أولا.. تحليل لمفهوم الكتلة الديموغرافية الحرجة في "الهوية الأردنية"

إن العلاقة بين المُكَوِّنَين الغرب أردني والشرق أردني في "الهوية الأردنية"، ليست بالأمر الذي يمكن تجاوزه والمرور عليه بسهولة، لأن تلك العلاقة تمثل مشكلة حقيقية منذ أن خلَّقها النظام قبل أكثر من أربعين عاما، وهي من ثمَّ مشكلة تعرف قوى الشد العكسي التي أمعنت في الأردن عبثا على مدى تلك الفترة الزمنية الطويلة، كيف تلعب بعناصرها وكيف تستغل تلك العناصر. ولعل هذا ما نراه ماثلا أمامنا بكل وضوح. من جهتنا نستطيع التأكيد على أن هذا الموضوع لا يُحَلُّ بالنوايا الحسنة، ولا بالنصوص الإنشائية، ولا بالآمال الطوباوية، ولا بمجرد القول بأننا نريد أن نتجنب الفتنة.. إلخ.
دعونا نعيد قراءة الموضوع على النحو التالي..

إن هناك دائرتين ديمغرافيتين متقاطعتين، هما الدائرة التي تكرَّست "أردنيتها" سياسيا منذ عام 1970 بموجب لعبة "لوغو الهويات"، والدائرة التي تكرست "فلسطينيتها" سياسيا منذ العام نفسه وبموجب اللعبة نفسها. ونؤكد على عام 1970، لأننا نمتلك الجرأة السياسية والتاريخية الموضوعية على القول بأن هاتين الدائريتن قبل ذلك التاريخ لم تكونا محدَّدتين على هذا النحو الخطير الذي نعاني منه اليوم. وهاتان الدائرتان تتقاطعان في مساحة مشتركة تشكِّل الكتلة الديموغرافية الحرجة في الموضوع كلِّه، وهي الكتلة التي تعرف القوى الوظيفية والإقليمية كيف تتلاعب بها، فيما القوى الوطنية ما تزال تتعامل معها بمنطق المجاملة أو التُّقيَة السياسيتين، بل وأحيانا بمنطق "أنا أخوك في الله" و"الرسول أوصى على سابع جار". وهي طرائق التعامل التي لا تؤَصِّل لحلول جذرية للقضايا السياسية العالقة والمستحكمة والمسنودة بمُكَوِّنات سياسية وقانونية ومخابراتية عميقة، كما هو شأن قضية "الهوية" في الأردن وفلسطين.

تكمن بؤرة قضية الهوية ويتجسَّد مركز ثقلها في هذه "الكتلة الديموغرافية الحرجة" التي ضاعت بين "إقليمية الوظيفية"، و"مجاملة الوطنية". والاختلاف بين الطرفين هو بالتحديد على هذه الكتلة الحرجة التي تمثل ديمغرافيا متذبذبة بين "فلسطينيةٍ" و"أردنيةٍ" تتجاذبانها على الجغرافيا الأردنية، وهي الكتلة التي جعلها تاريخ القضية في الأربعين سنة الأخيرة تحتار بين أردنيةٍ ورثتها منذ عام 1948، عقب مؤتمر أريحا، ثم بعد قانون الجنسية عام 1949، ثم بعد دستور عام 1952، وفلسطينيةٍ أصبحتها منذ عام 1970. وإن شئنا الدقة أكثر، فلسطينية أصبحتها سياسيا بعد عام 1968، وقانونيا بعد عام 1974.

ونقول أن الخلاف إنما هو على هذه الكتلة، لأن الاتجاهين اللذين يتصديان لقضية الهوية، يحاولان حسم الوضع السياسي والقانوني لهوية هذه "الكتلة الحرجة" تحديدا. وعندما يفرضُ عليهما الحسم تبعاتٍ محدَّدة تبدو مقلقةً ومُحْرجَةً لهذا الاتجاه منهما أو لذاك، فإنهما ينكفئان على الذات لاجئين إلى تخريجاتٍ ممجوجة، لا تقدم على صعيد الحسم ولا تؤخرـ بل هي تفاقم الأزمة وتزيدها تعقيدا بدل أن تفكِّكَها.
لا أحد يريد وضع يده على الجرح في مُكَوِّنِه الحقيقي، لأسباب بعضها ينطلق من عدم وضوح الرؤية، وبعضها من عدم الوعي بدلالات الهوية لا في البعدين الفلسطيني والأردني، ولا في البعدين التغييري والتحريري، فيما بعضها ناتج – وهو الأخطر – عن نزعةٍ عصبيةٍ شوفينيةٍ تختبئ وراء ادعاءاتٍ وطنية مُرْسَلَة لا دليل عليها في الممارسة أو في الوعي، تحاول أن تخفِّف بها من غلواء عصبيتها وشوفينيتها، على الرغم من أن أيِّ تحليل بسيط من شأنه أن يكشف حماقة هذا الاختباء عديم القدرة على إعطاء أيِّ مبرِّرٍ مقنع لتلك النزعة النكوصية الرجعية.

الإقليميون الذين يتباكون على "الهوية الأردنية"، ومثلهم أولئك الذين يتباكون على شقيقتها "الهوية الفلسطينية"، يتحركون في هذه الكتلة، من خلال عرضِ تأصيلاتٍ لوضعها القانوني والسياسي. والوطنيون الوحدويون.. إلخ، وهم أولئك الذين لا يخافون على أيٍّ من الهويتين عندما يصاغ وضعهما ومصيرهما باعتبارهما ذلك الوضع وذلك المصير المتوَلِّدَين في قلب مشروع التغيير والتحرير، هم أيضا يتحركون فيها عبر عرض تأصيلاتٍ لوضعها القانوني والسياسي نفسه، وإن يكن بشكل مختلف عن الفئة السابقة.

السؤال الكبير والخطير والمهم الذي لا حل للمشكلة بدون الإجابة عليه هو: هل تعتبر هذه الكتلة الديموغرافية الحرجة امتدادا للأردن، أم امتدادا لفلسطين؟!
مهما فعلنا ومهما قلنا ومهما انطلقنا من نوايانا الحسنة وخطاباتنا الإنشائية غير الحاسمة أيديولوجيا، فإن هذه الكتلة ستبقى هي مربط الفرس وبيت القصيد.

ولكن لماذا نقول هذا الكلام؟!

نقول ذلك لسبب بسيط هو، أن هذه الكتلة إذا نُظِرَ إليها بمعايير "الهوية" ما بعد عام 1970، وهي المعايير التي تكرست ما بعد عام 1974، واستكمِلَت ما بعد 1988، فإنها لا تختلف من حيث وضعها "الهوياتي" عن الكتلة المقيمة في الضفة الغربية، باعتبار الكتلتين فلسطينيتين. كما أن هذه الكتلة ومعها أيضا وبالقدر نفسه "كتلة الضفة الغربية"، إذا تمَّ النظر إليها بمعايير "الهوية" ما قبل عام 1968، وبالتحديد بمعايير ما بعد قرار وحدة الضفتين في "المملكة الأردنية الهاشمية"، فإنهما لا تختلفان من حيث الوضع "الهوياتي" عن الكتلة المقيمة في الضفة الشرقية قبل حرب 1948، باعتبار الكتلتين أردنيتين.

وأمام حالة "هوياتية" مربكة ومتداخلة كهذه، فلن تُحَل المشكلة المستعصية الناجمة عن "معضلة الهوية" بشكل يُنهي كلَّ إمكانات التلاعب بالهويتين، ذلك التلاعب الخادم لمصالح التحالفات الطبقية والفئوية والإقليمية المتنفذة في الجانبين – "الضفة الشرقية" و"الضفة الغربية" – على حساب الشعبين، إلا إذا حُسمت هذه المعضلة أيديولوجيا أولا وقبل كلِّ شيء. وأمام ضرورة الحسم الأيديولوجي فنحن في واقع الأمر أمام واحد من الخيارات التالية..

الخيار الأول..

التعامل مع هذه الكتلة الديموغرافية الحرجة على أساس الوضع الذي كان قائما بعد عام 1948 ولغاية ما قبل عام 1968. وهذا يتطلب اعتبارها كتلة أردنية سياسسا وقانونيا، وهو ما يستدعي بقية عناصر هذا الخيار القائم على اعتبار أن الضفة الغربية أرضٌ أردنية، وأن أهل الضفة الغربية أردنيون سياسيا وقانونيا. وهو ما يستدعي طرحا سياسيا جذريا لا يجامل في القضايا التالية..

