بسم الله الرحمن الرحيم
==========
جولة في عالم نملة (1)
(قصّة خيالية للأطفال الكبار)
{ حتَّى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون؛ فتبسم ضاحكا من قولها...}
سورة النمل: 19/18.
==========

كان من عادتي التّجوّل أيام العطل أو في أوقات الفراغ في إحدى حدائق مدينتي، فأستمتع بمناظرها التي تغري القلوب بالعودة إليها لأنك لا تستطيع أنْ تَمَلاَّها مرة واحدة و لا أن تملَّها مهما عدت إليها، يستهويك الهدوء المخيّم هنا، فما تسمع إلا تغاريد العصافير في معزوفة رائعة لم يضعها موسيقار فنان عبقري و لم تعزفها فرقة بارعة بل تؤديها كائنات رقيقة رشيقة؛ و تنظر إلى الأشجار الباسقات فيساورك شعور بالهيبة أمام جمالها و جلالها، و يرسل النسيم عليك أنفاسه المنعشة بعدما عبثت بأوراق الشجر و الحشائش فتحدث هذه همسة و وشوشة ترد بها في استحياء على تغاريد الجوق الصادح فتضطرب شقائق النعمان جذلى، و ينحني الأقحوان إجلالا و يتمايل الورد مبتسما في وقار و تهتز طربا عناقيد الآس البنفسجية المعلقة على الأشجار أو المنشورة على جدار الجنة الغناء و يأتيك أريج الورود و الزهور و لاسيما شذا الخزامي (لاوندة) تحمله أكف النسيم فيغمرك معه الهدوء و تسري فيك متعة الحياة ؛ و إذا حولت بصرك إلى أنواع الورود المتجمع عفوا في باقات طبيعية و مختلف الزهور المنثورة في فوضى جميلة، رأيت لوحة من الألوان الزاهية تدخل السرور إلى النفوس الكئيبة و يستجلب الأقحوان الأرجواني نظرك رغما عنك ؛ و ترى الفراشاتِ الصفراءَ فتحسبها زهراتٍ دبت فيها الحياة فتطايرت فوق زهرات أخريات، و النحلَ بطنينه يدندن نشوان من الرحيق فتراه يصعد إلى زهرة و ينزل إلى أخرى بلا كلل و لا ملل مترنحا ترنح السكران ؛ و السماءَ سقفا أزرق بهيجا يبعث في النفس شعورا بالرحابة و الاتساع بدلا من جو المدينة الخانق، و الشمسَ كإسكافي ماهر تنسج خيوطها الذهبية بين السماء و الأرض على منوال الأشجار و الأغصان فتغطي المكان بإزار متماوج بديع ؛ و أجلس أنا هنا وحدي الساعاتِ الطِّوال أتملَّى هذا المكان الرائع و أغمض أحيانا عينيَّ حالما أتنفس بعمق و أملأ كياني بالهواء النقي فيدخل أعماقي بهدوء حيث لا يجرؤ الخيال الجامح على المغامرة و الغوص فيها يطارد في ثبات و عناد الهموم في ثنايا قلبي و أعطاف نفسي فيطردها أو تهدأ أو تستكين.
و في ضحى هذا اليوم الربيعي من أيام أيّار (مايو) الجميلة و قد انسلخ نصفه اخترت مقعدا خشبيا منعزلا و جلست أمتع بصري بتلك المناظر الخلّابة، فأنا أحبّ الطّبيعة و يستهويني كل ما فيها مهما يُخَيَّلُ إلى الناس أنه ضئيل حقير لا قيمة له لأنني أرى في كل ما هو مخلوق قدرة الصانع جل جلاله و عظمته سبحانه و رحت في تأملاتي كعادتي و طرت في أجواء الفكر و خرجت بخيالي من الحديقة و تهت هكذا في آفاق سحيقة، و لم أرجع إلا على إحساس غريب كالدّغدغة على ظهر يدي اليمنى فحولت بصري إليها دون تحريكها فإذا بنملة صغيرة سوداء تدبّ الهُوَيْنَى على يدي كأنها فوق صخرة أو على شجرة.
