في حقيقة الأمر، ومن الناحية العملية،
وبحيادٍ وتجردٍ كاملين، لا يمكن لكل من يدعو إلى قوننة قرار فك الارتباط
ومن ثَمَّ إلى دسترته، ويقف وقفة عدائية من أيِّ دعوة للعودة عنه تستتبعها
إعادة الاعتبار لواقعة أن "الضفة الغربية هي أرضٌ أردنية محتلة"، بكل ما
يترتب على ذلك من تبعات قانونية وسياسية، أو لكل من يدعو إلى حرمان
"الأردنيين من أصل فلسطيني المقيمين" على الإقليم المستقل من أرض "المملكة
الأردنية الهاشمية" من أيِّ حقوق سياسية، وحصر حُزَم الحقوق الممنوحة لهم
في الدائرة المدنية، التي يتم التعامل من خلالها مع كل وافد وغير مواطن..
نقول.. إن كل من يدعو إلى ذلك، لا يمكنه أن يكون مدافعا إلا عن واحد من
الأمور الثلاثة التالية التي لا رابع لها..

* فإما أنه يدافع فعلا عن حق
الفلسطينيين في هويتهم ودولتهم وعودتهم إلى أرضهم، وهي الحقوق التي يرى أن
دمجهم في متطلبات الهوية والمواطنة الأردنيتين يضيِّعها عليهم.

* وإما أنه يدافع فعلا عن حقوق الأردنيين وعن هويتهم وعن دولتهم من ثمَّ،
متصورا أن في عدم التعامل مع الفلسطينيين على هذا النحو يهدد تلك الحقوق
وتلك الهوية وتلك الدولة.

* وإما أنه يدافع عن أمر ثالث لا هو هوية الفلسطينيين وحقوقهم، ولا هو هوية الأردنيين وحقوقهم.

وفي حال كشفَ التحليل العلمي التاريخي
الدقيق والموضوعي عن أن هؤلاء يدافعون بالفعل عن واحد من الأمرين الأول
والثاني، وعن أن القول بأردنية الضفة الغربية وما يمكنه أن ينتج عنه من
تبعات قانونية وسياسية يصيب منظومتي تلك الحقوق في مقتل، فهم قطعا محقون في
دعوتهم إلى قوننة قرار فك الارتباط وإلى سحب كل صفات المواطنة عن كل أردني
من أصل فلسطيني، وسنسلم لهم بذلك لأننا قطعا مع أيِّ صيغة هويات تحافظ على
حقوق الشعبين أيا كانت تلك الصيغة.

أما إذا ثبت بالتحليل العلمي التاريخي
الدقيق والموضوعي ذاته أن أيا من "الأردنية" و"الفلسطينية"، وأن أيا من
حقوق "الأردنيين" و"الفلسطينيين" لا تُمَس بالعودة عن قرار فك الارتباط، أو
إذا ثبت أن العكس هو الصحيح، أي أن الحقين "الأردني" و"الفلسطيني"
يترسَّخان أكثر فأكثر بما نقول به من "أردنية الضفة الغربية"، ولما نطرحه
من إعادة إنتاج للهويتين الأردنية والفلسطينسة، خلافا لما يدعونه من
المقولة الضد، فإننا نملك كامل الحق في التشكيك في ذلك المطلب وفي كل من
يقف وراءه، وسوف نقوم من ثمَّ بالبحث عن الشيء الثالث المريب الذي يكمن
الدفاع عنه مختبئا وراء هذه الدعوة!!

إن إجراء تحليل علمي تاريخي موضوعي دقيق للمسألة يخرجها من نطاق
التخرُّصات والظنون، ويضعها في سياقها الصحيح الموجب لاتباع الحلول الملزمة
وغير العاطفية والبعيدة عن الأهواء وعن المُخرجات الذهنية والنفسية
المنحرفة والشاذة لعقود من التنشئة الاجتماعية المسبِّبَة لكلِّ أنواع
الإعاقات الفكرية، يقتضي منا مناقشة المحاور التالية نقاشا هادئا ومتزنا،
لأن في مناقشة كل واحد منها وضعٌ لواحد من مُكَوِّنات المسألة على بساط
البحث العلمي المُنتج للحقيقة..

أولا.. جنسية التأسيس وجنسية التجنيس في "الهوية الأردنية"

إن عدم تبَيُّن الفرق بين من حصل على
الجنسية بالتأسيس ومن حصل عليها بالتجنيس، يقف وراء الجانب الأكبر من جدل
الهوية الدائر على الساحة الأردنية منذ وقت طويل. فالتصوُّر السائد هو أن
"الأردنيين من أصل فلسطيني" حصلوا على "الجنسية الأردنية" بـ "التجنيس" بعد
ضم "الضفة الغربية"، وليس بـ "التأسيس" بعد إعلان "وحدة الضفتين" وإنشاء
الدولة الثالثة. ومن يتصوَّر ذلك، إنما يتصور قبله أن جنسية "المملكة
الأردنية الهاشمية" كانت جنسية قائمة وموجودة، اكتسبها لاحقا أهل الضفة
الغربية أصليون ولاجئون. وهذا خطأ كبير، فـ "الجنسية الأردنية" التي هي
الجنسية التي يحملها رعايا "المملكة الأردنية الهاشمية"، لم تكن موجودة
وقائمة بشكلها الحالي قبل صدور قانون الجنسية لعام 1949، لأن "المملكة
الأردنية الهاشمية" كدولة وككيان قانوني لم تكن قائمة وموجودة أصلا. وإن
ظهر للعيان من خلال كون هذا القانون هو تعديل لقوانين الجنسية التي
استُهِلَّت في "إمارة شرق الأردن" بقانون الجنسية لعام 1928، الذي أسس
لجنسية "إمارة شرق الأردن"، ومن خلال بعض مواده التي تتحدث عن "جنسية
أردنية" قائمة، باعتبار أن كلمات "أردن" و"أردنية" و"أردني" كانت كلمات
قائمة في المسميات السائدة آنذاك.. نقول.. وإن كانت تلك الأمور تُظهر
للعيان وكأن الفلسطينيين الذين تخلوا عن جنسيتهم بانضمامهم للأردن، تخلوا
وحدهم عن جنسيتهم، فيما غيرهم لم يتخلَّ عن جنسيته لأنه لم ينضم إلى أحد،
بل تم انضمام غيره إليه.

