التغيير المستهدف في الأردن هل هو ثوري أم إصلاحي؟!

أسامة عكنان
عمان - الأردن

الدولة الأردنية – شأنها شأن كل الدول العربية – دولةٌ تنزف مواردَ وحرياتٍ. والشعبُ الأردني – شأنه شأن كل الشعوب العربية – شعبٌ يُقْمَعُ ويُنْهَب ويُسْتَلب جهارا نهارا. وكل من يَدَّعي غير ذلك، يُغْمِض عينيه عن الواقع ويُزَوِّر الحقيقة. وإنه نظرا للخصوصية الديموغرافية الناشئة ابتداء عن خصوصية جيوسياسية تتمتع بها الدولة الأردنية منذ نشأت، فإن صُناَّعَ هذه الدولة والقائمين على إدارتها على مدى الخمسين سنة الماضية، ما فتئوا يُكَرِّسون وظيفيَّتَها، خدمةً لمنظومةِ المصالح الإمبريالية في المنطقة. ولأن إدارة دولةٍ وظيفيَّة حساسة الجغرافيا والديموغرافيا مثل الأردن، ليست بالأمر الهيِّن، فقد كان لزاما أن تتشكَّلَ مراكز القوى في هذه الدولة بطريقةٍ تقوم بمساندة إداراتِها ودعمها على نحوٍ يُمَكِّن القائمين عليها من جعلها تؤدي الدورَ الوظيفي المنوط بها على أكمل وجه.
من حيث الشكل لا توجد فروقات ملموسة وذاتَ قيمة تأثيرية جوهريا، بين تشكيلة مراكز القوى في الدولة الأردنية وأي دولة عربية أخرى، وعلى رأسها الدول التي ثارت شعوبها وأسقطت الأنظمة المستبدة فيها. ففي كل دولة من تلك الدول هناك..
أولا.. مؤسسةُ رئاسةٍ أو مؤسسةُ عرشٍ مسنودةٍ بالجيش الذي يبدو محايدا، بإحاطتِه نفسَه بهالة من عدم التدخل في الشأن السياسي، متفرغا لحماية الوطن والشعب، وهو الوضع الذي لم تشذ عنه سوى الحالة السورية.
ثانيا.. تحالفٌ طبقيٌّ كومبرادوري بيروقراطي، يأخذ شكلَ هيمنةِ الحزبِ الحاكم الواحدِ المحاط بديكور حزبي كاريكاتوري معارض، يُعطي نوعا من المشروعية الديمقراطية للحزب الحاكم، مدعوما بجهاز أمني حديدي تفصله عن الشعب كل حواجز الولاء والانتماء الحقيقية، مُكَرِّسا كل إمكاناته لخدمة ذلك التحالف على حساب مصالح ذلك الشعب، إذا كانت الدولةُ دولةً جمهوريةً كما هو حال مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا. وقد يَكتفي هذا التحالف الطبقي المسنود بالمؤسسة الأمنية الحديدية في تكريس هيمنته وتحييد كل القوى الشعبية الأخرى عن سدة السلطة، بقوة التزاوج بين الثروة والسلطة من جهة، وباتباع سياسة التزوير والتزييف والتَّغْييب والتَّجهيل على نطاق واسع في كل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسات الإعلامية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية من جهة أخرى، إذا كانت الدولةُ دولةً مَلكيةً كما هو حال الأردن. دون أن يعني ذلك أن الحزب الحاكم في الدول الجمهورية لا يمارس هذا التزوير والتزييف والتغييب والتجهيل، ربما على نطاقات أوسع.
ثالثا.. الشعب الذي يتاجر به وبمصالحه وبادعاء الانتماء والولاء له جميع هؤلاء، مُمَثلا في قوى سياسية هزيلة وعاجزة ومرتبكة، تمارس المعارضةَ إما بشكل ديكوري يُسهم في تجميل النظام أكثر مما يُسهم في خدمة الشعب والتعبير الموضوعي عن قضاياه، وإما بشكل عدمي مضطرب يخفي وراءَ عدميته كل ألوانِ العجز عن التأثير في الشعب وتحشيده، وإما بغيابٍ كامل عن حقيقة المشكلات التي تُؤَصِّل لجوهر التناقض بين الشعب والنظام، مكتفيةً بالتنظير الأجوف، وبالتمسُّك بكليشهاتٍ لم يعد لها مكان أنسب من المتاحف ومحلات بيع الأنتيكات.