ابتسمت و رفعت يدي بها لأنظر عن قرب هذه النملة الجريئة، واصلت هي دبيبها و لم تعبأ بي و لا حتى بالحركة التي رفعتها من على المقعد إلى أجواء عالية ؛ تفحصتها مليا ثم ككل مرة انفلت مني خيالي و راح يتصوّر أن النملة عاقلة و يمكنه محاورتها و التحدث معها ؛ فبدأت الحديث بالاستفزاز فإنه أنجع وسيلة لإثارة جدال حاد حتى و إن لم يكن جادا، قلت:
- ما أجرأك من نملة ! تمشين على يدي و لا تبالي ؟ أحسبتني شجرة أم صخرة ؟
نظرت إلي مستغربة، و قالت بثبات نملي:
- لا يا هذا، لم أحسبك شجرة و لا صخرة، فأنا أعلم أنك إنسان، إلا أنني أحببت التقرب منك لأحدثك لما رأيتك وحيدا ساكنا ساكتا، و لو لم ترفعني كما فعلت لواصلت صعودي حتى أصل إلى رقبتك و منها إلى وجهك حتى أكون أقرب ما أكون منك !
قلت و قد سرى الاستغراب فيَّ:
- و هل تعرفينني حتى تكلمينني أو تدوسين على يدي ؟ ما أجرأك من نملة ! ألا تخشين أن أسحقك؟ نظرت إليَّ و على محياها ابتسامة الاستغراب أو قل الاستحماق، ثم قالت:
- و هل من اللازم عليَّ أن أعرفك حتى أكلمك أو أقترب منك ؟ إن هذا عندكم يا بشر، فأنتم تعطون هذه الشكليات قدرا و تحيطونها بالتعظيم كأنها مقدسات، مع أنكم أنتم الذين اخترعتموها و وضعتموها لأنفسكم فضيقتهم بها ما وسع عليكم، و حصرتم تصرفاتكم في قوالب ألفتموها فصارت أغلالا في رقابكم و قيودا في أيديكم و أصفادا في أرجلكم يصعب عليكم التخلص منها، و أما نحن فإننا رفعنا الكلفة بيننا بل لا أذكر أنها وجدت بيننا يوما ما، فنحن نتصل ببعضنا و نتواصل فيما بيننا دون اعتبار لأي شيء سوى الأخوة، و إننا لنفشي التحية بيننا سواء أكنا نتعارف أم لا، و نحن اجتماعيون بالطبع! قالتها هكذا باعتزاز رافعة بها رأسها و يدها و صوتها و نظرت إليَّ فاحصة مستقرئة.
قلت في نفسي:" إنها لنملة عاقلة عالمة، فلأنتهز هذه الفرصة السانحة لأعرف ما يمكنني معرفته عن النمل فإنه قد لا تتاح لي فرصة أخرى معها".
ثم قلت بصوت عال: "لا تؤاخذيني على كلامي، إنما قلت لك ذلك لأمازحك فقط!"
فردَّت عليَّ بتخابث: "عجبا منك، تمازحني و أنت لا تعرفني ؟" فهمت قصدها، إنها ترد عليَّ كلامي السابق، فلم أستغرب تهكُّمها هذا بي، إنها بحق لنملة ذكية لبقة، فلم أرد على كلامها، و واصلت سائلا:" أخبريني عنك، أين كنت و إلى أين أنت ذاهبة ؟"
- خرجت من بيتي لأبحث عن قوتي و قوت عيالي، أقصد أخواتي، فنحن عيال لبعضنا، و منذ الصباح الباكر و أنا أجمع الطعام من مسافات بعيدة دون أن أتوقف حتى اللحظة".
قلت:" ما لك في هذا التعب كله و أنت الصغيرة الضعيفة ؟ تستطيعين التوقف و التخلي عن شغلك، و يمكنك الذهاب إلى أي مكان شئت لتتنزهي و تمرحي فأنا لا أرى معك حارسا و لا رقيبا يجبرك على العمل".
نظرت إليَّ مبتسمة و هزت رأسها مستنكرة، و قالت:" هذا منطقكم أنتم يا بشر، أما نحن فإننا أعطينا العهد على تنفيذ ما وُكِّل إلينا دون تردد و لا مناقشة و اقسمنا على التفاني و الإخلاص فيما نعمل، ثم إنني لا أسمح لنفسي أن أذهب لأمرح أو أسرح و أدع عملي و أنا أرى أخواتي الشغالات مثلي يتفانين في العمل، و يتنافسن في إتقانه، إن شرفي و ضميري لا يسمحان لي بذلك إطلاقا، حتى أنني لا أتصور أن أفكر يوما في التخلي عن واجبي أو التقصير في عملي، و لست في حاجة إلى حارس أو رقيب لتأدية شغلي، أين المروءة إذن ؟"
و تبسمتْ ضاحكة لما رأت علامات الاستغراب و التعجب تتطاير من رأسي تطاير الشرر من الموقد إذا نفخ فيه بعدما سمعتُ كلمة "المروءة" من فيها، شرفٌ، ضميرٌ، مروءةٌ (؟!!!) ما هذا كله؟
قلت في نفسي:"يا لها من نملة جادة و حازمة و مخلصة"، ثم رفعت صوتي مستفزا:" لعلك تبالغين فيما تزعمين، فها أنت الآن معي تحدثينني و قد عطّلتِ شغلك".