1 – العودة عن قرار "فك الارتباط" ضرورةٌ وحتميةٌ بكلِّ تبعات ذلك، بدءا بالانسحاب من مرجعية "مدريد"، ورفض "أوسلو"، وإلغاء "وادي عربة"، ومرورا بالعودة عن "برامج التصحيح الاقتصادي لصندوق النقد والبنك الدوليين"، والتحلُّل من "تفاهمات واشنطن"، وانتهاءً بالعودة الفعلية والمنتجة إلى مسيرة الإصلاح السياسي التي بدأت في عام 1989 وانتكست في عام 1993 خدمة للمُخْرَجات الحتمية لقرار "فك الارتباط" الذي لم تتناسب معه تلك الإصلاحات من حيث المبدأ.

2 – اعتبار الضفة الغربية أرضا أردنية محتلة يجب على الأردن أن يتحرك باتجاه تحريرها، والعودة إلى التحرك لأجل ذلك على أساس القرارين 242 و338، أو عبر الكفاح المسلح في حال فشل الحلول السياسية التي يجب أن تُعْطَى أجندة زمنية مُحَدَّدَة، يتم بعدها اللجوء إلى خيار المقاومة بكل أشكالها. وهو الأمر الذي يستدعي إعادة إنتاج الدولة الأردنية على جميع الصعد، وعلى رأسها الصعيدين العسكري – نظاميا وشعبيا – والاقتصادي – بنيويا وهيكليا – بما يهيئ البيئة المجتمعية الأردنية للمقاومة وللكفاح المسلح.

3 – اعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني منذ عام 1974، معنية بالنضال والكفاح من أجل تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948، وإقامة الدولة الفلسطينية عليها، وإعادة اللاجئين إليها، سواء من كان منهم متمتعا بالمواطنة الأردنية الكاملة منذ عام 1949، أو من كان منهم مقيما في مختلف مواقع الشتات في العالم، وذلك بمساندة كاملة وغير قابلة للمناقشة من قبل الدولة الأردنية بكل طاقاتها المتاحة.

الخيار الثاني..

الاستمرار في التعامل مع هذه الكتلة الديموغرافية الحرجة في ضوء الوضع السياسي والقانوني المتشكل بصورته النهائية منذ عام 1974، وهذا يتطلب اعتبارها كتلة فلسطينية سياسيا وقانونيا. وهذا بدوره يستدعي بقية عناصر الخيار المتمثلة في ضرورة تنظيم إقامة هذه الكتلة في الجغرافيا الأردنية بشكل يتعامل مع أردنيتها القائمة أو المفترضة بشكلٍ مختلفٍ يتناسب مع طبيعة الخيار ذاته، وهو الخيار الذي يستند الإقليميون إليه ليقيموا عليه مشروعهم الفئوي الضيِّق والمدمر للأردن ولفلسطين معا والمستند إلى مقولة ضرورة حرمان هذه الكتلة من حقوقها السياسية بالكامل لأنها ليست كتلة أردنية، وهي مجرد مجموعة كبيرة جدا من الوافدين غير المواطنين ليس إلا.

الخيار الثالث..

اتباَّع منهج التعامل التلفيقي مع تلك الكتلة الحرجة، وهو المنهج الذي كرسَّ لها وضعا سياسيا وقانونيا أوضحه قرار فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية الصادر في 31/7/1988، والذي اعتبرها جزءا لا يتجزأ من الأردن بكل المعاني، بعد أن فصلها ذلك الفصل الفاجع عن امتدادها الطبيعي في الضفة الغربية، التي أصبحت بموجب ذلك القرار أرضا يَعترف الأردن نفسه بفلسطينيتها وينفي عنها أردنيتها التي استمرت تمثل هويتها الكاملة أربعين عاما.

في ضوء هذه الخيارات الثلاثة التي يقتضي كلٌّ منها تداعياتٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ تختلف عن تداعيات الخيارين الآخرين كما اتضح لنا، وكي نؤصلَ سياسيا وقانونيا لـ "حالة هوية" لهذه الكتلة الديموغراقية الحرجة، تخرجنا من الدوامة المُقلقة والمربكة التي نعاني منها، وتقطع كلَّ طرق الادعاء والإقليمية والوظيفية والتبعية والفتنة على من يريدونها فلسفة ويرتكزون إليها وسيلة للتخريب والتعطيل لكلِّ عمليات الإصلاح، وللتأسيس لكل فضاءات الاقتتال والاحتراب الداخلي، وللقضاء التام على بوادر أيِّ "مشروعٍ للتغيير والتحرير" باعتباره مشروعا يكتسي – في الأوضاع الطبيعية – الأولوية عما سواه من مشاريع الهويات الضيقة المعرقلة..

نقول.. لكي نؤصِّلَ لحالةٍ تخرجنا من كلِّ ذلك الأداء الوظيفي التبعي الفاسد، يجب أن نتبنى الخيار الأول ككل، وهو ما يعني أننا لا يجوز أن نتبنى الخيار الثاني ككل باعتباره خيارا تدميريا، كما لا يجوز أن نتبنى الاختيار الثالث، لأن أيَّ خيار توفيقي تلفيقي – والخيار الثالث هو عبارة عن خيار توفيقي تلفيقي غير متوازن أيديولوجيا – هو خيار مائع سياسيا وقانونيا، ولا يملك من ثمَّ أيَّ تأصيل أو تماسك، ويقحمنا على الدوام في حلقة مفرغة من الحوارات الهوياتية التي لا تنتهي، لصالح التأجيل والترحيل الأبديين للتغيير الحقيقي في الأردن، ولما يستتبعه من تحريرٍ حتمي ناتجٍ عنه ومنطوىً فيه، وهو خيار يفتقر فوق كل ذلك إلى أيِّ تأصيل أيديولوجي مشروع أخلاقيا يقيم عليه مبرراته للفصل الفاجع بين هوية الضفة الغربية وسكانها من جهة، وهوية الكتلة التي تمثل امتدادها الديموغرافي في الجغراافيا الأردنية من جهة أخرى.
مبررات الإقليميين والوظيفيين من أنصار الخيارين الثاني والثالث – بتفاوتٍ في مستوى إقليميتهم بحسب التفاوت في مستوى الإقليمية في كلٍّ من الخيارين ذاتهما – تقوم على استغلال هذه السيولة المربكة التي تفرضها الكتلة الحرجة في مسألة "الهوية"، كلٌّ لحساب خياره. أما ضعف الوطنيين الوحدويين وتُقْيَتُهم السياسية فيقومان على عدم القدرة على حسم الخيارات، وعلى ممارسة نوعٍ من المجاملة السياسية في قضايا لا تحتمل أيَّ نوع من المجاملة، لأن من استخدمها على مدى أكثر من أربعة عقود قضايا تكرَّس كل أنواع الوظيفية والعصبية، لن يضطر إلى التنازل عن هذا السلاح تجاوبا منه مع مجاملات يدرك قبل غيره أنها مقتل القوى الوطنية والوحدوية، لأنها مجاملات تدل على الخوف من الحسم أو على عدم وضوح الرؤية بخصوصه.

لقد كانت هذه المقدمة التأسيسية لفكرة "الكتلة الديموغرافية الحرجة" ضرورية لتتضح على بساط التحليل حقيقة أن مناقشة قرار "فك الارتباط" وتحليلنا الأيديولوجي له، هما الإطار المعرفي الذي سوف نتوصل من خلاله إلى التأكيد على أن الصحة المطلقة تكمن في اعتماد الخيار الأول الذي هو خيار "أردنية الضفة الغربية"، وأن الكارثة تكمن في الخيارين الآخرين بصرف النظر عن مستوى الكارثة في كلٍّ منهما، فإلى التفاصيل.

ثانيا.. التحليل الأيديولوجي لقرار فك الارتباط

قبل البدء بتحليل "فك الارتباط" وتفنيد الركائز الأيديولوجية التي قام عليها ذلك القرار، نرى من المناسب أن نستهل تحليلنا هذا بتصريح ذي دلالة لـ "شيمون بيريز"، جاء في معرض رده على سؤال من الصحفي الفرنسي "أندريه فرساي" الذي أدار حوارا مطولا بينه وبين "بطرس بطرس غالي" الأمين العام السابق للأم المتحدة، حول ما كانت إسرائيل مستعدة لتقديمه للفلسطينيين خلال مفاوضات السلام مع مصر. يقول "شيمون بيرز" ما نصه: "لقد كنا بالطبع لصالح الخيار الأردني. أي أننا كنا على استعداد للتفاوض حول تقسيم السيادة على الأراضي المحتلة ولكن مع عمان، ولكننا لم نكن على استعداد لبدء مباحثات مع منظمة التحرير الفلسطينية. لذا فلم يكن الأمر رفض التفاوض بخصوص وضع الضفة الغربية وقطاع غزة ولكن معرفة مع أيِّ شريك نتفاوض".(من كتاب "ستون عاما من الصراع في الشرق الأوسط/شهادات للتاريخ"، حوارات "بطرس بطرس غالي" و"شيمون بيريز" مع "أندريه فرساي"، مرجع سابق، ص 213).

