مدخل إلى جدلية العلاقة بين القرآن والسنة

أسامة عكنان

تعقيبا على حوارٍ تابعته على صفحات الفيسبوك حول الدور التشريعي لكل من القرآن والسنة والعلاقة بينهما، وبعد أن تبين لي – من وجهة نظري – أن معظم المتحاورين لم يضعوا أيديهم على جوهر المسألة الجدلي، ما حال دونهم ودون تقديم توصيف لعلاقة معرفية "خبرية وتشريعية" متماسكة بينهما، وجدت أن أدلي بدلوي في الموضوع في حدود ما هو متاح لديَّ من فهم للمسألة، والله من وراء القصد..

أولا.. تحليل العلاقة بين المعقول والمنقول أو بين العقل والنقل
في سياق مناقشتنا لجوانب شخصية "محمد بن عبد الله" المختلفة، ولدلالات هذه الجوانب، ولكيفية التعامل مع ما أُثِرَ عنه من أقوال وأفعال وتقريرات صدرت بموجب هذا الجانب من شخصيته أو ذاك، سنجد أنفسَنا مدفوعين بقوة منطق الأمور وطبائعها إلى التفريق بين نوعين من أنواع التعامل مع شخصيَّة القائل والفاعل والمقرِّر "محمد بن عبد الله" صلى الله عليه وسلم، من حيث طبيعة التلقي عنه والسماع منه.
النوع الأول، وهو النوع من التعامل الذي تَمَتَّعَ به من رآه وسمع منه مباشرة، حيث لا وجود على الإطلاق لأيٍّ من التحفظات التي طرحت نفسَها لاحقا على النوع الثاني من أنواع التعامل، فأوجدت لأجل التعاطي معه بإيجابية – أي مع هذا النوع الثاني – علمَ الحديث والرواية، وعلم الجرح والتعديل، وعلم الرجال.
أماَّ النوع الثاني من التعاملات، وهو النوع الذي فرضت عليه طبيعة الأمور أن يتعرف على الأقوال والأفعال والتقريرات عبر شُحنةٍ تاريخية تنطبق عليها كافة التحفظات الممكنة والمحتملة على أيِّ مرويٍّ تاريخي من حيث المبدأ، فهو النوع الذي لا يمكننا نحن الآن، ولا يمكن لكافة البشر إلى قيام الساعة أن نتعرَّف أو أن يتعرَّفوا على شخصية محمد بن عبد الله القائل والفاعل والمقرّر إلاَّ من خلاله، وليس من خلال النوع الأول.
إن التفريق الدقيق بين هذين النوعين من أنواع التعامل مع مصدر الأقوال والأفعال والتقريرات ومنبعها، "محمد بن عبد الله"، يقتضي التنبيه إلى ضرورة التَّحرُّر أثناء "التعامل"، تحرُّراً تاما وكاملا، شكلا ومضمونا، من وهم الاعتقاد بوحدة الحال المعرفية والدلاليَّة بين من يسمع الرسول ويراه ويتعامل مع ما يرد عنه من ثم بشكل مباشر لا وسطاء فيه ولا سلاسل رواة. ومن يتعامل معه من خلال نصوصٍ منسوبة إليه وردته عبر حِقَبٍ زمنية طويلة، وعبر سلاسل معقدة من الروايات والأسانيد المتوارثَة.
إن أهم وجه من أوجه انعدام وحدة الحال المعرفية والدلاليَّة بين السامع بالمشافهة والسامع بالرواية والإسناد، هو أن مقولةً مثل مقولة "لا تعارض بين النقل والعقل"، لا يمكنها أن تتحقق لدى الواحدِ منهما بالطريقة نفسها التي تتحقَّق بها لدى الآخر، إلاَّ إذا تمَّ افتراض التساوي التام والمطلق بين السماع بالمشافهة والسماع بالرواية، في صحة النسبة إلى المصدر، وفي الدلالة والحُجِّيَّة من ثم، وهو الأمر الذي لا يتحقَّق بأيِّ حال. فصحة النسبة إلى المصدر لدى السامع بالمشافهة مطلقة، بينما هي لدى السامع بالرواية نسبية مهما علت وارتفعت درجة اليقين والقطعيَّة فيها. وهو ما ينعكس حتما على الحجيَّة والدلالة لتغدوَ بدورها نسبية ظنية وليست قطعية بأَيِّ بحال.