قالت بعدما حركت قرني الاستشعار في حركة مضطربة، فظننت أنني أصبتها في موجع، و لكنها كانت حركة تذمر و استياء من كلامي فردت بهدوء هو إلى التّهكّم أقرب منه إلى الحلم:" لقد جمعت منذ الصباح من القوت ما يكفي لعشرة أيام أو يزيد، فأنا كما ترى، و قد أخبرتك، لم أضيِّع وقتا منذ الصباح الباكر، و لكنّني لما رأيتك هنا وحيدا منعزلا أشفقت عليك فجئت لمآنستك قليلا، فإن كنت قد ضقت بي ذرعا فسأذهب فورا" ثم تحفّزت للنزول.
قلت معتذرا:" لا، لا، لا تنزلي، أرجوك، ما أردت إلا معاكستك فقط، فلا تذهبي، لقد آنست منك رشدا، و أريد أن أتعلم منك، فأنت بحق جديرة بهذا الدور الخطير و كم أود لو يسمعك الناس فيتعلمون منك المبادئ و القيم و الأخلاق الحميدة"، قلت لها هذا لأدغدغ الكبرياء فيها لتزيدني ثقافة.
قالت و قد أعجبها أن أصير، و أنا الإنسان سيد المخلوقات، تلميذا لها و هي النملة الصغيرة الضئيلة:" حسن، فلا تعد إذن إلى هذا المزاح السمج، فأنا لا أحب إلا الجد ...".
قلت مستأنفا قاطعا عليها زهوها:"لقد قلتِ لي إنك جمعت من القوت ما يكفي لعشرة أيام أو يزيد، فلماذا هذه الكمية كلها ؟ أأنت شرهة و نهمة إلى هذا الحد ؟ أدَبَّ إليكن أنتن أيضا حُبُّ التخزين و هواية جمع ما يفوق الحاجة من المئونة ؟ أما يكفيك قوت يوم أو ليلة ؟ لقد كنت أظن أننا نحن البشر الذين ابتلينا بهذا الداء العضال فقط و إذا به فيكن!".
- يصدق هذا إن كنت أنا من سيأكل وحده ما جمعت، إننا نتعاون فيما بيننا و نتكافل و نجمع القوت ثم نوزعه على أفراد المجموعة، ألم أخبرك أن لي عيالا ؟ و أننا حشرات اجتماعية ؟"
- نعم، أخبرتني، فأنت إذن قد تأخرت عن عملك و لا أراك إلا قد تعبت فأردت الجلوس إليَّ لتستريحي فقط، فلا تبرري تصرفك بما ليس بمرِّر !" و ضحكتُ منها لما تحركت مضطربة، ففتحت فكيها و عضتني عضة جعلتْ فيها قوتها كلها، فلم أحس إلا بوخز طفيف لا أثر له.
- يبدو أنك مصر على استفزازي، فأنا لا أحب أن أرمى بالخيانة أو أن يشك أحد في إخلاصي أو أن يتهمني بالكذب".
فقلت مصطنعا التألم:" أَيْ، لقد أوجعتني، ما أراك إلا نملة شرسة مفترسة، أهكذا يتعامل الاجتماعيون؟ أهكذا تجادلين ؟ لا، لا يا نملة !".
قالت و هي تحرك فكّيها بعصبية:" هذا جزاؤك، لقد حذّرتك و لكنّك أصررت على معاكستي و استفزازي".
قلت معتذرا و معترفا بخطئي لأهدِّئ من غضبها لعلها تزيدني من علمها الذَّري الواسع :" لا بأس و لا تثريب عليك، إنما أنا الجاني على نفسي، فهلَّا حدَّثتِني عن كيف ترون الأشياء و الناس؟"
صمتت برهة و هي تحرك قرنيها و تفتح فكيها و تطبقهما كأنها تبحث عن المفردات لتقرب إليَّ المعاني، ثم قالت:" إننا خلافا عنكم يا بشر، نرى الأشياء على حقيقتها و نقدرها قدرها، فنحن على صغر حجمنا، قد أوتينا وسائل نستطيع بها معرفة كثير من الأمور لا تستطيعون أنتم على قدركم و قوتكم إدراكها إلا إذا استعنتم بأجهزة تخترعونها".
