أسامة عكنان
(الرجاء قراءة هذا الموضوع بترو وتمعن وتدقيق، ففيه من الحقائق المثبتة من المستندات والوثائق الرسمية للحكومات ما يشيب لهولها الولدان)
ما يقدمه الاقتصاديون عادة لا يخرج عن دائرة الاجتهاد، ولا يرقى إلى المرتبة العلمية، خاصة في بلد مثل الأردن. وليس هناك من تعريفٍ أقرب إلى وصف حقيقة معظم المحللين الاقتصاديين الأردنيين، من ذلك الذي يعرِّف رجل الاقتصاد أو الخبير الاقتصادي الأردني، بأنه الشخص الذي سوف يخبرك غدا لماذا ما تَنَبَّأَ به بالأمس لم يحصل اليوم. من جهة أخرى فليس هناك مَنْ يُتقن فَنَّ التلاعب بالأرقام ليرسم بها لوحةً اقتصادية مُمعِنَةً في تضليل الرأي العام في بلد ما، من تلك الفئة المتربعة على عرش القرار الاقتصادي في الأردن، والتي تستخدم فِئَةَ محللين مأجورين يعبثون بالكثير من النسب والأرقام الخام لاستقراء النتائج والاتجاهات العامة للاقتصاد الأردني.
ليس الشعب مُجرد واحدٍ من الأركان الأساسية التي تقوم عليها الدولة، بل هو الركن الأهم من بينها، لأنه في الواقع مالك الإقليم، ومانح النظام مشروعيته من حيث المبدأ. وإذن أفليس هذا كافياً لأن يَمتلك هذا الشعب الحقَّ الكاملَ في المعرفة التفصيلية والدقيقة بكل ما يفعله النظام الذي يُفترض أنه صانعه ومبرر شرعيته على الأرض التي يفترض أنه مالكها وصاحب الحق المطلق في التصرف فيها؟!
سنتخذ من هذه الفذلكة البديهية، حُجَّة نعتبرها كافية لعرض ما يُمكن عرضه من تفاصيل تَهُمُّ الشعبَ الأردني، ليحكم بنفسه على فظاعة ما يحدث في أروقة النظام الذي منحه ثقته كي يقودَه ويُخطط له، بدءاً من النواب الذين انتخبهم وأُوهِمَ بأنه اختارهم، ومرورا بالحكومة التي تَعَوَّدَ دائما على أن تُفرض عليه من غير رغبةٍ منه أو حقٍّ له في الاختيار، وانتهاءً بمؤسسة العرش التي لا تُسْأل عما تفعل، مع أن غيرَها لا يفعل ما لم تأمره به. ونتجاوز هنا الحديث عن دور “السلطة القضائية”، لأنها ليست أكثر من سلطة عمياء صماء بكماء، تتحرك على هامش مُخرجات النظام الفاسد نفسِه.
بعد حوالي عقدٍ ونصف على بدء العمل ببرنامج التصحيح الاقتصادي الذي تقدم به كوصفةٍ علاجية لاقتصادٍ مُنْهكٍ، صندوقُ النقد الدولي، لا بهدفِ تَحقيق النمو الاقتصادي، بل بهدفِ إحداث تغييرات هيكلية في بُنية الاقتصاد الأردني.. نقول.. بعد مرور هذه المدة الطويلة بل ربما قبلها، بدأ المنظرون الاقتصاديون الأردنيون من رجالات السلطة، يُروجون إلى أنه كان برنامَجا انكماشيا وأنه لم يكن يملك وصفة سحرية خاصة للنمو، وأنه لم تكن لديه توصيات مُحددة من شأنها تنشيط الاقتصاد والإسراع في نُموه، أو على الأقل في إيقاف تدهوره وانحداره الذي شهده في مطلع التسعينيات من القرن الماضي..
لا بل إن هؤلاء المنَظِّرين تذكروا الآن وعلى نحوٍ مفاجئٍ، خلافا لكل تنظيراتهم السابقة عندما كانوا يدافعون عن هذا البرنامج في تلك الحقبة المريرة من تاريخ الأردن، “أن خبراءَ صندوق النقد الدولي كانوا ومنذ أن طالبوا الأردنيين بالتصحيح، قد اعترفوا بهذا العجز المزمن الذي ينطوي عليه برنامج التصحيح، مطالبين الحكومة الأردنية بأن تتلمَّسَ طريقها نحو النمو بأفكار خَلاَّقة!!”.
وإذن فَلِمَ كان التصحيح أصلا إذا كنا بعد مرور أكثر من عقد ونصف على البدء بانتهاجه، قد اكتشفنا فجأة أنه برنامج انكماشي وغير تنموي من حيث المبدأ؟!
ومع ذلك فسنقبل بهذا الشِّر، ولن نناقشَ المسألة من هذه الزاوية، بل من زاوية أخرى ستتضح في سياق هذا التحليل.
لقد دعا برنامج التصحيح إلى تشجيع الاستثمار، وإلى إعطاءِ فرصةٍ للقطاع الخاص كي يدليَ بدلوه في الاقتصاد الأردني، وإلى تَحرير التجارة، وهي بالمناسبة المطالب الطبيعية والدائمة لكلِّ مؤسسات الاقتصاد الرأسمالي التي تريد ربط اقتصادِ كل الدول في العالم الثالث بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الإمبريالي في مراكز رأس المال العالمي، بشكلٍ يرسِّخ تبعيتَها ويعمِّقُ انضمامَها إلى خندق الموالاة للعلاقات الإمبريالية في العالم. وهذا ما حصل في منطقتنا العربية التي منها الأردن بعد “تفاهمات واشنطن” التي أعقبت انهيار “الاتحاد السوفياتي”.