إن الصحابي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رآه مباشرة، يفهم من مقولة عدم تعارض العقل مع النقل، أن رسول الله لن ينطق أو يفعل أو يقرِّرَ ما يتعارض مع العقل كما يفرض نفسه على العقلاء آنذاك. أي أنه ينتظر أداءً محمَّدِيَّاً نقيا صافيا لا تشوبه شائبةُ تعارضٍ مهما كانت صغيرة مع العقل، وإلاَّ لشكَّك في نُبُوَّته وطعن فيها على الفور.
بينما نحن الذين ما رأينا رسول الله ولا سمعنا عنه، ولا وصلتنا أقواله وأفعاله وتقريراته إلاَّ مروياتٍ في أسانيد يجرها في ذيله تاريخ مثقلٌ بالأكاذيب وأغبرة الريبة والشك والصراعات التي لا تنتهي على السلطة والمصلحة والنفوذ، فلا يكفينا افتراض أن مقولة عدم تعارض العقل مع النقل هي ذاتُ ما فهمه الصحابي وتعامل على أساسه مع رسول الله.
إن عدم تعارض العقل مع النقل بهذا المعنى لا يفيدنا في شيء ما لم نحاول إسقاطه على طبيعة وصول الرسول إلينا وخطابه لنا عبر أقواله وأفعاله وتقريراته. إننا بحاجة إلى مطابقة هذه النصوص المروية مع معطيات العقل لقبولها أو رفضها على أساس عقلانيتها أو لا عقلانيتها انطلاقا من افتراض أن ما كان منها غير عقلاني فلا يمكن لرسول الله أن يكون قد قاله أو فعله أو قرَّرَه أساساً.
فإذا كان الصحابي يسمع صوت العقل في الأثير المرافق لأنفاس رسول الله وهي تنقل الكلمات والحروف والجمل لمجرَّد أنه رسول الله الذي لن ينطق إلاَّ بما كان عقلانيا بالضرورة، فإننا نحن، إنما نسمع صوتَ رسول الله ونشتم رائحة نبوَته في العقل الصادح من تلك الحروف والكلمات والجمل المنثورة أمامنا فوق صفحات الكتب كالموات تنتظر من يحييها بعجنها بعصارات العقل والعقلانية.
إن كلَّ من يرفع شعار عدم تعارض العقل مع النقل ممن عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيُفْقِدُ شعارَه قيمَتَه ويحوِّلُه إلى لغو عقيم بلا معنى، إذا لم يقبل من حيث المبدأ إخضاع هذا الكم الهائل من المرويات أيا كانت مستويات صحتها السندية إلى هذا الذي يدعو إلى عدم تعارض النص معه، وهو العقل. تماما كما فعل الصحابي من حيث الجوهر عندما افترض أن رسول الله لن يصرِّح بما يخالف عقله، وهو يستمع إلى أقواله وينظر إلى أفعاله.
إن مقولة عدم تعارض العقل مع النقل مقولة مُضَلِّلَة إذا لم تُحْسَم حدودُها حسما معرفيا واضحا. فهناك فرق كبير بين عدم تعارض العقل مع النقل، وبين عدم تعارض النقل مع العقل. أيهما هو الذي يجب ألاَّ يتعارض مع الآخر، العقل أم النقل. إن عدم التعارض المعرفي يقتضي سيِّدا معرفياًّ وتابعا معرفيا، ويفرض على التابع من ثمَّ عدم معارضة السَّيِّد، ولا يجيز وضع الاثنين في مستوى معرفي واحد، ثم نقول أنه لا يجوز أن يتعارض هذا مع ذاك. إن من يفعل ذلك يهرب من الحقيقة ويضلِّل الآخرين من حيث يدري أو لا يدري.
فعندما نقول.. "لا يجوز للعقل أن يعارضَ النصَّ"، فهذا يعني أن النَصَّ هو الأساس وأن معطياته المعرفية هي المعيار والمقياس، وأن على العقل إذا أراد أن يدلي بدلوه في المعرفة أن لا يخرج عن الحدود التي وضعها النص، وإلاَّ فإن معرفته المُساَقَة تلك هراء لا قيمة له.
وعندما نقول.. "لا يجوز للنص أن يعارضَ العقل". فإن المعنى المعاكس هو الذي يفرض نفسه، لتغدوَ المعادلة مطروحة بشكل يطلب من النص أن لا يخرج عن الحدود والأطر المعيارية التي وضعها العقل للمعرفة.
