فرنسا رائدة الحرب الصليبية ضد الإسلام ..؟! (2-4)
مصطفى إنشاصي
مما يؤسف له ومنتشر بكثرة في كتبنا المدرسية والثقافية وأصبح من البدهيات والمسلمات العلمية والتاريخية عند أبناء المسلمين عن حرب الغرب التي لا تتوقف ضد الأمة والوطن أن عصر الحمية الدينية في الغرب قد انتهى، وأن الغرب فصل الدين عن السياسة والدولة وكل شئون الحياة وأن الذي يحكم علاقاته معنا وحربه ضدنا هو أطماعه في ثرواتنا ومصالحه الاقتصادية ...إلخ من المبررات والتفسيرات والتعليلات التي لم تسلم منها حتى الحروب الصليبية وما بعدها حيث كانت الصراعات وقتها صراعات دينية، والتي اعتدنا على سماعها وفيها تضليل وتغييب للعقل وللوعي الإسلامي! ونحن نحاول أن نفهم العقلية الغربية في تعاملها مع الإسلام وكل ما له علاقة به ومبررات سرعة التدخل الفرنسي دائماً قبل غيره من الدول الغربية ضد وطننا سنناقش بعض تلك التفسيرات والتعليلات ذات الصلة بأحداث مهمة في تاريخ صراع الغرب ضد الإسلام التي قد تكون جزء من الحقيقية وليست الحقيقة لنبين من خلالها كيف يتم تزييف حقائق التاريخ!.
ولكن دعونا نذكر هنا: أن الفرنسيين كانوا دائماً هم أول المعتدين على الوطن الإسلامي وطليعة الهجمة الغربية ضده وعادة ما يبدأ المشروع فرنسياً ثم سرعان ما يصبح قضية أوروبية صليبية، ففي القرن الأول الهجري كان التصدي الأول للإسلام وحركة فتوحاته في أوروبا من جهة الأندلس من الفرنسيين الذين استطاعوا وقف الزحف الإسلامي على أوروبا في معركة بلاط الشهداء. كما أنهم كانوا أول من قدم يد المساعدة والعون إلى نصارى الأندلس للقضاء على الحكم الإسلامي فيها. والحروب الصليبية الأولى كانت بشكل رئيسي مشروعاً فرنسياً بدأه بابا الفاتيكان أوربان الثاني الذي كان فرنسياً وأعلن عنها من فرنسا، والذي سرعان ما اجتذب دعماً انجليزياً وألمانياً ونمساوياً وإيطالياً بحيث أصبحت في الحقيقة حرباً أوروبية عامة ضد الإسلام والمسلمين. وكذلك بطرس الناسك وولتر المفلس اللذين لعبا دوراً كبيراً في تحريض الأوربيين على المشاركة في تلك الحروب وكانوا وراء تسيير كثير من الحملات الصليبية وغيرهم من البابوات كانوا فرنسيين. فقد ذكرت كتب التاريخ أن الفرنسيين لعبوا دوراً مؤثراً في حروب الغرب الصليبية الأولى فهم أول من لبى نداء البابا ولا سيما في بدايتها وأن ثلاثة أرباع الذين اشتركوا في الحرب الصليبية الأولى كانوا فرنسيين!