ومع ذلك فإن كل ما دعا إليه صندوق النقد الدولي في برنامَجه التصحيحي – المسيء والمدمر للاقتصاد الوطني أساساً وابتداءً – لم يعطِ ثِماراً حقيقية كما دلت على ذلك كل المؤشرات الرقمية للاقتصاد الأردني بالشكل الذي كانت تعلنه الحكومات المتعاقبة طيلة هذه الحقبة من الزمن.
فتشجيع الاستثمار لا يتأتى من مُجرد وجود قانون لتشجيع الاستثمار، بل بتوفير مناخٍ استثماري متكامل يتيح الفرصةَ لرأس المال كي يستثمر، سواءً كان رأس مالٍ داخليا أو خارجيا. ولعله لهذا السبب كان حجم الاستثمار في القطاع الخاص قبل عام 1995 وهو عام بدء العمل بالقانون الاستثماري الجديد، أكثر منه في الأعوام 1997، 1998، 1999.
أين تكمن المعضلة إذن؟!
اللصوص الكبار يؤكدون على أن الظروف المحيطة بالأردن هي التي تعرقل مسيرة الاستثمار دائما. بينما نحن نقول.. إن اللص لا يرغب في تشجيع الاستثمار في القطاع الخاص على الوجه الصحيح، لأن ذلك سوف يعرقل خُطَطَه للنهب المتدثر بالإنفاق الحكومي البذخي. ولأن هذا النوع من الاستثمار يفرض عليه قدرا من الشفافية في التعامل مع الأرقام لا يريد الانصياعَ لها ولا الالتزامَ بها، خشية أن تفضحه وتكشف ألاعيبه ومُمارساتِه التضليلية في ما يتعلق بِموازنات الحكومة وبأموال الخزينة وبثروة الشعب بوجه عام.
إن هذا ما سوف يتضح لنا في ضوء حقيقة لا جدال فيها، هي أن برنامج التصحيح قد غطى مرحلةً زمنية فشلت فيها كل الحكومات المتعاقبة في تشجيع الصادرات الجالبة للنقد الأجنبي، كما يريد صندوق النقد وكما تريد الحكومات، لسداد ديونها ولتمويل احتياجات البلاد من الوارادات، وارتفعت فيها معدلات البطالة والفقر ومستويات الفوارق الطبقية الاقتصادية بين شرائح الشعب الأردني، وعجزت معها كل المحاولات في السيطرة على منحنى الأسعار المتصاعد دوما!!
لكننا سنترك جانبا كلَّ المؤشرات الرقمية ذات العلاقة بالبُنية الرأسمالية للاقتصاد الأردني، وهي البُنية التي تسعى دائما إلى تكريس قواعد “اقتصاد السوق” على حساب حاجات الوطن والمواطن، تَحقيقا لمصالح فئات وطبقات ارتبطت بالعلاقات الرأسمالية والإمبريالية في المنطقة، بسبب الطبيعة الأيديولوجية للموضوع. لنركز فقط على مؤشرٍ واحد نراه غاية في الأهمية لوضوح دلالته على تفشي الفساد، وعلى استشراء منهج السلب والنهب المبرمج والمتواصل والمتوارث من حكومة أردنية إلى أخرى لثروات هذا الشعب. إنه مؤشر العجز في الموازنة العامة للدولة.
فماذا بخصوص هذا المؤشر؟!
لقد كان العجز في موازنة عام 1989 عام الكارثة الاقتصادية الكبرى التي جلبت لنا برنامج التصحيح الاقتصادي وبلاوي صندوق النقد الدولي، حوالي 35% على ذمة الحكومة، أما في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين وبعد تطبيق البرنامج إياه، فقد وصل العجز إلى 7% كما تزعم الحكومة، ما يوجب أن تكون المشكلات الناجمة عن اختلال الموازنة العامة قد حُلَّت وحُسِمَت. ومع ذلك فإن كل ما يُمكن أن يعاني منه اقتصاد الأردن من سلبيات، ازداد وتفاقم خلال تلك الفترة بدل أن يتقلص ويتراجع، ليعودَ العجز ويتصاعد منذ مطلع الألفية الثالثة، وليصل إلى 25% في موازنة عام 2011، وإلى ما يزيد عن ذلك بكثير في موازنة عام 2012.
لماذا كل هذا يا ترى؟!
ما الذي يَحدث في الخفاء، كي لا تنطبق في هذا البلد المسكين أيٌّ من قواعد وبديهيات الاقتصاد؟!
إن المؤشرات المالية خلال سنوات برنامج التصحيح تكشف عن عدم قدرة الموازنة العامة على تحقيق الأرقام والنسب المُسْتَهْدَفَة بالبرنامج ذاته، والخاصة بمعالجة العجز في الموازنة بِما يُقَلِّص اللجوءَ إلى الاعتماد على المساعدات الخارجية، في الوقت الذي طالب فيه البرنامج بناءً على دراسته العلمية الدقيقة للحالة الأردنية ومتطلباتها، بتخفيض العجز مع حلول عام 1998 إلى حدود 5%، على أن يواصل العجز انخفاضه إلى أن يصل إلى حدود 4% مع حلول عام 2001.
