يعتبر مبدأ "الفصل بين السلطات" واحدا من أهم المبادئ في توصيف "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، إلى درجة أن الكثيرين إن لم نقل الجميع، يغفلون عن حقيقة "الفصل" المقصودة في هذا المبدأ، فيعيشون حالة من تصور أن "الفصل مضموني"، في حين أنه في واقع الأمر "شكليٌّ" ليس إلا. إن عدم التفريق بين "الشكل" و"المضمون"، أو بين "المظهر و"الجوهر"، أو بين "الإجراء" و"الأداء"، في ممارسة السلطة من جهة أولى، وفي العلاقة التفاعلية بين ما يُعتبر "سُلُطاتٍ" من جهة ثانية، جعل الكثيرين يقعون ضحية ضربٍ من "التضليل التوصيفي" الذي يمكن لمصطلح "الفصل بين السلطات" أن يوقعَهم فيه.
فالسلطات الثلاث المتعارف عليها في الديمقراطيات الليبرالية التي أفرزتها الحضارة الأوربية عشية بزوغ عصر النهضة وبدء ظهور الدول القومية الحديثة، والتي هي "السلطة التشريعية"، و"السلطة التنفيذية"، و"السلطة القضائية"، هي في حقيقة الأمر، ومن حيث الجوهر والمضمون "سلطة واحدة"، تمَّ التعبير عنها وتجسيدها عبر ثلاث مؤسسات، يُفترض فيها أن تخدمَ الفلسفةَ نفسَها، والفكرةَ نفسَها، والبرنامجَ نفسَه، وهذه المؤسسات الثلاث هي التي أطلق عليها خطأً أو تجاوزا أو تضليلا "السلطات الثلاث".
فالحقيقة في أيديولوجية "الديمقراطية الليبرالية الأوربية"، ليست بعيدة عن واقعة أن هناك سلطة واحدة تمارسُ رؤيتَها وبرنامجَها، وبالتالي ذاتَها، عبر ثلاث مؤسسات هي، "القضاء"، و"البرلمان"، و"الحكومة".
فإذا تجاوزنا حقيقة أن "مؤسسة القضاء" – التي تعشقُ الديمقراطيات الليبرالية الغربية أن تطلقَ عليها اسم "السلطة القضائية" – ليست لا سلطة ولا هم يحزنون، لأن السلطة تُسَمَّى سلطة عندما تمارسُ القيادة والسياسة، بأصالةٍ كاملة إرادةً وإدارةً، دونما حاجة لسلطة أو جهة أخرى تؤسس لها قواعد إدارتها وقيادتها وسياستها، أو مُكَوِّنات إرادتها. وأنها إذا هي احتاجت لغيرها كي يؤسِّسَ لها دورَها السلطوي، فإنها لا تغدو سلطة، بل أداة في يد السلطة الحقيقية التي أسَّسَت لها ذلك الدور وأسندته إليها، لا تستطيع الخروج عنها وعن فلسفتها وعن رؤيتها للأمور. وهو ما يجعل "القضاء" أبعد ما يكون عن أن يتصف بأنه "سلطة"، ليتجلى لنا أنه مجرد أداة تنفذ إرادة السلطة القائمة، عبر تطبيق قوانينها وتشريعاتها، وبالشكل الذي تريده تلك السلطة أن يُطَبَّق..
نقول.. إذا تجاوزنا هذه الحقيقة الدامغة في جوهر المؤسسة القضائية في الديمقراطية الليبرالية الأوربية، ما يجعلنا نستثنيها أصلا من إمكان اعتبارها مؤسسة سلطوية، فليس بوسعنا اعتبار أن أيَّ دولة ديمقراطية وفق المعايير الأوربية للديمقراطية الليبرالية، فيها سلطتان منفصلتان هما "السلطة التشريعية" و"السلطة التنفيذية"، إلا على صعيد الشكل والإجراء والمظهر، وليس على صعيد المضمون والأداء والجوهر.
فلو أجرينا مقارنةً بين مؤسسة القضاء في "الديمقراطية الليبرالية" وبين نظيرتها لدى المسلمين، لوجدنا اختلافا جوهريا في جوهر الوظيفية القضائية بين الطرفين. فقد كانت مؤسسة القضاء عند المسلمين في دولة "الخلافة" الأقرب إلى "الثيوقراطية" من منظور "الديمقراطية الليبرالية"، أكثر استقلالا مما يُرَوَّج له حول استقلال القضاء في الديمقراطية الأوربية نفسِها، على وجه الحقيقة، ومن حيث الجوهر والمضمون، وليس من حيث الشكل والإجراء فقط.
فالقاضي في دولة الخلافة لم يكن يستند في إصدار أحكامه على الوقائع والمنازعات التي كانت تعرض أمامه، حتى لو كان الخليفة أو أحد أفراد عائلته أو سلطته طرفا فيها، إلى أيِّ قاعدة قانونية مثبَّتَة ومدونة وملزمة – باعتبارها كذلك – من وضع مؤسسة خاصة بوضع التشريعات والقوانين نظير "البرلمان" في الديمقراطية الليبرالية، حتى يقال أنه – أي القاضي – كان ينفِذُ إرادةَ غيرِه الذي قد يكون هو تآلفٌ محتملٌ بين المُشَرِّع والمنفِّذ، كُلِّف القاضي بتمرير حيثياته كما هو الحال في الديمقراطية الليبرالية.