- و كيف ذلك؟"
- إننا لصغر حجمنا نرى ما دقَّ من الأشياء و أنتم عاجزون عن رؤيتها، فلهذا نراكم تختلفون و تتجادلون في أشياء لا تحتاج منكم إلى هذه المجادلات و المخاصمات كلها لو أنكم تدركون الأمور و الأشياء على حقيقتها مثلنا"، و صمتتْ برهة ثم استأنفت متفلسفة:" من بعيد كل الأشياء تتشابه و في الظلام كل القطط سوداء كما تقولون، و نحن لصغرنا و قربنا من الأشياء نستطيع تمييز فروقها الدقيقة و خصائصها خلافا عنكم، فأنتم لبعدكم عنها لا تميزونها بدقة، و في ظلمة الجهل تلتبس عليكم الأمور".
قلت، و أنا متعجبا من حكمتها و مستغربا من جرأتها و مستعليا بعنادي البشري:" هذا صحيح إلا أن اختلاف الرأي حافز على طلب التحقق و المزيد من البحث و التقصي حتى يدعم كل واحد رأيه أو يرجع إلى رأي غيره إن كان مخطئا و غيرُه المصيبَ، فالاختلاف في الرأي ليس عيبا في ذاته إنما العيب في الغلظة و الفظاظة!" قلت هذا و أنا غير مقتنع به تماما فإن واقعنا البشري يكذبه أو يناقضه.
قالت:" قد يصدق هذا الذي تدّعيه إن كان المجادل نزيها و لا يهمّه إلا الحق و تجرّد من الهوى و حب الغلبة، أما إذا كان غير كذلك فإنه يصرُّ على التّمسّك برأيه و لو كان الخطأ نفسه، أولا تقولون "معزة و لو طارت" كمثال على التعصب للرأي مهما كان و لو كان خاطئا ؟".
أراها تحفظ حتى أمثالنا و أقوالنا لعل ذلك ناتج عن طول معاشرتها لنا في بيوتنا، ثم قلت:" بلى، و لكن ليس كل الناس كما تظنين".
قالت:" صدقت و لكن ما أكثر المتعصبين فيكم، أما ترى كل الحروب و الفتن بمختلف أنواعها و النزاعات الكلامية الحادّة و الصّاخبة و غيرها التي قامت و تقوم بينكم يا بشر ؟ أليست مبنيّة كلها على التعصب للرأي و الهوى و حب الذات و الأثرة ؟ إنكم تبنون على أفكار واهية و مزاعم كاذبة مواقف و تتعاملون على أساسها فيما بينكم ثم ما تلبثون حتى تجنون ويلاتها و تذوقون مراراتها، و كثيرا ما تحسبون أوهامكم حقائق ثابتة صحيحة !".
قلت:" لا أكتمك إقراري و لا أخفي عنك اعترافي بصدق ما تقولين، فأنت على حق بالتأكيد، فزيديني من أخباركن من فضلك، فأنا متشوق إلى معرفة المزيد من شأنكن".
- ماذا تريد أن تعرف ؟
- لست أدري بالضبط، و لكن قولي أي شيء عنكن.
- إن شأننا لعظيم لو يمكنكم معرفته و الاستفادة منه في تنظيم شئون حياتكم لكان خيرا لكم، فنحن كما تعلم حشرات اجتماعية منظمة، و قد جُبِلنا على ذلك فلسنا في حاجة إلى مخترعات أو تخطيط أو تنظيم غير ما نحن عليه طبيعة، فلما كُفِل لنا ذلك كلُّه اتجهنا بكل قوانا إلى العمل بجد و حزم و عزم.