ومع ذلك فإننا إذا نظرنا إلى السنوات الست الممتدة من عام 1996 إلى غاية عام 2001 كنموذج فارق لأبشع مراحل استشراء الفساد المالي في هذا البلد، سوف نلاحظ أن العجزَ لم ينخفض في أيٍّ منها إلى الحد الذي طالب به برنامج التصحيح، بل إنه عاد ليرتفع بنسب خيالية بعد ذلك.
سنحاول في هذه الدراسة أن نقوم بقراءة وتحليل مقطعيين للمرحلة الممتدة من عام 1996، ولغاية العام 2001، لنتعرف على معالم الخلل في الاقتصاد الأردني، والتي ستكون بكل تأكيد هي المعالم ذاتها التي ستتسبب في كل الاختلالات اللاحقة، والتي وصلت مع نهاية العام الحالي إلى مستويات لا يمكن حلها بالترقيع، بل بإعادة إنتاج الاقتصاد الأردني بالكامل، على أسس أيديولوجية هذه المرة وليس على أسس تقنية.
بناء على الأرقام الخاطئة جدا والتي تزودنا بِها الحكومة كما سيتضح، فقد كان العجز في الموازنة العامة للحكومة، في الأعوام 96، 97، 98، 99، 2000، 2001، هو على التوالي 5.8%، 10.3%، 9.9%، 7.4%، 7.4%، 6.7%.
الغريب في الأمر أن نفس الجدول الذي يَحتوي على هذه النسب، يشير وبوضوح إلى أن الإيرادات المحلية للحكومة في نفس تلك السنوات هي على التوالي أيضا، وبِملايين الدنانير 1430 و1370 و1496 و1585 و1556 و1830، كما أنه يشير إلى أن إجمالي الإنفاق الحكومي لنفس تلك الأعوام هو بملايين الدنانير 1718 و1906 و2055 و2007 و2005 و2270.
فإذا كان العجز على ما نعلم ويعلم كل الاقتصاديين، هو الفرق بين الإنفاق والإيرادات، وهو ما أشار إليه الجدول ذاته بالأرقام مُقَدَّرَة لنفس السنوات بملايين الدنانير على النحو التالي تتابعاً 288 و536 و559 و422 و439 و440، فإننا نبدي دهشتنا الشديدة من النسب المذكورة سابقا للدلالة على العجز في الموازنة العامة، لأن أيَّ طالب بليد في المرحلة الابتدائية وبعمليات حسابية غاية في البساطة يستطيع أن يتوصل إلى أن نسب العجز بناء على الأرقام السابقة ولنفس سنوات الدراسة هي على التوالي: 16.8% بدل 5.8% لعام 96، و28.1% بدل 10.3% لعام 97، و27.2% بدل 9.9 لعام 98، و21% بدل 7.4% لعامي 99و2000، وأخيرا 19.3% بدل 6.7% لعام 2001(!!).
ونحن من جهتنا نتجنب التعليق على هذه النتيجة فهي في ذاتها أبلغ من كلِّ تعليق(!!).
إذا كان ما تَكَشَّف لنا سابقا يشير إلى الجانب التزويري الفَجِّ والواضح الذي ليس له من معنىً ولا فائدة، والقائم على الغباء الصِّرف فقط، فإننا سنغضُّ الطَّرْفَ عن ذلك معتبرين أن المسألة يُمكن عَزْوُها إلى انعدام التدقيق، أو إلى إجراء الحسابات في حالة الغياب عن الوعي، أو إلى احتساب العجز قبل أو بعد إدخال عنصر نقدي معين، أضاف أو أنقص من الموازنة ما تسبب في تلك الفروق بين النسب المدونة والمفترضة، منتقلين إلى دلالات هذه النسب على الصعيد الفعلي بالنظر إليها في ضوء سياسة الإنفاق الحكومية المليئة بالغموض، والتي تَحوم حولها كل الشبهات الدالة على روح السرقة والنهب واللصوصية.
في ضوء النسبة المُسْتَهْدَفَة من قبل صندوق النقد الدولي والبالغة 5% فقط، كان يُفْتَرَض أن يكون إجمالي الإنفاق الحكومي في ضوء الإيرادات الفعلية خلال السنوات من 96 ولغاية 2001 بملايين الدنانير على النحو التالي.. 1505 و1442 و1575 و1668 و1647 و1926على التوالي، بدلا من 1718 و1906 و2055 و2007 و2005 و2270.
وهذا يعني أن قيمة العجز كان يفترض أن تكون..
* “1505-1430″ لعام 96 وهي 75 مليونا بدلا من 288 مليونا.
* و”1442-1370″ لعام 97 وهي 72 مليونا بدلا من 536 مليونا.
* و”1575-1496″ لعام 98 وهي 79 مليونا بدلا من 585 مليونا.
* و”1668-1585″ لعام 99 وهي 83 مليونا بدلا من 422 مليونا.
* و”1647-1556″ لعام 2000 وهي 91 مليونا بدلا من 439 مليونا.
* وأخيرا “1926-1830″ لعام 2001 وهي 96 مليونا بدلا من 400 مليون.
إن النتيجة التراجيدية التي نستخلصها من الأرقام السابقة، هي أن عصابة اللصوص كانت من الجشع بحيث أنها لم ترحم هذا الشعب، ولم تتورع عن إجاعته جهارا نهارا.