دعونا نبدأ مناقشتنا للموضوع من آخر تداعياته. ففي منتصف شهر أيلول عام 2011 قال وزير الداخلية الأردني الأسبق "رجائي الدجاني": إن هناك "هستيريا" في الأردن جراء المخاوف من الوطن البديل، وذلك بعد يوم من اعتبار الملك عبد الله الثاني أن الوطن البديل "وهم" وأن الأردن لن يكون وطنا بديلا لأحد".(عن موقع وطن نيوز، من تقرير بعنوان "الدجاني": ثمة هستيريا من الوطن البديل"، بتاريخ الأربعاء 14 أيلول 2011،على الرابط التالي: http://watnnews.net/NewsDetails.aspx?PageID=29&NewsID=33040). وكان الملك عبد الله قد قال أثناء لقائه بمجموعة من الأدباء والمفكرين والأكاديميين الأردنيين في الحادي عشر من الشهر نفسه: "أريد أن أطمئن الجميع، لن يكون الأردن وطنا بديلا لأحد"، وأن موضوع الوطن البديل يجب أن لا يكون جزءا من النقاش". (نفس المرجع السابق).

وفي معرض تعليقه على ما أذيع من أن بعضا من وثائق "ويكيلكس" ذائعة الصيت أشارت إلى أن هناك مؤامرة أميركية تحاك ضد الأردن كي يكون وطنا بديلا للفلسطينيين قال الملك عبد الله الثاني: "لم أسمع من أيِّ مسؤول أميركي أو غيره، لا من الرئيسين السابقين بيل كلينتون أو جورج بوش أو الرئيس الحالي باراك أوباما، أيَّ ضغط على الأردن باتجاه حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن". (نفس المرجع السابق).

وفي سياق تأكيده على دقة ما جاء في تصريحات الملك عبد الله الثاني قال "الدجاني": "إن الوطن البديل كما قال الملك عبد الله الثاني "وهم في أذهان الذين يثيرونه"، ولدي قناعة راسخة بأنه لا يوجد فلسطيني يستبدل فلسطين بأيِّ وطن آخر". (نفس المرجع السابق). وتحدث "رجائي الدجاني" الذي اتُّخِذَ قرار فك الارتباط أثناء توليه حقيبة وزارة الداخلية في الحكومة الأردنية عام 1988 عن القرار الذي يتمسك مؤيدوه بمشروعيته ويطالبون بدسترته خوفا من "وهم" الوطن البديل، قائلا: "إن تعليمات فك الارتباط كانت واضحة بأن الأردني من أصل فلسطيني المقيم في الأردن هو أردني من جميع الوجوه، والمواطن المقيم في الضفة الغربية هو الفلسطيني المقصود بقرار فك الارتباط". (نفس المرجع السابق).

وبما أن النقاش حول قرار فك الارتباط يجب أن يتَّخِذَ وجهة سياسية وأيديولوجية وليس قانونية، مادامت المطالبة بدسترته هي مؤشر على عدم دستوريته أصلا، فإننا لن نقف مطولا عند القرار في بعده القانوني حتى لو تمت دسترته، لأن هذه الدسترة لن تنطبق إلا على المعاني التي انطوى عليها القرار، أي دسترة الفكرة التي دعا إليها، وهي أن كل الأردنيين من أصل فلسطيني من المقيمين في الأردن ليسوا فلسطينيين تابعيةً وحقوقاً وواجباتٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية، بل هم أردنيون من جميع الأوجه، وإن كانوا فلسطينيين منبتا، بالقدر نفسه الذي يعتبر فيه الأردنيون من أصل شركسي أو شيشاني أو كردي أو أرمني، أو سوري، أردنيين كاملي المواطنة بصرف النظر عن منابتهم تلك.

إن هذا يجعل كل الجعجعة التي لا تفتأ تثير الأغبرة الهوجاء فزعا من "دمج الأردنيين من أصل فلسطيني سياسيا في المجتمع الأردني"، جعجعةً تصطاد في الماء العكر، في محاولة لتمرير سياسات التحالفات الحاكمة التي ستتضرر حتما من دمج كل الأردنيين في عملية الإصلاح الوطني الذي تجتاح المطالبة به كل الأردن منذ بدايات الانتفاضات العربية عام 2011، لأنها تحالفات طبقية ربت ونمت ورسخت مصالحها وامتيازاتها على مدى أربعين عاما بدأتها عام 1970، على قاعدة "ثقافة العصبية" التي قسمت الشعب الأردني إلى شعبين على أساس صراع الهويات الكبرى "الأردنية" و"الفلسطينية"، والتي عادت لتقسِّم كل هوية كبرى إلى هويات فرعية صغرى شوفينية متنازعة على نطاقاتِ انتماء أضيق، جعلت من القبيلة والحمولة والعشيرة الوعاء الأهم للانتماء، بدل الانتماء للوطن وقضاياه، لتكون من ثمَّ – وكنتيجة لذلك – غطاءً لكل أنواع القمع والفساد والاستلاب.

إن نقاشنا حول قرار فك الارتباط إذ يتخذ الوجهة السياسية والأيديولوجية، فإنه ينصب نحو أردنية أو فلسطينية الضفة الغربية وسكانها أنفسِهم، وليس نحو أردنية أو فلسطينية الأردنيين المنحدرين من أصول فلسطينية ممن يقيمون في الضفة الشرقية لنهر الأردن. فهذه الأخيرة محسومة بموجب قرار فك الارتباط ذاته رغم لا دستوريته ولا قانونيته ولا شرعيته، عندما أكد بمنتهى الوضوح على أن هؤلاء أردنيون من جميع الأوجه، لا تَمَسُّ أردنيتَهم شائبة من أيِّ نوع، وأن القرار لا يتعلق بهم لا من قريب ولا من بعيد. (تراجع لهذا الغرض بنود قرار فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية الصادر في 31/7/1988).

وبالتالي فإن المخاوف من "الدمج السياسي" للأردنيين من أصل فلسطيني في المجتمع الأردني، هي مخاوف تجاوزت حدود قرار فك الارتباط، واخترعت لنفسها أرضية لم يتحدث عنها أحد حتى وهو يخالف الدستور، وذلك لغايات مشبوهة هدفها التخندق في خندق التحالفات الطبقية الحاكمة التي زاوجت بين الكومبرادور والبيروقراط على أرضية العصبية الرعناء، في حرصٍ واضح على الإبقاء على الساحة الأردنية مشغولة بجدل الهويات الرئيسة منها والفرعية، على حساب الانشغال بجدل الحرية والديمقراطية والتنمية ومكافحة الفساد، الذي فرض نفسه منذ بداية الحراك الشعبي مطلع عام 2011.
لتكون الخلاصة أن مناقشة قرار فك الارتباط تؤول في نهاية المطاف إلى مناقشة بُنية الدولة الأردنية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، لا إلى مناقشة الهويات، لأن المعركة بين أنصار فك الارتباط – لا بشكله المنصوص عليه في القرار ذاته، بل بشكله المخترع من أبواق التحالف الكومبرادوري البيروقراطي الحاكم – ومعارضيه، ليست معركة "هوية وطنية" بين الفلسطينيين والأردنيين كما يتم تصويرها، بل هي معركة تَحَرُّرٍ من التبعية والوظيفية والقطرية، ومن الفساد والظلم والارتهان، في داخل الدولة الأردنية. معركة يستخدم فيها التحالف الطبقي الحاكم سلاح العصبية وإفرازاته المتمثلة بصراع الهويات، فيما لا سلاح يمكن للطرف الآخر أن يستخدمه سوى استعادة ثقافة الفكرة، واستعادة فكرة المواطنة التي سرقت منه منذ عام 1968.

إن أسطورة الوطن البديل – كما تبين لنا – اخترعها النظام الأردني عام 1970 بإيعاز من مهندس العلاقات الأردنية – الفلسطينية "عدنان أبو عودة"، وأصبحت منذ اختراعها وحتى الآن هي الفزاعة التي يحركها، وبالون الاختبار الذي ينفخ فيه أقطاب التحالف الطبقي الحاكم في الأردن، لإبقاء الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي الأردني على ما هو عليه من مُكَرِّسٍ للوظيفية والقطرية والتبعية القائمة على "العصبية"، عبر إرهاب كل من مُكَوِّنَي الشعب الأردني الواحد، "الشرق أردنيين" و"الفلسطينين" من الآخر.