- طبعا، طبعا، إنكن مجرد آلات صغيرة مضبوطة لا يمكنها أن تفكِّر أو تدبِّر، بل هي تنفذ فقط، فقد كفيتن مئونة التفكير و المشقة التدبير، فأنتن مبرمجات بدقة، أما نحن البشر فقد تحمّلنا مسئولية عظيمة تنوء بحملها الجبال الراسيات، و قد أبت السماوات و الأرض و الجبال أن يحملنها و أشفقن منها(2)، فلــ.... فقالت مقاطعة و هي تبتسم:" ذلك لظلمكم و جهلكم" و تركتني أواصل حديثي، فقلت دون أن أرد على تهكمها:" فلهذا نختلف و نتخاصم، لسنا مثلكن مجرد آلات مبرمجة لا تعي و لا تعقل" نظرت إليَّ شزرا كأن كلامي لم يعجبها، أو كأنها وجدت فيه استصغارا أو استحقارا، ففتحت فكيها تريد عضي مرة أخرى، ثم و كأنها غيّرت رأيها إشفاقا عليَّ، أو هكذا خُيِّل إليَّ.
قالت:" كأنك تعرِّض بنا و تحقِّر من شأننا، آهٍ منكم يا بشر، ما أظلمكم و ما أجهلكم، لو أنك أعملت الفكر في مملكتنا، أسمعت؟ و أعادت الكلمة تمط بها فكيها و تفصل بين مقاطعها: ممــ لـــــ كــ تنا، و تدبّرت في شأننا لرأيت العجب العجاب، و لكنني أراك كغيرك من البشر قد جُبِلت على الغرور و لا يمكنني البقاء معك، فأنزلني من فضلك و إلا قفزت !" و صمّمت على الفعل و الاستياء بادِ على سحنتها.
قلت:" لعلك استأت من صراحتي مع أنك صريحة و جريئة إلى حد كبير، فلهذا لا أنزلك حتى تبيني لي ما أريد معرفته ثم أدعك تنصرفين بسلام".
قالت بعد تردد:" قل لي عماذا تريد أن أحدثك و أسرع، فقد طال مكوثي معك و بقي علي من العمل الشيء الكثير و لا أريد أن أتأخر عن صواحبي، فأوجز من فضلك يا أخي؟"
قلت في نفسي:" أخوها (؟!!!) إنها تراني نملة أو حشرة مثلها، لم يبق إلا هذا، ثم و بصوت عال:"قلتِ لي إنكن مملكة منظمة، فكيف ذلك؟"
- نعم، بالتأكيد، قلها و لا تخف، و سأبيِّن لك، إلا أن هذا الموضوع قد يطول بنا لو تناولناه بالتفصيل و لذلك فسأوجز لك ما استطعت، يكفيك أن تعرف أننا مقسمون فرقا و زمرا، كلٌّ قد أسندت إليه وظيفة أو مهمة قد عرفها و ندرب عليها حتى أتقنها، فهو موَّكل بها لا يحيد عنها أبدا، فلكلنا عمله و هو مجزي عنه، فإن بدّل أو غيَّر فإنه يتعرض للحكم الصارم: القتل بلا تردد، و نظرت إليَّ تستقرئ وجهي لعلها تلمح استنكارا أو تعجبا، و كيف أتعجب من قانونهن القاسي هذا و هي التي عضتني قبلا لسبب تافه، عضتني أنا الإنسان القوي فأنَّى لنملة ضعيفة مثلها أن تخالف القانون و لا تُقتل؟".
و لما لم تلاحظ شيئا واصلت كلامها قائلة:" عندنا ملكات نحبها و نحترمها و نطيعها، فهن اللواتي يضعن البيض و يضمن لنا بقاء النوع، و عندنا الجنود الذين يحرسون الملكات و المملكة، و عندنا الحاضنات، نعم الحاضنات، أعادتها علي مؤكدة و هي تهز رأسها لتقنعني كأنها استشفت الاستغراب الذي بدا عليَّ، فهن اللواتي يتكفلن بحفظ البيضات و رعاية اليرقات، و يرضعن صغارنا بالمواد السكرية التي تفرزنها، و عندنا الشغالات و هن الأكثر عددا إلا أنهن عواقر (عاقرات) فهن اللواتي يتكفلن بجمع الطعام و تخزينه، (فنملتي هذه إذن عاقر قلتها في نفسي فقط) و لدينا مخازن نضع فيها ما نجمعه من القوت و الطعام ندّخره لأيام القَرِّ و المطر، فنحن زيادة على التغذي بما نجمع من حبوب فإننا نتغذى كذلك على السوائل النباتية و الحيوانية !"
