• هذا نص حوار مؤلم دار بيني وبين طفل من "ملكا" عمره "12" سنة..

    فوجئت برسالة على "الإنبوكس" في الفيسبوك برسالة من شخص اسمه "غسان"، يضع على بروفايله صورة لللاعب كرة قدم بين مجموعة من الكؤوس ربما هو اللاعب "ميسي". أي ان الصورة لا يمكنها أن توحي بشيء. دخلت على حساب الشخص قبل أن أرد حتى أعرف من هذا الذي يكلمني ويحيِّيني ويريد التعرف علي، فلم استفد، لأن المعلومات المتاحة لا تخبر بشيء، لا عن هويته ولا عن سنه. لكني قررت أن أرد عليه لتبدأ الرحلة الغريبة مع هذا المتحدث المفاجئ..
    كانت أسئلته خالية من المجاملة بشكل يوحي بالبراءة والتلقائية، فخطر لي أنه مراهق أو طفل صغير السن، لكني تريثت حتى يكشف لي عن نفسه بنفسه. بدأت الغرابة عندما سألني بدون مقدمات بعد أقل من نصف دقيقة من بدء المحادثة بيننا، وبعد كلمتين فقط هما "مرحبا" و"كيفك"، كان السؤال هو..
    "وين ساكن"..
    فأيقنت أنه تلقائي وبريء فأجبته بتلقائية..
    "في الرصيفة"..
    فرد مستغربا..
    "شو.. وين"..
    هيئ إليَّ أنه ليس أردنيا، فقلت له مُكَرِّرا..
    "الرصيفة"..
    فكان رده..
    "هاي منطقة والا بلد"..
    فانتابني ما يشبه اليقين أنه ليس أردنيا، فبدأت أمارس روح الاستكشاف، ففاجأته فورا وبدون مقدمات..
    "أنت وين ساكن"..
    فأجاب فورا وبتلقائية اتضح لي أنها بريئة جدا..
    "ملكا"..
    كانت بداية الصدمة بالنسبة لي، فسألته من وحي روح الاستكشاف..
    "إنت كم عمرك وفي أيِّ صف دراسي"..
    فأجاب..
    "6"..
    لم أفهم إن كانت الـ "6" هي سِنُّه أم هي رقم صفه المدرسي، لكني تخابثت وواصلت سؤالي..
    "إنت في الصف السادس، يعني عمرك 12 سنة"..
    ردَّ..
    "نعم"..
    أدهشني فعلا أن يكون هناك طفل أردني في الصف السادس وعمره 12 سنة ولا يعرف الرصيفة إن كانت مدينة أم قرية أم منطقة في مدينة، هذا إن كان يعرف أنها في الأردن أصلا. فسألته..
    "ألا تعرف أين تقع الرصيفة"..
    فكرر السؤال..
    "هل هي بالأردن"..
    فقررت أن اختبر هذه الحالة الغريبة، فسألته..
    "كيف لا تعرف مدينة أردنية كبيرة مثل الرصيفة"..
    فأجاب بما بدا أنه نوع من التذاكي..
    "ولماذا أنت لا تعرف ملكا"..
    فقلت له..
    "ومن قال لك أني لا أعرفها.. أنا أعرفها وزرتها منذ أشهر، ولي فيها اصدقاء هم فلان وفلان، وأعرف أم قيس وأعرف خرجا، وأعرف.. وأعرف.. إلخ.. وعندما رزتها أكلت فيها مكمورة"..
    سألني بنفس نبرة التذاكي..
    "هل عندك أولاد"..
    كانت إجابتي..
    "نعم"..
    قال وكأنه حقق انتصارا..
    "لو سألتهم عن ملكا ما رح يعرفوها، زي ما أنا ما باعرف الرصيفة"..
    فقلت له..
    "إنهم يعرفونها مع أنها قرية صغيرة، وأنت لا تعرف الرصيفة مع أنها مدينة كبيرة"..
    سكت برهة، ثم بدأت أسأله بطريقة بدا أنها أعجبته فتجاوب معها..
    غسان، هل تعرف الزرقاء"..
    "آه"..
    "هل تعرف إربد"..
    "آه"..
    هل تعرف الطفيلة"..
    "آه"..
    "هل تعرف الكرك"..
    "آه"..
    "هل تعرف معان"..
    "آه"..
    "هل تعرف مادبا"..
    "آه"..
    هل تعرف جرش"..
    "آه"..
    هل تعرف المفرق"..
    "آه"..
    هل تعرف "عجلون"..
    "آه"..
    "هل تعرف العقبة"..
    "آه"..
    "هل تعرف السلط"..
    "آه"..
    خجلت أن أسأله "هل تعرف عمان"..
    لكني سألته..
    هل تعرف الرصيفة"..
    قال "لا"..
    فقلت له..
    الرصيفة المدينة الأردنية الرابعة في تعداد عدد السكان بعد عمان والزرقاء وإربد، وعدد سكانها 600 ألف نسمة..
    صمت لحظة عرفت لاحقا أنه سأل خلالها والده الذي يبدو أنه كان قريبا منه، وعاد إليَّ سائلا..
    "هل هي تقع في عمان"..
    قلت له..
    "بل هي مدينة مستقلة جنب عمان وقريبة منها"..
    ثم قال بفرحٍ غامر..
    يس.. يس.. حكالي أبوي"..
    سألته..
    "غسان هل أنت مبسوط لأنك عرفت مدينة أردنية ما كنت تعرفها من قبل"..
    أجاب..
    "آه كثير"..
    سألته..
    "طيب ليش ما كنت تعرفها، ما عمر حدا حكالك عنها في البيت.. في المدرسة.. والدك.. والدتك.. أخوك.. عمك.. المدرس تبعك"..
    قال ببراءة وتلقائية..
    "لا أول مرة باسمع فيها"..
    ساد الصمت لحظة شعرت خلالها بألم وحزن دفين، لولا أنه أرسل برسالة أخيرة قال فيها..
    "شكرا عمو.. الهح يسعدك.. إنت عرفتني على الأردن"..
    ارتعشت ودمعت عيناي، ليس لأنني وجدت طفلا سعيدا بأن يعرف وطنه..
    بل لأني أيقنت أن هناك عشرات الآلاف من أطفالنا لا يعرفون وطنهم حتى الآن..