فهذا خطأ كبير يقوم على واحدة من أكبر
عمليات تزييف التاريخ في الوعي الجمعي للفلسطينيين وللأردنيين على حدِّ
سواء. فمن الناحية القانونية والسياسية كما تكشف عن ذلك الوقائع التاريخية
فيما يتعلق بمؤتمر أريحا عام 1948، وبقانون الجنسية عام 1949، وبوحدة
الضفتين عام 1950، فقد تخلى الطرفان عن شكلهما القانوني وعن مسماهما
الهوياتي وعن جنسيتهما التأسيسية الأولى، سواء من كان محسوبا على "إمارة
شرق الأردن" التي أصبح اسمها بعد الاستقلال عام 1946 "المملكة الهاشمية
لشرق الأردن"، وليس "المملكة الأردنية الهاشمية"، أو من كان محسوبا على
"فلسطين العربية"، ليشتركوا جميعا في التأسيس لمسمى قانوني وهوياتي وسياسي
جديد هو "المملكة الأردنية الهاشمية".

ونشير في هذا السياق إلى أن جنسية
التأسيس في الأردن حصلت مرتين، كانت الأولى عقب تشكيل الإمارة، فيما كانت
الثانية عقب وحدة الضفتين. ولا علاقة لكلِّ شروط اكتساب الجنسية خارج نطاق
جنسية التأسيس، بحق اكتسابها من المنطلق القائم على جنسية التأسيس. ولقد تم
اللجوء عقب وحدة الضفتين إلى التأسيس لجنسية جديدة هي جنسية "المملكة
الأردنية الهاشمية"، لأن هذه المملكة هي الدولة الجديدة التي تم إنشاؤها
بموافقة الشعبين على ذوبان كيانيهما السياسيين فيها، لأن جنسية التأسيس
السابقة التي أعقبت تشكيل الإمارة وهي جنسية "إمارة شرق الأردن"، لم تعد
قادرة على تغطية الظروف المستجدة عقب حرب 1948 وإعلان وحدة الضفتين.

دعونا نبسِّط المسألة بإيراد المثال التالي..

حزب اسمه "أ" وحزب آخر اسمه "ب"، قررا
الاندماج عبر تأسيس حزب ثالث اسمه "ج"، وتم تغيير النظام الداخلي لكل من
"أ" و"ب"، بنظام داخلي جديد يناسب "ج"، بصرف النظر عن الظروف التي دفعت "أ"
أو "ب" إلى القبول بصيغة "ج"، أو إلى القبول بفكرة الاندماج وخلق هذا
الكيان الحزبي الجديد أصلا.

في مثل هذه الحالة أيهما القول الصواب، هل هو أن نقول أن "أ" انضم إلى "ب"، أم أن نقول أن "ب" هو الذي انضم إلى "أ"؟!

في الواقع فإن الصيغتين خطأ، لأن أيا
منهما لم ينضم إلى الآخر. بل كلاهما أسهم في تأسيس كيان ثالثٍ جديد على قدم
المساواة مع الآخر. فلا يوجد انضمام أساسا، والعملية لا توصَّف على أنها
كذلك، بل على أساس أنها توحُّد في كيان جديد بمواصفات جديدة. وفضل ودور
ومكانة وحقوق وواجبات "أ" في "ج"، هي نفسها فضل ودور ومكانة وحقوق وواجبات
"ب" فيه ولا فرق.

وإذن فما هي الصفة التي يمكن أن نطلقها
على من يعتبر أن "ج" هو في الأصل "أ"، وأن "ب" بالتالي ملحق به، أو من
يعتبر أن "ج" هو في الأصل "ب"، وأن "أ" مجرد تابع له؟!

إنها صفة "الكذب" و"الدجل" و"التزييف" و"التزوير"، بل و"الاشتباه" في
الأهداف مهما كانت الذرائع. وفي أحسن الأحوال فإن حديثا كهذا لا يخرج عن
كونه حديثا سياسيا مُرسلا، لا حديثا قانونيا مؤسَّسا.

"المملكة الهاشمية لشرق الأردن" كانت
كيانا قائما بعد حرب 1948، و"فلسطين العربية" ممثلة في الضفة الغربية لنهر
الأردن، كانت أيضا كيانا قائما بعد حرب 1948، باعتبارها الجزء المتبقي من
كلِّ فلسطين خارج نطاق الاحتلال. اتفق سكان "المملكة الهاشمية لشرق
الأردن"، مع سكان ما تبقى من "فلسطين العربية" خارج نطاق الاحتلال
الصهيوني، على تأسيس كيان ثالث جديد لا هو "المملكة الهاشمية لشرق الأردن"،
ولا هو "فلسطين العربية"، وإنما هو "المملكة الأردنية الهاشمية". وتم
الاتفاق بينهما على وضع جنسية تأسيس جديدة لسكان هذا الكيان الجديد هي
"جنسية المملكة الأردنية الهاشمية"، التي ليست هي لا جنسية "المملكة
الهاشمية لشرق الأردن"، ولا جنسية "فلسطين العربية".