بل هو كان يستند إلى فهمه الخاص واجتهاده الذاتي، اللذين لا يتدخل فيهما أحد، ولا حتى الخليفة نفسه – ليس ضعفا من هذا الأخير بل افتقارا إلى سلطة التدخل أصلا – لمجموعةٍ من النصوص التي تحظى بالقداسة لديه ولدى كافة أطراف السلطة الأخرى، والتي هي نصوص "القرآن" و"السنة الصحيحة"، بصرف النظر عن مدى صحة وموضوعية هذه القداسة. وهذه النصوص ليست لا من وضع الخليفة ولا أيِّ جهة سلطوية في الدولة أيا كانت. فالقاضي كان يلجأ إليها مباشرة باعتبارها هي مصدر القواعد القانونية ومصدر الأحكام التي سيصدرها في قاعة المحكمة في الواقعة التي تكون معروضة عليه.
وبتعبير أكثر دقة، كان القاضي – من بين كافة مؤسسات الدولة الأخرى – هو المُشَرِّع الحقيقي بالمفهوم المدني المعاصر، مادام يلجأ إلى نصوصٍ لم يضعها بشر مثله من جهة أولى، ومادام يملك سلطة مطلقة في قراءتها بالشكل الذي يمليه عليه عقله ووعيه وضميره، دون أيِّ إلزام بالرجوع حتى لغيره ممن قرأها في وقائع ونوازل مماثلة. وهي في النهاية وبصرف النظر عن كلِّ الظروف التاريخية التي رافقت سيرورَتها التقديسية، غدت ملزمة للجميع، بمن فيهم كافة رجالات السلطة، حتى لو لم يعجبهم منها نص هنا ونص هناك، أو حكم هنا وحكم هناك.
وبالتالي، فالقاضي إن شاء أن يكون نزيها، ولم نسمع في تاريخ المسلمين عن قضاة مهمين كانوا على غير النزاهة، فإن أحدا لا يستطيع أن يفرض عليه قاعدة قانونية مسبقة تكون من تكوين هذا الغير وتخليقه، لأن القاعدة القانونية المسبقة التي أصدرتها جهة ما تشريعية الاختصاص، لم تكن موجودة أصلا، بسبب العقيدة السائدة التي كانت ترفع شعار "لا مشرِّعَ إلا الله"، وتشريع الله يتجلى في نصوص كتابه ونصوص سنة نبيه الصحيحة.
والأهم من ذلك كله، وخاصة في القرون الأربعة الأولى، أن هذا التجلي لم تكن له صفة ملزمة للجميع، بل إن الاجتهاد والاختلاف فيه كان مفتوحا على كل المصاريع لكل مسلم، بلا قيد أو شرط غير المُكْنَة، والمُكْنَة ليست لها شروط مسبقة من أيِّ نوع، لأنها تتجلى من خلال تفاصيل الفعل الاجتهادي نفسِه. ولقد كان مرفوضا من قبل أهل العلم، أن تلجأ الدولة إلى تبني اجتهاد من تلك الاجتهادات دون الأخرى، وتعتبره بمثابة فقهها القانوني الخاص، لأن التفكير والاجتهاد وفهم النصوص المرجعية للدين لم يكن حكرا على مسلم دون آخر. ولم يحصل هذا الاحتكار في الفهم إلا في وقت لاحق، وتحديدا بعد القرن الرابع الهجري، ليكون هذا النزوع غير المبرر إلى احتكار الاجتهاد والمعرفة، بداية السقوط في كلِّ نواحي الإبداع في دولة الخلافة، وبداية فعلية لظهور اللاهوت الديني عند المسلمين.
لقد كانت القاعدة القانونية إذن، تتشكل ميدانيا وفي جلسة المحاكمة، وعبر الحالة نفسها، من خلال قراءة القاضي نفسه في نصوصٍ مرجعية ليست ولم تكن من صنع أحد ولا من صياغته ولا من تقريره. لا بل حتى "الفهم الآخر المختلِف" للنصوص، لم يكن القاضي ملزما به، حتى لو أراده صاحب سلطة فهما تستنير به المحكمة ويستنير به القاضي قبل إصدار حكمه. فالقاضي هو صاحب الحق في تحديد أدواته في التعامل مع النص المرجعي، ولا أحد يملك سلطة إلزامِه بأداة دون أخرى.
