الأوهام العشرة المعرقلة لثورة الأردنيين

أسامة عكنان

من الناحية الإستراتيجية هناك فرق حقيقي وجوهري بين "القوة" و"القدرة"..
فالقوة – أيُّ قوة – هي مجرد عنصر من عناصر القدرة..
وكلمة "قوة" من ثم عندما تردُ منفردة، تكون بلا معنى وبلا دلالة..
فهناك "قوة عسكرية"، وهناك "قوة حقوقية"، وهناك "قوة إعلامية"، وهناك "قوة اقتصادية".. إلخ..
و"القدرة" هي محصلة تلك "القوى" مجتمعة..
وإذن فلا ينتصر أحدٌ في معركة يخوضها إلا بقدرته، أي بمحصله قواه..
فمن كانت إحدى قواه ضعيفة، وعجزَ عن تنميتها..
فهو يحرص على استخدام قوى أخرى متاحة له، يعدل بها كفة ميزان قدرته..
ولهذا السبب بالذات تنتصر الشعوب الثائرة رغم ضعفها عسكريا وأمنيا، على الأنظمة المتمترسة وراء ترسانات الأمن والعسكر، إذا هي عرفت كيف تعدِّل ميزان القدرة لديها لصالحها بكفاءةِ استخدامِ قواها الأخرى وتفعيلها في المعركة..
أيُّ شعبٍ ثائر ضد نظام فاسد مستبد، إنما يخوض معركتَه على جبهاتٍ محددة هي..
جبهة "قوة اليقين"، وجبهة "قوة الشرعية"، وجبهة "قوة الحق"، وجبهة "قوة التنظيم"، وجبهة "قوة الجغرافيا"، وجبهة "قوة الإعلام"، وجبهة "قوة السياسة"، وجبهة "قوة الوقت"..
وهو – أي الشعب – لا يخوضها – عادة – على جبهة "قوة الأمن والعسكر"..
وأيُّ نظام فاسد مستبدٍ يخوضها على جبهات تلك القوى مضافا إليها جبهة "قوة الأمن والعسكر" التي لا يملكها الشعب..
الشعب ينتصر عندما يستطيع أن يرجِّحَ كفة قدرته المفتقرة إلى "الأمن" و"العسكر"، على كفة النظام المدجج بهما، على جبهات المواجهة الأخرى..
ولأن النظام المستبد يعرف أنه قد لا يملك في معركته ضد شعبٍ ثائرٍ في مرحلة من مراحل المواجهة والصراع، إلا هذه القوة التي تَضعُفُ فعاليتها إذا تمكن الشعب من استخدام عناصر قدرته بكفاءة، فإنه – أي النظام – يحرصُ على منع الشعب من ترجيحِ كفةِ قدرته، عبر العمل على إضعاف أوجه استخدامه للقوى غير الأمنية وغير العسكرية المُكَوِّنَة لتلك القدرة..
المعركة الحقيقية في ساحة السيرورة الثورية بين "الشعب الثائر" و"النظام المستبد"، لا تصُبُّ إذن باتجاه حسمِ ميزان القدرة في جبهة "القوة الأمنية والعسكرية" بين الطرفين، بل هي تصُبُّ باتجاه حسم ميزان القدرة على الجبهات الأخرى التي هي في حوزة الشعب أصلا، أو التي يستطيع الشعب أن يمتلكَها ويُنَمي قدرتَه بتفعيلها، وهي "اليقين"، و"الحق"، و"الشرعية"، و"التنظيم"، و"الجغرافيا"، و"الإعلام"، و"السياسة"، و"الوقت".. إلخ..
وعندما يُلقي قادةُ ثورةِ شعبٍ أو حراكهِ، نظرة على سيرورة الفعل الثوري والحراكي، ليجدوا أن النظام ما يزال متفوقا في ميدان المواجهة، فعليهم أن يستوضحوا أسباب ذلك في مراجعة فعاليتهم على كلِّ الجبهات ماعدا جبهة "الأمن والعسكر"، لأنها ليست جبهة ثورة الشعب أو حراكه من حيث المبدإ..
عندما يبدأ قادة الفعل الثوري والحراكي في تصوُّر أن المطلوب في مثل هذه الحالة – أي حالة تفوُّق النظام في ميدان المواجهة – هو فتح جبهة عنصر "القوة الأمنية والعسكرية" ضد النظام، فإنهم – في الغالب – سيخسرون كلَّ شيء، لأن النظام يحرص دائما على استدراجهم إلى هذه الجبهة، ليفقدوا زخمَ قدرتهم على جبهات القوى الأخرى. فعسكرة الفعل الثوري الشعبي تضعفه وتقوي النظام وتطيل في عمره، وتفاقمُ من خسائر الشعب على الكثير من الصعد..