الشيء الوحيد المُثَبَّت بين الطرفين من بقايا الحالتين السابقتين هو "العائلة المالكة الهاشمية" و"النظام الملكي النيابي الدستوري".

لا العائلة المالكة الهاشمية، ولا
النظام الملكي هما اللذان كانا يعطيان لـ "المملكة الهاشمية لشرق الأردن"
صفتها ولأهلها هويتهم قبل "ظهور الكيان الجديد"، حتى نعتبرَ أن بقاءهما
والحفاظ عليهما يعني أن "فلسطين العربية" انضمت إلى "الأردن" شكلا ومضمونا
وهوية. فالأصل أن يقال أن تلك العائلة تحمل هوية "المملكة الهاشمية لشرق
الأردن"، لأن أهل تلك الدولة منحوها شرعية الملك والسلطة وليس العكس، بأن
نقول أننا كأبناءٍ لـ "المملكة الهاشمية لشرق الأردن" امتلكنا تلك الهوية
آنذاك لأن تلك العائلة حكمتنا فأغدقت بها علينا.

فهل مثلا لو أن أهل الضفتين قرروا في
تلك الحقبة من الزمن أن يؤسسوا بدل "المملكة الأردنية الهاشمية"، دولةً
أسموها "جمهورية فلسطين" ورفضوا سلطة الهاشميين وملكهم، أو أسموها "المملكة
العربية الفلسطينية"، بقيادة الهاشميين، لجاز لنا القول بأن الضفة الشرقية
انضمت إلى الضفة الغربية، وأن الأردن انضمت إلى فلسطين بالتالي؟! بكل
تأكيد، هذا غير صحيح على الإطلاق، وهو مجرد هرطقة وتجديف.

"فلسطين العربية/الضفة الغربية"،
و"المملكة الهاشمية لشرق الأردن"، كانتا كيانين مستقلين، بمعنى عدم خضوعهما
للاحتلال، وإن كان جيش "المملكة الهاشمية لشرق الأردن"، موجودا على أرض
"فلسطين العربية/الضفة الغربية" ومهيمنا عليها بعد الحرب، بسبب ظروف نهاية
الحرب وتبعية هذا الجيش، مثلما هو حال الجيش المصري والعراقي وغيرهما إلى
"جيش الإنقاذ العربي" الذي خاض الحرب. وبالتالي فقد كان ممكنا من حيث
المبدأ أن يحصلَ للضفة الشرقية لنهر الأردن ما حصل لضفته الغربية، بأن يكون
التوحد والانضمام في الاتجاه المقابل، لو كانت الظروف السياسية العالمية
والإقليمية تتجه في ذلك الاتجاه.

ولكن ولأن الواقع كان يدفع باتجاه تغييب
"الهوية الفلسطينية" التي كان من الممكن أن تتجسَّد على أرض "فلسطين
العربية/الضفة الغربية"، فقد ظهر الأمر تاريخيا على النحو الذي ظهر عليه،
فبدا وكأن الفلسطينيين تخلوا وانضموا – سياسيا – إلى "الأردن"، في حين أن
الواقع – قانونيا – أنهم ونظراءَهم في شرق النهر اشتركوا في التأسيس لدولة
جديدة ولهوية جديدة ولجنسية جديدة هي "المملكة الأردنية الهاشمية"، وإن كان
في هذا الكيان القانوني والسياسي الجديد من بقايا ومُكونات الكيان السابق
وهو "المملكة الهاشمية لشرق الأردن"، أكثر بكثير مما كان فيه من بقايا
ومُكونات الكيان "الغرب أردني" السابق وهو "فلسطين العربية/الضفة الغربية"،
وذلك لأسباب سياسية مفهومة.

التوصيف السائد الذي أسَّسَ لجدل هوية
عقيم على هذه الساحة، توصيف خاطئ مختل منحرف لا يعبر عن الحقيقة لا من قريب
ولا من بعيد، وهو قائم على محض تزييف وتزوير للتاريخ. "المملكة الأردنية
الهاشمية" هي الدولة التي تأسست من قبل أهل "المملكة الهاشمية لشرق
الأردن"، وأهل "فلسطين العربية" معا وعلى قدم المساواة، بعد إذ لم تكن لا
موجودة ولا قائمة بصفاتها تلك، قبل اتخاذ القرار من قبل الطرفين بإنشائها
وتأسيسها وإغداق تلك الصفات عليها وتلك الحقوق على مواطنيها. وهي كيان
مختلف كليَّةً من النواحي السياسية والقانونية عن الكيانين السابقين اللذين
كوناه وخلَّقاه، وبالتالي فلا وجود لا لمضيف ولا لمستضاف، لا لصاحب وطن
أصلي ولا لصاحب وطن طارئ، لا لهوية أصل ولا لهوية فرع، لا لمواطن درجة أولى
ولا لمواطن درجة ثانية، لا لأردني أصيل ولا لفلسطيني طارئ ودخيل.

