيث لا خطر من غزو على أساس قبلي، وحيث تعتمد عملية الإنتاج على الفرد وقدراته"(3).


من جهة أخرى يرى دعاة هذا التقسيم أن علاقة ثقافة الترابط المجتمعي بالمكان هي علاقة ذات اتجاه واحد فقط. بمعنى أن وجود المدينة لا يستلزم بالضرورة قيام "ثقافة المصلحة"، بينما "ثقافة المصلحة" لا تقوم إلا في بيئة مدنية. "وهكذا فمن الطبيعي أن نجد مدنا تسودها ثقافة العصبية، بينما لا يمكن أن نجد ثقافة المصلحة في القرية التقليدية أو في البادية"(4). ومع ذلك فإن السبب الأصلي لتَوَلُّد الثقافة هو الحاجة لها، "وكنتيجة لذلك فإن تراجع ثقافة ما لصالح ثقافة أخرى يحدث فقط إذا ضعفت الحاجة لها، وباتت الثقافة الأخرى أكثر قدرة على تلبية ما هو مطلوب من "الثقافة القائمة"(5).


هذا وتقوم علاقات التضامن بين الأفراد في "ثقافة العصبية" كما يتصورها أنصار تقسيم ثقافات الترابط المجتمعي في الأردن إلى "ثقافة عصبية" و"ثقافة مصلحة"، على أساس صلات القربى. ما يجعل قيمة الفرد في هكذا ثقافة ضئيلة، وقيمة الجماعة عظيمة، وهو الأمر الذي يجعل هذه القيمة تتحدد وفقا لقيمة الجماعة التي ينتمي إليها ذلك الفرد. ويمثل أفراد الجماعة كبيرها، بناء على قواعد من صلات القربى، إما بوراثة موقعه، أو بحكم كونه أكبر المترابطين بالقربى سنا.


أما علاقات التضامن بين الأفراد في "ثقافة المصلحة" فتقوم على أساس المصالح المشتركة التي يصنعها الفرد، وليس على أساس تلك التي يولد فيها. وفي هكذا نوع من الثقافات تكون قيمة الفرد كبيرة وقيمة الجماعة التي تتشكل على أساس صلات القربى ضئيلة، وذلك بسبب أن قيمة الفرد في هذا النمط من ثقافات الترابط تتحدد وفقا لقدراته وإنجازاته، ما يجعله ممثلا لنفسه بنفسه. وحين يقيم الفرد مجموعة صلات على أساس المصلحة، فإن من يمثله في هذه المجموعة، يتحدد على قاعدة أهليته لخدمة المصلحة التي تشكلت المجموعة بسببها وليس على قاعدة أخرى(6).


لاحظ أنصار "ثقافة العصبية" و"ثقافة المصلحة"، أن طبيعة المتغيرات التي كانت تفرض نفسَها على الأردن في مراحل مختلفة من تاريخه، وخاصة في تلك المراحل التي جسَّدَت أكثر من غيرها تداعياتِ "القضية الفلسطينية" بشكلٍ مكثَّف، بسبب الهجرات واسعة النطاق التي انبثقت عن الحروب التي شهدتها الأراضي الفلسطينية، وَلَّدَت نوعا جديدا من ثقافات الترابط المجتمعي على الساحة الأردنية، لا يمكن وصفها بأنها "ثقافة عصبية" أو بأنها "ثقافة مصلحة"، لأنها في حقيقة الأمر مَثَّلَت "ثقافةً مركبة" جمعت بين "العصبية" و"المصلحة" في آنٍ واحد معا.


إلا أن تعبير "الثقافة المركبة" فرض معضلة مضمون على مستخدميه ومروجيه، تجسَّدت في أنه تعبير انطوى على معنيين حضرا معا في هذه الحالة الثقافية الجديدة هما..


"الأول.. المعنى الذي ينزع إلى توزيع ثقافتي العصبية والمصلحة بين أفراد المجتمع، بمعنى أن تتبنى مجموعات منهم مفاهيم ثقافة العصبية فيما تتبنى مجموعات أخرى مفاهيم ثقافة المصلحة.


الثاني.. المعنى الذي ينزع إلى تقاسم ثقافتي العصبية والمصلحة عند الفرد نفسه، بمعنى أن يتبنى كل واحد من الأفراد، وبالتالي مجموعات كاملة من المجتمع، بعض مفاهيم ثقافة العصبية في جزء من السلوكيات، وبعض مفاهيم ثقافة المصلحة في الجزء الباقي منها.


في المعنى الأول تكون ثقافة المجتمع هي المركبة، وفي الثاني تكون ثقافة الفرد – وبالتالي المجموعات – هي الثقافة المركبة"(7).