قلت:" أخ...خ...خ !" فلم تُعر تقزُّزي اهتماما و لعلها قالت في نفسها:"ما بالك تتقزز من غذائنا ما دمنا نستلذ هذا ؟ و لو أنك تعلم ما يأكله بنو جنسك لما تقززت؟" ثم أردفت قائلة: "و هل تعلم أننا لما نجمع حبات البُّر(القمح) نقسمها بشكل خاص حتى لا تنبت داخل مساكننا فتحطمها ؟ فكلنا يعمل كما سمعت في اختصاصه، و نتكافل فيما بيننا كما أخبرتك من قبل، فلا مكان للأثرة و التمركز حول الذات عندنا، لسنا عقلاء مثلكم".
فوَّتُّ عليها سخريتها هذه و قلت:" لقد قلتِ إن عندكم ملكات، فلماذا ملكات و ليس ملكة واحدة كما عند النحل؟ هل تحببن أنتن كذلك الحكم و الكراسي و التّسلط فعددتن الملكات إرضاءً لشهوتكن في الحكم و التّحكّم ؟" قالت و هي تبتسم ابتسامة الأستاذ المتفهم المتسامح و الشفيق على تلميذه:" لا ! ليس الأمر كما توهمت، إن النظام عندنا يختلف عن نظام جاراتنا النحل، فنحن لكثرة أعدادنا في المعسكر الواحد، فقد نصل إلى مئات الآلاف، قد توزعنا إلى فرق و على رأس كل فرقة ملكة، أسميناها كذلك تجاوزا، -(؟!!!)- حتى نقتسم المسئولية فلا نجمعها كلّها بين يدي ملكة واحدة، كي لا تطغى، و حتى تسهل مراقبة المعسكر كله و متابعة الأشغال و معاقبة المقصرين ؛ ثم إن هذا نظامنا الخاص و نحن نعتز به و لا نرضى من دونه بديلا و لا حاجة لنا في نظام غيرنا و إن بدا أرقى من نظامنا!".
قلت في نفسي:"هذا اعتزاز و إلا فلا !" ثم قلت:" إنني أتفهم اعتزازكن بنظامكن الخاص و لكن لا يضيركن لو استفدتن مما عند الآخرين إن كان يفيد، و مع هذا يا لكن من مخلوقات عجيبة ! إنكن لجديرات بالاحترام و التقدير، و إننا لجُدراء بأن نتأسى بكن، أأنتن هكذا على هذا النظام المحكم و الانضباط الصارم؟ و على صغر حجمكن ؟" قلت لها ذلك لأغريها بالثناء الحسن و التقدير المفرط حتى تسترسل في حديثها و قد أفلحتُ.
قالت بعد ما راق لها ثنائي و أعجبها إطرائي، فحركت قرنيها من الفرح:" نعم، نعم، نحن هكذا بل أكثر".
قلت:"أكثر ؟!!! و هل هناك أكثر من هذا كله ؟" ؛ قالت مزهوة:" نعم، إننا و مع كثرة أعدادنا كما أخبرتك آنفا، و اختلاف أجناسنا و تعدد معسكراتنا، مساكننا، يعرف بعضنا بعضا بلا خطأ و لا أدني شك أو ريب رغم تشابهنا الشديد".
قلت:" و كيف يكون ذلك؟".
قالت:" إن لدينا إشارات و علامات يستطيع نمل مملكة أو معسكر ما التعرف بها على بعضهن، نوع من "الكود" يعني. قالتها هكذا بالأعجمية، فلم أحر كلاما من المفاجأة أو قل الصدمة، إلا أنني قلت في نفسي:" حتى أنت يا نمل قد دب إليك هذا الداء الخبيث ؟ تتكلمين بالأعجمية ؟ عجيب !" أما هي فواصلت حديثها دون أن تشعر بما حدّثت به نفسي و أنَّى لها أن تعرف أو تشعر؟".
و واصلت:" فإن حدث و أخطأت نملة من مملكة أخرى و لم تعلم كلمة السر، أقصد إشارة السر، فاقتحمت الحمى أو تسربت داخل المساكن قتلناها بلا تردد، هذا إن لم تفر بجلدها كما تقولون أنتهم". قلت في نفسي:" إن هذا النمل لـ "دموي" الطبع، لا يتكلم إلا عن القتل، و الفتك، ما هذا العنف كله ؟ أما هناك من وسائل رادعة أخرى غير القتل ؟ إلا أنني أحببت مواصلة الحديث معها لما لاحظته فيها من ثقافة واسعة فهي زيادة على ما تعرفه عن جنسها و عن غيرها من الحشرات تعرف اللغات الأعجمية، و تعرف حتى طبائعنا و كلامنا و أمثالنا، إنها لنملة مثقفة حقيقة.
