جيمس بوند...بقلم آرا سوفاليان
في الماضي كان الطريق من جرمانا الى ساحة الأمويين يستغرق عشرون دقيقة بالمتوسط أو أكثر قليلاً...واليوم يستغرق ساعتين على أقل تقدير...العرقلة وأزمات المرور مسألة عادية ولكنها غير عادية اليوم في أحوالنا الغير عادية... وتصبح أكثر بكثير من غير عادية بسبب وجود من يسهم في تأزيم الأمور عن عمد أو عن جهل.
عايشت المرور وانفراجات المرور وازمات المرور في العديد من دول العالم وفي القارات الثلاثة، ولاحظت ما يلي:
في اوروبا بالمجمل تقف السيارة في وسط الطريق ويفتح السائق ضوء الاشارة اليساري مثلاً فلا يتجاوزه أي مخلوق من جهة اليسار حتي يلتمس حاجته ويمضي في طريق...فالذي يتمكن من أخذ جهة اليمين يفعل، والذي لا يتمكن يبقى خلف السيارة المتوقفة حتى تذهب في سبيلها فيتابع بعدها، وهذا قمة التحضّر، اما في بلادنا فإن كل اشارات السيارات على كوكب الأرض وعلى الكواكب الأخرى لا تعني للسائق السوري شيئاً...فتكون خلف مقودك "وعين الله عليك" لتكتشف أنك وسيارتك ورقة في مهب الريح...عشر مرايا ثابتة او متحركة لا تعطيك أي فكرة صحيحة عن خصمك أو عدوك ولا يمكنك ان تتوقع أي شيء لأن كل توقعاتك أيضاً تذهب في مهب الريح...سيارة من اليمين وأخرى من اليسار وواحدة تطير من فوقك وواحدة تغوص من تحتك وبالمصادفة تجد عشرة يقطعون الشارع باسلوب انتحاري من امامك ومعهم نساء وأطفال منهم سائر ومنهم مسيّر ومنهم محمول ومنهم راكب وعشرة آخرون بعكسهم.
ان احترام المسير بالأرتال المتوازية يقي من الحوادث ويقللها الى ما يقارب الصفر ويساهم في حل مسألة الازدحام وخاصة في ظروفنا الحالية حيث لا يمكن أن نسير بغير سرعة السلاحف وبالطبع فإن المشاة يصلون الى وظائفهم أسرع من الراكبين وأرخص...الارتال المتوازية إن بقيت متوازية فإن ذلك سيؤدي الى تخفيض العرقلة الى حدودها الدنيا، وفي الزاوية الحرجة فقط وعند المفرق يمكن للسائق ان يستعمل الاشارة وينعطف، وفي حالاتنا فإن السائق الذي يريد ان ينعطف الى اليسار مثلاً فإن محاولاته تبدأ ليس من النقطة الحرجة بل من بداية الشارع، يشعل اشارة اليسار ويمد يده ويترجى ويكسر ويحاول فيكسرو ضده و"يضربوه بالزمور عل عينه"...وبعد المحاولة رقم 20 والكل لا يفسح الطريق له يصل الى النقطة الحرجة ويأخذ اليسار بأسهل الطرق، وكان عليه ان لا يشقى في سبيل ذلك فيترك هذه المعاناة حتى يصل الى للنقطة الحرجة، أما اسلوب الكسر والطحش والعنفصة على الناس والشتائم والمحاولات فهو لا يؤدي الى أي نفع، بل يؤدي الى ارهاب الناس والفشكلة في الشوارع والتهديد والعرقلة والحوادث والشتائم وقلة الأدب.
في لبنان العرقلة تؤدي الى المسير البطيء ولكن بدون توقف أما العرقلة عندنا فهي تؤدي الى التوقف وإطفاء محرك السيارة حتى يتصالح العرب، وخاصة في الطريق ذو الاتجاهين حين يهجم ميكرو على رتل الخصم ويتبعه آخر ثم آخر وتصطف السيارات في جبهة حرب وهي متواجهة كقطيع التيوس، ويتعطل الذهاب والاياب معاً ونتوقف ثم نطفيء المحركات أيضاً حتى يتصالح العرب.