فباب التفكير والاجتهاد أمام القاضي كان مفتوحا على مصاريعه وبلا أيِّ تدخل من أحد، لأن أيَّ تدخل كان يوصف على الفور بأنه محاولة من المتدخل لِلَيِّ عنق النص المرجعي وتجييره لصالحه ولحسابه، وهو الأمر الذي كان يُعتبر أبشع أنواع المساس بقداسة هذا النص المرجعي عبر الضغط على القاضي ليحكم بغير إرادة الله ورسولة التي يجسدها فهم القاضي للنصوص المقدسة. وما على الطرف المعني في المنازعة المعروضة عليه إلا أن ينتظر تجسيد إرادة القاضي على شكل حكم لا يُرد ولا يُنازع.
طبعا هذا لا يعني أن رجالات السلطة لم يكونوا يحاولون زج المؤسسة القضائية إلى زوايا تُجبر القضاة على إصدار الأحكام التي تخدم مصالحهم وتمرر إراداتهم في أحيانٍ كثيرة. لكن هذا شيء، والاعتراف باستقلال مؤسسة القضاء على وجه الحقيقة عند مقارنة هذا الاستقلال بذلك المزعوم في الديمقراطية الليبرالية شيء آخر مختلف. فنحن لم نكن نناقش مسألة خضوع القضاة أو عدم خضوعهم للضغوطات الممارسة ضدهم من قبل أفراد السلطة التنفيذية لإصدار أحكامٍ تناسب هؤلاء، بل كنا نناقش مدى توفر المؤسسة القضائية على سلطة حقيقية تتسم بالأصالة المنفصلة عن إرادة "المشرِّع" أو "المنفذ" في الدولة.
ومن الواضح أن المؤسسة القضائية في دولة "الخلافة" كانت بالفعل سلطة مستقلة تنشئ قواعدَها القانونية وتشريعاتها الخاصة التي لا يتدخل فيها غيرها على وجه الحقيقة، بصرف النظر عن مدى قناعتنا بمقولة "لا مشرِّع إلا الله"، أو بالمرجعية المطلقة والدائمة للقرآن والسنة الصحيحة في إصدار الأحكام واستخلاص القواعد القانونية.
ولكن مرة أخرى، ما معنى عدم الفصل الجوهري بين السلطات في الديمقراطية الليبرالية؟!
تُقِرُّ الديمقراطية الليبرالية الأوربية الحديثة بأن "الشعب هو مصدر السلطات"، فهو الذي يختار "السلطة التنفيذية"، و"السلطة التشريعية" في النظام الرئاسي، وهو الذي يختار "السلطة التشريعية" التي تُشتَقُّ منها "السلطة التنفيذية" كما الجنين من الرحم، في النظام البرلماني.
ولأن الشعب الذي يختار "السلطة التشريعية"، يختار غالبا إن لم يكن دائما "سلطةً تنفيذية" متناغمة معها، إن لم تكن من فصيلتها نفسها، فهذا يعني في واقع الأمر أننا أمام "سلطة واحدة" تمارس التشريع والتنفيذ معها، عبر مؤسستين يتم الفصل بينهما وضمان عدم التداخل في أدوارهما ومهماتهما في السياق التنظيمي والإجرائي فقط، في حين أنهما مؤسستان تخدمان الأيديولوجية نفسَها والبرنامجَ نفسَه والرؤيةَ نفسَها.
فالسلطة إذا كانت هي كلُّ ما يمكنه أن يَنْتُجَ في الممارسة، عن رؤيةٍ أيديولوجيةٍ واحدة، في السياسة والاقتصاد والقانون والإعلام والثقافة.. إلخ، وهي بالفعل كذلك، فإن أيَّ مؤسسة من مؤسسات السلطة، هي دائما وأبدا جزءٌ من تلك السلطة، من حيث الأيديولوجية والرؤية والبرنامج. فالبرلمان يُشَرِّع ما تريده الحكومة، والحكومة تمارس تفاصيل تنفيذية يجب أن يوافق عليها البرلمان، أو على الكثير منها على الأقل.
ونحن هنا نتحدث – كي لا يقال أننا نخلط بين المؤسسات كشخوص اعتبارية، وبين من يتولون أمور تلك المؤسسات ويمارسون السلطة من خلالها – عن البرنامج السلطوي الذي يتم تمريره عبر تلك المؤسسات. فالبرلمان بما هو مجرد مؤسسة اعتبارية مهمتها احتواء المشرعين ليمارسوا دورَهم التشريعي تحت قبتها، ليست له قيمة سلطوية من هذه الحيثية، بل هو يكتسب قيمَتَه الحقيقية من خلال الممارسة التشريعية التي تُمَرَّر عبره. والممارسة التشريعية هي في نهاية المطاف السلطة الحقيقية التي استثمرت اعتباريةَ البرلمان، لتجسيد سلطة محددة رؤيةً وبرنامجاً وأيدولوجيةً.
كما أن مختلف مؤسسات الحكومة، وبما هي مجرد مؤسسات اعتبارية مهمتها احتواء المنفذين ليمارسوا دورَهم التنفيذي من خلالها، ليست لها قيَمٌ سلطوية من هذه الحيثيات، بل هي تكتسب قيَمَها الحقيقية من خلال الممارسة التنفيذية التي تُمَرَّر عبرها. وهذه الممارسة التنفيذية هي في نهاية المطاف السلطة الحقيقية التي استثمرت اعتباريةَ مؤسسات الحكومة، لتجسيد سلطة محددة رؤيةً وبرنامجاً وأيديولوجيةً، هي ذاتها الشقيق التنفيذي للشقيق التشريعي.