ولكن كلما بدا أن هذه الفزاعة أصبحت غير ذات قيمة على صعيد الدفاع عن مصالح التحالف الحاكم وشرعنة سياساته، إذا حركها أردنيون يتباكون على "الهوية الأردنية" من مخاطر الاندثار تحت أنقاض "الهوية الفلسطينية" التي يُراد تصويرها بأنها هوية تبحث لها عن وطن حتى لو كان هذا الوطن فوق سطح القمر، فإن إسرائيل تتولى المهمة بأن يظهر فيها من يبدأ بالترويج لهذه الأسطورة من جديد، كي تظهرَ بصفتها مشروعا إسرائيليا صهيونيا قديما متواصلا وحقيقيا، لتكون إسرائيليته هي حاضنة الرعب منه، ورافعة التخويف من جديته، والدليل على واقعيته ولا أسطوريته. وهو الأسلوب نفسه الذي تم اتباعه في أيلول عام 1970 عندما أعلن "عدنان أبوعودة" عن مخاوفه من أن سقوط النظام كان يعني ضياع القضية الفلسطينية.

ولكن في مسلمات التاريخ والجغرافيا التي يتم إنتاجها في الأردن بشكل مخالف لكل منطق، وبعيدٍ عن أيِّ ناموس كوني، ليتعامل معها الفلسطينيون والأردنيون على حد سواء، من على قواعد الخوف والتوجس والتربص، "لا يوجد وطن بديل بالاحتلال، بل هناك أرض بديلة تفرضها المصالح وتفرضها الطبيعة على الإنسان، لكن الاحتلال والحرب بطبيعتهما ترفضان فكرة الوطن البديل وتنفران منها جيلا بعد جيل على نحو يقتضى آخر الأمر أن الأرض لأهل الأرض، ولو اقتضى ذلك خمسة قرون من النزال والترقب". (عن موقع عمان نت، من مقال بعنوان نعم للوطن البديل في غير الاحتلال"، بقلم "محمد حسن العمري:"، بتاريخ 13/5/2010، على الرابط التالي: http://ar.ammannet.net/?p=54817).

فالوطن البديل فكرة ترهيبية هزيلة، حققت المراد منها عندما نجحت في شرخ الشعب الأردني إلى شعبين، وتمزيق الهوية الأردنية إلى هويتين، وعندما تمكنت من نزع رداء الأردنية عن الثورة ومنحها لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1968، محافظة على أعتى نظام قطري وظيفي في المنظومة العربية آنذاك وهو نظام "الملك حسين"، ولم تعد قادرة على تحقيق المراد منها اليوم بعد أن نشأ في الأردن جيل جديد يرفض الثقافة التي قامت عليها هذه الفكرة وهي ثقافة العصبية. "فلم تعد القضية الفلسطينية مقترنة بوطن بديل، والوجود الإسرائيلي مرهون بالفناء الفلسطيني وهذا مستحيل التحقق، ومرضى النفوس وحدهم يرقصون في العتمة 'ومش عالبال'، لأن حق العودة ثابت لا مساومة عليه". (موقع موطني للدراسات والأبحاث، من مقال بعنوان "الوطن البديل الفكرة والتطبيق"، بقلم "صلاح المومني"، بتاريخ 12/10/2008، على الرابط التالي:

http://www.mawteny.org/index.php?action=detail&nid=1000).

فلو أن القضية كانت مجرد قطعة أرض يقيم عليها الفلسطينيون ويستشعرون فوقها هويتهم "الهزيلة" بعد أن يختزلوا منها مكونها الجغرافي باعتباره مكون الهوية الأهم، لمنحهم الاتحاد السوفياتي قطعة من الأرض في سيبيريا ليقيموا عليها دولتهم، كما كان عرض على اليهود في مرحلة سبقت إنشاءَ دولتهم في فلسطين، أن يمنحهم أرضا هناك يقيمون عليها وطنهم القومي ضمن الاتحاد السوفياتي. ولو كانت المسألة على هذا النحو لوجد الأميركيون لهم حلا في الأراضي الشاسعة للولايات المتحدة التي لن يضيرها إضافة عشرة ملايين مهاجر إلى تلك الإمبراطورية الشاسعة، ليقيموا عليها ولاية جديدة اسمها "Palestine"، تُمنَح صفة الولاية رقم "52". بل ربما لتم حل القضية الفلسطينية في أيِّ بقعة من الجغرافيا العربية ممتدة الأطراف. (عن موقع "شؤون تركية"، من مقال بعنوان "المقاطعة اليهودية المهجورة في ذكرى وعد بلفور"، بقلم "د. فاطمة إبراهيم المنوفي"، بتاريخ "27/8/2012"، على الرابط التالي: http://turkishaffairs.info/zwaya-9-8.html)

إن القضية الفلسطينية خُلِقت لتبقى عالقة بلا حل إلا على أنقاض المشروع الإمبريالي الصهيوني "إسرائيل"، لأن أيَّ حلٍّ لها خارج هذا التصور – حتى لو كان على حساب الأردن مع يقيننا باستحالة ذلك – يفقدُ المشروعَ الإمبريالي الاستعماري "إسرائيل" دوره وأهميته ورسالته، وينتهي دور إسرائيل كقاعدة متقدمة للإمبريالية. ولكي تبقى القضية بلا حل، فلا يجوز لها أن تحلَّ على حساب أيِّ طرف، عربيا كان أو غير عربي، أردنيا كان أو غير أردني. وكل الدعوات والادعاءات التي نسمعها هنا وهناك، في مرحلة من مراحل الصراع أو في أخرى، إن هي إلا ذرٌّ للرماد في العيون وإزاحةٌ للصراع عن حقيقته وجوهره ووجهة بوصلتِه الصحيحة، وإمعانا في الدفاع عن بُنى سلطوية مترهلة في داخل تشكيلات وهياكل الأنظمة الوظيفية، وعلى رأسها كلها النظام الوظيفي الأردني من جهة والنظام الوظيفي الفلسطيني من جهة أخرى.

فإسرائيل ما كانت لتقبل بدولة للفلسطينيين لا في فلسطين ولا في الأردن، لأن الجغرافيا مُكَوِّنٌ أساس من مكونات "الهوية"، وبالتالي فلو انتقل كلُّ الفلسطينيين إلى الأردن قسرا ضمن سيناريو مستحيل التصوُّر، بمن فيهم فلسطينيو فلسطين المحتلة عام 1948 من حَمَلَة الجنسية الإسرائيلية، فلن يكونوا "فلسطينيين" كاملي "الفلسطينية" بدون الجغرافيا "الفلسطينية"، التي سيكونون قد فقدوها بهذا السيناريو العجيب الممتنع، وبالتالي فلن يُعتبر "الأردن" هو فلسطين، لسبب بسيط هو أن فلسطين كجغرافيا هناك وليست هنا، ولن تكون هذه الجغرافيا قد انتقلت إلى الأردن مع من انتقلوا إليه من البشر. ولأن هؤلاء البشر المنتقلين إلى الأردن يعتبرون أنفسهم "فلسطينيين" فإن تطلعهم إلى الجغرافيا التي بها تُسْتَكْمَل هويتهم الفلسطينية، سيبقى قائما إلى أن تُستعاد تلك الجغرافيا.

ولكن هؤلاء الفلسطينيين الذين انتقلوا إلى الأردن بافتراض ذلك السيناريو المستحيل، سيكونون أردنيين حتما إذا تمَّ دمجهم في مُكونات الهوية الأردنية، بسبب أن الجغرافيا الأردنية قائمة كمكوِّن من مكونات الهوية، وبسبب أن باقي مكونات الهوية الأردنية أيضا قائمة. وبالتالي فإن الفلسطينيين الذين أصبحوا أردنيين لم يؤثروا على أردنية الأردن من حيث المساس بهويته وشطبها لحساب هويتهم الفلسطينية التي سيبقون يتطلعون إليها عبر تطلعهم الدائم إلى جغرافيتها المحتلة. لا أحد يتصور أن الفلسطينيين الذين يعتبرون أردنيين قد تنازلوا عن فلسطين، وإصرار اللاجئين على صفة لاجئين تؤكد هذه النزعة التي ما غيرتها عقود من الزمن. ولقد أشار إلى انعدام أيِّ شكل من أشكال التناقض بين الهويتين الأردنية والفلسطينية "أحمد عبيدات" رئيس الجبهة الوطنية للإصلاح في الأردن حين أكد في وثيقة عرضها في أواخر عام 2010 "على استحالة الفصل على أرض الواقع بين المواطنين من أبناء الشعب الأردني على اختلاف أصولهم، ما يستلزم حماية الوحدة الوطنية وترسيخها بما يعزز أمن الأردن الوطني والقومي ويحمي جبهته الداخلية ويضمن الفرص المتكافئة لجميع المواطنين دون تمييز ويصون مصالحهم المشروعة وحقوقهم التي كفلها الدستور". (عن موقع كونتاكت أونلاين، تقرير بعنوان "جدل الوطن البديل في الأردن، رأي القدس، بتاريخ 5/11/2010، على الرابط التالي:

http://www.mahjoob.com/ar/forums/showthread.php?t=339141).