فكما أن سكان "الضفة الغربية" يطلق
عليهم "الأردنيون من أصل فلسطيني"، فإن أهل "الضفة الشرقية" يطلق عليهم
أيضا "الأردنيون من أصل "المملكة الهاشمية لشرق الأردن"، للاعتبارات
السياسية والقانونية نفسِها، وبالتالي فهم أردنيون من منطقتين جغرافيتين
مختلفتين لم تكن أيٌّ منهما قبل نشوء المملكة الحالية هي "الأردن" بصفتها
التي عبرت عنها الصورة الجديدة التي هي "المملكة الأردنية الهاشمية".
فلنكُفَّ عن ليِّ عنق التاريخ، وعن رسم الخرائط بما يتعارض مع مصالح الشعب
الأردني الواحد الذي أنشأ هذه الدولة بمؤتمر أريحا عام 1948، وبقانون جنسية
التأسيس عام 1949، وبإعلان الوحدة عام 1950، وبإقرار دستور المملكة
الأردنية الهاشمية عام 1952.

أما الظروف والملابسات التاريخية
اللاحقة التي أسفرت عما حصل في عام 1956، ثم في عام 1965، ثم في عام 1967،
ثم في عام 1968، ثم في عام 1970، ثم في عام 1971، ثم في عام 1974، ثم في
عام 1988.. إلخ، فهي ظروف وملابسات سياسية تُدْرَس في سياقاتها التي سببتها
وأفرزتها، ليتم التعامل معها على هذا الأساس في ظل ما بدأ بالنشوء عام
1948 واستكمل عام 1952، باعتباره قرارا لشعبين كي يصبحا شعبا واحدا، وقرارا
لكيانين سياسيين لكي يصبحا دولة واحدة بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

ثانيا.. الجدَّة والحداثة في الهويتين الأردنية والفلسطينية

في معرض رفض فكرة جدَّة الأردن وفلسطين
العُمْرِية كمسميات هوياتية بالمواصفات المعروفة ديموغرافيا وجغرافيا، وفي
معرض الدفاع عن العراقة التاريخية في فكرة "الأردن" هويةً ودولةً وفي فكرة
"فلسطين" هوية ودولة، يحاول الكثيرون الإيحاء بأن الأردن – ومثله فلسطين –
ممتدان إلى آلاف السنين، وأن ليس عمرهما تسعين سنة فقط، ويشبِّه بعضهم ذلك
بهوية ودولة "مصر" بحيثية غريبة فعلا، من منطلق أن مصر الحديثة بدأت مع
"جمال عبد الناصر"، وأنها قبل ذلك كانت تابعة لدول أخرى، أي أنها لم تكن
مصر المستقلة، مع أن أحدا لا يشكك في أن "مصر" تمتد إلى سبعة آلاف سنة من
التاريخ والحضارة الممزوجة بـ "الهوية المصرية". وهو ما يكشف عن مجانبة لكل
أشكال الموضوعية وعدم الدقة في قراءة المسألة من النواحي التاريخية
والأنثروبولوجية وفق قواعد علوم الاجتماع.

عندما نتحدث عن دولة اسمها الأردن وعن
هوية اسمها الهوية الأردنية، ونقول أنهما حديثتان، وأن عمرهما لا يتجاوز
التسعين عاما، فنحن إنما نتحدث عن هوية وعن دولة لم تكونا موجودتين أصلا،
لا في الذهن الديمغرافي، ولا في الموروث الثقافي لسكان هذه المنطقة التي
نطلق عليها اليوم "الدولة الأردنية"، بل ولا في مقتضى التطور الطبيعي
للبُنى المجتمعية التي تفرض تشكل الدول والشعوب وتكامل الهويات الوطنية
بشكل انسيابي تاريخي.

فنحن لسنا نتحدث لا عن دولة أردنية ولا
عن شعب أردني، كان على مدى مئات أو آلاف من السنين ماضية موجودا وقائما
بصفته هذه، وأنه كان يعاني من الاحتلال والتغييب، مرة بتبعيته للأنباط،
ومرة بخضوعه للاحتلال الروماني، وثالثة للأيوبيين، ورابعة للعثمانيين..
إلخ. ولا نحن نتحدث عن هوية تطورت وتكاملت في سياقات اقتصادية وثقافية
تراكمت على مدى مئات وآلاف السنين لتنتج "الهوية الأردنية"، كما أنتج
التطور "الهوية العربية"، أو "الهوية الفرنسية" أو "الهوية الألمانية" أو
"الهوية الفارسية".. إلخ. فهذه التوصيفات ليست لا من قريب ولا من بعيد هي
التوصيفات التي يعنيها من يقول – ونحن من هؤلاء – أن الهوية والدولة
الأردنيتين انبثقتا إلى حيِّز الوجود منذ تسعين عاما فقط وبشكل مفاجئ وغير
منطقي ولا تطوري، باتفاقية سايكس بيكو، وبقرارات لا علاقة لها بنتاج فعل
تاريخي، وبما تلاها من تحركات لتنفيذها وتجسيدها على الأرض عبر ذلك الحلف
البغيض الذي ربط الاستعمار البريطاني بقادة الانقلاب الهاشمي.