وإذن فعن أيِّ سلطتين منفصلتين نتحدث من حيث الجوهر؟!!
نفهم جيدا أن الفصل بين السلطتين أو بتعبير أدق بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية، يعني ألا يتدخل رئيس الدولة أو رئيس الحكومة في عمل البرلمان أو العكس. وربما ألا يتقلَّد عضو المؤسسة التشريعية عضوية المؤسسة التنفيذية في الوقت ذاته وبالعكس. وأيضا أن تمتلك كل من المؤسستين قوانينَها الخاصة الناظمة لمهماتها وأدوارها بحسب ما تؤطره الوثيقة الدستورية. لكننا لا نفهم أبدا كيف يمكن لبرلمان تشكلُ أغلبيتَه قوى سياسية معينة، تنبثق عنها سلطة تنفيذية متناغمة معها في كلِّ شيء، أن يكون وعلى وجه الحقيقة سلطةً أخرى منفصلة تماما عن سلطة الحكومة التي ستنال ثقتَه هو، بناء على برنامجها المتناغم مع برنامج الأغلبية فيه!!!
فهذا كلام لا معنى له على الإطلاق. لأن كلَّ برلمان في العالم، يُشَرِّع بالتناغم مع توجهات حكومةٍ يرضى عنها ويقبلها، ليُكَلَّف القضاء بعد ذلك بتجسيد المشاهِد التي تخصه من هذه المسرحية التي لا دور له في صياغة مشاهدها وسيناريوهاتها وحواراتها بشكل أصيل!!!
إذن فنحن ابتداء لسنا بصدد "سلطات" متعددةٍ تعددَ أصالةٍ في البناء والتأسيس والتقرير وممارسة كامل حيثيات الإرادة والإدارة، نتحدث عن الفصل بينها، بل نحن بصدد "مؤسسات" خادمة لسلطة واحدة تتصف بتلك الأصالة الجوهرية الكاملة. وبالتالي فالحديث عن الفصل، إنما هو حديث عنه بين مؤسساتِ سلطة واحدة، وهو ما يجعله يتخذ شكلا إجرائيا ومظهريا ليس إلا. ونحن بالتالي دائما وأبدا، أمام سلطة واحدة أصيلة، ولا وجود لأيِّ شكل من أشكال التعدُّد في السلطات على وجه الحقيقة.
كما أن هذه الجهة السلطوية الأصيلة الوحيدة في ممارسة السلطة، تتخذ وجهين عبر مؤسستين هما "البرلمان" و"الحكومة". أي أن "مؤسسة القضاء" لا علاقة لها بالسلطة، ولا تمثل وجها ثالثا لممارستها من حيث أصالة الممارسة، وهي مجرد أداة تطبق إرادة "مؤسسة السلطة الوحيدة" سالفة الذكر، شكلا ومضمونا. لذلك فإن أول ما تفعله الثورات المُنْجَزَة، هو أنها تنشئ مؤسساتِها، سواء ما كان منها أصيلا، أو ما كان منها يمثل مجرد أداة. فيظهر "مجلس قيادة الثورة" كمؤسسة تنفيذية وتشريعية، وتظهر "المحكمة الثورية"، أو "المحاكم الثورية" كمؤسسة قضائية.
ما الذي اخترعه الأوربيون بإفرازهم للديمقراطية الليبرالية الحديثة إذن، إذا كانت كلُّ شعوب الأرض منذ عرفت المدنية والحضارة من أدنى مستوياتها تعقيدا وتشابكا، إلى أكثرها تعقيدا وتشابكا، تمتلك "مُشرعا" يضع القانون، و"مُنفذا" يوضع القانون لتمرير إرادته، و"قاضيا" يحكم بذلك القانون عند الاختلاف بين فرقائه؟!!!
في واقع الأمر لم تخترع أوربا شيئا جديدا من حيث الجوهر، ولا هي صدَّرت للعالم ابتكارا لم يسبقها إليه أحد، من حيث كونه يرتكز إلى العناصر الثلاثة نفسها "المشرع" و"المنفذ" و"القاضي"، وهي عناصر إدارة الجماعة التي عرفها البشر منذ القدم. وإنما هي ابتكرت وصدَّرت ثقافتَها الجديدة حول هذه العناصر الثلاثة، وهي الثقافة التي جعلت هذه الآلية التنظيمية القديمة الحديثة المتجددة باستمرار، تأخذ في الإفراز الأوربي الحديث شكلا مختلفا هو "الديمقراطية الليبرالية"، دون أن ينطوي هذا الشكل حتما وبالضرورة، على قدرٍ من العدالة وحقوق الإنسان بل والحرية أيضا، أكثر من ذلك الذي كانت تنطوي عليه نماذج سابقة منه. لكنه انطوى رغم ذلك على قدرٍ من السَّطْوَة والإبهار والجنوح إلى الاستسلام أمام قوته الصادمة، جعله يتحول من ثقافة مُنْتِج إلى ثقافة مٌسْتَهلِك.