فالفلسطينيون، سواء كانوا في الأردن أو في الأرض المحتلة أو في المنافي هم من أشد المعارضين لأطروحة الوطن البديل بمفهومها الذي يتم الترويج له من قبل دعاة القطرية والإقليمية والمدافعين عن الوظيفية والتبعية المتمثلة في مصالح الكومبرادورية والبيروقراطية الأمنية الحاكمة في البلاد، وهم من ثمَّ الأكثر استعداداً للوقوف في خندق مواجهتها بالوسائل كافة، لأنهم لا يمكن أن يقبلوا بديلاً عن فلسطين وطناً لهم. "ولو فتحت الحكومة الأردنية باب التطوع في حال إعلانها الحرب لمواجهة أيِّ عمليات ترحيل للفلسطينيين قد تقوم بها إسرائيل عنوة، ستجد ملايين الفلسطينيين يلبون النداء، ليدافعوا عن الأراضي الأردنية مرتدين أكفانهم. صون أمن الأردن واستقراره وهويته الوطنية هو من أهم الثوابت التي يتمسك بها الأردنيون من أصل فلسطيني، وأي عمليات تشكيك في ولاء هؤلاء أو تصنيفهم كطابور خامس، لا يمكن إلا أن يخدم مشاريع الفتنة الإسرائيلية وما أكثرها هذه الأيام". (نفس المرجع السابق).

سنعود الآن إلى مهندس العلاقات الأردنية – الفلسطينية، صاحب الخلفية الأمنية العريقة في صياغة تلك العلاقات "عدنان أبو عودة"، لنكتشف الحقيقة الكامنة وراء قرار فك الارتباط، مُعلَنة بشكلٍ صريحٍ لا يحتمل الشك أو التأويل. فهو يقول في معرض شرحة للأسباب التي جعلته يقترح على "الملك حسين" فك الارتباط بين الضفتين: "العالم كله كان يعتقد أن الملك حسين هو الذى سيفاوض إسرائيل من أجل مستقبل الضفة الغربية. وقد دار حوار بينى وبينه، وسألته: هل الغرب جاهز لأن يقف معك لاسترداد كامل الأرض المحتلة بما فيها القدس. قال: لا. ثم سألته: هل من خلال مقابلاتك مع الإسرائيليين تعتقد أنهم مستعدون لتسليمك الضفة الغربية كاملة؟ قال: لا. والقدس؟ قال: لا. فقلت له: إذن يا جلالة الملك هذا الحال مخيف، لأن الغرب كله يعتقد أنك أنت الذى ستحل المشكلة، وأنت تعرف أن المشكلة لن تحل، لأنهم لن يعطوك الضفة الغربية كاملة ولا القدس. كما أنك لا تستطيع أن تفعل ذلك كما تقول الآن. وسألته أين نحن، والغرب يعتقد ويتوقع منك أن تحل، وأنت لا تستطيع أن تحل. ولذلك فإن علينا أن نعطى رسالة واضحة للإسرائيليين. فرد علي الملك حسين وقال لي: وكيف يتم هذا؟ فقلت له: الجواب بسيط، نفك العلاقة مع الضفة الغربية، ونسلمها لمنظمة التحرير لأنها ممثلة الشعب الفلسطينى. وإسرائيل لا تتعامل معها، والعالم كله يتعامل مع المنظمة كممثلة للشعب الفلسطينى. وهكذا كان، وهذا هو الكلام الجذرى فى الحل، فالحل الذى قلته كان صحيحاً وما يزال إلى اليوم صحيحاً، ولابد من التمسك به إذا أردنا أن نقيم دولة فلسطينية". (من موقع "الحوار المتمدن"، العدد 1984، حوار بعنوان "أخطر شخصية سياسية أردنية يتحدث، عدنان أبو عودة، رئيس الديوان الملكى"، على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=103051).

إن هذا التصريح الخطير لـ "عدنان أبو عودة" يلخص لنا القضية برمتها، بلا أيِّ رتوش قد تثير لدينا اللبس، فقرار فك الارتباط الذي هندسه الرجل في صيف عام 1988 ليتقدم به "الملك حسين" إلى العالم بصفته مشروعا نهائيا لضبط العلاقة بين الفلسطينيين والأردنيين، وبين الأردن وفلسطين من ثمَّ، جاء في سياقٍ تحكمه العناصر التالية..

1 – كل العالم كان يعتقد بأن "الملك حسين" هو من سيفاوض إسرائيل بشأن مستقبل الضفة الغربية.
2 – الغرب بأكمله لم يكن جاهزا ليقف إلى جانب "الملك حسين" في أيِّ محاولة لاسترداد الضفة الغربية المحتلة.
3 – الإسرائيليون كانوا كعادتهم غير مستعدين على الإطلاق لتسليم الملك حسين كامل الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، رغم إعلانهم أنهم كانوا دائما إلى جانب الخيار الأردني. "يراجع بهذا الشأن تصريح شيمون بيريز السابق".
4 – الوضع إذن كان مخيفا ويتطلب إرسال رسالة إلى الإسرائيليين تتضمن أمراً ماَّ لم يفصح عنه التصريح.
5 – وهذه الرسالة ستصل حتما عبر فكِّ الارتباط بالضفة الغربية وتسليمها لمنظمة التحرير، لأنها تمثل الفلسطينيين.
6 – مع العلم الأكيد بأن إسرائيل لا تتعامل مع منظمة التحرير.

إن السيناريو الذي يمكننا استنتاجُه من العناصر السابقة خطيرٌ للغاية، لأنه يعيد إنتاج تصورنا حول قرار فك الارتباط، بشكلٍ يتعارض كلَّ التعارض مع ما فتئ أنصاره ومؤيدوه يعلنونه ويقولونه ويدافعون به عنه. فالمعضلة التي يثيرها القرار بناء على ما انطوت عليه أيديولوجية النظام من مُكَوِّنات وركائز ممثلة آنذاك في رؤية "عدنان أبو عودة"، لم تعد محصورةً في الوقوف عند التأكيد على أنه قرار سياسي وغير دستوري، ليصارَ إلى مناقشةِ سياسيَّتِه هذه وحسب، بل هي كشفت عن طبيعة الأبعاد السياسية الخطيرة والكارثية التي ينطوي عليها ذاتِها، والتي ليس من بينها على الإطلاق، هذه الكذبة التي يُرَوَّج لها والتي فاقمت تقسيم البلاد المُقَسَّمة أساسا، وهي القول بإتاحة الفرصة للفلسطينيين كي يُبرزوا هويتهم، ويحصلوا على دولتهم، ويحافظوا على حقوقهم المشروعة، وعلى رأسها حق العودة المنصوص عليه في القرار 194، استجابةً للضغوط العربية والمطالب الفلسطينية التي بدأت عام 1974 بالإعلان عن منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.
فالنظام الأردني برأسه ومن خلال مُنَظِّرِه ومهندس علاقاته مع "النظام الفلسطيني"، يشعر بالخطر من الوضع القائم آنذاك، وبالحرج من امتلاكه شرعية التحدث باسم الضفة الغربية بصفتها أرضا أردنية، وتمثيل سكانها بصفتهم أردنيين، في الوقت الذي يعلم فيه أنها أرضٌ محتلة لن تُسترَد في الظروف السائدة رغم طول مدة الاحتلال التي بدا واضحا أن الملك حسين أصبح بسببها غير قادر على تحمل تبعات بقاء الضفة الغربية أرضا أردنية محتلة يعجز عن حلِّ قضيتها ولو بأقل الممكن، بسبب رفض إسرائيل لذلك من جهة، وتقاعس الغربيين وعدم اهتمامهم بالأمر أصلا، رغم امتلاكهم لقوة ضغط فاعلة على إسرائيل إن هم أرادوا ذلك من جهة أخرى، وعلى رأسهم جميعا الولايات المتحدة الأميركية.