قد لا تكون هذه قاعدة مطلقة في علم الثورات، لكنها قاعدة عامة قليلة الاستثناءات، وهي في الأردن قاعدة يقينية وثابتة وغير قابلة للمراجعة على ما نفهمه من طبيعة هذا البلد جغرافيا وديمغرافيا وجيوسياسيا..
إن عجْزَنا إلى الآن، عن فرض إرادتنا على النظام حتى في الحدود الدنيا لهذه الإرادة، وقصورَنا وفشلَنا في ذلك، كلُّه راجعٌ إلى أننا لم نمتلك بعدُ الرؤيةَ الواضحة التي نَقْدِرُ بموجبها على حُسنِ إدارةِ وتفعيلِ معركتنا ضده على جبهات "اليقين"، و"الشرعية"، و"الحق"، والتنظيم"، و"الجغرافيا"، و"الإعلام"، و"السياسة"، و"الوقت"..
كيف يمكننا ان ننتصر في هذه المعركة ضد هذا النظام الوظيفي الفاسد المستبد، وهو وبعدَ أن امتلك "القوة الأمنية والعسكرية"، بدأ يتفوق علينا تدريجيا حتى في جبهات المواجهة التالية..
1 – جبهة "اليقين"، حيث ما يزال معظم الشعب الأردني لا يمتلك اليقين الدافع للفعل ولأسباب كثيرة، بأن الحراك الشعبي هو ممثلُه، والمعبِّر عن تطلعاته، والأمل المرتجى، والداعي إلى الثقة فيه والاطمئنان إليه على مستقبل الدولة متشابكةِ الظروف والحيثيات..
2 – جبهة "التنظيم"، حيث ما يزال الحراك الشعبي يمارس رسالته بشكل عشوائي غير منظم وبعيد عن قلب الكتلة الجماهيرية الحقيقية التي لم تتفاعل معه بعد..
3 – جبهة "الجغرافيا"، حيث ما تزال أهم المناطق الجغرافية في البلاد خارج نطاق الفعل، وتكتفي بالمراقبة والمتابعة واللامبالاة..
4 – جبهة "الإعلام"، حيث ما يزال إعلام الحراك الشعبي الذي نتطلع إلى تحويله إلى ثورة، يخاطب الحراكيين أنفسهم فقط، وكأنه مجرد نشرات للتوزيع الداخلي، فلا أثر لأيِّ إعلام شعبي جماهيري داخلي، يخلق الأحبال السُّرِّيّة بين الحراك والشعب، أو أيِّ نظير له خارجي يسوِّق الحراك للعالم المراقب، بالفعالية نفسها التي يمارسها النظام، الذي استطاع تسويق نفسه عبر قصورنا وفشلنا، بأنه نظام ديمقراطي إصلاحي مقبول إقليميا وعالميا..
5 – جبهة "السياسة"، حيث لم يتوافق الحراك وقادته وبُناه التنظيمية على برنامج وطني يلتف حوله الشعب، ويقتنع بأنه يصلح أن يمثلَّ حاضنةً لطموحه. فالحراك ما يزال في نظر معظم فئات الشعب الأردني، عبارة عن مجموعة من المغامرين، أو المراهقين، أو الباحثين عن النجومية، أو قليلي الخبرة، أو قاصري الرؤية، أو النرجسيين..
6 - وبالتالي فلا ثقة شعبية كافية في أن هذا الحراك قادرٌ على أن يدير دولة سيستلمها من النظام – إن استلمها – محطمة مدمرة، عليه أن ينهض بها من العدم..
إن غالبية الشعب الأردني، ما تزال تقارن بين دولة ما تزال تتنفس وإن يكن بصعوبة في ظل نظام فاسدٍ مستبد قائم، ودولة يرى أنها سوف تموت في ظل حكم مراهقين سياسيين مرتقبين، في حال سقوط النظام أو تغييره، يخاف من مستوى قدراتهم وتدني خبراتهم، أكثر بكثير مما يطمئن نسبيا إلى وطنيتهم ونقائهم، وأكثر بكثير مما يخاف على مصير الدولة في ظل بقاء هذا النظام..
الحراك ما يزال لا يمثلُ حالة يقين حقيقية مؤهلة لتكون في نظر معظم الشعب الأردني ذلك البديل الذي يطمئن معه على مستقبل الدولة والوطن..
فهل نستطيع القول بعد كلِّ هذا، أن هناك أيُّ تكافؤٍ في القدرة بين الحراك والنظام؟!