الغزو الفكري الإسلامي والحرب الصليبية
بداية الحرب الصليبية هي حرب واحدة بدأت مع ظهور الإسلام ومازالت لم تنتهي بعد وإن تعددت صورها ووسائلها وأساليبها بحسب المرحلة والهدف. ومن البدهيات لدينا أن الحروب الصليبية استغلت الدين من أجل التوسع (الاستعماري) واحتلال وطننا ونهب ثرواتنا ورفعت شعار تحرير قبر المسيح وتأمين طريق الحجاج النصارى من اعتداءات الكفار المسلمين. في الوقت الذي تكشف فيه كتب الغربيين أن الهدف الرئيس للحروب الصليبية كان القضاء على الإسلام كمنهج حياة ونموذج حضاري نقيض للنصرانية والنموذج الحضاري الغربي، إضافة إلى أهداف خاصة بالغرب نفسه نلقي عليها جميعاً نظرة سريعة:
الهدف الرئيس القضاء على الإسلام
منذ خرج الغرب في عزلته الأولى لأول مرة إلى خارج حدود قارته الأوروبية على يد الإسكندر المقدوني قبل نحو ألف سنة من ظهور الإسلام لم يهدد وجوده داخل قارته أو خارجها ويهدد النصرانية بالزوال أي قوة إلا الإسلام، لأن فتح الإسلام لأوروبا لم يكن فتحاً عسكرياً فقط بل ثقافياً وفكرياً، فالحضارة الإسلامية وثقافتها هي الوحيدة التي استطاعت أن تنفذ إلى قلب أوروبا وتكسر الحاجز الذي فرضته أوروبا أيام الكنيسة على نفسها، ففي الوقت الذي لم تدخل فيه جيوش المسلمين أراضي أوروبا دخلتها الثقافة الإسلامية وبعض العادات والآداب الإسلامية. وقد أعتبر كثير من مؤرخي الحروب الصليبية من الغربيين أن الغزو الثقافي والفكري الإسلامي كان أهم الأسباب التي دفعت البابا (أوربان الثاني) إلى إعلان الحرب على المسلمين، لـ"أن الباباوات بعد أن وقفوا على شغف العالم الأوروبي بالثقافة العربية، سعوا إلى مقاومتها بشتى الطرق، لأنها تشكل خطراً على أوروبا ودينها .. فقد كان يترتب على الذين يريدون الوقوف على حضارة عصرهم أن يجيدوا اللغة العربية، وللعربية فلسفتها، وفلسفتها تناقض الإنجيل، وكان العرب قد سادوا العالم بالقرآن الكريم".
ولم يكن الغزو الثقافي والحضاري الإسلامي مقتصراً على المثقفين من الغربيين ولكن رجال الدين النصارى أنفسهم كانوا يتتلمذون في المدارس الإسلامية المنتشرة في كل مكان ومن الكتب التي كانت تترجم إلى اللغات الأوروبية لأنهم كانوا يترقون في مناصب الاكليروس بقدر ما يحصلون عليه من الثقافة الإسلامية. فقد اعترف روجر بيكون في القرن الثالث عشر الميلادي أنه: "من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية لأنها لغة العلم". ويصف (غابريلي) في كتابه "تراث الإسلام" حال أوروبا النصرانية آنذاك، بقوله: "لقد استعربت (المسيحية) بسرعة لغوياً وثقافياً".
باختصار لم تكن الحروب الصليبية من أجل إنقاذ بيت المقدس وتحرير قبر المسيح من أيدي المسلمين كما درسونا في الكتب المدرسية ولكن من أجل تدمير الإسلام الذي هدد وجود النصرانية في عقر دارها. يقول المستشرق غاردنر: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة (مسيحية) في قلب العالم الإسلامي، والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام".
هدف ديني - سياسي غربي
بدون سرد لتفاصيل أحداث الصراع نقف عند عام 1071م عندما حاول الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجين استرداد أرمينيا من أيدي السلاجقة المسلمين فخرج على رأس جيش كبير رافضاً عرض ألب أرسلان أمير السلاجقة عقد هدنة وقال: "لا هدنة إلا بالري" أي في قلب دولة السلاجقة مما أزعج ألب أرسلان الذي لم يجد مفراً من القتال لأنه كان يتفادى الدخول في قتال مع جيوش الدولة البيزنطية، وقد دارت معركة جنوبي ملاذ كرد "مانزكرت" وكانت المعركة حاسمة بين الطرفين حلت فيها الهزيمة بالروم البيزنطيين وأُسر الإمبراطور نفسه. كما أن السلاجقة فرضوا الجزية على إمبراطور الروم كمحاولة لإذلاله مما دفعه لإرسال رسالة إلى البابا يطلب فيها العون لحرب المسلمين ويحذره من اقتحام المسلمين لعواصم أوروبا الغربية. ومنذ تلك الهزيمة والأباطرة البيزنطيين لم يتوقفوا عن طلب العون من البابا في روما ضد خطر المسلمين الذي يتهدد النصرانية ويعدونهم بإزالة الخلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية.