قالت و كأنها عرفت ما جال في ذهني عن قانونهم القاسي:" لعلك فزعت من قانوننا الصارم و لاحظتَ أن العقاب عندنا لا يقل عن القتل كلما خالف الأوامر و التعليمات مخالف؟".
قلت:"نعم، إنه قانون صارم بل هو قاس جدا حقيقة، أما يمكنكن تبديله أو تغييره حتى يتماشى مع رقتكن و لطافتكن؟" .
قالت:" لو أننا تساهلنا أو ترددنا في تطبيق القانون لدبت الفوضى إلى مملكتنا، و للحقنا الخراب و الدمار، فلا بد من قانون صارم يطبق على الجميع بدون تمييز، فالقانون عندنا فوق الجميع فعلا، فنحفظ حياتنا جميعا، لسنا "عقلاء" مثلكم" ثم أردفت بعدما أخذت نفسا و تركتني أتأمل قولها أو أتعجب منه:" لقد قلت لك إننا منظمات في فرق شتى كل قد عرف دوره و هدفه فلا يمكننا التبديل و لا التحويل و لا حتى التعديل دون أن نتعرض للعقاب الرادع، فنحن عالم منظم بدقة و لا تستطيع إحدانا، حتى لو كانت ملكة، تغيير برنامجنا دون إذن، بل لا إذن أبدا، فكلنا يتفانى في خدمة المجموعة، و لهذا ترانا قد رضينا بمهامنا و قبلنا القانون الصارم ما دام يعود علينا جميعا بالنفع و يحفظ أممنا و سلامتنا، و لذا ترانا نعمل بجد و إخلاص على الدوام، فلو اطَّلعت على نظامنا الاجتماعي لما استنكرت صرامة قانوننا، إن علاقاتنا الاجتماعية، من زواج و رعاية الصغار و إطعامهم و توزيع الوظائف و الحفاظ على النظام، معقدة جدا، الأمر الذي يحتم علينا وضع قانون دقيق و صارم لحماية النوع، فالنمل يُعمِّر طويلا، فالملكات مثلا قد يعمرن خمس عشرة (15) سنة و أما الشغالات مثلي فلا يعمرن إلا قليلا من أربع إلى سبع سنوات".
قلت:" مسكينات أنتن الشَّغالات، قد أرهقكن طول الاشتغال فتمتن مبكرا" فلم تعر تهكمي اهتماما و واصلت قائلة:" و هل تعلم أن من بيننا من يتخذ له العبيد من أنواع أخرى من النمل الضعيف ؟ و نسمح للغرباء من أنواع أخرى من الحشرات، كالمَنِّ مثلا، بالإقامة في مساكننا علامة على الكرم و حسن الضيافة ؟" .
قالت هذا لتفتخر أمامي تستحمقني، أما أنا فأعلم أن هذا "الكرم" لسبب آخر، تبادل مصالح فقط، فالمَنُّ يساعدها في الحراسة فهو مرتزق من المرتزقة : إيواء و إطعام مقابل حماية، فكيف تكرم غيرها من الحشرات و تستعبد بنات جنسها ؟".
فقلت لما أطالت عليَّ بافتخارها و راحت تعرِّض "كتِفيها" أمامي مزهوةً، فأحببت "تبريدها":" تقولين "الكرم" و حسن الضيافة ؟ ألم تسمعي المثل الذي يضرب عنكن:"أبخل من نملة" ؟ هههه، يا لكن من كريمات !".
نظرت إليَّ بحدة و أرادت عضي مرة أخرى ثم عدلت عن نيتها، لقد أدركت بفطنتها الكبيرة أنني لم أعد أخشى عضها، فقالت و قد كتمت غيظها:" إن المثل يقول:"أحرص من نملة" يا مثقف!"
قلت:" الأمر واحد حرص أو بخل، و ما الحرص إلا مقدمة البخل" ؛ ثم غيّرت من خطتي في استثارتها و تطييبا لخاطرها قلت و قد بدأ رأسي يدور من ثرثرتها و معلوماتها:" ثم ماذا؟".
قالت و قد سكت عنها الغضب:"إننا نخرج و نسير إلى أماكن نائية بعيدة عن مساكننا ثم نعود إليها دون أن نخطئ السبيل، أما رأيت النمل حين يسير متسلسلا و هو يحمل أثقالا تفوق وزنه و حجمه أضعافا مضاعفة يلمس العائد منا الذاهب في حركات خفيفة بقرني الاستشعار؟".