لقد نجح النظام في تحييد قوته العسكرية والأمنية تحييدا تاما كي لا يُحْرِجَ نفسَه عالميا بظهوره بمظهر القمعي القاتل، كما ظهر نظراؤه في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا، لسبب بسيط هو أنه وجد نفسه قادرا بكل أريحية وثقة ويقين على التفوُّق علينا حتى في عناصر القدرة التي يفترض أنها ساحةُ فعلِنا الحقيقية..
فلماذا يستخدم ورقته الأخيرة ويضر نفسَه وهو في غير حاجة إلى استخدامها؟!
باختصار..
كنا ضعافا إلى الحد الذي أعفينا النظام من لعب آخر أوراقه وأخطرها عليه وليس علينا، ألا وهي الورقة الأمنية والعسكرية. لأن القاعدة الثورية تقول: "إنه في المواجهة بين قوى حراكية أو ثورية شعبية ونظام فاسد مستبد، تقوم حالة من التناسب العكسي بين أزمةِ النظام في مواجهة الفعل الثوري على الأرض، وبين استخدامه لقوته الأمنية والعسكرية".
أي أن النظام الذي يكون مستشعرا لتفاقم أزمته في مواجهة الشارع، يلجأ حتما وإن يكن على سبيل الاختبار وجسِّ النبض ولو لمرة واحدة – في أعلى درجات رقيه الأخلاقي – إلى استخدام أداته الأمنية بشدة. وإنه عندما لا يظهر مستخدما لها بأيِّ شكل، فهذا مؤشر على أنه غير مأزوم في مواجهة الشارع بالشكل الذي يتخيله الكثيرون ممن يعتقدون أن الحراك والمعارضة في الأردن قد أزَّما النظام فعلا!!!
النظام الأردني إذْ لم يستخدم ورقة "الأمن والعسكر" بالشكل الذي استخدمه نظراؤه في عديد الدول، فليس لأنه لا يستطيع أن يستخدمها إذا احتاج إليها، ولا لأنه أرقى أخلاقيا من أن يستخدِمَها – فهو قد استخدمها فيما مضي بالهمجية نفسها عندما كان الوضع يدعو إليه ويسمح به، وإن كنا نُقِر بأن قدرتَه على استخدامها محدودة نسبيا ولا تشبه حالاتٍ مجاورة – بل لأنه لم يضطر إليها بعد في هذه المرحلة..
وبالتالي، فعلينا أن نعيَ جيدا أن ذلك راجع إلى كونه ما يزال شريكا فعالا لنا في عناصر قوتنا الأخرى..
ألا فلننتبه، ولندرك معنى ذلك وخطورتَه، ولنفكر في كيفية طرد النظام من دوائر شراكته لنا في عناصر قدرتنا، ولنعمل على تحييده فيها وعزله عنها، ليبقى محصورا في إطار قوته "الأمنية والعسكرية" التي سوف نُفْشِلُه في استخدامها إذا تحرَّرْنا من أوهامنا "العشرة" القاتلة التي ساعدته على اقتحام مراكز قوانا والتأثير من ثمَّ في محصلة قدرتنا الحراكية والثورية..
1 - فلنتحرَّر من وهمنا الأول، بأن النظام يعاني من أزمةٍ حقيقية سوف تسقطُه أو تجبره على التغيير والتراجع، بسبب مشروعه السياسي الذي أقامه على الانتخابات وعلى قانون الانتخاب، لمجرد أننا رفضنا هذا القانون وذلك المشروع القائم عليه، دون أن نكون قادرين على أكثر من الرفض.
فالنظام المأزوم والمهزوز، لا يرفع الأسعار، ولا يرفع الدعم، ولا يستفز الشارع إلى هذا الحد المروِّع، ولا يستهتر بكل القوى التي تظن نفسها فاعلة ومؤثرة، ولا يتجاوزها ويتحرك برؤاه ضمن دوائره ودون مبالاة بأحد، إذا كان يعيش في أوج أزمته في الشارع كما نتصور، وذلك كي يحميَ نفسه من تداعيات الأزمة. فالأنظمة المأزومة خلال فعاليات الثورات العربية كانت تقدمُ تنازلات وتتراجع، وإن يكن في القليل، لأنها كانت تعي أنها مأزومة. ونظامنا إذ لا يفعل مثلما فعلت تلك الأنظمة، فلأنه مرتاح وغير مضطر لأن يحسبَ حسابا لأرقام لا يراها مؤثرة عليه وعلى سياساته. ومبعث راحته أنها تعيش أوهامَها وآمالها أكثر بكثير من أنها تعيش الواقع كما هو.