في الأردن يقف "الملك" على رأس "مؤسسة العرش" وهو ما يقابل "مؤسسة الرئاسة" في الدول الجمهورية، سيدا للسلطة التنفيذية ولجزء مهم من السلطة التشريعية بلا منازع، وخلفَه – سندا قويا – يقف الجيش الذي لا يتلقى أي توجيهات أو أوامر أو تعليمات من غير هذه المؤسسة ومن غير شخص الملك بالذات. ووراء هذه السلطة الدستورية لشخص الملك، اختبأ وما يزال يختبئ ذلك التحالف الطبقي المتغَوِّل الفاسد المدعوم بالمؤسسات الأمنية، مُمَثَّلةً بالدرجة الأولى بدائرة المخابرات العامة، والمُحْتَكِرِ لمؤسسات الإعلام الرئيسة، متمثلة في المقام الأول بالتلفزيون الأردني وبالصحف الأردنية الكبرى. أما الشعب فحدث عن بؤسه ولا حرج، في ظل غياب القوى السياسية الفاعلة القادرة على تجسيد قضاياه والنضال لأجلها وفي سبيلها.
استطاع التحالف الطبقي المعادي لمصالح الشعب الأردني، والمُكّرِّس للدور الوظيفي للدولة الأردنية تمريرا للمصالح الإمبريالية في المنطقة، أن يهيمن على السلطة على مدى يزيد عن الخمسين عاما من عمر هذه الدولة التي ما تزال فتيَّة بعمرٍ لا يتجاوز الخمسة والستين عاما. وهو قد تمكن من تحقيق ذلك مستخدما أداتين، الأولى دستورية والثانية أمنية، مع العلم بأن الأداة الدستورية نفسَها هي في الأساس من وحي الأداة الأمنية ومن تدبيرها، ما يجعلنا نتجرأ على القول بأن الأردن دولةٌ أمنيةُ الطابع من رأسها إلى إخمص قدميها، بلا أدنى تحفُّظ، بما في ذلك أداؤُها السياسي الداخلي والخارجي.
إن أي نظام سياسي يحاول التفاعل مع مطالب الشعب ومطالب قواه السياسية في إطار إصلاحي، عندما يكون المطلب يمسُّ منظومةَ الحريات وآليات الحكم ومبادئ العملية الديمقراطية، إنما هو نظام على رأي إخواننا المصريين "بْيِسْتَعْبَطْ"، أي يتظاهر بالعَبَط ويتجاهل جوهر المشكلة، لأنه يريد الزج بالمطالب الشعبية في خانة المطالب الإصلاحية، للحفاظ على الميكانيزمات التي تُخَّوِّل التحالفات الطبقية الحاكمة الإبقاء على هيمنتها على مفاتيح الاقتصاد، بعدم المساس بمفاتيح السلطة مساسا جوهريا قد يغير من مفهوم التداول فيها ليجعله حقيقة بعد أن كان كذبة وتزييفا، انطلاقا من القاعدة التي تنص على أن من يمتلك مفاتيح السلطة في أمة من الأمم، يمتلك مفاتيح ثروة تلك الأمة ومفاتيح إدارتها وتوجيهها.
كما أن أي قوة سياسية تطالب نظاما سياسيا معينا بإجراء إصلاحاتٍ فيه، يجب أن تكون مُدْرِكَة لحقيقة أنها ليست بصدد المطالبة بتغييرات جوهرية في آليات الحكم ومفاتيح العملية السياسية، وأن كل ما تطالب به هو عمليات تجميلية في هذا المرفق من مرافق تسيير الدولة أو في ذاك، وهذا لا يتم أو يحدث عادة إلا في الدول الديمقراطية التي تكون قد حَسَمَت منذ زمن آليات تداول السلطة فيها. أما إذا كانت تلك القوة السياسية تطالب بإجراء تغييرات ذات طابع دستوري سلطوي جوهري في بُنْيَة النظام، دون أن تعي أنها تمارس ثورة ضد هذا النظام، فإنها إما تخدع نفسها، وإما تجهل متطلبات حراكها السياسي.