أي أن الأوربيين، وبناء على التطورات التي شهدتها قارتهم عقب انتهاء الحروب الصليبية في جولتها التاريخية الأولى الصادمة لهم، في مفاصلها الثلاثة: "الأندلس"، و"سوريا الكبرى"، و"المغرب العربي عبر المعبر الصِّقِلِّي". وبعد أن أوصلتها جولة البحث عن ذاتها داخليا إلى إصلاحاتها الدينية الشهيرة وتداعياتها المهولة على صعيد إنتاج "أوربا الصهيونية"، وجولة البحث عن ذاتها خارجيا إلى الكشوفات الجغرافية التي مهدت لإنتاج "أوربا الاستعمارية"..
نقول.. إن الأوربيين بعد تلك الحروب الصليبية وما نتج عنها، بدأت تتخلَّق في قارتهم ثقافةٌ جديدة لم يكن هناك من حلٍّ لاحتوائها، سوى "ظهور الدولة القومية الحديثة"، ثم "ظهور الصهيونية المسيحية"، ثم "ظهور الشركات الاستعمارية العابرة للقارات"، بدءا بشركتي "الهند الغربية" و"الهند الشرقية"، ثم "ظهور الديمقراطية الليبرالية" بشكلها الذي نعرفه اليوم، ثم "ظهور الثورة الصناعية"، ثم "ظهور موجة الاستعمار العالمي بأبشع صوره".
إذن فقد ظهرت الديمقراطية الأوربية الليبرالية الحديثة، كمكوِّنٍ من مُكونات الحراك التاريخي للقارة الأوربية، مكونٌ جاء ناظما لشكل العلاقات الداخلية بين القوى الجديدة التي راحت ترسم لنفسها مساراتٍ عميقةً للسيطرة على مستقبل تطور القارة، في تفاعلاتها القارية والكوكبية الجديدة. وكان من الطبيعي بسبب هذه النقلة النوعية العميقة التي بدأت تسيطر على حراك القارة الخارجي من جهة، وحراكها الداخلي المتجاوب معه والمؤسِّس له من جهة أخرى، أن تأتي هذه الثقافة الديمقراطية الليبرالية في سياقٍ ثنائيِّ الأبعاد. فهو من جهة أولى سياق تأَصَّل على رغبةٍ حقيقية في حلِّ مشكلاتٍ داخلية تعوق الانطلاق إلى آفاق مرحلةٍ أصبحت مفروضة على الأوربيين، عقب فشلهم المدوي بعد مائتي عام من الحروب الصليبية. وهو من جهة ثانية سياقٌ جاء مؤصِّلا لما سينتج في المراحل القادمة من إصلاحات دينية، ومن عهود استعمارية، ومن انقلابات طبقية غير مسبوقة في المجتمعات الأوربية.
أي أن ديمقراطية الفصل بين السلطات، والتعددية الليبرالية القائمة على قداسة "اقتصاد السوق"، وطوطمية المبدأ "السميثي" الشهير "دعه يعمل، يدعه يمر"، ومصدرية الشعب للسلطات بشكلها الليبرالي ذاك، هي نتاج مرحلة كانت تحاصر الأوربيين فيها قوميات تتشكَّل، وأديان تتغير أشكالها ومواقع هيمنتها على الحياة، وعلم يتطور لينتج صناعة ستقفز بالحضارة والمدنية إلى آفاقٍ غير مسبوقة، ومجتمعات يعاد تشكلُّها على أسسٍ طبقية جديدة راحت تفرضها فلسفات اقتصادية جديدة كانت تتخلَّق لتغيِّرَ وجه الكوكب.. إلخ.
أي أن "الديمقراطية الليبرالية الأوربية"، هي جزء من ثقافة أوربية معظمها لم يكن نابعا من شروط إنسانية طبيعية، بل من واقع موضوعي مَثَّلَ ردةً فعل تاريخية، تمهيدا للخروج من المأزق الذي أدى إلى ردة الفعل تلك، وفق النزعة العدوانية التسلطية ذاتها التي فشلت في نقاط التماس الصليبي مع العرب المسلمين.
لقد تحرك العقل الجمعي الأوربي اللاواعي نحو كَنْسِ كلِّ مُكَوِّنات الثقافة الأوربية التي أفشلت المشروع الاستعماري الصليبي، لتبدأ بالتأسيس على أنقاضها لثقافة جديدة، تصلح لإنجاح مشروع استعماري جديد. وبقدر ما كانت "الصهيونية المسيحية" هي البوابة الدينية للثقافة الجديدة، كانت "الكشوفات الجغرافية"، هي البوابة الاقتصادية لها، لتكون "الديمقراطية الليبرالية" هي البوابة السياسية الداخلية لها.. إلخ. وبالتالي فهي – أي الديمقراطية بشكلها الليبرالي الأوربي المعروف – ليست قَدَرا لا لأوربا نفسها ولا للعالم غير الأوربي. وهي في جوهر سياق تكوُّنِها التاريخي، مُكَوِّن من مكونات أوربا "الاستعمارية، الصهيونية"، ومتطلبا من متطلبات تشكل أوربا على هذا النحو الجديد.