* ففي عام 96، تزيد الحكومة من إنفاقها ما قيمته 213 مليونا من الدنانير عما كان مفترضا بناءً على خطة صندوق النقد الموضوعة في برنامج التصحيح.
* وفي عام 97 تزيد ما قيمته 464 مليونا.
* وفي عام 98 تزيد 479 مليونا.
* وفي عام 99 تزيد ما قيمته 339 مليونا.
* وفي عام 2000 تزيد ما قيمته 359 مليونا.
* وفي عام 2001 تزيد ما قيمته 304 ملايين.
أي أن الإنفاق الحكومي الذي قَدَّرَ له صندوق النقد – على كل سلبياته ونقائصه وما يفرضه من ارتهان وتبعية – زيادة قدرها 488 مليونا خلال ست سنوات كاملة، آخذا في الاعتبار التوسع في التشغيل والاستثمار العام.. إلخ، نراه ارتفع خلال نفس الفترة بما قيمته الإجمالية 2643 مليونا، وذلك بزيادة قدرها 2155 مليونا عما افترضه صندوق النقد الدولي لإعادة التوازن إلى الاقتصاد الأردني، دون قدرٍ مكافئ لهذه الزيادة في التشغيل والاستثمار العام يعطيها مبرراتها الاقتصادية.
فإذا كانت النِّسَب والأرقام المستهدفة من قبل الصندوق مدروسة بشكل يكفل تَحقيق الحد المعقول من الحلول لمشكلات هذا الاقتصاد، وإن يَكُنْ على الطريقة غير الخادمة بشكل فعلي للبعد الوطني للتنمية، فبماذا يمكن تفسير أن 2155 مليون دينار يتم تَحميلها للشعب الأردني للإنفاق على حكومات ارتقت في عهودها نسب البطالة والفقر والأسعار وكل الأعباء الاقتصادية التي راحت ترهق كاهل المواطن؟!
لا نعتقد أن عاقلا يستطيع أن يفهم هذا الذي حدث والذي ما يزال يَحدث خارج نطاق النهب من وراء غطاء الإنفاق الحكومي والتوسع فيه(!!).
فبدل أن تُقَلِّصَ الحكومة نفقاتِها بما يتناسب مع حالة اقتصادٍ مهترئٍ كاقتصاد الأردن، فإنها حددت لنفسها مبالغ للإنفاق أو بتعبير أدق “للنهب”، وأدرجتها في بنود الإنفاق الحكومي، وراحت تبحث لها عن موارد تركزت بنسبة 50% على شكل مساعدات خارجية، أي على شكل قروضٍ وديون، وبنسبة 50% على شكل إيراداتٍ مَحلية تَمثلت في ضريبةِ مبيعاتٍ وقيمٍ مُضافةٍ مختلفة وضرائب جباية لا تُعَدُّ ولا تُحصى.. إلخ.
وليس بوسعنا في هذا المقام إلاَّ أن نورِدَ اعترافا من أحد النظام بأن ما كان يَحدث غير مُبَرَّرٍ وغير منطقي. فقد صَرَّح “د.محمد سعيد النابلسي”، محافظ البنك المركزي الأردني الأسبق قائلا: “لم يتم ضبط عجز الموازنة بالتوجه إلى تقليص النفقات بشكلٍ موازٍ للجُهد الموَجَّه إلى زيادة الموارد عن طريق فرض الضرائب والرسوم الجديدة. وفي الواقع فقد نجحنا في تضييق نسبة العجز(!!) وكان هذا بفضل موارد جديدة ضريبية في معظمها، وليس بفضل تضييق النفقات. وبإمكان الموازنة أن تَبذل جهدا كبيرا في هذا المجال خلافا للأقوال السائدة لدى الكثير من الاقتصاديين بأن النفقات غير قابلة للتضييق، بل إن الموازنة تَحتوي على أبوابٍ من النفقات وحتى الجارية منها يُمكن تضييقها”.
ورغم حرص النابلسي على الأدب واللَّباقة في كلامه، إلاّ أنه من الواضح أن الحكومات لم تكن على استعداد لتقليص النفقات ما دامت هي الغطاء الأنسب للنهب والسلب. لا بل أن البرلمان نفسه كان يظهر شريكا غير مباشر فيما يَحدث، من حيث عدم مواجهته بالقدر اللازم والكافي من الانتقادات على الأقل. إذ نلاحظ أنه وفي كل سنة، عندما تتم مناقشة الميزانية تَحت قبة البرلمان، فإنه يتم بَحث كلِّ شيءٍ ويتم طرح الإنفاق على أمورٍ معينة، ولم نسمع من معظم النواب أنهم يطالبون بضبط النفقات أو يشيرون إلى عدم وجود موارد كافية لمثل هذه النفقات، أو إلى عدم ضرورة جزء منها، نظرا لانطوائها على بعدٍ إنفاقي تَرفي وغير بريء، ليس الأردن في حاجة فعلية إليه، مادام سينعكس بالسلب على حياة المواطن الأردني نفسه.
بل إن “أسمى خضر” – وهي بالمناسبة معارضة يسارية سابقة قبل أن تصبح وزيرة – فاجأتنا عندما كانت ناطقة إعلامية رسمية باسم الحكومة ووزيرةً للثقافة، بتصريح هام تعقيبا على زيادة رواتب المديرين العامين في مؤسسات الدولة بما قيمته “500″ دينار شهريا لكل منهم، أشارت فيه إلى أن مُبَرِّرَ هذه الزيادة هو أن هؤلاء المديرين والبالغ عددهم حوالي 105 مديراً، يستحقون هذه الزيادة لأنهم يقومون بمهام حساسة حينما يستمرون بالتواجد في مكاتبهم إلى أوقات متأخرة من الليل(؟!).