2 - ولنتحرَّر من وهمنا الثاني، بأن الحراك قويٌّ في الشارع إلى الحد المُطَمْئِن بأنه فاعل فعلا مُحرجا للنظام، وبأن الشارع متخمٌ بنا، وبأنه يزهو بتمددنا وتقدمنا وتطورنا، وبأنه ينتظر قفزتنا "الإسبرطية" التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى على النظام المتهاوي والمتهالك. فهذه كذبة كذبناها وصدقناها، ولن تؤثر سلبا إلا علينا قبل أن تؤثر على غيرنا. فهناك فرق كبير جدا بين تحوُّل البضعة ألاف من الحراكيين إلى 200 حراك بعد أن كانوا خمسين حراكا عبر سياسة التَّشَلِّي والتَّشَظِّي العمودي غير المنتج، وبين أن يرتفع عدد الحراكيين أنفسهم ليصبحوا عشرين ألفا بعد أن كانوا خمسة ألاف، عبر سياسة التَّمَدُّد والتَّوَسُّع القاعدي، حتى لو تقلص عددُ أعيانِ الحراكات بالتوحُّد والتآلف، بل بتقلُّصها الفعلي.
3 - ولنتحرَّر من وهمنا الثالث، بأن مُخرجات الربيع العربي في دول الإقليم، سوف تكون بالضرورة ذات مردود إيجابي علينا بطريقةٍ سحرية، إذا لم نكن نحن "فكرا" و"برنامجا" و"أداء" و"تنظيما" و"أخلاقا" و"تصوراتٍ" و"وعيا"، ترياقَ الحياة الحقيقية لثورةٍ فشلنا حتى الآن في تخليقِ أَجِنَّتِها..
ففي ظل يقيننا بفشل كلِّ الرهانات على "الإخوان المسلمين" وعلى "الأحزاب اليسارية والقومية"، فإن الرهان في التغيير هو على "الحراك الشعبي"، إذا وفقط إذا تمكن من امتلاك أدواتِه بشكل ناضج وصحيح، وإلا فإنه لن يكون أكثر من مُتَنَفَّسٍ سيستفيد منه النظام أكثر من غيره. وأولى أدوات تحويل الحراك إلى مقدمة لثورة، هو تحريره من الأوهام التي يعيشها.
4 - ولنتحرَّر من وهمنا الرابع، بأن العلاقة بين الحزب السياسي وقوى الحراك هي علاقة تنافر، وأن الحراك الشعبي الأردني في غنىً عن الأحزاب السياسية لتوجيهه وضبط بوصلته. فالأردن – وهذا تاريخه أمامنا فلنتفحصه – لم يتمكن من أن يكون جاهزا للخروج من عنق الزجاجة، إلا في عام 1956، لأن حركة الشارع الأردني آنذاك كانت تقودها الأحزاب الطليعية قيادة فعلية. ولولا ذلك لما تمَّ تشكيل أول حكومة برلمانية حزبية حقيقية كانت ستغير وجه الأردن والإقليم، لولا المؤامرة التاريخية التي يعرفها الجميع.
والنظام الذي أدرك أهمية الأحزاب السياسية في صناعة شارع حقيقي ثائرٍ، ثم في قيادته نحو التغيير الفعلي، تمكن من البقاء والاستمرار بكافة مُخرجاته الوظيفية والتبعية السايكسبيكوية على مدىً تجاوز الخمسين عاما كما هو دون أن يهدده أحد في الشارع وفي غير الشارع، من خلال تغييب هذه الأحزاب عن الساحة تغييبا كليا، وعبر اختراق فلولها وبقاياها وتخريبها وجعلها تظهر بمظهر المنفر المبغوض في الأوساط الشعبية، كي نسمعَ اليوم ممن يطرحون أنفسهم قادةَ حراكٍ وفعلٍ شعبي في الشارع أن الأحزاب ليست لها أيُّ قيمة أو أهمية، متصورين – بطرحٍ سياسي غريب ليس له مكان في العالم، ويراد لنا أن نقتنعَ بأن الأردن في هذا الشأن استثناء لا ينطبق عليه القانون والناموس الكوني الذي خلقه الله – مع الأسف أن المخابرات العامة قد تغير نهجها التغوُّلي، وأن النظام قد يتنازل عن مطلقيته، وأن الفاسدين ستجَزُّ رؤوسهم، بدون أن يكون ذلك ضمن برنامج سياسي حزبي طليعي قوي يقود الشارع باتجاهه!!!
