تولستوي والمعري كثرت مقارنة "رسالة الغفران "للمعري بالكوميديا الإلهيّة لدانتي (1265-1321)، لأنّ العملين يصوران رحلةً خياليّة إلى العالم الآخر.. ولكنني سأحاول أنْ أقارن بين فلسفتي المعري وتولستوي، لقد لاحظ الأديب أمين الريحاني(1876-1940) أنّ هناك شبهاً بين تولستوي وبين الشاعر العربيّ أبي العلاء المعري(973-1057م.).
وكثيراً ما قارن الكتاب العرب والشعراء والنقّاد بين تولستوي والمعري، فهل هناك شبه بين الكاتب الروسيّ والشاعر العربيّ؟ نعم، يوجد شبه ولا شك، فأبو العلاء عاش في سجون ثلاثة:

أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسألْ عن الخبرِ النبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيثِ
حاول أبو العلاء المعري اعتزال الناس فأخفق بعض الإخفاق، يكتب طه حسين ولكن داره لم تلبث أن استحالت إلى مدرسة يؤمها الطلاب الكثيرون من أبعد الأقطار الإسلامية وأدناها! منهم من يأتي من خراسان، ومنهم من يأتي من اليمن، ومنهم من يأتي من غير هذين القطرين... وكلهم يطلب عنده العلم والأدب(1) .
ويتابع طه حسين حول هذا الموضوع: "ولكنه على كلِّ حالٍ قد حقق بعض ماكان يريد، وعصم نفسه مما كان يخشاه، فلم يتصل بالأمراء ولا بالرؤساء، (2) .
لزم أبوالعلاء داره لا يبرحها نصف قرن، ويكتب عن هذا الموضوع الدكتور شوقي ضيف(1910-2005)في كتابه "الفن ومذاهبه" (1946): "اعتزل الناس عزلته المعروفة التي استمرت نحو خمسين عاماً، وأخذ نفسه في هذه العزلة بقوانين صارمة في حياته، إذ عاش معيشةً نباتيّةً تعتمد على تحريم أكل اللحم والسمك"(3) وكذلك فعل تولستوي الذي لزم بيته وسكن في قريته حيث أمضى معظم وقته. لم يثق أبو العلاء إلا بالعقل:
دين وكفر وأنباء تقص وقرآ
ن ينص وتوراة وإنجيل
في كلِّ جيلٍ أباطيل ملفقة
فهل تفردَ يوماً بالهدى جيلُ
رفض أبو العلاء الكتب الدينية كافة، وجعلها أباطيل ملفقة لا تثبت حقاً ولا تنفي باطلاً، وكان أبو العلاء المعري في حيرة، يقول أبو العلاء في تناسخ الأرواح:
يقولون إنّ الجسمَ ينقلُ روحهُ إلى غيره حتى يهذبه النقلُ
وكما نعلم فإنّ تولستوي رفض فكرة تناسخ الأرواح التي دعاه إليها المهاتما غاندي.
دعا سخط أبي العلاء على ما رأى وقرأ من ظلم الملوك والأمراء إلى التفكير في مصدر السلطة التي أتيحت لهم، فلم ير لها مصدراً إلا الأمّة التي استأجرت حكامها ليقوموا بمصالحها العامة.
وكره أبوالعلاء المعري تقسيم الناس إلى فقراء وأغنياء، وكذلك كان المفكر والروائي الروسيّ تولستوي.
ورأى أبو العلاء أنّ تكريم الميت في دفنه مباشرة بلا طقوس وتقاليد معتادة، وكذلك أوصى تولستوي بدفنه بعد موته مباشرة ودون اهتمام زائد، وبالفعل هكذا دفن تولستوي كما أوصى في قبر متواضع وبدون صلاة على جثته ودون وضع صليب على قبره.
أخذ أبو العلاء من أهل الهند تحريم لحم الحيوان، فلم يتناول لحم الحيوانات والطيور وحرم ذبحها، وكذلك كان تولستوي نباتياً.
لقد مرض أبوالعلاء فوصفوا له الدجاج فامتنع وألحوا عليه حتى أظهر الرضا فلما قدم إليه لمسه بيده فجزع، وقال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد! ثم أبى أن يطعمه.
آمن كل من أبي العلاء وتولستوي بوجود خالق لهذا الكون، ولكنهما انتقدا بعض رجال الدين.
كثيراً ما نظر إلى أبي العلاء المعري على أنّه فيلسوف، وكذلك فهم تولستوي مع أن كليهما أديبان عالميان. ومن المعروف أنّ المعري استقى الكثير من آرائه من الفلسفة الهندية وكذلك تولستوي.
رثاء أحمد شوقي لتولستوي
عندما سمع أحمد شوقي(1868-1932) بوفاة تولستوي رثاه مقارناً بينه وبين المعري، فلقد دافع تولستوي عن الفقراء، ضد ظلم الأغنياء، و ناضل ضد الحروب بكل أشكالها، ونادى بالمحبة، يكتب أحمد شوقي في مطلع قصيدته التي بعنوان "تولستوي"(1910):
(تولستوي) ، تُجري آية العلم
دمعها عليك، ويبكي بائس وفقير
وشعب ضعيف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم
وأنت سراج غيبوه منير
ويرى شوقي أنّ تولستوي يشبه السيّد المسيح عليه السلام فيقول:
تطوف كعيس بالحنان وبالرضى
عليهم، وتغشى دورهم وتزور
ويرى شوقي أنّ تولستوي يخدم لب الدين، ويخدم الناقمون عليه قشور الدين، وسمع شوقي عن هرب تولستوي من بيته، ويتابع قوله فيرى في تولستوي علماً مثله مثل أبي العلاء المعري:
إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى
وجاور (رضوى) في التراب (تُبير) (4)
ويجري أحمد شوقي حواراً بين أبي العلاء المعري وبين تولستوي الذي زهد بالمال وهو لديه وفير، وبالشهرة وهو كالشمس معروف في كل بلدة، وعاش طويلاً متمسكاً بأفكاره الإنسانية ويسأل المعري الكاتب الروسيّ: هل حل الخير مكان الشر، والمحبة مكان الكراهية؟ وهل انتهى الفقر؟ ويجيب تولستوي أنّ الحياة مازالت كما كانت في أيام المعري، ومازال الغش والإفك والزور سائداً، وما زال هناك عبد وسيّد ومستأجر وأجير، وحكم استبدادي، والحكم لمن يملك المال، ومازال السلاح هو السيد، يشترونه ويصنعونه على حساب قوت الفقير، وبعد أن ملؤوا الأرض والبحر بأسلحتهم، يريدون الآن ملء السماء بها.