فالملك حسين عندما يلقي بنظره نحو سيناء يجد أن قضيتها قد حُلَّت عقب حرب أكتوبر، وعندما يلقي بنظره إلى الجولان يرى أن النظام السوري استطاع أن يخدع الأمة بأكملها بمقولة "التوازن الإستراتيجي مع العدو" كغطاء لمشروعه السياسي تجاه أرضه المحتلة، مخترعا أسلوب الحرب بالوكالة عبر لبنان لإعطاء كلِّ المبررات لفلسفته التي قامت على زعامته للقومية العربية الممانعة بعد تحييد مصر عقب "كامب ديفيد". أي أنه بالنظر جنوبا وشمالا يجد نفسه بإزاء دولتين ونظامين عربيين عرفا كيف يتعاملان مع أرضهما المحتلة ويعيدان علاقة شعبيهما بهما على نحو مقبول لجهة الحلول التي طرحت لاسترداد الأراضي الوطنية المحتلة، فيما هو – أي الملك حسين – ما يزال يرواح مكانه، ولا يبدو له في آخر النفق أيُّ أمل بحلٍّ يخرجه من مأزقه ويرفع عنه الحرج، رغم أن أرضه – أي الضفة الغربية – احتُلَّت في الحرب نفسها التي وقعت فيها سيناء ووقعت فيها هضبة الجولان تحت الاحتلال عام 1967.

والنظام الأردني – فضلا عن كلِّ ذلك – برأسه ومن خلال مُنَظِّرِه كما كشفت عن ذلك تصريحات "المُنَظِّر"، يدرك أيضا أن إسرائيل لن تتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية لو أصبحت هي المتحدثة الرسمية باسم الضفة الغربية وسكانها، ومع ذلك فهو يعلن فك ارتباط الأردن بها وانفصالها عنه، ويسلمها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، معتبرا هذا الإعلان بمثابة الطريقة التي سيوصل بها رسالةً إلى الإسرائيليين.

أي أن نظام "الملك حسين"، رغم إدراكه أن فُرصَ منظمة التحرير في تحصيل حقوقٍ سياسيةٍ في الضفة الغربية، هي – في كلِّ الأحوال – أقلُّ بكثير من فُرَصِه التي طالما أعلنت إسرائيل عن إمكانية مَنْحِه واحدةً منها عبر ترتيباتٍ معينة معه في الضفة ذات طابع أمني وإداري، تضمن تصفية القضية الفلسطينية، وتأجيل إعادة إحيائها إلى أمدٍ بعيد، وبعد أن قضى 18 عاما امتدت من 1970 إلى 1988، وهو يكافح فكرة "فلسطينية الضفة الغربية" واقعيا – رغم أنه صانعها في الستينيات عندما كان بقاؤه مرهونا بإعادة إحياء الهوية الفلسطينية – مبادرا بطرح مشروع "المملكة المتحدة" قبل أن تجف دماء ضحايا أيلول، ومتوجا ذلك بطرح مشروع "الكونفدرالية"، لأجل أن يخلق الظروف التي تمنحه ميزة تعامل إسرائيل معه وفق "الخيار الأردني"، غير مكترث بقرارات القمة العربية عام 1974، وهي القرارات التي أعلن أنه بادر إلى فك الارتباط التزاما بها كما يدعي هو وكل أبواقه المدافعين عنه، رغم أن هذا القرار اتخِذ بعد مرور 14 عاما على صدورها..

نقول.. إن نظام الملك حسين هذا ورغم أنه يدرك كل ذلك، يعلن قراره بفك الارتباط، ليكون هذا التصرف منه هو الطريقة التي يوصل بها رسالته إلى إسرائيل عمليا – كما صرَّح بذلك عدنان أبو عودة – بشأن أمرٍ ما دُبِّرَ أو كان يُدَبَّرُ بليل. فما الذي كان يُدَبَّر فجعل قرار فك الارتباط هو الرسالة المطلوبة لضمان نجاح التدبير، في ظل كل الحقائق السابقة التي يعرفها النظام عن إسرائيل وعن منظمة التحرير، وفي ضوء كل ما عرفناه نحن عن وظيفية وقُطرية وتبعية نظام "الملك حسين"؟!

لقد جاء قرار فك الارتباط في وقت كانت جميع فرص الخيار الأردني لحل القضية الفلسطينية – التي اختُزِلَت معظمها في مُكَوِّن الأرض ممثلا في "الضفة الغربية" – قد استُنْفِذَت، ولم يعد أمام كلٍّ من نظام "الملك حسين" وإسرائيل أيُّ أملٍ في نجاح أيِّ محاولة جديدة للدفع باتجاهه، خاصة بعد أن كانت "انتفاضة الأرض المحتلة" قد بدأت تعيد الحياة إلى بعضِ الموات في جسد منظمة التحرير الفلسطينية، وتعيد ترميمَ بعضِ المتهالك من فضاءات أيديولوجية المقاومة وفلسفة إعادة التثوير التي كانت قد بدأت تتراجع بسرعة غير مسبوقة بعد عام 1982، ليتحول هذا التراجع إلى انحدار بعد عام 1984.

وبالتالي فإن الساحة الإقليمية لجهة فضاءات الحلول بدأت تنفتح عن خيارين لا ثالث لهما هما، "الخيار الإسرائيلي" الذي قامت أيديولوجية صُناَّع وهم "الهوية الفلسطينية" على اعتبار أنه الخيار الأقل إضرارا بها – أي بتلك الهوية – إذا ما قيس الضرر بما يمكن للخيار الأردني أن يُمَثِّلَه، دون أيِّ اعتبار لمشروع التحرير الذي تراجعت مكانته في "حزمة الأهداف"، ففقد أهميته التي احتلت مكانتها واستحوذت عليها أسطورة "الهوية الفلسطينية" المقدسة وطنيا، وخيار "إعادة إنتاج الثورة" بكل تداعيات إعادة الإنتاج هذه على الساحة الفلسطينية ورديفتها الأردنية، فيما يتعلق بمواقع الهويات ودلالاتها التحررية والنهضوية والقومية.

إن طبيعة العلاقة التي تربط بين هذين الخيارين في ضوء المُكَوِّنات الأيديولوجية التي كانت تحكم أطراف الصراع، حتَّمت اللجوء إلى الخيار الأول وهو "الخيار الإسرائيلي"، وتَجَنُّب ترك الساحة عرضة للخيار الثاني وتداعياته، وهو خيار "إعادة إنتاج الثورة". فقد بدا واضحا أن ترك "الانتفاضة الفلسطينية" دون توظيفٍ سياسي يُفَرِّغُها من اندفاعها وزخمها المتناميين، سوف يُدْخِل المنطقة في متاهات "الخيار التثويري" الذي كان من شأنه أن يعيدَ تصحيح كل الاختلالات الوطنية التي حدثت منذ عام 1968، ليكون ذلك بمثابة المقدمة الضرورية لإعادة رسم السيرورة الجيوسياسية للمنطقة، في إطار ما يمكنه أن يكون توظيفا تثويريا للانتفاضة. فيما بدا واضحا أيضا أن هذا "الخيار التثويري" ما كان له أن يذوي ويتراجع إلا باللجوء إلى الخيار الأول، أي "الإسرائيلي" الذي أصبح بعد تراجع آفاق "الخيار الأردني" هو الخيار الوظيفي الوحيد المتاح لإدخال القضية الفلسطينية في سرابات الخريطة "السايكسبيكوية" من جديد.

وبسبب أن الوضع القانوني للضفة الغربية، والمتمثل في تبعيتها الكاملة للمملكة الأردنية الهاشمية حتى ذلك التاريخ، هو الذي كان يحول دون تَمَكُّن قادة مشروع أسطورة "الهوية الفلسطينية" الوظيفية القُطرْية من الدفع باتجاه هذا الخيار، فقد لزمَ أن يُعادَ إنتاج هذا الوضع – أي الوضع القانوني للضفة الغربية التي أصبحت هي مطمح كل الطامحين بعد أن سقط كل تفكير في فلسطين المحتلة عام 1948 – بما يمهد الطريق له – أي للخيار الإسرائيلي – بعد أن أصبح قادة مشروع تلك الهوية، مهووسين حتى النخاع بأسطورة جديدة انبثقت من قلب الأسطورة السابقة، مفادها أن "الانتفاضة الفلسطينية" هي الأداة التي يمكنها أن تدفع بذلك المشروع – أي مشروع الهوية – إلى الأمام إذا تمًّ توظيفها سياسيا بشكل صحيح.

في هذا السياق تحديدا جاء قرار فك الارتباط القانوني والإداري بين الضفتين. إنه السياق المنطوي على العنصرين التاليين..