بينما مصر أمر مختلف تماما. ولا يصح
التشبيه في هذا السياق بالمرة. لأن مصر هي نتاج سيرورة حضارية حقيقية راكمت
مُكَوِّنات هوية وعناصر دولة، عبر آلاف السنين من الحضارة، بشكلها
وبُنْيَتها المصرية الخاصة، حتى ومصر تتقاذفها الدول الاستعمارية
وتُخْضِعُها لسيادتها من حين لآخر، دامجة إياها في ثقافاتها. وكانت مصر في
سياق هذه السيرورة التاريخية التراكمية الطبيعية، تؤثر وتتأثر بالثقافات
وبالحضارات وبالدول التي كانت تتفاعل معها بهذا الشكل أو بذاك، مُثرية
الحالة المصرية فكرا وثقافة، ليصبَّ كلُّ ذلك في تطوير "الهوية المصرية"
التي كانت دائما مصرية، حتى أمام مستعمري مصر ومحتليها، وكان الجميع يتعامل
معها منذ أول احتلال لمصر وحتى اليوم، باعتبارها "هوية مصرية"، وحالة
مصرية، وظاهرة مصرية.. إلخ. فمصر ليست وليدة "جمال عبد الناصر"، ولا هي
وليدة "ثورة 23 يوليو". فهذه الثورة هي التي حررت مصر من الإنجليز ليس إلا.

فهل ما يسمى بالثورة العربية الكبرى
مثلا – مع تحفظنا على هذا الاسم، فنحن لا نراها لا ثورة ولا عربية ولا
كبرى، بل مجرد انقلاب تآمري هزيل، جمع الاستعمار البريطاني وبعض مدعي
الانتساب إلى آل بيت الرسول الكريم من حكام الحجاز – حررت "الأردن" الموجود
والقائم هويةً ودولةً، "أي ديموغرافيا وجغرافيا أردنية" من الأتراك، كما
حررت 23 يوليو مصر الموجودة هويةً ودولةً وثقافةً وتاريخا، والقائمة بصفتها
مصر من الإنجليز؟! هذا ما لا يمكن لأحد أن يقول به عند الحديث عن هذا
المُنْتَج السايكسبيكوي المسمى "الأردن" عند قراءة التاريخ بقواعد علم
التاريخ. فهذه القطعة من الأرض التي أطلق عليها اسم "الأردن" قبل أقل من
تسعين عاما، كانت دائما ودون تحديد جغرافي لها، جزءا طبيعيا من الشام، أو
من سوريا، أو من الهلال الخصيب.. إلخ. ولم يكن لها أيُّ وجود بصفتها
"الأردن" بمسماه وبحدوده السياسية التي نتحدث عنها الآن.

هذا من جهة..

أما من الجهة الأخرى فنحن عند الحديث عن
جِدَّة الحالة الأردنية "هوية" و"دولة"، وعن أن عمر هذه الحالة لا يتجاوز
التسعين عاما، فإننا لا نتحدث عن جغرافيا وعن تضاريس وعن طبيعة محدَّدة،
ولا نشكك – عبر تشكيكنا في قدم الحالة الأردنية "هوية" و"دولة" – في قدم
هذه الجغرافيا وتلك الطبيعة والتضاريس أصلا. فالجغرافيا من حيث هي جغرافيا،
موجودة قبل ظهور المخلوق البشري أصلا، ونهر الأردن وجبال البتراء
والبلقاء، ووادي رم، وبحيرة طبريا.. إلخ، كلها مُكَوِّنات جغرافية
وتضاريسية وطبيعية قائمة باستقلال عن الهويات وعن الدول التي تعاقبت على
الإقليم الذي تتواجد فيه. وبالتالي فلا يُكتفى بالقول بأن هذه الجغرافيا
موجودة منذ آلاف السنين، للإقرار من ثمَّ بأن الهوية والدولة اللتين أُريدَ
لهما أن تتجسدا عليها "اليوم" هما أيضا موجودتان منذ آلاف السنين. فهذا
نوع من التضليل التاريخي، والتزييف الأنثروبولوجي، وعدم الدراية بطريقة
تَشَكُّل الهويات والدول في الجغرافيا وفق قواعد علم الاجتماع.

كما أن وجود مدينة البتراء، وآثار
الأنباط ومدرَّجات الرومان على بعض البقع المتناثرة على الجغرافيا التي
تمَّ تحديدها وتشكيلها وتسميتها الأردن منذ تسعين عاما فقط، لا يعني أن
الهوية الأردنية والدولة الأردنية بمعانيها محل النقاش والخلاف، موجودة منذ
وجد الأنباط ومنذ وجدت البتراء.. إلخ. فهذه أيضا تعمية على الحقيقة. فهل
يَستدل الأميركيون على حضارتهم في الدولة الأميركية، وعلى هويتهم في
الجغرافيا التي أصبحت منذ عدة مئات من السنين هي الجغرافيا الأميركية،
بأطلال حضارات الأنكا وقبائل الأباشي الهندية البائدة.. إلخ؟!

أي لو أن أحدا خرج على الأميركيين ليقول
لهم أنتم أمة حديثة التَّكوُّن، وهويتكم حديثة ودولتكم حديثة، لا يتجاوز
عمر كل ذلك ربع ألفية من السنوات، هل يُرد عليه بالقول بأن آثار الهنود
وأطلالهم تدل على أن القِدَم والإيغال في التاريخ هو صفة الدولة والهوية
الأميركيتين؟! بكل تأكيد لن يتم الأمر على هذا النحو، لسبب بسيط هو أن
الجغرافيا التي أصبحت منذ مائتي عام جغرافية الدولة والهوية الأميركيتين،
هي جغرافيا كانت قبل ذلك جغرافيا لحضارات وهويات ودول أخرى، لا يحق
للأميركيين بهويتهم ودولتهم المعروفة حاليا أن ينتسبوا إليها ولا أن يربطوا
أنفسهم بها، لتبرير قِدَمهم وتاريخيتهم البعيدة. وبالمناسبة هم لم يفعلوا
ذلك كما نفعل نحن عندما نُعْيي أنفسَنا في البحث عن تاريخ غير موجود
للتأسيس لحاضر ولِدَ بالأمس.