يكفينا أن ننتبه إلى أن أربع سنوات من الحياة الحزبية التي اقتنع الشعب الأردني بأنها ستكون حاضنةَ تغييره وتحريره، هي الفترة الممتدة من عام 1952 "عام الدستور"، إلى عام 1956 "عام أول وآخر حكومة حزبية برلمانية أردنية"، كانت كافية لتنجزَ برلمانا حزبيا مثلت الأحزاب السياسية فيه حوالي 70% من أعضائه، أي بواقع "26" عضوا من أصل أربعين، في انتصارٍ تاريخي غير مسبوق على الوظيفية والعصبية التي اشتغل بها النظام والإنجليز على هذا الشعب أكثر من ثلاثة عقود من الزمن سبقت. بينما هو – أي الشعب الأردني – بقي ضالَّ البوصلة، فاقدَ الوجهة، غير قادر على لملمة نتائج مؤامرة عام 1957، وما تبعها من محاصرة للأحزاب حتى الآن، أي حتى بعد مرور قرابة الستين عاما على إفشال تلك التجربة الرائدة، في إثباتٍ لا يحتمل الشك أن غيابَ الأحزاب الطليغية القوية، يغيِّب الفعلَ الشعبي القادر والمؤثر.
كم نتمنى أن يقرأَ الأردنيون تاريخَهم، وأن يعرفوا اليوم أن كل مظاهراتهم ومسيراتهم واعتصاماتهم.. إلخ، أقل بكثير مما كان يحدث في خمسينيات القرن الماضي بقيادة الأحزاب السياسية الطليعية، عندما كان الشهداء يسقطون فيها بالعشرات بنيران عسكر النظام، وأن يفهموا جيدا أن هذا السياق الحزبي الطليعي الذي كان يقود الفعلَ الشعبي في الشارع، هو الذي حقق ذلك الإنجاز التاريخي الذي نتحدث عنه، لإجراء المقارنة كي لا يسيطر علينا الوهم بالنفور من التجربة الحزبية إلى حدِّ افتراض أن الحراك قادرٌ بدون أطرٍ سياسية حزبية على إنجاز شيء على الأرض.
5 - ولنتحرَّر من وهمنا الخامس، بأن الأحزاب التاريخية التي قرأناها وعرفناها وعايشناها وعايشنا سوء أداءاتها من خلال مخرجاتها المشوَّهة عبر عقود ما بعد أيلول لأسباب مفهومة، هي الوجه الحقيقي للأحزاب السياسية، ما يجعلنا لا نتصور الحزب السياسي إلا صورةً عنها، فنرفضه بسبب رفضنا لها، غير مدركين لحقيقة أن النظام نفسه يريدنا أن نعيش هذا التصور فنقلق من "التجربة الحزبية القادمة" ونخاف منها ونعاديها ونحاربها، بسبب خبرتنا المريرة في "التجربة الحزبية السابقة" التي عرف النظام كيف يعيد إنتاجها لتخترق عقولنا وأذهاننا على ذلك النحو المرير.
علينا أن نعيَ جيدا أن ذلك الموروث الحزبي المرير هو جزء من مشكلة الأردنيين التي يجب أن يقفزوا عليها، بخلق تجربتهم الجديدة التي تخرجهم من عنق زجاجة ضيقِ الأفق الذي يعيشون فيه من الناحية السياسية، بسبب رعبهم وخوفهم من التجربة الحزبية السبعينية والثمانينية والتسعينية، وليس بالهروب من إعادة إنتاج تجربة حزبية يحكمها منطق المرحلة وتولد من قلب الشارع لتفعيله وتقويته وضبط بوصلته، لتكون هذه التجربة في تَجَذُّرِها وفي قدرتها على تمثيل الشارع وقيادته، كتجربة الخمسينيات الفاعلة والمنتجة والمؤثرة، لا كتجارب السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات المربكة والمفسِدَة!!!
6 - ولنتحرَّر من وهمنا السادس، بأن الشعب الأردني قادر على التفاعل مع حراك أو حتى مع أحزاب سياسية جديدة وإن انبثقت من قلب الحراك، ومنحها صفة "الأحزاب الطليعية" أو "الحراك الطليعي"، إذا لم تثبت هي وحراكها لهذا الشعب امتلاكَهما لرؤى واضحة وحاسمة في التعاطي مع مشكلاته الأساس التي خلقَّت أزمة "الحالة الأردنية" على مدى الأربعين سنة الماضية، والتي هي "مشكلة الهوية"، و"النموذج الاقتصادي"، و"شكل الدولة المدنية"، وعلاقة كل ذلك بوظيفية النظام منذ نشأة الإمارة ثم الدولة، وبالمشروع الصهيوني الإمبريالي ككل في أبعاده المحلية والفلسطينية والإقليمية.