إن مثل هذه المعادلة الغريبة لا يمكنها أن تكون مطروحة على ذهن من يعايش نزول الوحي، إطلاقا. لا يمكن لمن يسمع من نبي مُرْسَلٍ ويراه، أن تُثار لديه قضيةٌ عنوانها "تعارض المعقول مع الموحى به" – الذي هو المنقول بالنسبة للاَّحقين – لسبب بسيط هو أن الله الموجود في العقل وفي الوحي، حاضرٌ حضوراً كاملا في حالة معايشة الوحي. فثبوت النبوة بشكل أو بآخر يعني أن الرجل الذي يتلقى الخبر من السماء صادق، وبالتالي فمَنْ خَلَقَنا عقلاء مفكرين هو ذاته الذي يزودنا بمعارف عبر الوحي الذي نعايشه، وإذن فأين المعضلة؟! إنها غير موجودة على الإطلاق، لأن الله لن يكذب علينا، ولن يخالف في وحيه لنا ما أراده عبر عقولنا.
تبدأ المعضلة تتكشَّف وتتكون وتتعمَّق منذ اللحظة التي يتحول فيها الوحي من حالةٍ معايَشَةٍ نَعِمَ بها من رأوا النبي وسمعوا منه فارتاحوا من معضلة الرواية، إلى حالةٍ مُخْبَرٍ بها منقولة عبر التاريخ برجالٍ تُمَرَرُ من خلال مروياتهم وقصصهم وأساطيرهم وأكاذيبهم وصراعاتهم وكلِّ نزواتهم وحالات قوتهم وضعفهم، كلُّ التبريرات المُرادَة لشرعنة كافة أوجه الصراع والاقتتال والاختلاف المتصَوَّرَة. وبما أنه لا مشكلة مثارة من هذا النوع إبان نزول الوحي، فإن إثارتَها بعد تحول الوحي إلى منقول ومُخْبَرٍ به، تكتسب مبرِراتها وأهمِّيَتها من السعي إلى إعادة الأمور إلى نصابها، عبر تنقية المعقول النبوي الموحى به إلى شخص النبي، من اللاَّمعقول الخبري المكذوب به عليه.
إن استحالة افتراض تساوي حالتي الاستماع إلى النبي بالمشافهة المباشرة، والاستماع إليه عبر الرواية المنقولة، في ضرورة تطابق مُعْطَى العقل مع المضمون الوحيوي فيهما، نظرا لعدم ضمان تَحَرُّر الوحي بعد تحولِه إلى مادة منقوله، من عبث البشر وتحريفاتهم وتوظيفاتهم السياسية والمصلحية المختلفة، يقتضي التعامل مع تلك المادة الوحيوية المنقولة التي بين أيدينا، والتي لا نستطيع الجزم بتطابقها من عدمه مع الصيغة الموحى بها كما أوحي بها، بشكلٍ مختلفٍ عن طريقة التعامل المفترضة لأولئك الذين استمعوا إلى الرسول ورأوه مباشرة. ولأن العقل لا يخضع للتحريف، وليس مادة عرضة للتلاعب بها تاريخيا كما هو شأن النقل الذي يتعرض وحده لعبث البشر، فلا شك إذن في أن العقل هو السيِّد المعرفي، وفي أن النصَّ هو التابع المعرفي الذي يجب أن يثبتَ مشروعية ذاته من خلال عدم تعارضه مع العقل، وليس العكس.
فعندما لم تكن هناك قضية مُثارة عنوانها "تعارض العقل والوحي"، إباَّن نزول الوحي للأسباب الموضوعية التي ذكرناها، فلن نواجَهَ بعقل يطالب بمشروعيةٍ لوحيٍ يعارضه، ولا الوحي سيُصْدَم بعقلٍ يناصبه العداء أساساً. لأن هذا لن يحدثَ البَتَّة. ولكن عندما أثيرت القضيَّة وما كان لها إلاَّ أن تُثار، بسبب التاريخ ومنطق الرواية وهي تُنْقَلُ من جيلٍ إلى جيلٍ على أسِنَّة الحراب والأهواء، وعبر أنهار الدماء والنزوات، فقد غدا من اللازم أن تثار بشكلها الصحيح الذي يضع العقل موضع السيِّد والنص والمنقول موضع التابع، كي تستقيمَ الأمور.