ومع ذلك، فقد أكد محللو هذه الظاهرة على أن النمط الأكثر شيوعا من بين نمطي التركيب الثقافي سالفي الذكر، هو ذلك الذي يجمع بين الثقافتين لدى الفرد الواحد، وليس ذلك الذي تنتشر فيه "ثقافة العصبية" بين شرائح من المجتمع، فيما تنتشر "ثقافة المصلحة" بين شرائح أخرى منه، كما دلَّ على ذلك تتبًّع الظاهرة في المجتمع الأردني منذ ولادتها، وذلك نظرا للأسباب التالية..


"الأول.. إن الفرد الذي يَعتبر "ثقافة العصبية" هي مرجعيتَه لابد له من أن يمارس بعض مفاهيم "ثقافة المصلحة" في ضوء عمليات التحديث واتساع المدن وانتقال الكثيرين للعمل فيها.


الثاني.. إن وجود بعض الظروف العامة – السياسية والاقتصادية – تدفع بطبيعتها نحو تفشي مفاهيم "ثقافة المصلحة".


الثالث.. إن التأثر الطبيعي والعام بمفاهيم ثقافة المصلحة بات حاضرا في المجتمع، بفعل العديد من العوامل التي على رأسها العامل الديمغرافي.


الرابع.. لأن اللاجئين من القرى الفلسطينية إلى شرقي الأردن اضطروا بفعل عيشهم في ظروف جديدة لا تتيح لهم التجمع على أساس صلات القربى كما كان يحدث في قراهم الأصلية، إلى التخلي عن بعض مفاهيم ثقافة العصبية لصالح مفاهيم "ثقافة المصلحة"(8).


وكانت المحصلة أن حصل تقاسم وظيفي بين هاتين الثقافتين عند السواد الأعظم من أفراد المجتمع الأردني. فأصبح كل مواطن أردني تتنازعه ثقافتا "العصبية" و"المصلحة"، ينزع إلى التعامل مع مجموعة من قضاياه في ضوء معطيات إحدى الثقافتين، فيما يتعامل مع المجموعة المتبقية من تلك القضايا في ضوء معطيات الثقافة الأخرى. وكانت الصورة الغالبة أن تخصصت "ثقافة العصبية" بالجانب الأخلاقي القِيَمي السلوكي من الحياة الاجتماعية للفرد، فيما تخصصت "ثقافة المصلحة" بالجانب الإنتاجي والثقافي والسياسي من حياته الاجتماعية.


أما ضمن المعنى الأول الأقل شيوعا لـ "الثقافة المركبة"، وهو المعنى الذي ينزع إلى توزيع ثقافتي "العصبية" و"المصلحة" بين أفراد المجتمع، بمعنى أن تتبنى مجموعات منهم مفاهيم "ثقافة العصبية" بالكامل في كافة شؤونها، فيما تتبنى مجموعات أخرى مفاهيم "ثقافة المصلحة" بالكامل وفي كافة شؤونها أيضا، فإن جماعات محدودة ظلت تتمثل كامل مفاهيم "ثقافة العصبية" مستفيدة من الدعم الاجتماعي – السياسي الذي كان يقدمه النظام لهذا النوع من ثقافات الترابط المجتمعي، لأسباب ستتبدى لنا بوضوح. فيما ظلت جماعات محددة أخرى تتمثل كامل مفاهيم "ثقافة المصلحة"، على اعتبار أن هذه الثقافة تمثل مرجعيتَها الأصلية، مستفيدة من الواقع المدني الناشئ في المدن عامة، وفي عمان خاصة، ومن ندرة احتكاكها بالشرائح الاجتماعية التي تنزع إلى "ثقافة العصبية"، بسبب قوتها الذاتية المتمثلة بالمال والاقتصاد والتعليم العالي والتأهيل المهني الرفيع.


"ويمكن القول تحديدا أن القبائل البدوية التي ظلت تسكن البادية أو تمارس طبيعة حياتها في المراحل التالية، فضلا عن القبائل الريفية المتمركزة في القرى الزراعية، هي التي مثلت التعبير النقي عن ثقافة العصبية. فيما كانت العائلات ذات الأصول المدنية الفلسطينية، وخصوصا تلك التي تمركزت في عمان، هي التي مثلت الكتلة الأساسية للتعبير عن ثقافة المصلحة"(9).


في واقع الأمر لسنا متفقين اتفاقا كاملا مع هذه الرؤية في تقسيم ثقافات الارتباط المجتمعي في الأردن، وإن كان اختلافنا معها شكليا لا يطال جوهر الفكرة التي قامت عليها. فنحن وإن كنا نوافق على أن هنالك نمطين من ثقافات الارتباط سادتا المجتمع الأردني، وتبادلتا مواقعَ الهيمنة والنفوذ في إدارة الدولة وسياساتها، وتحكَّمتا في اتجاهات تطور استجاباتها للمتغيرات المحلية والإقليمية على مدى عمرها الذي ناهز – منذ تأسست على شكل إمارة عام 1921 – التسعين عاما، إلا أننا نعتقد أن كلا الثقافتين قامتا على "المصلحة"، وإن كانت كل واحدة منهما قد أسندت تحقيقَ "المصلحة" إلى نمطٍ من الارتباطات يختلف عن الآخر.