إن حراكا أو أحزابا لا تملك رؤيتها الواضحة والحاسمة والمفهومة والبعيدة عن الألغاز والمجاملات والأساطير في تلك العناصر، هي أطراف غير مؤهلة لأن تقود شارعا أو لأن تحظى بثقته واحترامه وبناء آماله عليها أصلا.
7 - ولنتحرّر من وهمنا السابع، بأن مجريات العامين الماضيين على الساحة الأردنية سواء لجهة فعل الحراك أو لجهة فعل القوى السياسية، تؤشِّر على إيجابية فاعلة ومؤثرة، في حين أن نسبة التمدد الأفقي في المشاركة الشعبية تكاد تكون معدومة إذا لم تكن سالبة أصلا، في إشارةٍ صارخةِ الدلالة إلى أن الشعب الأردني ما يزال ينظر إلى الحراك باعتباره فعلا يغردُ خارج سرب قناعاته وآماله ومخاوفه، فلا يتجاوب معه بالقدر المأمول لمساعدته على التحول من مجرد حراك إلى جنين ثورة، وهو ما يدعونا إلى حتمية إعادة النظر في خطابنا الذي نوجهه إلى الشارع، وفي أدواتنا التي نستخدمها في التفاعل معه.
فحكمة التغيير الثوري تقول بوضوح: "إن اعتمادُ الفعل المقرِّب للهدف وإن ضرب الأنا، أولى من اعتماد الفعل المحافظ على الأنا وإن أَبْعَدَ الهدف"!!!
8 - ولنتحرَّر من وهمنا الثامن، بأن الاعتصام المفتوح الذي يمثل عادةً آخر حلقات الفعل الثوري في مواجهة النظام الفاسد المستبد، يمكننا إنجازه في الأردن بدون إنتاج ثقافة ثورة تمهِّدُ له الطريق، فيما هي ما تزال بعيدة عن الشارع كلَّ البعد. فالاعتصام المفتوح لا يصحُّ أن يكون هدفا نخطط له متجاهلين الثقافة التي تمهد له، والبُنية التنظيمية التي يمكنها أن تنجزَه، والأدوات الحركية التي تساعد على تحقيقه، لأننا بذلك ننشغل بأملٍ عشَّشَ قُرْبُ حلوله وهما في عقولنا، عن المقدمات الضرورية لتحويل هذا الأمل من مجرد وهم إلى حقيقة واقعة.
9 - ولنتحرَّر من وهمنا التاسع، بأن نظاما يحكم شعبا تعداده "6,5" مليون نسمة، يمكنه أن يتغيَّرَ أيا كان شكل التغيير، بدون أن يكسرَ تعدادُ المتواجدين في الشارع بشكل دائم حاجزَ الـ "2%" على الأقل، ولن نقول الـ "5%" التي نتوقع أن الطبيعة الجيوسياسية للأردن تتطلبها للحديث عن ضغطٍ حقيقي يعاني منه النظام، أي بدون أن يصل ذلك التعداد إلى ما لا يقل عن الـ "130" ألف مواطن الممثلين لـ "2%"، وهو الرقم الذي ما يزال الحراك عاجزا كلَّ العجز عن إخراج عُشْرِه إلى الشارع، بل هو أبعد ما يكون عنه.
ولا يقعَنَّ الحراك في وهم الاعتقاد بأن الشعب المصري خرج أول ما خرج بأقل من هذه النسبة بكثير، ثم توالت الجماهير لتناصر الثورة بعد ذلك عندما بدأ الاعتصام المفتوح في ميدان التحرير، فالأمر في الأردن مختلف كلَّ الاختلاف، لأن الشعب المصري كانت كل من حركة "كفاية"، وجماعة "شباب 6 أبريل"، والمناكفات التاريخية لجماعة "الإخوان المسلمين"، قد أعادت إنتاج ثقافة العديد من شرائحه الشبابية تحديدا بشكل جعلها جاهزة للثورة تنتظر شراراتها المناسبة، وذلك منذ عام 2005، وما قبل ذلك بكثير. أي أن تمسُّكَ حراك الأردنيين بهذا الزعم، هو وهمٌ قاتل، لأنه يريد أن يقنعَ نفسه بأن الأردنيين الآن جاهزون لفعل ما لم يفعله المصريون إلا بعد ما لا يقل عن ست سنوات من النضال والتحرك في الشارع والدعوة إلى الاعتصامات والإضرابات العمالية والطلابية ونشر ثقافة الثورة والتغيير.. إلخ.