ثانيا.. شكل التكامل المعرفي "الخبري والتشريعي" بين القرآن والسنة
إن سياق النصوص القرآنية التي تحدثت عن طاعة الجانب الرسالي في شخصية محمد بن عبد الله واتِّباَعِه، لم تَتَوَلَّ مهمة تحديد أبعاد وضوابط هذا الجانب. فهي لم تحدد لنا أن مهمة محمد الرسالية تنحصر في كذا أو أنها تمتد لتطال كذا أو أنها شاملة للمجالات الفلانية والفلانية في الحياة. بل هي ذكرت لنا الموضوع بدون توضيح أو تفصيل، الأمر الذي يشير قطعا إلى أن تحديد ضوابط هذا الجانب من جوانب شخصية الرسول مرهون برؤىً تجيء من خارج حدود النص القرآني، وبالتالي ومن باب أولى من خارج حدود النص السُّنِّي نفسه. من هنا فلا ملجأ لمعرفة ضوابط وحدود هذا الجانب وحدود باقي الجوانب من ثم، إلاَّ إلى مصدر المعرفة الأساسي وهو العقل. على أن يكون واضحا أن دور العقل يتحدد في هذا الخصوص من خلال ما يمكنه أن يظهر له من عناصر خاصة تحكم العلاقة بين كل من القرآن والسنة بصفتيهما قناتين تمر عبرهما المفردات المعرفية الواردة لنا عبر المصدر المعرفي نفسه، وهو الوحي.
فالعقل ليس فيه في حدود معارفه الضرورية ما يشير إلى ما يجب أن تكون عليه ضوابط الرسالية في شخصية الرسول. وبما أن القرآن ليس فيه شيء من ذلك أيضا، فإن العقل من خلال ما يتحدد فيه من علاقات يفترضها بين القرآن والسنة، وذلك بحكم طبيعة كل منهما كما فرضت هذه الطبيعة نفسها عليه، يستطيع أن يستنبط هذه الضوابط والحدود استنباطا منطقيا، وهذا ما سيتضح لنا خطوة خطوة في سياق هذا التحليل.
إن الله أنزلَ وحيه الأخير عبر قناتين نقليتين مختلفتين هما القرآن الذي يعتبر خطابَ الله المباشر، والسنة التي تعتبر بمثابة الأداءات الرسالية لشخصية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. ومادام الأمر كذلك فلا شك في أن لكل قناةٍ منهما دورَها الخاص على صعيد إظهار المعرفة وتزويدنا بها، وإلاَّ فإن هذه الثنائية تغدو عبثا لا طائل وراءه، وتصبح بالتالي فاقدةً لأيِّ دلالة ذات قيمة أو منفعة. إن الحدود الفاصلة بين القناتين، الإلهية المباشرة والمحمدية النيابية أو المُكَمِّلَة، واضحةٌ وضوحا لا لبس فيه. وهو ما يجب أن تكون له دلالة تتناسب مع معتقد عدم العبث في الله. ولا يمكن لهذه الدلالة أن تكون واقعة خارج نطاق البعد الوظيفي لكل قناة من القناتين.
إن العقلَ من حيث المبدأ يرسم الحدود المعرفية الدقيقة للتعامل مع نصوص الوحي عامة، أياَّ كان عدد القنوات التي سيتم تمرير تعاليم الوحي عبرها ومن خلالها. إنه ينظر إليها نظرة واحدة وشاملة بصفتها جميعها تمثل الوحي، وبصفة معارفها تمثل جميعها المعارف الوحيوية. والعقل بما هو عقل ليس معنيا بالتفريق من حيث طريقة التعامل بين أيٍّ من قنوات الوحي وقنواته الأخرى، إلاَّ إذا كشف الوحي نفسه عن فروقات بين تلك القنوات وعن دلالات لتلك الفروقات على الصعيد المعرفي، سواء كان ذلك الكشف مباشرا وواضحا أو ضمنيا. عندئذ سيأخذ العقل هذه الفروقات بعين الاعتبار ليكمل مهمة التحديد المعرفي المنوطة به إن كانت له مهمة واضحة ومحددة يستطيع القيام بها في ضوء الفروقات المعلنة وضوحا أو الملاحظة ضمنا بين تلك القنوات.
وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، فإن العقل ومعه التجربة من ثم، إذا كان يضع مجموعة من المعايير التي على الوحي أن يخضع لها وأن يعمل معرفيا في ضوئها ويُفْهَمَ بالتالي على أساسها، فإن هذه المعايير تنطبق من حيث المبدأ على الوحي كله قرآنا وسنة، وإذا تبين أن للثنائية المرئية دلالة على صعيد الدور المعرفي، فإنها ستفرضُ – أي هذه الثنائية – معاييرَ جديدة تعمل داخل مساحة عمل المعايير العقلية والتجريبية. أي أن هنالك دائرتين للمعيارية تُعاَلَجُ في ضوئها نصوص الوحي..