قلت:"بلى ! فما ذاك ؟"
قالت:"إننا إذا وجدنا طعاما و سرنا إليه زرافات فإن كل واحدة منا تخبر أختها عن مكانه و تدلها على الطريق إليه بلغتنا".
قلت:" وا عجبا منكن، أعلى صغر حجمكن و شدة ضعفكن تملكن هذا كله و تتصرفن هكذا ؟ لو لم تخبريني بنفسك لما صدقت أنكن منظمات بهذا الشكل و هذه الدقة".
قالت باعتزاز كأنها استلذّت حديثي و راقها إعجابي و إطرائي فأرادت المكوث معي بعدما كانت متعجلة لمغادرتي، حتى النمل يعجبه الإطراء و الثناء الحسن و يغريه التقدير:" و لدينا مزيد، لو أردت أن أخبرك لفعلت".
قلت:"حسبي هذا اليوم، ربما في فرصة أخرى إن أردت، فهل نتواعد على اللقاء؟".
قالت و قد ساءها عدم رغبتي في مواصلة الحديث، لأنها، حسب ملامحها، لم تفرغ ما في جعبتها بعد، و كانت ربما تودّ تحديثي عن العلاقات الاجتماعية الأكثر دقة ككيفية تكثير العدد، الحفاظ على النوع، و خروج الملكات رفقة الذكور في أسراب للتزاوج، و موت الذكور في التيه، و عودة الملكات مخصباتٍ إلى المساكن و غيرها من الأمور، إلا أنني و قد تعبت ساعتها من الاستماع، فضَّلت تأجيل بقية الحديث الاجتماعي جدا جدا إلى فرصة أخرى:" قد نلتقي، و لكن كيف ستتعرف عليَّ أنا بالذات ؟ فأنت لا تملك وسيلة تعرفين بها كما نعرف نحن بعضنا ؟".
قلت:"صدقت، و لكن يكفيك أن تذكريني بحديثنا هذا فأعرفك فورا، فنحن نملك ذاكرة يمكننا بها استحضار ما مضى من أحداث و ما ليقنا من أشياء و أشخاص، و...".
قالت مقاطعة و قد غاظها تعريضي هذا بها:" نعم، نعم، أعرف أن لديكم هذه الملكة أو القدرة التي ليست عندنا، فنحن مبرمجين كما يحلو لك قوله، فلهذا لا يمكنني أن أتذكرك، و لكنك إن أردت معرفة المزيد عن عالمنا فما عليك إلا بالاتصال بإحدانا فتجيبك عن أسئلتك بلا تردد و لا تحفظ تماما كما فعلتُ أنا اليوم، فإننا لا نكتم العلم و ليس لدينا أسرار نخاف عليها فنخفيها، ثم إن الذاكرة التي تتبجح بها علينا لو امعنت النظر فيها لوجدتها نقمة عليكم ما دمتم لا تحسنون استعمالها و ما دمتم لا تستفيدون منها كما يجب و إلا لما أصابتكم كل تلك الويلات عبر الزمن!".
أنزلتها بهدوء و حططتها برفق على الأرض بعدما شكرتها على درسها المفيد و صبرها الكبير و سعة "صدرها" معي، فردت علي بإشارة خفيفة من قرنيها و ابتسامة عرضة على محياها ثم مضت تدب في وقار و اختفت بين الحشائش.
سمعت وقع أقدام على الممر المجاور في الحديقة، ففتحت عينيَّ فرأيتُني جالسا في مكاني على المقعد الخشبي و نظرت إلى يدي اليمنى فلم أر للنملة أثرا، فقد أخذتني غفوة لذيذة من فرط الهدوء و السكينة فحلمت ذلك الحلم الطويل الغريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتبت هذه القصة الطريفة عام 1998 و كان عنوانها الأول "حديث مع نملة" و قد كنت حضّرتها لتنشر في مجلة أطفال لكنها لم تنشر ثم نسيتها في أرشيفي إلى اليوم، فهي تظهر لأول مرة و لكل كتاب أجل أو لكل أجل كتاب، و أنا أرجو من كل من يقرؤها فيلاحظ خطأ أو سوء تعبير فليرشدني إليه و له مني جزيل الشكر سلفا.
(2) اقتباس من الآية الكريمة 72 من سورة الأحزاب:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُو
مًا جَهُولًا}.