رثاء حافظ إبراهيم
لم يختلف رثاء حافظ إبراهيم(1872-1932) لتولستوي كثيراً من حيث الشكل والمضمون عن رثاء أحمد شوقي له، حتى إنَّ القافية واحدة.ويبدأ قصيدته فيقول:
رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى
لمدحك من كتّاب مصر كبير
ولست أبالي حين أرثيك بعده
إذا قيل عني قد رثاه صغير (5)
ويتابع حافظ إبراهيم فيقول إنّ تولستوي كان عوناً للضعيف، ولا يهم الشاعر أكان تولستوي في الجنة أم في النار فحسبه أنّه عالم مفكر وأنّه دعا إلى المعروف ونهى عن المنكر، ويرى الشاعر أنّ علوم تولستوي وأملاكه خلصته من كيد أعداء فكره وسلوكه.ويقارن الشاعر بين المعري وبين تولستوي كما فعل أحمد شوقي فكلاهما كان زاهداً ناسكاً، فيقول:
إذا زرت رهن المحبسين بحفرةٍ
بها الزهد ثاوٍ والذكاء ستير (6)
فيدور حديث بين المعري وتولستوي ويقول الأول للثاني تريد الحياة سلاماً وهي حرب وكفاح، لقد سلوت عن الدنيا وتهالك غيرك عليها، تحاول رفع الشر، وهو واقع.
ويقول المعري: لقد ناديت بما ناديت به، ولكن الناس يلهثون وراء الملذات والطيبات، ومتّ ومطامع الجشعين لم تمت، ويتابع قوله:
إذا هدمت للظلم دور تشيدت
له فوق أكتاف الكواكب دور ( 7 )
فقلوب الناس من صخر جبلت، فلا تؤثر فيها نصائح شيخ المعرة ولا أفكار كاتب الأرض الروسية العظيم.
هذا هو مضمون رثاء شاعر النيل لكاتب الأرض الروسية، وكما نرى فإنّ حافظ إبراهيم مثله مثل شوقي والمنفلوطي وأمين الريحاني ومثل كل من كتبوا حول تولستوي من الكتاب العرب في مطلع القرن العشرين نظر إليه نظرته إلى فيلسوفٍ أكثر مما هو أديب عظيم ألفّ الروائع الأدبية، والرثاء، كما نرى، دمعة حزنٍ.
ويؤكد الدكتور نزار عيون السود أنّ تولستوي قرأ "رسالة الغفران" للمعري، التي كما يذكر الباحث ترجمت إلى اللغة الروسية في عام (1903)(8)
وكثيراً ما نجد مقارنةً بين ليف تولستوي وبين أبي العلاء المعري في مقدمات ترجمات مؤلفات ليف تولستوي إلى اللغة العربية.
المصادر والحواشي :
1-حسين، د.طه. المجموعة الكاملة، المجلد العاشر، بيروت، دار الكتاب اللبنانيّ، 1974، ص376
2--المصدر السابق، ص377
3--ضيف، د.شوقي، الفن ومذاهبه، 1946،ص266
4شوقي، أحمد، الشوقيات، الجزء الثالث، بيروت، دار الكتاب العربيّ، ص80.
5--إبراهيم، حافظ، ديوان حافظ إبراهيم. بيروت، دار العودة الجزء الثاني.ص164
6-المصدر السابق، ص165
7-المصدر السابق، ص166
8-مجلة "المعرفة"، دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1978، عدد شباط.

أ .د.ممدوح أبو الوي
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1567&a=135254