الأولى.. الدائرة العقلية التجريبية التي تُعاَلجَ فيها نصوص الوحي عموما قرآنا وسنة.
الثانية.. وهي دائرة أصغر تعالج فيها نصوص إحدى قنوات الوحي في ضوء هيمنة القناة الأخرى.
ولا يصح مطلقا افتراض تساوي القناتين في الدلالة الوظيفية لما في ذلك من العبث واللاحكمة وانتفاء المعنى والدلالة عن ورود نصوص الوحي عبر قناتين منفصلتين انفصالا تاما من حيث المبدأ.
ومن الواضح في الوحي الأخير الذي وصل إلينا عبر قناتين هما القرآن والسنة، أن الهيمنة والقيادة المعرفية إنما هي للقناة القرآنية. وأن القناة السُّنِّيَّة هي في هذا المجال تابعٌ ومقودٌ.
وبالتالي فإن هناك ثلاثة معايير للتَّثَبُّتِ من إلزامية المرويات المأثورة عن الرسول الكريم، هي المعيار العقلي والمعيار التجريبي والمعيار القرآني. وإذا كان نص السنة يُعاَلَج في ضوء المعيارية العقلية والمعيارية التجريبية كما يعالج نص القرآن ولا فرق، باعتباره الشق الثاني من الوحي، أي باعتباره في نهاية الأمر وحيا. فإنه في ضوء المعيارية القرآنية يُعالَج كما يُقَرِّرُ ذلك القرآن نصا أو اقتضاءً، وذلك بحكم الدلالات العقلية لمتطلبات ومقتضيات الهيمنة والتوجيه والقيادة في مجال المعرفة.
إن نص السنة في نهاية المطاف سيُحاكَم محاكمة مركبة جدا، وكأننا بالعقل وبالتجربة نحدد مساحة الوحي، ليقوم القرآن في الخطوة التالية بتحديد مساحة السنة في ضوء مساحته هو وفي ضوء هيمنته هو. ولأن القرآنَ وَحْيٌ كُلُّه، فهو مُلْزِمٌ كُلُّه بمختلف أوجه الإلزام التي يُمكن التوصل إليها عقلا أو قرآنا. وبالتالي فإنه يُكتفى لاعتبار أن ما نُسِب إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام غيرَ مُلزمٍ، وأنه إماَّ من مَحْضِ بشريته، أو مِماَ نُسِبَ إليه خطاً، مجرد فشله في الحصول على استحقاقات الإلزام في ضوء المعايير العقلية والتجريبية والقرآنية المشار إليها أعلاه.
إن أيَّ موقف تَثَبُّتِّي نتخذه تجاه أيِّ نص وارد عن الرسول لا يمكنه أن يتعرض للدحض أو للتفنيد بردٍّ ينطوي على إشارة إلى حُجِّيَّة السنة، أي حجية ما يصدر عن الرسول. فعندما نؤمن بحجية السنة فنحن سنؤمن بها لكل ما سيثبت أنه من السنة، في حين أن هذه الحجية لن تنطبق على ما نتوصل – وفق مقاييس التَّثَبُّت التي نعتمدها– إلى أنه غير صحيح النسبة إلى هذه السنة. وهكذا فلا مكان استدلاليا في تحليلنا هذا لأيِّ آية قرآنية تحدثت عن ضرورة اتباع النبي وطاعته والتأسي به والالتزام بأوامره.
من جهة أخرى لا تصح آلية أو قاعدة للتَّثَبُّت من المروي المنسوب إلى الرسول، إذا تم استنتاجها من نص مروي منسوب إلى الرسول ذاته. فهذا غير معقول ولا منطقي. فمادامت النصوص المنسوبة إلى النبي هي كلُّها جملةً وتفصيلاً مَحَلَّ تَثَبُتٍ للتأكد من صحة نسبتها إليه عبر مجموعة القواعد والآليات التي نحاول وضعها واستنتاجها وبلورتها في سياق علمي منطقي، فلا يمكن أن يُسْتَدَلَّ على هذه الأخيرة بنصوصٍ لا تثبت صحتُها أساسا إلاَّ بِها. وهذه قاعدة بديهية في أصول الاستدلال.