ولعل الأوربيين أنفسَهم قد اكتشفوا أن ديمقراطيتَهم الليبرالية هذه كانت هي سبب ما آل إليه وضع أوربا المزري إنسانيا منذ منتصف القرن التاسع عشر، لجهة معادلة تحريك "العدالة" لصالح تثبيت "الحرية"، فراحوا ينقلبون عليها بظهور نزعة تدفع باتحاه تغيير الثوابت والمتحركات في الحراك المجتمعي الأوربي، من ثنائية "الحرية" ثابتا و"العدالة" متحركا، إلى ثنائية "العدالة" ثابتا و"الحرية" متحركا.
ما معنى هذا الكلام؟!!!
دعونا نجهدُ أنفسَنا بشيء من قراءة التاريخين الحديث والمعاصر، فيما يتعلق بمساحة التجاذب بين "الحرية" و"العدالة"، عبر الأدوات الثورية التي كانت تستهدفهما، الأولى حينا، والثانية حينا آخر، في قلب السيرورة الأوربية، معقل "الليبرالية" ونقيضتها "الدكتاتورية".
في مقابل الثورات التي جلبت وبال الدكتاتوريات على شعوبها، فإن هناك ثورات جلبت الحريات وحقوق الإنسان وفق المنظور الديمقراطي الليبرالي الأوربي. مثل الثورة الفرنسية، والثورة الإنجليزية، والثورة الأميركية قديما. ومثل الكثير من الثورات في أميركا اللاتينية، وجنوب إفريقيا، وبعض دول جنوب شرق آسيا حديثا. فالثورة في ذاتها ليست معيارا على الديمقراطية أو عدمها. بل هي مجرد أداةٍ للخروج من واقع إلى واقع آخر، استجابة لأزمة قائمة تناضل من أجل تفكيك مُكَوِّناتها.
إن الثورة التي تنطلق من أجل الديمقراطية والحرية، من الصعب أن تتراجع إلى الوراء، لأن الشعب الذي كسر حاجز الخوف من الدكتاتورية فثار عليها وضحى لأجل حريته، من الصعب العودة به الى دكتاتورية جديدة وخداعِه بها عبر إخافته منها. وفي هذا السياق يجب أن نفرق بين ثلاث أنواع من الثورات كأدوات للتغيير..
* النوع الأول، هو الثورات التي تندلع ضد الظلم الاجتماعي الاقتصادي الطابع في واقع سياسي فيه الكثير من الحرية، أي الثورات التي تنطلق من الاعتقاد بمركزية قيمة "العدالة". هذا النوع من الثورات يَرْبِط أيديولوجيا بين الظلم الاجتماعي الاقتصادي والحرية القائمة أساسا، والتي يعتبرها زائفة، فنرى قادة هذه الثورات يركزون على الاقتصاد وعلى "العدالة الاجتماعية" بوصفها هي الثابت المطلق الذي يجب أن تدور حيث دار كافة القيم الأخرى التي ستبقى عندئذ "متحركة" لأنها مجرد "وجهات نظر"، وينفضون أيديهم من "الحرية" التي ارتبطت لديهم بـ "البرجوازية الرأسمالية"، فينزلقون إلى أشكالٍ مختلفة ومتخلفة من الدكتاتوريات، فتكثر الدماء في الداخل، أي في داخل الدولة.
ومن هذ النوع، تلك الثورات التي نشعر بالخوف منها ومن مردودها الدكتاتوري الدموي، مثل ثورة "البلاشفة" في روسيا القيصرية، وثورة "الماويين" في الصين، وثورة "الخمير الحمر" في كمبوديا، وكـ "الثورة الكوبية" و"الإيرانية"، ولا تخرج عن هذا الإطار "ثورة 23 يوليو" في مصر، وثورة إيران "الإسلامية".. إلخ. فكلُّ هذه الثورات اندلعت في دول فيها هوامش معقولة من الحرية الديمقراطية أكثر نسبيا مما جاء لاحقا عليها. ولكنها اندلعت لأجل القضاء على الظلم والفساد والفقر، وهي المظاهر المجتمعية التي يرى صانعو تلك الثورات أن الحرية الهامشية المتاحة كانت في واقع الأمر تخدم فئاتٍ محددة من أصحاب المال والثراء لتكريسها. فثاروا على الظلم، وعلى ما يتصورون من ثمَّ أنه أداته التي خدمته وساعدته وهي تلك "الهوامش من الحرية"، فكانت ثوراتٌ تُثَبِّت "العدالة" وتُحَرِّك "الحرية"، أو لنكون أكثر دقة، كانت ثوراتٍ يفترض أنها جاءت لتثبِّت العدالة ولتحرك الحرية.