10 - ولنتحرَّر أخيرا من وهمنا العاشر، بأن التغيير في الأردن قد يحصل، وبأن الحراك في الأردن قد ينجح، وبأن الثورة قد تبدأ، بدون أن تبدأ الكتلة الحرجة الكبرى في"عمان" و"الزرقاء" و"الرصيفة" و"المخيمات"، وهي كتلة الأردنيين من أصول فلسطينية، بالتحرك وبتبني مشروع الحراك والتفاعل معه واعتباره مشروعَها الوطني الخاص، وهذا يتطلب هجمة ثقافية وتنظيمية منقطعة النظير وغير مسبوقة في ظل الموروث التاريخي الذي عزل هذه الفئة عن قضايا الوطن، مقنعا إياها بأنها فئة مُستضافة إلى أن تحين عودتُها إلى أرض الوطن بعد تحريره، وهو ما يتطلب حيادَها السياسي.
فإذا لم يعِ الحراكيون أن النظام بعد أن لم يعد قادرا على استخدام فزاعة "الشرق أردنيين" لتلجيم "الغرب أردنيين" كما كان ديدنُه قبل قرار فك الارتباط، بل وربما حتى إلى ما قبل الربيع العربي بقليل، فإنه قد أصبح الآن مضطرا لتغيير أدوات لعبته، وهو يستخدم "الغرب أردنيين" لتلجيم فعل "الشرق أردنيين". فالمشروع السياسي للنظام قائم على قدرته على استخدام هذه الكتلة في مواجهة الحراك، وبالتالي فما لم يستطع الحراك والحراكيون جرَّ هذه الكتلة الضخمة إلى قلب الفعل الحراكي عبر مشروع سياسي واضح ومتكامل، فالنتيجة محتَّمَة وواضحة، إنها فشل مشروع الثورة والتغيير في الأردن.
ولا يغيِّر من حتمية هذه النتيجة في تصورنا أيُّ حلم أو أمل أو وهم، فالمشكلات الكبرى تحتاج إلى حلول كبرى وليس إلى صراخ عالٍ وزبد يتطاير من الأشداق، وكلمات إدانة، وإبداءُ استعداد للموت فداءً للوطن، فتلك الشريحة بحاجة إلى مشروع سياسي يُحَرِّرها من المخاوف التي يدعو إليها الكثيرون، والتي تقوم على مبدأ "أنا أخوك في الله"، و"النبي وصى على سابع جار"، بعيدا عن الغوص في الجوهر الأيديولوجي والسياسي لشكل تواجدهم، ولطبيعة علاقاتهم وأدوارهم في هذه الدولة، وإلا فإن هذه الكتلة الضخمة ستبقى مع النظام ولن تقف ضده بأيِّ حال، لأنها سترى فيه عندئذ ملاذَها الأخير، وهو مع الأسف ما لم يفهم الحراكيون حتى الآن أهميته وحساسيته وخطورته.
أيها الحراكيون لقد التفتَ النظام إلى هؤلاء كي يستقوي بهم عليكم لأنكم عاجزون عن إقناعهم بأنكم تملكون مشروعا وطنيا يحتويهم ويحتوي آمالهم وطموحاتهم وانتماءهم إلى هذا الوطن. وما تزال دعوات المتقاعدين العسكريين والإقليميين من الضفتين والممثلين لنظامين وظيفيين فاسدين تبعيين هما "النظام الأردني" و"النظام الفلسطيني"، تُشَنِّفُ آذانَهم بخطورة التغيير القادم الذي يهدِّد مستقبلهم، فماذا أنتم فاعلون؟!!
ملاحظة هامة أخيرة..
لو أن أعضاء كل عشرين أو ثلاثين حراكا شعبيا التأموا تنظيميا، وأعدوا وثيقة سياسية ببرنامجٍ واضحٍ يتوافقون عليه، ويتضمن رؤيتَهم لقضايا الوطن تشخيصا وحلولا، وأعدوا نظاما داخليا يضبطُ تحركَهم وفعلَهم الداخلي والخارجي، ثم شكلوا قياداتهم بناء على ذلك النظام، فقد أصبحوا حزبا سياسيا..
هذا كلُّ ما في الأمر. لا "غيلان"، ولا "أشباح"، ولا "عَناقى"، ولا "طيور رخ"، ولا "بعابِع مرعبة" ولا هم يحزنون..
ويمكن للحراك أن يفرز على هذا النحو 3 أو 4 أو حتى 5 أحزاب سياسية، يتراوح عدد أعضاء كل حزب من "300" إلى "500" عضو، يمكنها أن تتقارب أكثر فأكثر، وتحاول التوحد في المستقبل، ما يجعل عملها وتأثيرها أقوى وأفضل في الشارع وفي التعامل مع الجماهير ومع القوى السياسية الأخرى وحتى في مواجهة النظام..