ما يجب أن يكون واضحا، هو أن المطالبة بتغييرات تَحْدُث على مستوى البُنية الدستورية الجوهرية للدولة، ونظام الحريات وآليات الحكم وتداول السلطة فيها، هي مطالبة تُحْدِث في المجتمع "حراكا ثوريا". أما لو كانت المطالبَة تنصَبُّ باتجاه إحداث تغييرات على مستوى إدارة المرافق غير الدستورية للدولة كلِّها أو بعضِها، أو حل بعض المشكلات والقضايا ذات الطبيعة الهيكلية اجتماعية أو اقتصادية.. إلخ، في ظل المحافظة على البناء الدستوري نفسِه، بل حتى لو أُرْفِقَت تلك المطالبات بتعديلات دستورية طفيفة، يمكنها أن تَحْدُث وفقَ الآليات التي يسمح بها الدستور نفسُه، على اعتبار أن كل دستور يحتوي على آليات تتعلق بإمكانية وكيفية تعديله، فإنها مطالبة تُحْدِث في ذلك المجتمع "حراكا إصلاحيا".
إن جوهر الثورة المجتمعية يتعلق بطبيعة التغيير المطلوب لا بشكلِه.
فإن كان هذا التغيير دستوريا جوهريا يهدف إلى قلب طبيعة الدولة، وأسس نظام السلطة والحكم فيها، فنحن بإزاء عمل ثوري، حتى لو حدث ذلك بدون عنف. أما إذا كان التغيير المطلوب لا يمس البناء الدستوري، حتى لو تعلق بكل مرافق الدولة الأخرى، أو حتى لو تعلق بتغييرات دستورية تحدث في ضوء إمكانات وفضاءات الدستور نفسِه، فنحن بإزاء عمل إصلاحي، حتى لو تم ذلك بمنتهى العنف.
ولكن لماذا يعتبر التغيير الأول ثورة فيما لا يتعدى التغيير الثاني حدود كونه إصلاحا؟
إن طبيعة العلاقة بين منظومة "قواعد الحرية" ومنظومة "قواعد العدالة" في المجتمع، هي التي تؤسِّس للاعتبار السابق.
إن أي تغيير في "قواعد العدالة"، لا يقوم ابتداءً على تغييرٍ أسبقَ منه في "قواعد الحرية"، هو تغيير قِشْري سطحي لا يفعلُ فعلا حفريا في إعادة إنتاج علاقات وهياكل وبُنى المجتمع بشكل مختلف قادرٍ على إحداث تغييرات مستقبلية ملموسة على صعيد علاقات الإنتاج، وأنماط الفرز الطبقي، وأشكال تمركز الثروة في المجتمع، وحل المشكلات الاقتصادية المزمنة، بدءا بالبطالة ومرورا بمستوى المعيشة، وليس انتهاء بالفقر، وإنما يقوم فقط بإحداث تغيير طفيف في زاوية الدَّفَّة التي تقود السفينة الاجتماعية، بشكل يخفف من احتقانٍ هنا ويُنَفِّس ضغطا هناك ليس إلا، مبقيا على بوابة الاحتقانات وتراكم الأزمات، قائمة وقابلة للاستفحال في المدى القريب، ناهيك عن المدى البعيد.
أما إذا حدث التغيير ابتداء على مستوى السلطة والنظام السياسي ومنظومة "قواعد الحرية" بشكل أساسي، فهذا يعني أن مُحَدِّدات تداولِ الثروة والانتقال في تمركزاتها والفرز الطبقي المرافق لها قد تغيرت، ما يُمَهِّد الطريق لتلك التغيرات المجتمعية كي تَحْدُث بشكل عميق وملموس. ولهذا السبب كان التغيير على المستوى الأول إصلاحا سطحيا وقِشْرِيا، فيما كان التغيير على المستوى الثاني ثورة اجتماعية عميقة.
ترى، ما الذي ينطوي عليه "الحراك الشعبي الأردني" من مضامين التغيير، في ضوء التوصيفات السابقة لدلالةِ كلٍّ من "التغيير الإصلاحي" و"التغيير الثوري"؟ هل نحن بصدد "ثورة" أم بصدد "إصلاح"؟ هل نريد تغييرا ثوريَّ الطابع أم تغييرا إصلاحيَّ الطابع؟
وبتعبير أدق وأوضح..