من الناحية النظرية المجردة، قد يصح نصٌّ – في نسبته إلى الرسول – صح متنا ولم يصح سندا، بينما لا يصح نص صح سندا ولم يصح متنا، وذلك لإمكان أن يحدث خلل في سلسلة الرواة وهم يتناقلون متنا ورد من مصدره، لكن يستحيل أن يكون الرواة مصيبين في تناقلهم متنا غير صحيح، لاستحالة أن يصدر عن رسول الله أساسا متن يعارض العقل والتجربة ولا ينسجم مع أيٍّ من أنساقهما المعتمدة، بل وقد يعارض القرآن أيضا. وإذن فلا وجود في صحة المرويات عن الرسول لصحة مطلقة بأيِّ حال. بل إن الصحة نسبية، أو لنقل أنها واقعية عملية، أي تكفي عقلا لإيجاب العمل بالنص في ضوء استحالة الصحة المطلقة.
إن هذه الاستحالة تَنَبَّه إليها بعض الحاذقين في علم الحديث حينما أكدوا على أن الحديث المتواتر ليس هو النص الذي يُنْقَلُ عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب إلى منتهاه، بل هو النص الذي يُنْقَلُ عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب عادةً، عن جمع يستحيل اجتماعهم على الكذب عادةً إلى منتهاه. وكلمة "عادةً" هذه، هي للدلالة على اللاإطلاق وعلى النِّسْبِيَّة الموجبة للعمل. ولكن الخطأ المطلق مُمكن في هذه المرويات، وذلك عندما يتحقق الخطأ في المتن بالتحديد. وبناء على ما سبق نستطيع أن نُصَنِّفَ النصوص المروية عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، على النحو التالي..
1 – نص صحيح سندا، صحيح متنا، وهو نص صحيح صحة عملية، أي صحة موجبة للعمل به، وإن كان من الممكن ألاَّ يكون صحيحا في وروده عن الرسول نظريا، ولكن العمل به واجب نظرا لاكتمال عنصري الصحة العملية الموجبة للعمل، ولعدم إمكانية تَحَقُّق مستويات صحة أعلى من ذلك في الواقع، وإن كانت مستويات الصحة العملية نفسها متفاوتة من نص لآخر، ولعل هذا ما جعل علماء الحديث يفرقون بين أحاديث الآحاد والأحاديث المتواترة. كما أن معظم علم الحديث ومصطلحه وتصنيفاته تدور حول هذه المسألة المتعلقة علاوة على مقومات الصحة بدرجات الصحة.
2 – نص صحيح متنا، غير صحيح سندا. وهو نص خاطئ خطأ عمليا، أي كاف لترك العمل به، وإن كان من الممكن أن يصح عن الرسول نظريا بسبب صحة متنه. ولكن العمل به غير ملزم ولا واجب نظرا لعدم اكتمال عنصري الصحة العملية الموجبة للعمل.
3 – نص غير صحيح متنا، صحيح سندا، وهو نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به، ولا يمكنه أن يكون صحيح النسبة إلى الرسول رغم صحة سنده نظرا لاستحالة أن يرد عن الرسول متن خاطئ.
4 – نص غير صحيح متنا، وغير صحيح سندا. وهو من باب أولى نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به.
وهكذا يتضح لنا أن أي نص مروي عن الرسول يجب كي يصبح العمل به واجبا واقعيا وليس بصورة مطلقة، أن يصحَّ سندُه وأن يصحَّ متنُه في ذات الوقت. ولا يُلْزِمُنا بأيِّ حالٍ من الأحوال نصٌّ اختل فيه السند أو المتن أو كلاهما. ولا يبقى علينا سوى أن نحدد شروط صحة السند وشروط صحة المتن كي تتضح لنا من ثم شروط صحة النص المروي.
ونوضح هنا للضرورة أننا عندما نقول بأن المتن يسقط إذا عارض العقل أو التجربة أو القرآن أو أياًّ من الأنساق المعرفية المعتمدة لكل من العقل والتجربة، فإننا لا نزعم أن السابقين وهم يدرسون المتن لم يقولوا بذلك، بل إننا نزعم أن قضايا جديدة دخلت في معاني التعارض مع العقل ومع التجربة ومع أنساقهما المعرفية وبالتالي مع القرآن ذاته، فرضتها التوسعات الهائلة التي حصلت في المساحات المعرفية الخاصة بالعقل وبالتجربة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى أخذ هذه التوسعات بعين الاعتبار في سياق تحديد معاني التعارض النَّصِّي مع المرجعيات المعرفية المذكورة.