1 – تجنب خيار "إعادة إنتاج الثورة" بهويتها الأردنية الفلسطينية اللاوظيفية واللاقطرية، بعد أن سقط الخيار الأردني الوظيفي القُطْري، وبعد أن دخلت القضية الفلسطينية بسبب الانتفاضة في منعطفاتٍ تدفع بهذا الاتجاه.
2 – استدراج قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" الوظيفية القُطْرِية، إلى "الخيار الإسرائيلي"، بوصفه البديل الوحيد المناسب والمضمون وظيفيا، في ضوء ما تعنيه الانتفاضة وفضاءات خيار إعادة إنتاج الثورة، من على قاعدة استغلال الوهم المعشِّش في أذهان قادة المشروع الفلسطيني بخصوص دلالات الخيارات، وبخصوص قداسة الهويات، بل بخصوص تراجع أولوية مشروع التحرير نفسه، فضلا عن وهم التوظيف السياسي للانتفاضة في صالح مشروع الهوية القطرية الفلسطينية.

إن "الملك حسين" كان يعرف جيدا أن إسرائيل حتى عندما كانت تدفع باتجاه الخيار الأردني قبل عام 1988، ما كانت لتعرضَ حلا للصراع خارج إطار تصوراتها الأمنية المُصَفِّيَة للقضية الفلسطينية، والمنتجة لفضاءٍ أردني واسع ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، لتحقيق الاختراق الصهيوني الآمن للأمة العربية، وهو ما كان يقبل به الملك حسين قطعا ولا يمانعه، فقط ليظهر وكأنه حلَّ قضية أرضه المحتلة بشكلٍ ما، وإلا لما عمل جاهدا على تمرير الخيارات الأردنية، وهو يعلم علم اليقين بما تريده إسرائيل من هذه الخيارات، التي ما كان يستطيع تمريرها بعد عام 1970، ثم بعد عام 1974 بدون شراكة الفلسطينيين ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية،

لو كان "الملك حسين" يرفض التورط في هذا الذي يعرفه عن الإستراتيجية الإسرائيلية، لما تحرك في اتجاه الخيار الأردني أصلا، ولترك الأمر للفلسطينيين كي يتحملوا مسؤولياتهم تجاه الأرض المحتلة التي اكتسبوا شرعية تمثيلها بعد أن نجحت لعبة "لوغو الهويات" في تحقيق أهدافها منذ عام 1970، ولاكتفى هو بلملمة شؤون مملكته، وبتفعيل فضاءات الهوية التي استعاد شرعية تمثيلها منذ أيلول، باتجاه نهضوي معاصر، بدل هذا الذي فعله عندما حولها لأبشع حاضنة لأبشع ثقافة عصبية مدمرة ومُفَرِّخَة لكل أنواع الفساد والإفساد على مدى عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وإذن فقد كانت الرسالة التي صرَّح "عدنان أبو عودة" عن ضرورة إرسالها لإسرائيل باتخاذ قرار فك الارتباط فيما نقلناه عنه، هو أن النظام في الأردن يُلقي بالكرة إلى ملعب إسرائيل، ويعترف لها بفشل كل الخيارات الأردنية، فلتتصرف مع الفلسطينيين بما تراه مناسبا بعد أن مهَّد الطريق لها ولقادة مشروع "الهوية الفلسطينية" بقراره ذاك، كلٌّ بما يحتاج إليه لتمرير رؤاه وإستراتيجياته.

ولأن الملك حسين كان يعرف أيضا – وفق ما نقلناه عن عراَّبه الداهية عدنان أبو عودة – أن إسرائيل لن تتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية – وهو ما نضيف عليه نحن هنا، أنها إن تعاملت معها ففي شروط الضعف والمحاصرة واستدراجها إلى حتفها – فهو إنما يلقي بمنظمة التحرير إلى المجهول الذي اعتبره قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" موطنا أكيدا لطموحاتهم الهزيلة.

والملك حسين عندما فعل ذلك فقد كان غير مبالٍ بالنتائج التي ستؤول إليها القضية بعد أن جرَّدها قرار فك الارتباط من عباءة مسؤوليته، مؤديا دورا وظيفيا مشبوها لا هدف له فيه سوى ضمان عدم انزلاق المنطقة إلى خيار "إعادة إنتاج الثورة"، مادام يعي جيدا أن الانزلاق إلى "الخيار الإسرائيلي" هو في كلِّ الأحوال أقل مردودية على صعيد استعادة الحقوق – إن كانت هناك استعادة لأيِّ شكل من أشكال الحقوق قد ينطوي عليها هذا الخيار – من أيِّ خيارٍ أردني، كما أنه هو الضمانة الأكيدة لتصفية القضية، بعد أن يتمكن إعلاميا وسياسيا من تحميل العرب والفلسطينيين مسؤولية إجباره على اتخاذ هذا القرار، وهو ما يتشدق به على الدوام مناصرو القرار، وكأن التنازل عن سيادتنا على أراضينا رهن بضغوطات الغير علينا؟!!

مرة أخرى، يتسبب قادة "مشروع الهوية الفلسطينية" في إضاعة الفرص التاريخية، تماما مثلما تسببوا في إضاعتها في ستينيات القرن الماضي، عندما استنهضوا من الموات "هوية فلسطينية" ما كانوا بحاجة لاستنهاضها في سياق "مشروع التحرير" الذي اضطلعوا به في الحاضنة "الأردنية". وكما هو شأن الفرصة الضائعة منذ عام 1968، تجلت مُكَوِّنات الفرصة الضائعة في أيديولوجية قرار فك الارتباط عام 1988، فيما يلي..

1 – ممارسة قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" لأداء سياسي وإعلامي أعطى لخطوةٍ سياسيةٍ مريبة وكارثية اتخذها النظام الأردني – يُفترض أنها مؤامرة على "مشروع التحرير" وعلى "مشروع التغيير" قبله، وعلى "الهوية الفلسطينية" وعلى "الهوية الأردنية" قبلها في السياقات الإستراتيجية لبُنْية المشروعين ولدور الهويتين – كلَّ المبررات التي تجعلها خطوة حكيمة جاءت استجابة لمطالب فلسطينية مُلِحَّة، ليخرجَ النظام بريئا من دم القضية براءة الذئب من دم يوسف، ما يُخفِّفُ من حدة الوظيفية في خطوته تلك ويعفيه من المساءلة الجماهيرية الفورية، بل ما يعطي خطوته تلك توصيفات وطنية وقومية. وهذه الممارسة ليست سوى نسخة مكرَّرة وإن يكن بمعطيات عام 1988 عما حدث عام 1968، عندما رأى قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" في تساهل نظام الملك حسين مع عوامل إعادة استنهاض تلك الهوية من الموات انتصارا لها وليس مؤامرة تمارس ضد الثورة والفعل الثوري ذاته، تكريسا لهيمنة النظام على تمثيل "الهوية الأردنية" بمكونها الشرق أردني فقط، لتهيئة البيئة الخصبة لمراحل خطيرة من دعوات سيطرة ثقافة العصبية.

2 – عجزُ قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" عن قراءة أيِّ رؤية تاريخية ثورية مستقبلية في الانتفاضة الفلسطينية، قد تعيد إنتاج المنطقة على قواعد كتلك التي افتقدتها عندما مورس الخطأ نفسه بدءا من عام 1968، وانعدام الرؤية الثورية الإستراتيجية لديهم بشكل جعلهم لا يبصرون شيئا أكثر من تلك "الهوية الفلسطينية" الوظيفية القُطرية الهزيلة في كل مفاعيل ذلك الحراك الثوري الذي أرعب إسرائيل والقطرية الوظيفية الأردنية، فيما لم يكن يعني عند قادة "مشروع الهوية الفلسطينية" أكثر من أداة لا يمكن توظيفها لأكثر من هدف سياسي هزيل لم يتحقق، هذا إذا افترضنا أنهم لم يكونوا شركاء كاملين في تفريغ الانتفاضة من إمكاناتها التاريخية والثورية والجماهيرية الكامنة في صلب فعالياتها.

3 – اضطرار قادة "مشروع الهوية الفلسطينية" كنتيجة محتمة لقرار فك الارتباط إلى الاندلاق على "الخيار الإسرائيلي" الذي جسَّدته اتفاقية "أوسلو"، التي كان من أهم كوارثها إدخال الكتلة الفلسطينية المنتشرة في الشتات والمقاوِمَة سابقا، إلى وكر الذئب لتكون تحت السيطرة الكاملة، ولتفقدَ أيَّ قدرة مستقبلية على تحريك الشارع العربي المجاور لفلسطين، على النحو الذي كان يمكنها أن تفعله لو بقيت كتلة مقيمة في الشتات تعمل على توظيف الانتفاضة التوظيف الثوري الأمثل.