ترى، هل يستمر المدير العام إلى وقت متأخر من الليل في مكتبه منفردا أم برفقة آخرين(؟!).
فإذا كان برفقة آخرين، لا شك في أن وجودَهم ضروريٌّ للسهر على راحة هؤلاء المديرين، أفلا يستحقون بدورهم حتى لو كانوا سعاةً بسطاء، زيادة في مرتباتهم على أعمالهم الإضافية التي تسهر على راحة وخدمة أعمال المديرين الحساسة هذه(؟!).
وإذا كان المديرون يستمرون بالتواجد في مكاتبهم إلى وقت متأخر من الليل منفردين، أليس لأنهم شركاء في التغطية على عمليات النهب وعلى نسبة التضليل في أرقام الموازنات التي أشرنا إليها سابقا، فضلا عن قيامهم بِمهماتٍ أخرى يفهمها اللبيب بمجرد هذه الإشارة العابرة(؟!).
وفي تَتَبُّعِنا لأبعاد منهجية السلب والنهب التي تُمارسها الحكومات الأردنية المتتابعة – وما أكثر هذه الحكومات التي يتبدى للناظر أنها تتوالى بأسرع من إنسياب الماء من بين الأصابع، لكي يتمكن الواقفون على الدور في انتظار القفز إلى الغنائم عبرها، من أخذ فرصتهم في سرقة المال العام السائب الموضوع في رفوف الخزينة – وجدنا أن أسلوبَ التَّضليل المُنْتَهَجَ، والذي يرقى إلى درجة التزوير في حيثيات ودلالات الأرقام في الاقتصاد الأردني، لا يقف عن حدود ادعاء المحاسبين أو المدراء الماليين الذين أصبحوا فجأة محللين اقتصاديين، خبرةً في لعبة الأرقام، بل هو يتجاوز ذلك بكثير، ليطال منظومةَ الأرقام الرسمية، لا في دلالاتها فقط، بل وفي حقيقتها أيضا، ما تُمْكِن تسميته تزويرا فعلياً مدروسا ومقصودا لغاياتٍ مشبوهةٍ.
في هذا السياق دعونا نركز كثيرا على المعلومات والوقائع التالية، وعلى تحليلها موضوعيا..
الركود الاقتصادي في الأردن كان موجودا ودَلَّت عليه عدة مؤشرات رافقته منذ عام 1993، رغم أن الاعتراف الرسمي بوجوده لم يَحصل إلاَّ في أواخر عام 1998، عندما أقفلت دائرة الإحصاءات العامة حسابات الدَّخل القومي لعام 1996 كاشفة عن أن النمو في الناتج المحلي الإجمالي هو 0.8% وليس 5.2% كما كان مُعْلَناً من قِبَلِ الحكومة. وهو الأمر الذي أحدث صدمة عنيفةً، حاولت الحكومة في حينها التَّسَتُّرَ عليها وتأجيل إعلانها.
لكن هذه المعلومة الخطيرة أُذيِعَت على شكل فضيحة سياسية تتابعت تداعياتها الزلزالية، ليبدأ العمل الجاد من قبل الكثيرين على كشف المستور، والحديث الجريء حول المسكوت عنه في السياسات الاقتصادية لحكومات هذه البلد، وهي الحكومات التي اعتادت أن تُمَرِّرَ كل برامجها الفاسدة بدون جلبة أو ضوضاء قد يثيرها هذا الجمع المستغرق في غيبوبته. وهكذا فقد تلت ذلك الإعلان الخطير لتلك المعلومة الأخطر إعادة التَحَقُّق من نسبة النمو لعام 1997 لتتفاقم الفضيحة بعد أن تبين أن النسبة الصحيحة هي فقط 1.4% بدلا من التقديرات السابقة التي كانت تشير إلى أنها تزيد عن 5%.
ومُحاولةً من الحكومة لِلَمْلَمَة الموضوع مُسْتَخدمة عُقْدَة الخبير الأجنبي، استعانت بِخبراءِ صندوق النقد الدولي لتدقيق حسابات الدخل القومي، لعلهم يكتشفون أن دائرةَ الإحصاءاتِ قد وقعت في خطأٍ أدَّى إلى هذه النتيجة. ولكن أُسْقِطَ في يد الحكومة عندما أقَرَّ خبراء الصندوق صحة الحسابات الإحصائية، لتظهر الحقيقة الدامغة المتمثلة في أن الحكومات الأردنية المتعاقبة لم تكن تُعْلِن الحقيقة فيما يتعلق بالأرقام الرسمية لمؤشرات الاقتصاد الوطني.