هل أن مطالبَ الأردنيين يمكن تجاوبُ النظام معها في ضوء أداءٍ إصلاحي، أم أن التجاوبَ معها لا يمكنه أن يتم إلا في ضوء أداءٍ ثوري؟
إن تحقيق مطالب الشعب الأردني في مجال منظومة "قواعد العدالة" بمعزلٍ عن تحقيق مطالبه على صعيد منظومة "قواعد الحرية"، أمرٌ مستحيل وغيرُ ممكن، لأن مطالِبَه في هذه الأخيرة وهي "قواعد الحرية"، تمسُّ مساسا جوهريا البنيةَ الطبقيةَ للتحالف الكومبرادوري البيروقراطي، الذي ما قام ولا استمر ولا تغَوَّل على الدولة وعلى الشعب، مسنودا بالجهاز الأمني المتمثل في "دائرة المخابرات العامة"، إلا على أنقاض تلك المطالب التي أسهم غيابُها في وصول الدولة إلى ما وصلت إليه على جميع الصُّعُد وعلى رأسها ومن بينها منظومة "قواعد العدالة".
لا يمكن للشعب الأردني أن يوافقَ، ولا لقواه الحية أن تقبلَ في سياق التحرُّك من أجل الخروج من المأزق الذي تعاني منه الدولة، ومن الأزمات التي يعاني منها الشعب في نطاق منظومة "قواعد العدالة"، بأقل من تنفيذ استحقاقات كاملة وغير منقوصة في منظومة "قواعد الحرية"، لأن ما هو أقل منها مما تطرحه الحكومات وتعرضه من حين لآخر في قوالبَ فضفاضةٍ من الوعود الهزلية إنشائية الطابع، ليس أكثر من حيلٍ متتابعة للإبقاء على التحالف الطبقي القائم مهيمنا على الدولة وعلى مقدراتها، وممعنا في رهن الشعب ومصيره لتداعيات "تفاهمات واشنطن" التي توَّجَت أربع كوارث هي على التوالي، "مدريد" و"أوسلو" و"وادي عربة" و"برنامج التصحيح الاقتصادي"، التي مهَّدَ لها جميعها زلزال "فك الارتباط القانوني والإداري" الأثيم بالضفة الغربية، ليتم من ثمَّ رهن الدولة بالكامل لمنظومة العلاقات الإمبريالية في المنطقة، عبر الدور الوظيفي التاريخي للنظام الأردني.
إن أيَّ شيء أقل من ذلك هو دوران في حلقة مفرغة من الأكاذيب والترحيلات التي لا تنتهي، لنواجِهَ الواقعَ المريرَ في المستقبل القريب بشكل أكثر حِدَّة، بعد أن تكون مآزقنا قد تراكمت بشكل أكثر تأزيما واحتقانا، بحيث لا يعود ينفع أسلوبا للحل عندئذٍ ما يمكن القبول به الآن.
قد يقول قائل: إن المطالب الشعبية على صعيد منظومة "قواعد العدالة"، يجب أن تتولى تنفيذَها ضمن برنامج سياسي تصل به إلى السلطة بطريقة ديمقراطية، فئةٌ من فئات الشعب ممثلَةً في قوة سياسية ماَّ أو في مجموعة قوى متحالفة ومتآلفة. وهو ما يعني أن البداية يجب أن تكون عبر تركيز الشعب الأردني مطالبَه في منظومة "قواعد الحرية"، لتصبح المسألة بعد ذلك مسألة تنافسِ برامج في ظل أجواء الديمقراطية للتعامل مع منظومة "قواعد العدالة". وإذن فليتم إجراء التعديلات الدستورية وإصدار التشريعات والقوانين التي من شأنها أن تحققَ ذلك، كي تكون البداية هي البداية الصحيحة والسليمة.
ومع أن هذا الطرح هو الطرح الذي يطالب به الشعب الأردني وقواه السياسية، انطلاقا من وعيه بمسألتين هما..
أن له مطالب جوهرية على صعيد منظومة "قواعد الحرية"، بقدر ما له أيضا مطالب جوهرية على صعيد منظومة "قواعد العدالة" دون فصل مطالبه في هذه عن مطالبه في تلك.