وهذا على وجه التحديد هو المعنى المقصود
عندما نقول بأن الدولة الأردنية والهوية الأردنية حديثة لم يتجاوز عمرها
التسعين عاما. إنه التأكيد على أن هذه الدولة وهذه الهوية اللتين أقيمتا
ونشأتا على هذه الجغرافيا، لم تكونا موجودتين بشكلهما هذا قبل تلك الأعوام
التسعين، وبالتالي فمن التَّعَسُّف البحث عن تأصيلٍ لهذه الدولة ولهذه
الهوية الحديثتين جدا، في ماضي هذه الجغرافيا وفي ماضي الحضارات والأمم
التي تعاقبت عليها أو عبرتها، والتي كانت تمثل شيئا آخر غير الحالة الراهنة
التي يجب علينا أن نعترف بموضوعية السياق التاريخي الذي ولَّدها. فالحقيقة
التاريخية لا تعيب أحدا، بل هي تنير طريق الجميع، لكن التزييف التاريخي
يخلط الأمور، ويُضَلِّل الجميع بلا أدنى حاجة إلى هذا التضليل، غير بناء
نتائج غير منطقية على مقدمات غير حقيقية.

فعندما كانت هذه الجغرافيا "التي هي
الآن الأردن" تعج بحضارة الأنباط، وتَبني البتراء، وتقام فيها المدرجات
الرومانية، وتخاض على ثراها معارك غيرت وجه التاريخ، فهي لم تكن ولا بأيِّ
شكل من الأشكال الجغرافيا الأردنية التي تجسِّد الهوية الأردنية التي نتحدث
عنها الآن، والتي جاءت في ظروف سياسية تاريخية محددة يمكننا فهمها بوضوح
وبدون أيِّ لبس، منذ تسعين عاما فقط. وفي الوقت ذاته لا مجال لإنكار أن هذه
الجغرافيا حتى وهي غير أردنية دولةً وهويةً، كانت جغرافيا لها صفات أخرى
غير الأردنية، وكانت لها انتماءات قانونية وسياسية وإدارية غير الأردنية
الراهنة. فالأنباط، والرومان والإغريق، والعرب، والعثمانيون.. إلخ، ليسوا
هم الأردنيين القدماء، ولا هم من احتلوا أرض الأردنيين الواضحة والمحددة
على مدار التاريخ، ولا كان سكان "الأردن الراهن" أردنيين تحت الاحتلال أو
تحت التبعية لهؤلاء عندما كانوا يحكمون هذه المنطقة، خلافا لما كان عليه
المصريون عندما خضعوا لغيرهم، ولما كان عليه الأندلسيون عندما خضعوا للعرب،
أو لما كان عليه الفرس والخراسانيون والغزنويون والطاجيكيون والسلاجقة
والبشتون وأهل السند.. إلخ، عندما خضعوا للعرب المسلمين.. إلخ.

وبالتالي فإن مناقشة الهوية الأردنية
والدولة الأردنية وربط نشأتهما بمرحلة تاريخية تبدأ باتفاقية سايكس بيكو،
لا يتعارض مع واقعة أن هذه البقعة الجغرافية التي أصبحت هي "الأردن" منذ
تسعين عاما، موجودة منذ القدم، وقد تناوبت عليها حضارات وثقافات وأمم
مختلفة، دون أن تكون هي "الأردن" بشكلها الراهن والحالي، بل ودون أن يكون
الأردن الحالي نتاجا تاريخيا طبيعيا تراكميا لما كان يحدث عليها في
التاريخ، لأن النتاج التاريخي الطبيعي التراكمي لما كان يحدث في الجغرافيا
التي اقتطعت منها هذه البقعة الت أُطْلِقَ عليها اسم "الأردن"، إنما تجسَّد
في "سوريا الكبرى" بصفتها هوية من الهويات الفرعية المكونة لـ "الهوية
العربية"!! الأمر الذي نعتبر معه أن أيَّ محاولة لربط ذلك التاريخ بهذا
المُنتَج الحديث، لتصوير أن هذا الأخير هو استمرار طبيعي لذلك القديم، هو
أبشع أنواع تزييف التاريخ التي يمكن أن يُقْدِمَ عليه إنسان.

إن اتفاقية سايكس بيكو التي ظهرت في عام
1916، وافتضح أمرها آنذاك، هي التي رسمت الدولة الأردنية على شكل إمارة
مُبْهَمة، وهي التي بدأت تؤسس للهوية الأردنية بشكلها الراهن. فالخرائط
الملحقة باتفاقية سايكس بيكو والتي حددت الأماكن والحدود السياسية للدول
التي قررت إنشاءها باللونين الأزرق والأخضر موجودة ويمكن متابعتها للتأكد
من دقة كلامنا، ولم يكن أيُّ شيء من ذلك التوصيف قبل ذلك التاريخ وقبل تلك
الاتفاقية له أيُّ وجود في الذهن التاريخي أو التطوري للإنسان الذي كان
يقيم في هذه الجغرافيا قبل أن تتشكل أردنيتها المعاصرة، بل هو كان ابنا
لسوريا الكبرى ضمن التقسيمات الإدارية التي كانت سائدة في الدولة العثمانية
ليس إلا، والتي لم يرد فيها أيُّ ذكر لا للأردن ولا لفسطين بمفهومها
الراهن سياسيا وقانونيا. لا بل إن بنود الاتفاق الذي أسفر عنه مؤتمر "أم
قيس" يؤكد هذا الذي نقوله بمنتهى الدقة، فقد جاء في ديباجة الإعلان الصادر
عن مؤتمر أم قيس ما يلي..