أي أن الوهم القاضي بقداسة "الهوية الفلسطينية" وأولويتها على مشروع التحرير إذا تطلب هذا الأخير تنازلاتٍ عن بعض عناصرها، ولم يكن قائما على قداستها ووطنيتها المطلقتين بالدرجة الأولى، عاد ليُدخِلَ القضية الفلسطينية عبر إدخال مشروع "الهوية الفلسطينية" ذاته رغم هزالته، إلى انفاقٍ مظلمة من الترحيل والتسويف الأبديين.

فعلى مدى أكثر من عشرين عاما من النزال التفاوضي العقيم وغير المتكافئ وغير المنتج بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، كانت القضية تتراجع وتفقد زخمَها شيئا فشيئا، فيما النظام الأردني يتفرج على مسرحية "الهوية الفلسطينية" المتهاوية والمتهالكة من على قمة هرمِ دولةٍ تَمَكَّن من استكمال عمليات مسخها، مستفيدا من غياب "الضفة الغربية" عن مكونات المسؤولية الوطنية المباشرة فيها غيابا شبهَ كامل، متفرغا لربط الأردن عبر "تفاهمات واشنطن"، و"برامج التصحيح الاقتصادي"، و"اتفاقية وادي عربة"، بعجلة العلاقات الإمبريالية في المنطقة، لجعله جسرا تعبر من خلاله إسرائيل إلى فضاءات الإقليم العربي، غيرَ منشغلةٍ بأيِّ مخاوفَ من إعادة إنتاج الثورة ضدها، مادامت طليعة هذه الثورة محجوزة لديها برسم التصفية، ومادام النظام الأردني قد أمَّن ساحته الداخلية بتغييب أهم عنصر من العناصر المُكَوِّنَة لسيرورته المجتمعية سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو "أردنية الضفة الغربية" التي كان قرار فك الارتباط قد شطبها من قاموس هذه السيرورة.

التقط قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" قرار فك الارتباط باعتباره إنجازا من إنجازتهم التاريخية، وما قرأوا فيه أو ربما أنهم ما شاءوا أن يقرأوا فيه غير أوهامهم وأساطيرهم البعيدة عن الحقيقة، وتحركوا على الفور باتجاه توظيفه على النحو الذي توهموا أنه سوف يجسِّد هويتهم، لتبدأ مسيرة "الخيار الإسرائيلي" للقضية الفلسطينية منذ اعتلى "ياسر عرفات" منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في "جينيف" موجها كلمته المشهودة إلى الإسرائيليين.

يقول الصحفي الفرنسي "أندريه فرساي" في معرض تمهيده لسؤال وجهه إلى "شيمون بيريز" في اللقاء الحواري المطول الذي أداره بينه وبين "بطرس بطرس غالي" الأمين العام السابق للأمم المتحدة:
"في 13 ديسمبر عام 1988 خلال جلسة الجمعية العامة المنعقدة في جينيف، وجه عرفات كلمته إلى الإسرائيليين بقوله: "أتيت إليكم باسم شعبي، أمد لكم يدي حتى نستطيع التوصل إلى سلام حقيقي، سلام قائم على العدل". لم تقتنع واشنطن، فعرفات لم يوضح موقفه بخصوص القرارين 242 و338 فيما يخص حق إسرائيل في الوجود، وبخصوص موضوع الإرهاب. بعد يومين، في 15 ديسمبر أعلن عرفات في مؤتمر صحفي في جينيف: "إننا ندين الإرهاب بكافة أشكاله سواء كان فرديا أو جماعيا أو إرهاب دولة"، وأضاف أن المجلس الوطني الفلسطيني يعترف بقراري الأمم المتحدة رقمي 242 و338 "كأساس للتفاوض مع إسرائيل في إطار مؤتمر دولي". رضي الأميركيون، وخلال مؤتمر صحفي في اليوم نفسه اعترف جورج شولتز بالتقدم الحاسم لمنظمة التحرير وقرر بدء حوار ضمني مع ممثلي منظمة التحرير". (كتاب "ستون عاما من الصراع في الشرق الأوسط/شهادات للتاريخ"، حوارات "بطرس بطرس غالي" و"شيمون بيريز" مع "أندريه فرساي"، مرجع سابق، ص 301 – 302).

ثم انعقد المجلس الوطني في تونس في 28 سبتمبر عام 1991 لمناقشة فرصة بدء مفاوضات مع الإسرائيليين، واعترض عدد من الزعماء على المشاركة في هذا المؤتمر بشدة. ولقد شرح "جورج حبش" زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اعتراضه قائلا: "سأل الوفد الفلسطيني "بيكر": هل سنبحث في المؤتمر حق العودة؟! الجواب: لا. هل سنبحث قيام الدولة الفلسطينية؟! الجواب: لا. هل سنبحث حق تقرير المصير؟! الجواب: لا. هل ستشارك منظمة التحرير في الوفد للدفاع عن قضيتنا؟! الجواب: لا". (نفس المرجع السابق، ص 219).

ومع ذلك غرق قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" الموهومة في "الخيار الإسرائيلي"، لأنهم رأوا "إنجازا" ما رأته إسرائيل والولايات المتحدة "شَرَكا"، ورأوا "نصرا" للهوية قرارا اتخذه الملك حسين ليمهد به لـ "هزيمة" الثورة، ورأوا "آفاق توظيف سياسي مُنتج" فيما كان جميع الخبراء يرون فيه "استدراجا قاتلا إلى النهاية الحتمية".

في الحقيقة أراد الأميركيون وقبلهم الإسرائيليون أن يتولى فلسطينيو الداخل قيادة المرحلة النهائية في عمر المقاومة والانتفاضة، وبالتالي في عمر الهوية والثورة، ويحلوا محل منظمة التحرير في كل ذلك، بهذه العودة غير الميمونة، التي حاول صُناع مشروع "الهوية الفلسطينية" التغطية على كارثيتها بالإيهام بأنها إعادةٌ لإنتاج التاريخ الفلسطيني على أرضٍ صلبة، مادامت هذه الأرض التي ظنوها صلبة جزءا من الأرض الفلسطينية المحتلة.

وفي غمرة انشغال قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" بالاحتفال بما صوروه نصرا، تجاهلوا أنه "نصر" أعادهم إلى تلك "الأرض الصلبة" على ظهر الدبابة الإسرائيلية التي تحتلها، كانت إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة تعدان العدة لمرحلة جديدة، لم يكن لها من هدف سوى حقن الانتفاضة بمورفين الضعف الذي تعاطته منظمة التحرير منذ عام 1982، بدل حقن منظمة التحرير بأمصال القوة التي ولدتها الانتفاضة منذ عام 1987.

لم يكن لقرار فك الارتباط ولكل ما تلاه من تداعياتٍ بدأت بتحرك منظمة التحرير باتجاه "الخيار الإسرائيلي"، وانتهت باتفاقية "وادي عربة" بين الأردن وإسرائيل، بعد أن مرت بمؤتمر "مدريد" وباتفاقية "أوسلو"، سوى هدف واحد ووحيد هو أبعد ما يكون عن كل تلك الخرافات والأساطير التي حاول صُناع القرار في الجانب الأردني، وملتقطوه في الجانب الفلسطيني، فضلا عن أبواقه في الجانبين أن يروجوا لها، مزورين كل الحقائق ومدافعين عن كل الأباطيل. وهذا الهدف هو الحيلولة دون تصدير الانتفاضة إلى خارج فلسطين، بصفتها شرارة محتملة للثورة العربية الجديدة، وذلك عبر استيراد قادة مشروع "الهوية الفلسطينية" إلى داخل فلسطين، بصفتهم مشروع جثةٍ أكيدة.

فهل بعد كل هذا، يمكن لعاقل أن يقول بأن قرار فك الارتباط يمكنه أن يكون مدخلا لتثبيت حقوق الأردنيين أو الفلسطينيين، بينما تثبت الوقائع التاريخية أنه هو الذي مهَّد لكلِّ الكوارث التي تبين لنا أنها لحقت بالشعبين وبالدولتين وبالهويتين، لحساب نظامين وظيفيين، هما النظام الأردني والنظام الفلسطيني، ولحساب تحالفين طبقيين بغيضين هما التحالف الذي يهيمن على سيرورة ومصير الضفة الغربية، وذلك الذي يهيمن على سيرورة ومصير الضفة الشرقية؟