وأنه يعي أن تحقيق مطالبه على صعيد "قواعد الحرية" هي البداية الصحيحة لتحقيق مطالبه على صعيد "قواعد العدالة"، لأن هذا هو منطق التاريخ ومنطق كل تغيير يتعاطى مع مشكلاتٍ كتلك التي يعاني منها الأردن.
فإن هذا التكييف الإجرائي للتعاطي مع مطالب الشعب الأردني وقواه الحية، يُعَقّدُ المسألةَ ولا يبسِّطها كما يتصور الكثيرون. لأن مطالب الشعب الأردني على صعيد منظومة "قواعد العدالة"، إذا كانت تتطلب تفكيكا فعليا لبُنية التحالف الطبقي المهيمن على البلاد والعباد، فإن مطالبًه على صعيد منظومة "قواعد الحرية"، تتطلب القدر من التفكيك ذاتًه لتلك الطبقة، بل ربما بشكل أكثر عمقا وتجذيرا وتأصيلا، لأنه تفكيك سيُحَوِّل تلك الطبقة إلى أطلال، من خلال إعادة إنتاج الحياة الدستورية للدولة بشكل يفقدُ تلك الطبقة قدرتَها على الهيمنة والتحكم في مفاتيح السلطة والثروة في هذا البلد بشكل كامل.
فهي – أي تلك الطبقة المتغوِّلَة – أقدر على التلاعب وممارسة الحيَل والتلوُّن الحرباوي وممارسة التسويف والترحيل، وحصر مطالبَ الشعب الأردني في سياق الإصلاح والمرحلية، عندما تتعاطى مع حُزْمَة منظومة "قواعد العدالة" في تلك المطالب، منها عندما تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع حُزْمَة منظومة "قواعد الحرية" في تلك المطالب. فالحزمة الأولى تفرضُ بطبيعتها التساهل في عنصر الزمن، وهو ما لعبت عليه وعزفت على وتره كل الحكومات السابقة على مدى عقود مضت، مُتَحَلِّلَة من تنفيذ أي وعد قطعته على نفسها، بل مستغلة عنصر الزمن لمفاقمة الأزمة الوظيفية للدولة، ولتعميق المأزق التَّبَعي لها. بينما الحزمة الثانية في مطالب الشعب الأردني، لا تتطلب سوى اتخاذ القرار والبدء بالتنفيذ، وهو ما لا يحتاج إلى أكثر من ستة أو تسعة أشهر أو ربما سنة، لنجدَ أنفسنا في بلد يحتكم إلى دستور ومنظومة تشريعات وقوانين متطورة في ديمقراطيتها ومستويات حرياتها السياسية المتاحة.
إلا أن هذه العناصر ذات الطبيعة الطبقية والمصلحية في مُكَوِّنات الأزمة المستفحلة بين الشعب الأردني ونظامه السياسي، لا تمثلُّ إلا جانبا من جوانب التعقيد الذي أشرنا إليه. إذ أن هناك جانبا ذا طبيعة دستورية قانونية إجرائية يمثل مظهرا من مظاهر التعقيد في المسألة، لا يقل عن سابقه. فإذا شئنا أن نُدْرِجَ التجاوبَ مع مطالب الشعب الأردني المتعلقة بمنظومة "قواعد الحرية"، في بوتقةِ الأداءات الإصلاحية التي علينا أن نطالب بها النظام نفسه دون المساس بركائزه التي يقوم عليها، فهذا يعني أن حُزْمَةً من التعديلات الدستورية يجب أن يتم إجراؤها كي تتحقق تلك المطالب. وهنا مكمن العقدة، لأن مطالب الشعب الأردني فيما يتعلق بمنظومة "قواعد الحرية" تجاوزت إمكان اعتبارها مطالب من الممكن تحقيقها بإجراء تعديلات دستورية تتولاها المؤسسات الدستورية القائمة وفق الدستور ذاته وفي ضوء نصوصه ذاتها.