وقد استمر طلب العون البيزنطي من روما إلى أن جاء البابا إربانيوس الثاني الذي كان "يفكر في مشروع لطرد المسلمين من آسيا بنفس الجهد والعزيمة التي يجري بها طردهم من أسبانيا". وقد أحاط مشروعه هذا بالسرية التامة، إلى أن أعلن ذلك في خطبته التي ألقاها في المجمع الذي عقد عام 1095م، في مدينة "لكيرمونت" بفرنسا، وقد شهدها (300) من رجال الدين، كما حضره ملوك وأمراء أوربا المتناحرين، وقد قال فيها: "أنتم فرسان أقوياء ولكنكم تتناطحون وتتنابذون فيما بينكم ... ولكن تعالوا وحاربوا الكفار (المسلمين)... يامن تنابذتم اتحدوا... يا من كنتم لصوصاً كونوا اليوم جنوداً... تقدموا إلى بيت المقدس... انتزعوا الأرض الطاهرة واحفظوها لأنفسكم فهي تدر سمناً وعسلاً، إنكم إذا انتصرتم على عدوكم ورثتم ممالك الأرض!". وقد منح الذين يشاركون في هذه الحروب من النصارى علمانيين كانوا أم مؤمنين غفراناً تاماً من الذنوب والخطايا ما تقدم منها وما تأخر، ووعد الذين يموتون فيها جنات الخلد وأعفاهم من دفع الفوائد.
وهكذا استطاع البابا أن يوحد القوى المتناحرة في أوروبا وأن يوجهها نحو العدو المركزي الذي ظلت جيوشه وحضارته تهدد أوروبا ضارباً عصفورين بحجر واحد: تخليص أوروبا من الفتن والصراعات الداخلية بين أمرائها وملوكها التي كادت تقضي عليهم، وتأكيد سلطانه على أوروبا وتقوية نفوذه على رعيته، وتوحيد الكنسيتين الشرقية والغربية.
الفساد الإداري
كشف أحد رجال الدين النصارى (متى الباريزي) والذي يعتبر من كبار كتاب القرن الثالث عشر في كتابه "تاريخ إنجلترا" في سخرية مريرة وتهكم لاذع، أن الجهاز الكنسي في أوروبا استشرى فيه فساد رجال الدين وعلى رأسهم البابا الذي لم يكن يعنيه التبشير لحملة صليبية إلا بالقدر الذي يخدم فيه أطماعه ويحقق مصالحه. وقد وصف البابا أنه كان سبب كثير من الفتن في العالم، فقال: "البابا الذي اقتفى خُطا الإمبراطور قسطنطين. كان الأجدر به أن يحذو حذو القديس بطرس قد سبب الكثير من الفتن والاضطرابات في العالم".
جزء من الصراع بين الشرق والغرب
كل الأسباب السابقة يجملها الدكتور(محمد مصطفى زيادة) في مقدمة كتابه "حملة لويس التاسع على مصر" أن: "الحروب الصليبية حركة أوروبية اعتدائية توسعية استمدت جذورها من قديم التنافس العميق بين الشرق والغرب. ومن توغل الفتوحات الإسلامية الأولى في أطراف الإمبراطورية البيزنطية. وفي أجواف الممالك (المسيحية) الغربية في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وجزر المتوسط، وتضاف إلى هذه العوامل العالمية الكبرى، عوامل أوروبية محلية، وهذه ترجع إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وإلى صميم التاريخ الأوروبي في ذلك القرن".
هذه الأسباب لم نسمع عنها أو نقرأها كثيراً في كتبنا الدرسية وكثير من الكتب الثقافية.

التاريخ: 13/2/2013