"نقبل أنْ تُشَكَّلْ حكومة عربيّة
وطنيّة مستَقلّة مركّبة من لواء الكرك والسّلط وقضائي عجلون وجرش، ونطلب
بشدّة وإلحاح تشبُّث الحكومة البريطانيّة بضم لواء حوران وقضاء القنيطرة
إلى هذه الحكومة، وتتمنّى أنْ يتبعها قضائي مرجعيون وصور تحت انتداب دولة
بريطانيا العظمى على الشُّروط التالية".. ثم توالت الشروط.

أليس واضحا إذن أن المؤتمرين في "أم
قيس" وهم خيرة من مثل سكان هذه البقعة من الأرض في تلك الفترة، وأشرف من
تحدث باسمهم وحاول حمايتهم من تبعات مؤامرة تلوح في الأفق، لما رأوا
معادلات غريبة لم يعهدوها ولا سبق لهم أن عرفوها تُفرض عليهم، وتحاول أن
تكرِّس مُكَوِّنات سياسية جديدة فيها ما يتعارض مع انتمائهم "السوري
الكبير" وانتمائهم "العروبي الأكبر"، بادروا على الفور بالمطالبة بضم أجزاء
أخرى من إقليم سوريا الكبرى إلى هذا الكيان الوليد، مما يعتبر حاليا ووفق
سايكس بيكو، أجزاء من لبنان وسوريا؟!

أم أن "الهوية الأردنية" التي يقال أنها
كانت موجودة منذ آلاف السنين، أي منذ بنى الأنباط مدينة البتراء، كانت من
ضمنها أقاليم "حوران" و"القنيطرة" و"مرجعيون" و"صور"؟! وهو ما قد يعني أن
علينا من باب الوفاء لهويتنا التاريخية نحن الأردنيين إذا صحت هذه
الأسطورة، أن نعتبر أن جزءا من الأراضي التي تمثل هويتنا الوطنية ودولتنا
الأردنية القطرية، يقع تحت سيادة لبنانية وأخرى سورية؟! فهل هذا صحيح، وهل
هو ما قصد إليه مؤتَمِرو أم قيس؟! أم أنهم حاولوا انتزاع ما يستطيعونه من
أراض سوريا الكبرى التي رأوها تتمزق وتتشلى أمام أعينهم إلى دويلات
وأقاليم، من تبعات سايكس بيكو، ليكون تحت سيادة وطنية يمثلونها، ليحرروه من
ثمَّ من تبعات تقاسم الانتدابين البريطاني والفرنسي لجغرافيا الإقليم
السوري، أو حتى ليكون لهم منفذ إلى البحر المتوسط كما يعتقد البعض، في ضوء
ما أوصلهم إليه اجتهادهم السياسي الذي نراه تقدميا، على قاعدة أن "حوران"
و"القنيطرة" و"مرجعيون" و"صور"، لم يكن لها في ذهن هؤلاء الرواد أيُّ صفة
تفرقها عن لواء "الكرك والسلط" وعن قضاءي "عجلون" و"جرش" من حيث
"الهوية"؟!

وأخيرا فإن ما نود لفت الانتباه إليه هو
أن مؤتمر أم قيس، جاء كردة فعل وطنية على سايكس بيكو، وعلى صك الانتداب
على فلسطين، والذي كان مرفقا بوعد بلفور ليكون تنفيذه من متطلبات ذلك الصك،
فيأخذَ طابعا شرعيا من عصبة الأمم آنذاك.. نقول.. إن مؤتمر "أم قيس" جاء
ليحمي أمرا واقعا يتشكل شرق النهر من مغبة أن يطاله ما يرسم له غرب النهر،
في تعبير عن وعي سياسي مرحلي دقيق بضخامة وخطورة المؤامرة. ولم يكن هذا
المؤتمر بأيِّ حال هو خالق "الهوية الأردنية" والمؤسس لها، بل هو فقط من
حاول أن ينقذَها، بعد أن رآها تتجسَّد أمامه كأمر واقع أصبح مفروضا على
سكان هذه الجغرافيا كلِّها كمُنتَج من منتجات وتابع من تبعات المؤامرة التي
مع الأسف نفذت رغم ذلك بسبب أن الذين جاءوا على أسنة الحراب البريطانية
إلى هذه الجغرافيا، جاءوا وأجندة المؤامرة محمولة على أكتافهم.

فهنيئا لوعي المؤتمرين في "أم قيس" في
ذلك الوقت المبكر من عمر هذا المولود المسخ الذي أرادوا أن ينقذوه من
مَسْخِيَّتِه، ففشلوا مع الأسف بسبب عمق المؤامرة التي نفذها الهاشميون،
بينما نغرق نحن بعد تسعين عاما في مستنقعات تبعات المؤامرة التي حاولوا هم
التخلص منها بذلك الذكاء السياسي وبتلك المطالب الجغرافية والإدارية،
لنعبِّر عن أبشع أنواع انعدام الوعي، هذا إذا افترضنا صدق النوايا ونزاهة
التوجهات أصلا.