* أما النوع الثاني من الثورات، فهو عندما يثور الناس ضد الدكتاتورية والفاشية والفردية وانعدام "الحرية". فهذه الثورات لن تنزلق حتما إلى الدكتاتورية من جديد، حتى وإن طالت المراحل الانتقالية التي تحدث فيها الاضطرابات والقلاقل حتى تهدأ فيها الأمور وتستقيم الحال. وهنا نجد أنفسنا بإزاء ثورات تركز على "الحرية الديمقراطية الليبرالية" التي تعتبرها ثابتا، فيما تتعامل مع "العدالة" باعتبارها "وجهة نظر" خلافية وقيمة "متحركة".
وفي هذه الحالة يمكن لأصحاب أجندات الظلم الاجتماعي الاقتصادي أن يعودوا لإنتاج منظوماتهم الثقافية والاقتصادية مستفيدين من هامش الحرية الذي أتاحه الانقضاض على الدكتاتورية. ومن نماذج هذه الثورات كل من الثورة الفرنسية والإنجليزية والأميركية قديما، ومعظم الثورات الديمقراطية الليبرالية الحديثة والمعاصرة، وإن كانت الثورة الأميركية بالذات قد تداخل فيها عنصر الثورة الاجتماعية مع عنصر الثورة ضد الاحتلال.
* أما النوع الثالث من الثورات، فهو ذلك الذي يندلع ضد الدكتاتورية وضد الظلم الاقتصادي معا. هذا النوع من الثورات لا يتعامل مع الحرية باعتبارها "وجهة نظر" و"قيمة متحركة" لحساب العدالة كقيمة ثابتة ومحورية تدور حولها الحرية، ولا مع قيمة "العدالة" باعتبارها "وجهة نظر" متحركة لحساب "الحرية" كثابت وكقيمة مركزية. بل هو نوع من الثورات يَعْتَبِر الأمرين بمثابة ثوابت يجب أن يصار إلى التعاطي مع حلولها في قلب الفعل الثوري ومنه وبه.
وهذا النوع من الثورات هو الذي ستشهده البشرية في المراحل المقبلة، وهو ما بدأ تدشينه حاليا بمعالم الربيع العربي المضطرب وغير واضخ المعالم من جهة أولى، وهبَّة الشعوب الأوربية ضد النماذج الرأسمالية التي تخلقت وتطورت واستفحلت في حواضن "الديمقراطية الليبرالية" في قلب القارة العجوز من جهة ثانية، وهي الهبَّة التي سوف تتفاقم لتتلاقح مع هبات الشعوب العربية على مدى العقود القادمة، لتغيير العالم الذي لن يتغير، وكما كان أمره دائما إلا من هذه المنطقة الحية وهي أوربا والمنطقة العربية.
وبالمناسبة، فإن النوع الأول من الثورات وهو الذي أشرنا إلى أنه تعامل مع العدالة باعتبارها الثابت، ومع الحرية باعتبارها هي وجهة النظر المتحركة، كان قد جاء على أنقاض المرحلة التاريخية التي بنتها وأسستها الثورات الأوربية والغربية التي قامت على الفكرة المقابلة، وهي فكرة أن الحرية هي الثابت وأن العدالة هي وجهة النظر المتحركة. أي تلك التي قامت على الديمقراطية الأوربية الليبرالية برجوازية المنبت، وهي الديمقراطية التي رسمت نوعا من السلطة ومن الحرية السلطوية تناسب ما ذكرناه سابقا من تحولات عميقة كانت تجتاح القارة الأوربية، مهدت لأخطر مُكَوِّنين لها هما "المكوِّن الصهيوني" و"المكوِّن الاستعماري".
أي وبتعبير أدق فإن القرون الثلاثة التي بدأت بالإصلاحات الدينية وبنشأة الدول القومية الحديثة في أوربا، ثم تواصلت بالثورة الصناعية في أوربا، سادتها ثورات "الحرية" على حساب "العدالة". أي أن "الديمقراطية الليبرالية" هي ذلك النوع من الديمقراطية الذي يضع حلولا لمعضلة الحرية دون العدالة، وبالتالي فليس هو النوع المناسب من الديمقراطيات لحل مشكلات البشرية المتمثلة في غياب الحرية والعدالة معا.
ولأن هذه الثورات أنتجت قهرا وظلما وفقرا واستعمارا عالميا ولدته الرأسمالية، وما كانت إلا لتولده حتما بحسب طبيعتها، فقد جاءت المرحلة الأوربية التالية التي بدأت بالقرن العشرين لتحاول إعادة صياغة العالم على أساس تثبيت "العدالة" وتحريك "الحرية"، وهو ما مثلت رائدته الثورات الشيوعية والاشتراكية في العالم.