إذ كيف يمكن لمجلس نوابٍ قائمٍ على قانون انتخابٍ يرفضه الشعب، مجلسُ نواب يعتبره الشعب ساقطَ المشروعية، منذ اللحظة التي اعتبر فيها القانون الذي قام على أساسه هذا المجلس قانونا باطلا وغير شرعي، أن يمتلك أيَّ مشروعية لإجراء تعديلات دستورية؟
إن اعتراض الشعب الذي هو مصدر السلطات جميعها، واعتراض قواه الحية التي تمثل حراكه ومطالبه، على المؤسسة التشريعية، لم يعد منصبا نحو حالةٍ من حالاتها يراها مُزَوَّرَة، بحيث لو أن حالةً أخرى منها نتجت عن انتخابات غير مُزَوَّرَة فقد حُلَّت المسألة.
كل مجالس النواب غدت غير شرعية، لأنها كلها تقوم على قانون فقد شرعيته برفض الشعب له، وإن تمسكت به كل المؤسسات الدستورية الأخرى وعلى رأسها مؤسسة العرش ذاتها.
وكيف لمجلس أعيان يرفض الشعب بُنْيَتَه وطريقةَ تشكيله منذ اللحظة التي رفض فكرة التعيين ومبدأه، أن يكون مؤهلا لإجراء تعديلات دستورية، تنصب في بعض جوانبها نحو إلغاء مبدأ التعيين إلغاء تاما؟
بل كيف يمكن لدستور يعتبره الشعب قاصرا في أسلوب إقراره لأيِّ تعديل دستوري، أن يكون مؤهلا لأن يُعَدِّلَ نفسَه بنفسه؟
هل يمكن لمجلس نواب غير شرعي انتفت شرعيته بعدم توفر القبول الشعبي للقانون الذي قام عليه، ولمجلس أعيان غير شرعي سقطت شرعيته برفض الشعب لمبدأ التعيين، أن يلجآ إلى دستور يُكَرِّسُ طريقةً في التعديل سقطت شرعيتها شعبيا برفض الشعب لها..
نقول.. هل يمكن لكل هذه المنظومة من "اللاشرعيات" أن تمتلك حق تعديل دستور لألغاء نفسها وشرعياتها؟
هل هناك هرطقة دستورية أكبر من هذه الهرطقة؟
بل هل هناك تجديف تشريعي أكثر من هذا التجديف؟
على النظام الأردني بكامل مؤسساته الدستورية أن يحدِّدَ بادئ ذي بدء موقفَه المعلن والواضح من المبادئ التالية..
- هل أن الشعب الأردني هو مصدر السلطات كاملة في هذه الدولة، أم أن هناك من يشاركه في هذه المصدرية؟!
- هل أن الشعب الأردني يرفض قانون الانتخاب الحالي أم أنه لا يرفضه؟!
- هل أن الشعب الأردني يرفض مبدأ التعيين في مجلس الأعيان أم أنه لا يرفض ذلك؟!
- هل أن الطريقة المعتمدة في نصوص الدستور الأردني لإجراء التعديلات الدستورية هي طريقة يرفضها الشعب الأردني في ظل وجود مجلسي نواب وأعيان يتشكلان بطريقة لم يعد يقبلها أم لا؟!
إذا كانت إجابة النظام ومؤسساتِه على تلك الأسئلة أو على أي سؤال منها بـ "نعم"، فقد اعترف ضمنا بأن كل الشرعيات الدستورية قد أسقطها الشعب، وأن عليه – أي النظام – أن يتجاوب مع مطلب الشعب بإنتاج شرعية دستورية جديدة وفق الأصول والإجراءات التي يعتمدها البشر عادة لإنتاج الدساتير الجديدة. أما إذا كانت إجابة النظام على تلك الأسئلة مجتمعة بـ "لا"، فهذا يعني أنه ما يزال يغرِّد في سرب غير سرب الشعب، ويرفض التجاوب مع المطالب الشعبية في منظومة "قواعد الحرية"، ويسهم بإرادة ووعي كاملين منه، في تأزيم المأزق، وفي تفعيل الاحتقان، وفي الدفع بالشعب إلى حيث لا يأمن العواقب أحد، ليس من حيث أنه يدفع به نحو "الثورة"، فالثورة قائمة بالفعل منذ انصبت مطالب الشعب نحو إعادة إنتاج منظومة "قواعد الحرية" للتأسيس لمنظومة قواعد "عدالة" مختلفة، بل من حيث أنه يدفع به إلى ثورة يخطط هو لأن تكون عنيفة، كي يمتلك كل مبررات أن يكون نظاما عنيفا ودمويا.