وبالقراءة الفاحصة لحصيلة الأرقام المتعلقة بنسبِ النمو الاقتصادي في الأردن، تَتَكَشِّف لنا حيثيات منهجٍ تضليليٍّ مقصودٍ ومدروس، كان الهدف من ورائه إبقاءُ الأرقام المُعْلَنَة قريبةً أو مُتخطيةً لنسبةِ الـ 6% التي هي نسبة الحد الأدنى المفترضة في نُمو الاقتصاد الأردني، لإحداثِ التوازن المطلوب فيه مع كلٍّ من النمو السكاني وواقع العمالة ومتطلبات التشغيل. أي وبكلمةٍ أكثر وضوحاً، كانت الحكومات الأردنية تستغل الأجهزة الفنية المتخصصة لتعلن باسمها معلومات اقتصادية كاذبة، كي تَحقن الشعب بِمسكِّنِ الأرقام الزائف، تغطيةً على ألاعيب اللصوص الكبار وهم ينهبون هذا الشعب ويسرقون قوتَه وقوتَ أبنائه، بينما الكارثة كانت تنخر في أساسات الواقع فقرا وبطالة وعجزا ودمارا.
وفيما يلي الدليل على ما نقوله بالتفصيل..
إن نِسَب النمو الاقتصادي المُقَدَّرَة من قِبَلِ الحكومة في السنوات الثلاث 1993، 1994، 1995، هي على التوالي 5.7%، و8.7%، و5.7%، ليحدث وبصورةٍ مفاجئة غير مفهومة انخفاضٌ مُرَوِّعٌ في هذه النِّسَب في الأعوام الثلاثة التالية، 1996، 1997، 1998، كي تُصْبِحَ على التوالي، 0.8%، و1.4%، و2%.
فإذا كانت مؤشرات الأعوام الثلاثة الأولى صحيحة، فلن نجد أيَّ تفسيرٍ منطقي لحصول هذا الانهيار في الأعوام الثلاثة اللاحقة، لأن مثل هذا الانهيار لا يحصل عادةً إلاَّ في حالات الكوارث الطبيعية الشاملة والمدَمِّرَة، أو في حالات الحروب واسعة النطاق، وهو ما لم يَحدث في الأردن.
الأمر الذي يَتَّضِح معه – خاصةً بعد فضيحة عام 1998 حول عام 1996 وما تلاه – أن مؤشرات الأعوام 1996، 1997، 1998، هي الصحيحة، وبالتالي فنحن في حقيقة الأمر أمام منهجِ تزويرٍ وتضليلٍ خطيرٍ للغاية يهدف إلى التَّغْطِيَة على أمرٍ ماَّ. فما هو هذا الأمر يا تُرَى؟!
إنه بكل بساطة نَهب وسرقة المال العام الذي هو مُلك الشَّعْب، كما سيتَّضح لنا فيما يلي..
أشارت الإحصائيات الأردنية الرسمية إلى أن نِسَب الاستثمار إلى الناتج الإجمالي المحلي في السنوات 1993، 1994، 1995، 1996، 1997، 1998، هي على التوالي 37.4%، 34.4%، 33.6%، 35.8%، 28.4%، 32.2%.
فإذا علمنا أن أبسط قواعد النمو الاقتصادي في العالم، تنص على أن الدولة تحتاج إلى “12″ وحدة من رأس المال كحدٍّ أقصى لتُنْتِجَ وِحدةً إضافية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي كحدٍّ أدنى. أو بلغة النِّسَب، أن كل 1% نُموٍّ في الناتج الإجمالي كحدٍّ أدنى، يَحتاج إلى استثمارات تُقَدَّر بـ “12%” من قيمة هذا الناتج كحدٍّ أقصى.
نقول.. إذا كان هذا هو ما تنص عليه أبسط قواعد النمو في العالم وأكثرها بَديهِيةً، فكيف يُمكننا تفسير الغُلُوِّ الظاهر في الأرقام التي تزودنا بها مؤسسات الحكم الرسمية في الأردن، حول موضوع قِيَم الاستثمار من إجمالي الناتج المحلي؟!
فإذا افترضنا صحة الأرقام التي تُؤَشِّر لنسب الاستثمار الواردة سابقاً، فإن هذا يكشف لنا عن حقيقتين هامتين، تتعلق الأولى بنسب النمو المُقَدَّرَة للأعوام 1993، 1994، 1995، فيما تتعلق الثانية بنسب النمو المُقَدَّرَة للأعوام 1996، 1997، 1998..
إذ أنه بناءً على القاعدة السابقة – وهي قاعدة العلاقة بين النمو والاستثمار – يُفْتَرَض أن تُقابِلَ نِسَب استثمارٍ مُقَدَّرَةٍ بـ 37,4%، و34,4%، و33,6 للأعوام 1993، 1994، 1995، كما تعلن أرقام الحكومة، نِسَبُ نُموٍّ مقدرة على النحو التالي على التوالي.. 3,1%، 2,9%، 2,8%. وهو الأمر الذي يعني قطعا أن نِسَبَ النمو المذكورة من قِبَلِ الحكومة لتغطية تلك السنوات وهي 5.7%، و6.8%، و5.7%، غير صحيحة على الإطلاق، وقائمة على التضليل والخداع من أجل التغطية على منهج النَّهب المُنَظَّم الذي تُمارسه الحكومات المتعاقبة بالتوارث.
فنسبة نُمو في الناتج المحلي الإجمالي مقدارها 5,7% كما دلت على ذلك أرقام الحكومة لعام 1993، لا يمكنها أن تحدث وفق قواعد التنمية العلمية الصحيحة، إلاَّ باقتطاع نسبة استثمار من هذا الناتج المحلي مقدارها 68,4%.
أما نسبة نُمو في ذلك الناتج مقدارها 6,8% كما دلت عليها أرقام 1994، فلن تحدث إلا باقتطاع نسبة استثمار تقدر بـ 81,6% من الناتج المحلي الإجمالي.