ومعنى ذلك أن أوربا الجديدة التي نشأت بعد الحروب الصليبية "صهيونيةً استعماريةً"، جرَّعت العالم سمومَ تجربتيها المريرتين في تجاذبات العدالة والحرية. تجربة "الديمقراطيات الليبرالية" التي حرمتنا العدالة تحت مظلة الوهم بأن "الحرية ثابت" وبأن "العدالة متحرك". ثم ما أسمته تجربة "الديمقراطيات الشعبية" التي حرمتنا الحرية تحت مظلة الوهم بأن "العدالة هي الثابت" وبأن "الحرية هي المتحرك". فكانتا تجربتين فاشلتين داميتين، حرمنا بسببهما من القيمتين معا: "الحرية" و"العدالة".
ولأن البشرية بفعل العديد من التطورات، اكتشفت أن العدالة والحرية ثابتان متلازمان لا يمكن لأحدهما أن يقوم بغير الآخر، دون أن تحدث اختلالات في الواقع الموضوعي. فقد شهد هذا العقد من القرن الحادي والعشرين، وتحديدا بدءا بأزمة عام 2008 العالمية، بداية الشعور الإنساني بعد تغوُّل الرأسمالية، وتحولها إلى أبشع صورها وهي "الإمبريالية المالية"، بضرورة الثورة لصياغة مجتمعات إنسانية جديدة لا تتنازل عن حريتها لأجل لقمةِ عيشها، ولا عن لقمة عيشها لأجل حريتها، لأن التنازل عن أيٍّ منهما سيضرب الثانية لاحقا وقطعا وحتما، وذلك ما أثبتته القرون الأربعة الأخيرة من عمر الحضارة تحت قيادة الثقافة الأوربية، سواء وهي تتصهين لتستعمر، متدثرة لتحقيق ذلك بالديمقراطية الليبرالية، أو وهي تنقلب على نفسها لتنقذَ نفسَها من تغول ديمقراطيتها الليبرالية هذه، متدثرة لتحقيق ذلك بالديمقراطية الشعبية. فدعاة الحرية ومحيِّدي العدالة، استغلوا الحرية لتكريس الظلم. كما أن دعاة العدالة ومحيِّدي الحرية، عادوا ليظلموا بعد أن أتاحت لهم بيئة اللاحرية إعادة إنتاج هذا الظلم.
احتاجت البشرية إلى أربعة قرون من التجاذب الفلسفي والسياسي والثقافي اجتاحت الساحة الأوربية، أُهْدِرَت خلالها أرواح مئات الملايين من البشر، قبل أن تكتشف أن حرية بلا عدالة هي حرية منقوصة تقضي على نفسها، وأن عدالة بلا حرية هي إعادة إنتاج للظلم وللقهر وللجوع والحرمان والتخلف بكلِّ أشكاله. وأن الثورة القادمة هي تلك الثورة التي تجعل مطلب الحرية لا ينفصل عن مطلب العدالة. وبالتالي فالبشرية لم تعد تحتاج إلى "ديمقراطية ليبرالية" تؤصل "الحرية" وتتجاهل "العدالة"، ولا هي بحاجة إلى بدعة "الديمقراطية الشعبية"، التي قامت بتأصيل "العدالة" متجاهلة "الحرية".
ولأن الجمع بين هذين المطلبين "الحرية والعدالة" في مشروع ثوري واحد، ليس له سوى معنى واحد ووحيد، هو مقاومة "المشروع الاستعماري العالمي" الذي أنتجته أوربا، ومقاومة "المشروع الصهيوني العالمي" الذي أنتجته أوربا أيضا. ولأن المشروع الاستعماري والصهيوني العالمي انحسر منذ النصف الثاني من القرن الماضي ليكون هو أداة "المشروع الإمبريالي الأميركي". فإن هبَّة الشعوب الأوربية إذ تلتقي وتتلاقح مع هبَّة الشعوب العربية، فإنهما معا على مدى العقود القادمة هما من ستصنعان الثورة العالمية لإسقاط المشروع الإمبريالي الأميركي، ممثلا في رأسي حربته "الاستعمار الأميركي الحديث"، و"العنصرية الصهيونية المقيتة"، على قواعد ديمقراطية جديدة، ليست هي "الديمقراطية الليبرالية" التي دمرت العالم بتحييد العدالة، ولا هي "الديمقراطية الشعبية" التي دمرته هذه المرة بتحييد الحرية.
العرب سيتحررون من أنظمة "اللاحرية" و"اللاعدالة"، والأوربيون سيتحررون من أنظمة "اللاعدالة" للتأسيس معا لثورة عالمية جديدة، تخلق ديمقراطية جديدة، تصيغُ علاقاتٍ جديدة بين الثلاثي الأزلي: "المُشَرِّع" و"المُنَفِّذ" و"القاضي"، من وحي وحدة الثنائي الثابت الذي لا ينفصم: "الحرية والعدالة". على أن يكون واضحا أن "الإسلام السياسي" لن يكون هو البديل الثوري الذي سيحرر العرب والعالم، لسبب بسيط سوف نثبته لاحقا، هو أنه لا يمتلك مؤهلات اضطلاعه بهذه المهمة العالمية، إن لم يكن هو أصلا أحد أسباب عرقلتها والدفع باتجاه إفشالها