وهو ما يُخشى من أن يكون التصنيف الذي أوردناه سابقا قد غفل عنه، مُوَلِّدا الاعتقاد، بأن الثقافة التي تسود كلا من البادية والريف لا تحكمها المصالح إطلاقا، عندما أطلق مصطلح "ثقافة المصلحة" على النمط المقابل لثقافة العصبية التي اعتبرها هي النمط السائد في تلك البيئات. فحتى روابط "العصبية" التي تزدهر وتنتشر في "البادية" وفي "الريف"، تقوم على مصالح يرتبط بها الأفراد، تُحَتِّم مكوِّنات البيئتين البدوية والريفية الطبيعية والإنتاجية، أن تكون مصالحَ لا يمكن ضمانُها وتحقيقُها إلا على أساس فكرة "العصبية".


وإذن فلا توجد من حيث المبدأ ثقافة ارتباط مجتمعي لا تقوم على المصلحة، وإن كان شكل تنظيم المصالح التي تقوم عليها تلك الارتباطات، يختلف من ثقافة إلى أخرى. وعلى هذا الأساس فإن ما تمت تسميتها – في وجهة النظر التي أوضحناها سابقا – بـ "ثقافة المصلحة"، يجب أن يتِمَّ البحث لها عن مسمىًّ آخر مستوحىً من نمط الارتباط الذي تحققه بين الأفراد، ضمن مفهوم "المصلحة" الذي يتوسع ليطال الثقافتين معا، وهو ما نعتقد أنه "الفكرة"، سياسية كانت هذه الفكرة أو اقتصادية أو ثقافية.


فنحن إذن بصدد الحديث عن أنماط "ثقافات المصلحة" التي سادت ونمت وتطورت وتفاعلت داخل المجتمع الأردني على مدى تلك الحقبة الطويلة من الزمن. وهو ما يُمَكِّنُنا من القول بأن هذه الأنماط قد انحصرت في نمطين هما، "ثقافة المصلحة المرتكزة إلى العصبية"، أو "ثقافة مصلحة العصبية"، وهو ما سنختصره بـ "ثقافة العصبية"، و"ثقافة المصلحة المرتكزة إلى الفكرة"، أو "ثقافة مصلحة الفكرة"، وهو ما سنختصره بـ "ثقافة الفكرة". وفي ضوء هذا التصنيف الجديد الذي اعتمدناه نستطيع التأكيد بأقل قدرٍ من التحفظات على أن ما اندرج من وجهة نظر التصنيف الذي أوردناه سابقا تحت معنى "ثقافة العصبية"، ينسحب لدينا على "ثقافة مصلحة العصبية"، وما اندرج تحت معنى "ثقافة المصلحة"، ينسحب لدينا على "ثقافة مصلحة الفكرة"، لتبقى "الثقافة المركبة" هي ذاتها التي تجمع في الفرد الواحد أو في المجتمع ككل، بين نزعتين إحداهما تتجه به إلى "العصبية"، فيما تتجه به الثانية إلى "الفكرة".





… يتبع في الحلقة الثانية





الهوامش


(1) – تمكن مشاهدة برنامج "الاتجاه المعاكس" المعروض على شاشة قناة الجزيرة يوم الثلاثاء 21 – 12 – 2010 على الساعة العاشرة مساء بتوقيت عمان، حول دور الأجهزة الأمنية العربية في حماية الأنظمة، ولقد قمنا في هذه الدراسة بنقل كلام الضابط بتصرف وتلخيص دون خروج عن المعنى.


(2) – كتاب "سباق العصبية والمصلحة – ملف الصراع السياسي على الثقافة الوطنية الأردنية – 1948/2002"، تأليف "سامر خرينو"، منشورات "دار أزمنة للنشر والتوزيع"، البرنامج الثقافي المشترك بين "البنك الأهلي الأردني و"أمانة عمان الكبرى"، الطبعة الأولى، كانون الثاني 2004، عمان – الأردن، ص 18.


(3) – المرجع السابق نفسه.


(4) – المرجع السابق، ص 18 – 19.


(5) – المرجع السابق، ص 19.


(6) – بتصرف من المرجع السابق، ص 19 – 20.


(7) – المرجع السابق، ص 70 – 71.


(8) – المرجع السابق، ص 71.


(9) – المرجع السابق، ص 72.