فيما يتطلب النمو المعلن لعام 1995، نسبة استثمار من إجمالي الناتج المحلي تشبه نسبة عام 1993 وهي 68,4%.
وأمام هذه الأرقام غير المنطقية وغير المفهومة في ضوء القواعد المعيارية العلمية للنمو الاقتصادي، لا نملك إلا أن نؤكد على أن الحكومات الأردنية المتعاقبة كانت تزوِّر في الأرقام الدالة على مؤشرات التنمية لأغراض مشبوهة، أحيانا بوعي بِمتطلبات هذه الأغراض على المستوى الإحصائي، وأحيانا بغير وعيٍ بها. وهو ما جعلها تنكشف في عام 1998 عندما بلغ سيل التزوير والتضليل والاستهتار بالعقل حداًّ لا يُمكن احتماله.
كما أنه وبناءً على نسب النمو الحقيقية والمُقَدَّرَة – بعد فضيحة عام 1998 – بـ 0,8%، و1,4%، و2%، للأعوام 1996، 1997، 1998، على التوالي، يجب أن تكون نِسَب الاستثمار الحقيقية المقابلة لها مُقَدَّرَة من الناتج الإجمالي على النحو التالي: 10%، و17%، و24% على التوالي.
والسؤال المُحَيِّر الذي لا يُمكننا أن نجد له إجابةً إلاَّ في قواميس النَّهب، هو..
* أين ذهبت وكيف تبخَّرَت الأموال التي تشكِّل الفرق بين نسبتي 35,8% و10% اللتين تُمثلان نسبتي الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي، المُدَّعاة “المعلنة من قبل الحكومة”، والمُفْتَرَضَة “وفق قواعد التنمية السليمة والمتعارف عليها”، لعام 1996.
* وتلك التي تُشَكِّل الفرق بين نسبتي 28,4% و17% اللتين تمثلان نسبتي الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي، المُدَّعاة والمفترضة لعام 1997.
* وتلك التي تُشَكِّل الفرق بين نسبتي 32,2% و24% اللتين تمثلان نسبتي الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي لعام 1998؟!
أو بلغة الأرقام المباشرة، أين ذهبت مبالغ فلكية بالنسية لإمكانات اقتصاد صغير كالاقتصاد الأردني، تُقَدَّر على النحو المُوَضَّح في المعادلات الرياضية التالية..
* 1600 مليون دينار “استثمار عام 1996 المعلن” مطروحا منه 476 مليون دينار “الاستثمار المفترض للعام نفسه”، وهو ما يساوي 1200 مليون دينار.
* 1500 مليون دينار “استثمار عام 1997 المعلن” مطروحا منه 750 مليون دينار “الاستثمار المفترض للعام نفسه”، وهو ما يساوي 750 مليون دينار.
* 1600 مليون دينار “استثمار عام 1998 المعلن” مطروحا منه 1250 مليون دينار “الاستثمار المفترض للعام نفسه”، وهو ما يساوي 350 مليون دينار.
وبسؤال تراجيدي الطابع، أين ذهبت خلال ثلاث سنوات فقط هي 1996، 1997، 1998، مبالغ إجمالية تُقَدَّر بـ 1200 + 750 + 350 = 2300 مليون دينار، تُمثل ما نسبته حوالي 16% من إجمالي الناتج المحلي لتلك السنوات الثلاث والبالغ قرابة 15 مليار دينار؟!
وبالعودة إلى معدلات النمو للسنوات 1993، 1994، 1995، استناداً إلى نسب الاستثمار المعلنة من قبل الحكومة، والتي افترضناها بناءً عليها على التوالي.. 3,1%، و2,9%، و2,8%، والتي كشفت عن أن كل أرقام الحكومة المعلنة لا يُمكنها أن تكون صحيحة، وأنها تنطوي على تناقضاتٍ مهولة تتعارض مع قواعد علم التنمية والنمو الاقتصاديين، وتكشف عن ضخامة التخبط الذي وقعت فيه الحكومات المتعاقبة، حتى أثناء قيامها بالتزوير وانتهاجها سياسات التضليل. فإننا سنجد أنفسنا مدفوعين إلى الاعتقاد بأن هذه الأرقام نفسها والقائمة على افتراضِ صِحَّة نِسَب الاستثمار الحكومية، هي أساسا أرقام غير مُعَبِّرَة عن الواقع، من خلال مقارنتها بالحقيقة التي تم اكتشافها في عام 1998 من قبل جهات محايدة، حَدَّدَت للأعوام 1996، 1997، 1998، نِسَب نُموٍّ هي 0,8%، و1,4%، و2%.
نقول.. إنه بالعودة إلى تلك الأرقام وفي ضوء المقارنة المشار إليها، لا يُمكننا أن نتقبل صدق الادعاءات الحكومية بأنها استثمرت في السنوات 1993، 1994، 1995، ما حقق نُموا في الناتج المحلي الإجمالي قدره 3,1%، و2,9%، و2,8%، على التوالي، في حين أن معدل النمو في هذا الناتج بناء على سياسة الاستثمار المتبعة عاد لينخفض بشكل مُرَوِّع وصل في عام 1996 إلى نسبة انخفاض مقدارها 70% عماَّ كان عليه في عام 1995، عندما انخفض النمو في الناتج الإجمالي من 2.8% إلى 0.8%. ليبقى مع ذلك – ورغم ارتفاعه الطفيف في سنة 1998 – أقل من نظيره في عام 1995 بحوالي 30%.