إننا في واقع الأمر تآمرنا على مؤتمر
"أم قيس" وعلى مؤتمري "السلط" و"الكرك"، وعلى كل المؤتمرات الوطنية التي
عقدها الوطنيون آنذاك، وخذلنا كل الشرفاء الذين اجتمعوا فيها، وخرجوا بتلك
القرارات الهامة، لنتدثر بدل "أم قيس" التاريخية بعباءة "سايكس بيكو"
الإمبريالية الصهيونية الوظيفية. ومع ذلك نجد من يلوي عنق الحقيقة ويحاول
أن ينسب الإقليمية والقطرية والوظيفية التي أسبغت نوعا من القداسة
والتاريخية على الهوية الأردنية الحالية، إلى ذلك المؤتمر بعد أن انقلب هو
نفسُه – أي من يحاول ليَّ عنق الحقيقة – على روح مبادئه بتجاوبه مع متطلبات
سايكس بيكو الاستعمارية!!!

وكي لا يظن أحدٌ أننا نعتبر أن الدولة الأردنية والهوية الأردنية وحدهما
هما المسخ، وأنهما هما وحدهما المولودات الطفرة، فإننا نؤكد أن كل الزوائد
الدودية التي أنشأتها تلك الاتفاقية على أنقاض سوريا الكبرى هي مسوخ دول
وهويات، وطفرات ولدها السفاح التاريخي الآثم بين "هاشميي مكة" و"الاستعمار
البريطاني"، وعلى رأسها المسخ الأكبر الذي يجسد مفهوما توراتيا خطيرا ألا
وهو "فلسطين". فإذا كانت "الهوية الأردنية" خطرا ثقافيا شرخ بنيتنا
الذهنية، فـ "الهوية الفلسطينية" خطر أكبر، لأنها أعادت تشكيل الوعي العربي
والأردني والفلسطيني وفق الرؤية التوراتية للتاريخ، وهي الرؤية التي جاءت
اتفاقية سايكس بيكو وصك الانتداب وإعلان بلفور لنشرها وترسيخها وتكريسها.

الهويتان "الأردنية" و"الفلسطينية" إذن
هويتان طارئتان مصطنعتان، لا جذور تاريخية لهما بمعانيهما وبجغرافيتهما
وبديموغرافيتهما المحدَّدَة لنا كمقدسات أُريدَ لنا ألا نخرج عن معطياتها.
وبالتالي فلا قيمة لأيٍّ منهما في ذاتها كثابت أزلي يتم الدفاع عنه، مادامت
هذه أو تلك قد خُلِّقتا، وطُوِّرَتا، وتمَّ التلاعب بهما اليوم بهذا
الشكل، وبالأمس بذاك الشكل، ضمن إطار لعبة "لوغو الهويات"، لتمرير مشاريع
وظيفية إمبريالية صهيونية استعمارية في الأساس. ويجب بناء على ذلك أن
نتحرَّر من أي وهم قد يوحي لنا بأن مشروعنا النهضوي التحرري الوحدوي تابع
لهما أو أنه يتحدد في ضوئهما، بل إن العكس هو الصحيح. وعلينا من ثمَّ أن
نفهم جيدا أنهما هما اللتان تتبعان ذلك المشروع وتدوران مع متطلباته حيثما
دارت.

ومن هنا فإن أيَّ تقييم لهاتين الهويتين
ولأيِّ حقوق تترتب عليهما، لا تقاس بـ "من أنا ومن أنت" قبليا؟! ولا بـ
"ماذا سيبقى لي وماذا سيبقى لك" سلطويا؟! ولا بـ "من يحكم وبمن لا يحكم"
عصبيا؟! بل تقاس جميعها بمكانتها في مشروع النهضة والتغيير والتحرير. فأيما
حق مفترض ترتب عليهما يتعارض مع هذا المشروع من حيث عرقلته أو عدم الدفع
به إلى الأمام، ليس حقا بل هو باطل تتم الدعوة إليه لهدف آخر غير الحقوق
تحت غطاء الحقوق المدعاة، التي يجب عندئذٍ أن تعاد صياغتها وأن يعاد
إنتاجها على نحوٍ يتناسب كلَّ التناسب مع ذلك المشروع، وهو ما يعني من ثمَّ
أن نتحدث عن ذلك المشروع وعن مكوناته وعن محفزاته، ونضعها أمامنا
باعتبارها إستراتيجيات نُمَوْضِع الهويات والحقوق المترتبة عليها في المكان
الذي يناسبها من ذلك المشروع.

وإذا كان العنصران اللذان تحدثنا عنهما
في هذا المقال يؤسسان لسقوط فكرة الدعوة إلى حرمان الأردنيين من أصول
فلسطينية من حقوقهم السياسية وقصرها على المدنية منها، من ناحية الانعدام
الكامل للجذور التاريخية للهويتين الأردنية والفلسطينية، ومن ناحية التأكيد
على الشراكة الكاملة في التأسيس للهوية الأردنية الراهنة، بشكل يجعل كل
دعوة من هذا القبيل دعوة لا أساس لها سوى العصبية والقبلية والشوفينية
الرعناء والقائمة على الجهل بحقائق التاريخ والافتقار إلى التحليل العلمي
الموضوعي لدى الطرفين الأردني والفلسطيني على حدٍّ سواء، فإننا سوف نتبع
هذا المقال بمقال يؤسِّس لسقوط هذه الفكرة من ناحية القراءة المعمقة في
قرار فك الارتباط باعتباره المجسِّد الأقرب لهذه الدعوة المريبة، فانتظرونا