ونحن هنا نتحدث عن أحزاب سياسية تكتسب مشروعيتَها من الشعب ومن قناعتها وحدهما، وليس من قانون أحزاب مرفوض أصلا، بسبب أنه قاصر الشكل والمضمون. أي أننا نتحدث عن مجموعة من الأحزاب السياسية التي يشكلها الحراك من رجالاته وحراكييه ومناضليه بقرارته وبعيدا عن قنوات الترخيص الرسمية التي ستُفْقِد العملَ الحزبي ثوريته وطليعيته في هذه المرحلة..
وبناء عليه فإن هناك سؤالا أوجهه إلى الذين يعتقدون أن التسييس والتحزب غير مقبول في هذه المرحلة:
"ما الذي سيتغير على الأرض لو حصل ذلك الذي اقترحناه أعلاه، غير الانتظام والانضباط والصرامة والفعل المرَكَّز والتأثير والقوة الفاعلة؟"..
وهل هذه أمورٌ منبوذة وتضرُّ بالحراك حتى نرفضها، أم أنها تقِّوّيه وتحدد هويتَه وتشحذُ همَّتَه وتؤطِّر نشاطاتِه، وتعوِّد مناضليه على الالتزام والانضباط، وعلى التعبئة والحشد الجماهيريين؟!
بصراحة، لا أطمئن لمن يرفضون تسييس الحراك وينأون عن إتاحة الفرصة له كي يعيدَ إنتاجَ نفسه داخل الحواضن الحزبية الأكثر فعالية وإنتاجية ومردودا في الشارع!!!
فالاقتصار على الحراك بهلامية الفعل الحراكي لإحداث التغيير الصعب الذي يتطلب أكثر من مجرد اختراق الشوارع والحارات، هو في واقع الأمر دعوة لجعل الشارع يصلُ بالبلاد إلى مرحلةٍ تستطيع فيها جهات محددة استثمار وصوله إليها. أي أن هؤلاء يريدون أن يحدثَ عندنا نفسُ ما حدث في مصر وتونس وغيرهما.. شبابٌ يتحركون ويُدفعون إلى الثورة بدون تسييس وتحزب أو برنامج واضح، ثم قفزٌ على نتائج تضحياتهم واختراقها لحساب أجندات أطراف أخرى قد تفرِّغ فعلَهم من مضمونه عند ذُرَى الفعل. لأن الحزب السياسي إذا كان جزءا من الفعل على الأرض، فلا أحد يستطيع القفز عليه أو ابتلاع جهده ونضاله وتضحياته وعطاءات أعضائه ومناضليه!!!
تسييسُ الحراك وتحزُّبُه ووضوحُ أطره وبرامجه، ليس مجرد واجب وطني تفرضه متطلبات العمل الوطني المنظم، بل هو حق سياسي يمكِّن الحراكيين من البقاء في صدر المتغيرات حتى لا يُسرقَ حراكهم ولا تُسْرَق ثورتهم.
فالجهات التي لها مصلحة حقيقية في عدم تسييس الحراك هي..
1 – النظام الوظيفي الفاسد المستبد، كي لا يواجَه بقوة سياسية جديدة صاعدة ترهقه ويصعب عليه التعامل معها، لأنها ستكون قوة غير مُدَجَّنَة، كما هو حال القوى السياسية التقليدية..
2 – القوى السياسية التقليدية القومية واليسارية، كي لا تنكشفَ عوراتُها السياسية وتظهرَ كفلولِ ورفاتِ مُكَوِّنات سياسية انتهى زمانها..
3 - الإخوان المسلمون، كي لا يجدوا لهم طرفا مناددا وشريكا يزاحمهم على جني الثمار السياسية في حال تطور الحالة والأوضاع المحلية والإقليمية إلى مرحلة جني الثمار السياسية. إن الإخوان يدركون جيدا أنهم يلعبون الآن وحدهم في الساحة السياسية المعارضة، مادام الحراك لا يملك إلا أن ينزل إلى الشارع بهلاميته وعدم انضباطه، ويدركون أن هذا الحراك هو الطرف الوحيد القادر على أن يكون ندا لهم وبديلا لتاريخهم الطويل، إذا تسيَّسَ وانضبط وتحزَّب، ليبنيَ مستقبل هذا الوطن شريكا حقيقيا وفاعلا قد ينغصُّ عليهم تمريرَ أجنداتهم..
أما من كان من غير تلك الأطراف الثلاثة، فإنني عاجزٌ عن فهم سبب إصراره على عدم تحزُّب الحراك وتسييسه!!!!!!!!