اليوم وضع الله في طريقي سائق هونداية سمج وسيء الخلق الى ابعد درجة...كان يستغل السانتي متر ويهجم على الناس، وقد خفت منه لأن سيارته هي بقايا سيارة "مشحرّة مطيّنة مزبلة صدئة على الآخر، ويمكن ان تكون علبة سردين معفنة لا يخشى عليها أبداً، وهو يعرف هذه المزية فيرعب كل السيارات ويطحش عليها ويده على الزمور... وانا دوما في جهة أقصى اليسار لكي لا أكون مهدداً إلاَّ من جهتي اليمنى لأن المنصف لا يهدد أحد، وصاحبنا الى يميني، وفي كل مرة يشعر أنه مغدور مع الدولة يطحش ويمد يده وينزل في مسافة الأمان التي اتركها أمامي فيرعبني ويفعل هذا مع غيري، وإذا تلكأت ولم اتوقف وافسح له أسمع شتيمته تصل اليَّ...فإذا شعر من جديد انه مغدور مع الدولة في هذا الرتل اليساري وان الرتل الأوسط أسرع وأشهل اعتدى على السيارة التي على يمينه ونفذ الى الرتل الأوسط وهكذا دواليب الحظ، وكانت لا تمضي دقائق إلاّ وأراه على يميني من جديد، وتوقفنا على إشارة مصلبة المجتهد ننتظر القادمين من الميدان ثم الواصلين من البرامكة وهو متشنج ويزورني ويشتم ويمجّ سيكارته ويعبّ الدخان بغضب لأنه على موعد مع أوباما ومع الكونغريس ونحن أنا وغيري بسذاجتنا لا نعطيه الفرصة ولا الوقت الكافي ليصل الى موعده، ومد الشرطي يده وامرنا بالتقدم لأن الكهرباء مقطوعة والإشارات متوقفة، فوضع جيمس بوند قدمه على دعسة البانزين و"عطاها عل آخر" ليتجاوزني ويثبت لي أنه خارق حارق و "مو شايفني ولا شايف حدا" وفجأة تقع كرتونة من مجمل حمولته على الاسفلت بعد ان انطلق "من دين عزمو" ورأيت ملصق على الكرتونة عليه اسم المرسل واسم المرسل إليه فعلمت ان جيمس بوند يعمل لصالح شركة شحن وأن الطرد هو لتاجر او لمواطن ينتظره على أحر من الجمر خاصة وان كل الطرود هذه الايام لا تصل الى المرسل اليه...ولحقته حتى اعلمه بالأمر ووصلت اليه فكسر على اليسار يحاول اخافتي، فأشرت له ان يتوقف فرفع رأسه الى الأعلى رافضاً وظنّ أني سأشتمه، أنزلت البلور اليميني وقلت له توقف، فرفض وظن أني سأرد له الشتيمة بأخرى أو أني سأبصق عليه أو سألقي عليه محاضرة في الأدب، أشرت له بلغة الصم والبكم، ان هناك كرتونة وقعت من سيارته، فلم يفهم، رجوته ان يتوقف فقط ويكلمني، فوقف أخيراً، فقلت له وقعت كرتونة من حمولتك على الاسفلت أرجع لتأخذها رأيت الشرطي في المرآة يضعها امامه على المنصّف...وعند ذلك فهم الرجل سبب مضايقتي له لمرة واحدة مع انه لم يألو جهداً في مضايقتي ومضايقة غيري عشرات المرات...قال لي: كيف سأترك سيارتي وأرجع اخاف على البضاعة التي في سيارتي أيضاً...وارتفعت الزمامير من خلفي فتقدمت ووضعت سيارتي امام سيارته ونزلت وقلت له: اذهب سأبقى هنا لأحرس سيارتك ريثما تعود...وركض الرجل وعاد يحمل الكرتونة ووضعها مع رفيقاتها وجاء ليشكرني وقال لي : الله يجزيك الخير...قلت له لا بأس عليك ... ولكن هذه دعوة واحدة مقابل سيل من الشتائم طول الطريق وهذا ظلم يا مولانا إن الدعوة الواحدة لا تمحو ألف شتيمة أليس كذلك!!!...قال لي: ماذا أفعل؟ قلت له: اسحب كل شتائمك، قال: كيف؟ قلت له قل: أنا أعتذر وكل شتائمي مسحوبة...فقال: انا أعتذر وكل شتائمي مسحوبة ...قلت له: كل الشتائم الموجهة لي ولغيري...قال: كل الشتائم الموجهة لك ولغيرك...قلت له: سماح والله يبارك فيك "تعال نفتح صفحة جديدة" ولكن الملاحظة المكتوبة خلف سيارتك يجب ان تكتبها أمامك على التابلو لتتذكرها في كل لحظة وتعمل بموجبها...قال لي: أي ملاحظة؟ قلت: كرمال النبي صليّ على النبي.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 26 12 2012
arasouvalian@gmail.com