نعم، إننا لا نستطيع في التعامل مع حكومات من هذا القبيل، تَقَبُّل هذه الانقلابات المهولة في المعدلات وفي النسب بدون التشكيك فيما يقف وراءها من خططٍ وسياساتٍ ومن عملياتِ نَهبٍ وسلبٍ منظمة للثروة القومية للشعب الأردني. لذلك فإننا سنفترض – وهو افتراض تجاوزي لصالح الحكومات على أيِّ حال – أن معدلات النمو المتحققة في السنوات 1993، 1994، 1995، هي نفسها تلك التي تَحققت لاحقا في ثالث الأعوام الثلاثة التالية وهو عام 1998، لأنها تمثل أعلى معدل نُمو تم إنجازه، ومقدارها 2%، وذلك لكي لا نكون ظالمين للحكومات الأردنية المتعاقبة بإدانتها بسرقة مبالغ غير مؤكدة. مع أن المنطق يقتضي أن تكون معدلات النمو في تلك السنوات أقل من نظيرتها في الأعوام اللاحقة. كل ذلك كي نكتشف مجددا حجم التدمير الذي تُلحقه هذه الحكومات بالاقتصاد وبالشعب الأردنيين، عندما تسرقهما جهارا نهارا دون خجلٍ أو وجل.
بِهذا التبسيط الذي انتهجناه لكشف السرقات المؤكدة من ثروات الشعب الأردني يتضح لنا أن أعلى نِسْبَة مُفْتَرَضَة للاستثمار من النواتج المحلية الإجمالية للأعوام 1993، 1994، 1995، هي 24% بناء على القاعدة التي تنص على أن كل 1% نُمو في الناتج لا يحققه ابتداءً إلاَّ 12% استثمار من إجمالي هذا الناتج. وبالتالي فإن أرقام نِسب الاستثمار التي أعلنتها الحكومات لتلك السنوات والتي هي 37,4%، و34,4%، و33,6% على التوالي، هي مجرد أرقام مُعلنَة تنطوي على فروقات عن الأرقام الحقيقية المفترضة، عاكسةً حجم المبالغ التي سرقتها تلك الحكومات من خزينة الدولة لتوزِّعَها على رموز السلطة والحكم النافذين وعلى وسطاء سمسرة الصفقات الداخلية والخارجية تَحت لافتات الاستثمار المُدَّعَى.
إننا وبالطريقة المنهجية نفسها التي كشفنا فيها عن حجم الهدر الذي لا يُفَسَّر إلاَّ بالسرقة من مال الشعب الأردني في الأعوام 1996، 1997، 1998، سنكشف عن حجم السرقات التي تَمت في الأعوام 1993، 1994، 1995.
إن نسبة 13,4% التي تمثل الفرق بين 37,4% “نسبة الاستثمار المعلنة من قبل الحكومة لعام 1994″ و24% “النسبة الافتراضية الموحدة بناء على معايير صحيحة للأعوام الثلاثة محل الدراسة”، مضافا إليها كلاًّ من نسبة 10,4% التي تُمثل الفرق بين 34,4% “نسبة الاستثمار المعلنة من قبل الحكومة للعام 1994″ و24% “النسبة الافتراضية الموحدة للأعوام الثلاثة مَحل الدراسة”، ونسبة 9,6% التي تمثل الفرق بين 33,6% “نسبة الاستثمار المعلنة من قبل الحكومة لعام 1995″ و24% “النسبة الافتراضية السابقة للأعوام الثلاثة”، تُمثل المبالغ المهدورة التي لا تفسير لفقدانها إلا بالسرقة والنهب.
وهي تمثل من إجمالي النواتج المحلية لتلك الأعوام الثلاثة ما قيمتنه 1700 مليون دينار تقريبا.
أي أن ما تَمت سرقته من أموال وثروات الشعب الأردني خلال ست سنوات فقط هي السنوات الممتدة من عام 1993 ولغاية عام 1998، يصل إلى 4 آلاف مليون دينار، تُمثل حوالي 15% من إجمالي ناتجه المحلي لتلك الأعوام.
فليتأمل الشعب الأردني ما الذي يحدث له ولثرواته ولحقوقه من قبل تلك الحكومات التي لا هم لها إلا تمرير أجندتين، أولاهما أجندة إمبريالية رأسمالية عالمية تقتضيها “تفاهمات واشنطن” من جهة، وتفاقمات “مؤتمر مدريد” على الصعيد الأردني ممثلة في اتفاقية الذل والهوان والارتهان مع الدولة الصهيونية، وهي “اتفاقية وادي عربة” من جهة أخرى، والثانية محلية إفسادية قذرة، يقتضيها “التحالف الكومبرادوري البيروقراطي الطبقي” المقيت الجاثم على مصير الشعب الأردني، يرهنه ويبيعه بلا رحمة.
ترى من هو المسؤول عن هذه الكارثة؟!
من هو المسؤول عن هذا الهدر؟!
من هو المسؤول عن هذا النهب الممنهج المختبئ وراء سياسة تزوير وتضليل غير مسبوقة على مستوى العالم؟!
هل هو “الملك” الذي ينص دستورنا العتيد على أنه “لا يُسأل عما يفعل”؟!
أم هي الحكومات التي نعلم جميعا بموجب دستورنا العتيد ذاك، “أنها لا تفعل ما لم تؤمَر بفعله”؟!